التذكرة

أحيانًا ما أحلم بجدتي وشقيقتها، خالتي تشارلي، التي لم تكن خالتي بالطبع، بل خالتي الكبيرة. أحلم بأنهما لا تزالان تعيشان في المنزل الذي كانتا تعيشان به على مدى عشرين عامًا أو نحو ذلك، حتى وفاة جدتي ونقل خالتي الكبيرة للإقامة في دار للمسنين، والذي حدث بعد ذلك بفترةٍ قصيرة. تصيبني الصدمة لاكتشاف أنهما كانتا على قيد الحياة، وأُذهَلُ وأشعرُ بالخجل حين أفكر أنني لم أكن أزورهما، ولم أكن قريبة منهما طوال كل هذا الوقت الذي ناهز أربعين عامًا أو أكثر. إنَّ المنزل كما هو، وإنْ كان يغطيه الظلام، وهما نفساهما على القدر نفسه من الجمال والحُسن، وترتديان نفس الفساتين والمآزر ولهما نفس تسريحات الشعر مثلما كانتا دائمًا. نفسُ الشعر الملفوف والمنسدل الذي لم يكن يعرف لمصففي الشعر طريقًا، ونفس الفساتين المصنوعة من الحرير الصناعي الداكن أو القطن المطبوعة عليه أزهار صغيرة أو أشكال هندسية، دون وجود لبدلاتٍ، أو شعاراتٍ لاذعة، أو أقمشة بلون فيروزي أو أصفر بلون زهرة الحوذان أو قرنفلي بلون نبات الفاوانيا.

ولكن يبدو جسداهما وقد تفلطحا، وقد صارتا شبه عاجزتين عن الحركة تمامًا، وتتحدثان بصعوبة. أسألهما كيف تُسيِّران أمورهما، كيف تُحضران بقالتهما على سبيل المثال؟ هل تشاهدان التليفزيون؟ ألا تزالان على صلةٍ بالعالم الخارجي؟ فتقولان إنهما على خيرٍ ما يُرام. لا تقلقي. ولكنهما في كل يومٍ كانتا تنتظران؛ تنتظران لتريا إن كنت سآتي لرؤيتهما أم لا.

إنَّ الرب يعيننا في كل يوم. وحتى الآن وأنا في عجلةٍ من أمري، ولا أستطيع البقاء، فأخبرهما أن لديَّ الكثير جدًّا من المهام للقيام بها، ولكني سأعود قريبًا. فتقولان نعم، نعم، سيكون هذا رائعًا. إلى اللقاء قريبًا.

•••

كان من المفترض أن يُتمَّم زواجي خلال فترة أعياد الكريسماس، وأذهبُ بعد ذلك للإقامة في مدينة فانكوفر. كان ذلك في عام ١٩٥١. كانت جدتي والخالة تشارلي — وكانت إحداهما أكبر والأخرى أصغر مما أنا عليه الآن — تحزمان حقيبتَي السفر اللتين سآخذهما معي. كانت إحداهما حقيبة متينة مُحدَّبة الظهر توارثتْها العائلة على مدى زمنٍ طويل، والتي تساءلتُ بصوتٍ عالٍ إنْ كانت قد عبرت المحيط الأطلنطي معهما.

فقالت جدتي: مَنْ يعلم!

لم يكن التعطش للتاريخ، حتى التاريخ العائلي، يمثل لها الكثير؛ فقد كان هذا النوع من الأمور مجرد تَرَفٍ ومضيعة للوقت؛ مثل قراءة القصة المسلسلة في الجريدة اليومية، وهو الشيء الذي كانت هي نفسها تفعله، ولكن ظلَّت مستنكرةً له.

أما الحقيبة الأخرى، فكانت جديدة، ذات أركان معدنية، وقد اشتُريَتْ خصوصًا لغرض الزواج. كانت هدية من الخالة تشارلي؛ فقد كان دخْلها أكبر من دخْل جدتي، وإنْ كان ذلك لا يعني أنه كان كبيرًا جدًّا. كان دخْلًا كافيًا بحيث يمكن أن يكفيَ للمشتريات الفجائية العارضة؛ ككرسيٍّ ذي مسندين لغرفة المعيشة مُنجَّد بقماش مطرَّز بلون السلمون (ومغطًّى بغطاءٍ بلاستيكي لحمايته، ما لم يكن هناك زوَّار)، أو مصباح قراءة (ظُلته ملفوفة أيضًا بالبلاستيك)، أو حقيبة زواجي.

كان زوجي سيقول لاحقًا: «أهذه هدية زفافها لكِ؟ «حقيبة سفر؟»» فقد كان شيءٌ على شاكلة حقيبة السفر في عائلته من الأشياءِ التي تذهب لشرائها عند الحاجة إليها، لا شيئًا تقدمه كهدية.

كانت الأشياء الموجودة في حقيبة السفر المُحدَّبة الظهر قابلةً للكسر، وملفوفةً في أشياء لم تكن قابلةً للكسر. كانت عبارة عن أطباق، وكئوس، ودوارق، وزهريات ملفوفة في ورق جرائد ومحمية بمناشف صحون، ومناشف حمام، ومناديل مائدة وأغطية أفغانية من الكروشيه، ومفارش أطباق مُطرَّزة. كانت الحقيبة الكبيرة المسطحة شبه مكتظةٍ بملاءات السرير، ومفارش المائدة (والتي كان أحدها من الكروشيه أيضًا)، وألحفة، وأكياس الوسائد، وكذلك بعض الأشياء الكبيرة المسطحة القابلة للكسر مثل لوحة ذات إطار رسمتها ماريان شقيقة جدتي والخالة تشارلي، التي تُوفِّيت صغيرة. كانت لوحة لعُقابٍ يقف على فرع شجرةٍ منفرد، وأسفله بحرٌ أزرق وأشجارٌ خفيفة الأوراق. كانت ماريان قد نَسَختها في سن الرابعة عشرة من تقويم، وفي الصيف التالي تُوفِّيت جرَّاء حُمَّى التيفود.

كانت بعضُ هذه الأشياء هدايا زفافٍ من أفراد عائلتي، وصلتني مبكرًا، ولكن أغلبها كان أشياء صُنعت من أجلي لكي أبدأ بها إدارة المنزل، كالألحفة، والأغطية الأفغانية، ومشغولات الكروشيه، وأكياس الوسائد بتطريزها الخشن الخادش للوجنات. لم أكن قد جهَّزت شيئًا، ولكن جدتي والخالة تشارلي كانتا منشغلتين بهذا الأمر، حتى على الرغم من أن توقُّعاتي بدت كئيبةً لفترةٍ طويلةٍ نوعًا ما. وكانت والدتي قد وضعت بعض كئوس الماء الرائعة، وبعض الملاعق الصغيرة، وطبقَ تقديمٍ كبيرًا بنقوش الصفصاف من الفترة الوجيزة المتهورة التي تاجرت خلالها في التُّحف، قبل أن يتسبَّب تيبُّسُ وارتعاشُ أطرافها في جَعْل أي عملٍ — إلى جانب القيادة، والمشي، وأخيرًا حتى الكلام — بالِغَ الصعوبة بالنسبة إليها.

غُلِّفَت الهدايا المقدَّمة من عائلة زوجي في المحلات التي اشتُريَت منها، وشُحِنَت إلى فانكوفر، وكانت عبارة عن أطباق تقديمٍ فِضيَّة، ومفارش مائدة سميكة، وست كئوس نبيذ من الكريستال. كانت تلك هي نوعية الأدوات المنزلية التي كانت متوافرة لدى أصهاري وصديقاتهن.

لم يُصِبْ أيُّ خدش أيًّا من الأشياء الموجودة في حقيبتي؛ فقد كانت كئوس والدتي من الزجاج المضغوط، وكان طبق التقديم المنقوش بالصفصاف من خزف المطبخ السميك. لم تصبح مثل هذه الأشياء موضة شائعة إلا بعد سنوات، ولم تكن شائعة تمامًا لبعض الناس. ولم تكن الملاعق الصغيرة الست، التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، من الفضة الخالصة. وكانت الألحفة مناسِبة لسريرٍ ذي طرازٍ قديم، والذي كان أضيق من السرير الذي اشتراه لنا زوجي. أما الأغطية الأفغانية ومناديل المائدة وأغطية الوسائد، وبالطبع اللوحة المنسوخة من تقويم، فكانت أقرب إلى دعابةٍ هزلية.

ولكن زوجي أقرَّ بأننا قد قمنا بعملٍ جيدٍ فيما يتعلق بتحزيم الحقائب؛ فلم ينكسر أيُّ شيء. كان مُحرَجًا ولكن يحاول أن يكون لطيفًا. وفيما بعدُ حينما حاولتُ وضْع بعض تلك الأشياء في مكانٍ يمكن لأي شخصٍ يأتي إلى منزلنا أن يراها منه، اضطُر للتحدُّث صراحةً. وأنا نفسي أدركتُ السببَ في ذلك.

•••

كنت في التاسعة عشرة حين تمَّت خطبتي، وفي العشرين في يوم زفافي. كان زوجي هو أول رفيقٍ لي. لم يكن المشهد مُبَشِّرًا بخير؛ ففي نفس ذلك الخريف، كان أبي وأخي يقومان ببعض الإصلاحات في غطاء البئر في فنائنا الجانبي، حين قال أخي: «من الأفضل أن نقوم بعملٍ جيدٍ هنا؛ إذا سقط ذلك الرجل في البئر، فلن تجد غيره أبدًا.»

وصارت تلك دعابة مُفضَّلة في العائلة. ضحكتُ أنا أيضًا بالطبع عليها. ولكن ما كان يثير قلق من حولي كان مثار قلقٍ لي أنا أيضًا، ولو على نحوٍ متقطعٍ على الأقل. ما الذي كان يعيبني؟ لم تكن مسألة شكل، كان شيئًا آخر، شيئًا آخر واضحًا كجرس إنذارٍ كان يطيح بالرفقاء والأزواج المُحتمَلين لي من طريقي. ومع ذلك، كان لديَّ إيمانٌ بأن هذا الشيء أيًّا كان سوف ينتهي ويزول بمجرد أن أخرج من المنزل ومن هذه البلدة.

وقد حدث ذلك؛ فجأةً وعلى نحوٍ ساحق، فقد وقع مايكل في حُبي وعَزَمَ على الزواج بي، شابٌّ طويل القامة حسن الطلعة قوي البنية أسود الشعر ذو ذكاءٍ وطموح علَّقَ آماله عليَّ. اشترى لي خاتمًا من الألماس، ووجدَ لي وظيفة في فانكوفر التي كانت ستقودني حتمًا إلى أشياء أفضل، وألزمَ نفسه بإعالتي وإعالة أطفالنا لبقية حياته. فلم يكن شيءٌ ليجعلَه أسعدَ من ذلك.

كان هو مَنْ قال ذلك، وصدَّقتُ أنه حقيقي.

قليلًا ما كان يمكنني الوثوق بحظي. لقد كتبَ لي أنه يُحبني، ورددتُ عليه بأنني أُحبه أيضًا. فكَّرتُ كَمْ هو وسيم وذكي وجدير بالثقة، وقُبيل رحيله مباشرة ضاجعني — مارسنا الجنس معًا على الأرض الوعرة أسفل إحدى أشجار الصفصاف بجوار حافة النهر — واعتقدنا أن ذلك أمر مهم كأيٍّ من مراسم الزواج؛ لأننا الآن لم يعد بإمكاننا على الأرجح أن نُكرِّر الشيء نفسه مع أي شخصٍ آخر.

•••

كان ذلك هو أول خريفٍ منذ أن كنت في الخامسة لا أقضي فيه أيام الدراسة في المدرسة. فقد مكثتُ في المنزل أقوم بالأعمال المنزلية؛ إذ كان المنزل في أشدِّ الحاجة إليَّ؛ فلم تعد أمي قادرةً على الإمساك بيد مكنسةٍ أو فرش الأغطية على الأسِرَّة، كان لزامًا أن يوجد شخصٌ آخر للمساعدة بعد رحيلي، ولكن في الوقت الحالي كنت آخُذ الأمر كلَّه على عاتقي.

كان الروتين يحاصرني، وسرعان ما صار من الصعب أن أصدقَ أنني كنت قبل عامٍ واحدٍ فقط أجلس إلى طاولة المكتبة في صباح أيام الإثنين، بدلًا من الاستيقاظ مبكرًا لتسخين الماء على الموقد لملء غسالة الملابس ثم وضع الملابس المبلَّلة في العصَّارة ونشرها على حبل الغسيل في النهاية. أو أنني كنت أتناول عشائي على نضد صيدلية وكان عبارة عن شطيرة أعدَّها شخصٌ آخر غيري.

كنت أُغطي مشمع الأرضيات البالي بالشمع، وأتولى كَيَّ مناشف الأطباق وأَرديَة النوم إلى جانب القمصان والبلوزات، وجليَ القدور والأواني القديمة، وتنظيفَ الأرفف المعدنية المُسوَدَّة وراء الموقد بقطعةٍ من الليف السلكي. كانت تلك هي الأشياء المهمة آنذاك في منازل الفقراء، ولم يكن شخصٌ يفكِّر في تبديل ما هو موجود هناك، فقط كانوا يُفكرون في الحفاظ على كل الأشياء في حالةٍ جيدةٍ لأطول فترةٍ ممكنة، ثم الحفاظ على بعضٍ منها. وكانت مثلُ هذه الجهود تضع خطًّا فاصلًا بين الكفاح المحترم والانكسار المهين. وكان اهتمامي بهذا يزداد كلما اقترب موعد تَركي لهذا المكان.

وَجَدَتْ تقارير وأخبار إدارة شئون المنزل طريقها إلى خطاباتي لمايكل وكان منزعجًا وغاضبًا لذلك؛ ففي خلال زيارته القصيرة لمنزلنا رأى الكثيرَ مما أدهشه على نحوٍ غير سارٍّ؛ وهو ما جعله أكثر إصرارًا وعزمًا على إنقاذي. والآن ولمَّا لم يكن لديَّ شيء آخر للكتابة عنه، ولرغبتي في توضيح سبب قِصَر خطاباتي، فقد كان مرغمًا على أن يقرأ كيف أنني كنت أُغرق نفسي في الأعمال اليومية في المكان والحياة اللذين من المفترض أنني أتعجَّل الرحيل عنهما.

كان يرى من وجهة نظره أنني ينبغي أن أكون متلهفة لنسيان كل شيءٍ متعلقٍ بمنزل عائلتي وحياتي فيه، وأن أُركِّز على الحياة وعلى البيت اللذين سنبنيهما معًا.

كنت بالفعل آخذ ساعتين راحةً بعد الظهر في بعض الأيام، ولكن ما كنت أفعله خلال هذا الوقت لم يكن ليُرضيَه كثيرًا إنْ كتبت له عنه؛ فقد كنت أضع أمي في فراشها للحصول على قيلولتها الثانية خلال النهار، وأمسحُ أسطح المطبخ المسحة الأخيرة، وأمشي من منزلنا على أقصى أطراف البلدة إلى الشارع الرئيسي، حيث أقوم ببعض التسوُّق، وأذهبُ إلى المكتبة لإعادة كتابٍ واستعارة آخر؛ فلم أكن هجرتُ القراءة، رغم ما بدا من أن الكتب التي أقرؤها الآن لم تكن صعبة أو مرهقة مثل نظيرتها التي كنت أقرؤها قبل عام. كنت أقرأ القصص القصيرة لإيه إي كوبارد، وكان لإحداها عنوان دائمًا ما كنت أجده مغريًا، رغم أنني لا أستطيع تذكُّر أي شيءٍ آخر بشأنه، وكان هذا العنوان هو «رَوَث السمراء». وقرأتُ أيضًا رواية قصيرة لجون جالزوورثي، والتي تضمَّنت سطرًا في صفحة العنوان أبهرني:

شجرة التفاح، والغناء، والذهب …

بعد الانتهاء من مهامِّي في الشارع الرئيسي، كنت أذهبُ لزيارة جدَّتي والخالة تشارلي، وفي بعض الأحيان — بل معظمها — كنت أُفضِّلُ التمشية بمفردي، ولكنني كنت أشعر أنني لا أستطيع إهمالهما مع كلِّ ما كانتا تبذلانه من أجل مساعدتي. ولم أكن أستطيع على أي حالٍ أن أتجوَّل هنا في حالةٍ من الاستغراق الحالم مثلما كنت أفعل في المدينة حيث كنت أذهب إلى المدرسة. في تلك الأيام لم يكن أحدٌ في البلدة يذهب للتمشية، فيما عدا بعض العُجُز الذين كانوا يجوبون الطريق لإبداء ملاحظاتهم على أي مشروعات بلدية وانتقادها. فقد كان مؤكَّدًا أن الآخرين سيرَوْنك إذا ما لُوحِظَ وجودك في جزءٍ من البلدة ليس لديك سببٌ وجيه للوجود فيه؛ فحينها كان أحدهم سيقول: «لقد رأيناكَ منذ أيام …» وسيكون من المفترض بك أن تُقدِّم تفسيرًا.

ولكن البلدة كانت مغرية بالنسبة إليَّ، بأجوائها الشاعرية الحالمة في تلك الأيام الخريفية؛ كانت أجواءً كالسحر بضوءٍ من الوحشة ينعكس على الجدران ذات الطوب الرمادي أو الأصفر، وقد ساد سكونٌ غريب بعد أن هاجرت الطيور إلى الجنوب وسكتَ صوتُ ماكينات الحصد المنتشرة عبر الريف. في أحد الأيام، وبينما كنت أصعد التلَّ بشارع كريستينا في اتجاه منزل جدتي، إذا بي أسمع سطورًا تتردد في رأسي من بداية إحدى القصص.

«كانت الأوراق تتساقط عبر أرجاء البلدة، في صمتٍ وخِفَّةٍ كانت تتساقط الأوراقُ الصفراء؛ إنه الخريف.»

وبالفعل كنت قد بدأت في كتابة قِصَّةٍ في ذلك الحين أو في وقتٍ ما لاحقًا تبدأ بتلك العبارات؛ لا أذكرُ عمَّ كانت تدور. لولا أن أحدهم قد أشار إليَّ أنه من الطبيعي أن يكون ذلك في الخريف، وأنه من الخيال الشعري الأحمق والمتكلَّف أن أقول ذلك؛ فأيُّ شيءٍ آخر يجعل الأوراق تتساقط، ما لم تكن الأشجار في البلدة قد أُصيبت بنوعٍ من الأوبئة التي تطيح بالأوراق؟

•••

كان لدى جدتي مُهرة سُميَّت على اسمها حين كانت صغيرة، وكان ذلك على سبيل التكريم، كان اسم المُهرة واسم جدتي هو سيلينا. وكان يُقال عن المُهرة إنها «عالية الخطوة»، فيما يعني أنها مفعمة بالحيوية والطاقة والنشاط ومُحبة للتبختر على طريقتها الخاصة. إذن لا بد أن جدَّتي نفسها كانت عالية الخطوة. كان ثَمَّةَ الكثير من الرقصات آنذاك كان من الممكن إظهار تلك النزعة فيها؛ كالرقصات التربيعية، ورقصات البولكا والشوتيش. وكانت جدتي شابة جذابة على أي حال؛ فقد كانت طويلة القامة، ناهدة، نحيلة الخصر، بساقين قويتين طويلتين وشعر أحمر داكن ذي تموُّجاتٍ غجرية، إلى جانب تلك البقعة الجريئة ذات اللون السماوي الموجودة في قزحية إحدى عينيها ذات اللون البندقي.

كلُّ هذه الأشياء تجمَّعت، وأُضيفَ إليها شيءٌ ما في شخصيتها، لتصبح بلا شكٍّ الشيءَ الذي حاول الرجل التعليق عليه حين جاملها بتسمية مُهرته على اسمها.

لم يكن هذا هو الرجل الذي كان يُعتقَد أنه يحبها (والذي كان يُعتقَد أنها تحبه)، فقط كان جارًا لها يُكِنُّ لها إعجابًا.

لم يكن الرجل الذي أحبَّته هو الرجل الذي تزوجته أيضًا؛ أي لم يكن جدي، وإنما كان رجلًا كانت على معرفةٍ به طوال حياتها، وفي الواقع إنني قد قابلته مرةً واحدة. وربما أكثر من مرة، حين كنت طفلة، ولكن لا أذكرُ مقابلته سوى مرةٍ واحدة.

كان ذلك حين كنت أقيمُ مع جدتي في منزلها في داوني، وكان ذلك بعد أن أصبحت أرملة، وقبل أن تُصبح الخالة تشارلي أرملةً هي الأخرى؛ فحين أصبحت الاثنتان أرملتَين انتقلتا معًا إلى البلدة التي كنَّا نعيش خارجها.

عادةً ما نكون في الصيف حين كنت أقيم في داوني، ولكن كان ذلك في يومٍ شتويٍّ كانت الثلوج الخفيفة تتساقط فيه. كنا في بداية الشتاء؛ إذ لم يكن ثَمَّةَ أي ثلوجٍ على الأرض. كنت في الخامسة أو السادسة من عمري، واضطُرَّ أبي وأمي لتركي هناك في ذلك اليوم، لعلَّهما كانا ذاهبَين لحضور جنازة، أو كانا يصطحبان شقيقتي الصغيرة، التي كانت تعاني من الضعف ومن حالةٍ متوسطةٍ من مرض السكري، لزيارة طبيبٍ بالمدينة.

سِرنا عبر الطريق فيما بعد الظهيرة لندخل أراضيَ المنزل الذي كانت تعيش فيه هنرياتا شاربلس. كان أكبرَ منزل دخلتُه على الإطلاق، وكان ممتدًّا من شارعٍ إلى آخر. كنت أتطلعُ لدخوله؛ إذ كان مسموحًا لي بأن أنطلق وأنظر إلى أي شيءٍ يعجبني، وكانت هنرياتا دائمًا ما تحتفظ بطبقٍ ممتلئٍ بحلوى الطوفي الملفوفة في غلافٍ أحمر أو ذهبي أو بنفسجي لامع. لم تكن هنرياتا لتهتمَّ إذا تناوَلْتُها جميعًا، إلا أن جدتي كانت تراقبني وتضعُ لي حدًّا.

في ذلك اليوم أخذنا منعطفًا. وبدلًا من التوجُّه إلى باب منزل هنرياتا الخلفي، انعطفنا نحو كوخٍ على أراضيها بجوار منزلها. كان للسيدة التي فتحت لنا الباب كتلة منتفخة من الشعر الأبيض، وبشرة قرنفلية متوهجة، وبطن عريض ملفوف في مئزر من النوع الذي كان معظم السيدات يرتدينه آنذاك داخل المنزل. وقد طُلِبَ مني أن أدعوَها بالخالة مابل. جلسنا في مطبخها، الذي كان شديد الحرارة، ومع ذلك لم نخلع معاطفنا؛ لأنها ستكون مجرد زيارةٍ قصيرة. كانت جدتي قد أحضرت معها شيئًا في طبقٍ مغطًّى بفوطة مائدة وأعطته للخالة مابل؛ ربما كان بعضًا من فطائر المافن الطازجة، أو بسكويت الشاي، أو صوص التفاح الساخن، ولم يكن إحضارنا له يعني أن الخالة مابل كانت تحتاج إلى صدقةٍ خاصة؛ فحين كانت سيدةٌ تخبز أو تطهو شيئًا، غالبًا ما كانت تأخذ معها جزءًا منه حين تذهب إلى منزل جيرانها. وأغلبُ الظن أن الخالة مابل قد اعترضت على مثل هذا السخاء، كما جرت العادة، ثم قبلته وراحت تُثني على نحوٍ مبالغٍ فيه على رائحته الطيبة ومدى روعة مذاقه، أيًّا كان.

بعدها ربما انشغلتْ في محاولة تقديم شيءٍ ما من صُنعها، وأصرَّت على إعداد شيءٍ ولو كوبًا من الشاي، ويتراءى لي أنني أسمع جدَّتي ترفض وتقول إننا جئنا في زيارةٍ قصيرةٍ فقط. وربما تكون قد أسهبت في التوضيح بالإشارة إلى أننا كنا في طريقنا إلى منزل شاربلس. ربما لم تكن لتذكر الاسم، أو أننا كنا ذاهبين في زيارةٍ محددة. ربما اكتفت فقط بقول إننا لن نستطيع المكوث أكثر من ذلك، وإنَّ لدينا مجموعة من المهام التي علينا قضاؤها؛ فقد كانت دائمًا ما تُخفي زيارتها لهنرياتا بأن تقول إن لديها مجموعة من المهام التي عليها قضاؤها، حتى لا يبدوَ أبدًا أنها تزهو بهذه الصداقة؛ فهي لم تكن تهوى التفاخر مطلقًا.

كان هناك ضجيج في سقيفة الحطب الملحقة بالكوخ، ثم دخل رجل متورِّد الوجنتَين إما من البرد وإما من ممارسة الرياضة، وألقى التحية على جدتي وصافحني. كنت أكره طريقة الرجال المسنِّين في تحيتي سواءٌ بوكزةٍ في البطن أو بدغدغةٍ أسفل الذراعين، ولكن هذه المصافحة بدت ودودة ولائقة.

كان ذلك هو كلَّ ما لاحظتُه بشأنه، فيما عدا أنه كان طويل القامة ولم يكن ممتلئًا عند البطن مثل الخالة مابل، وإنْ كان له شعر أبيض كثيف مثلها. كان اسمُه العم ليو. كانت يده باردة، ربما من تكسير الحطب من أجل مدافئ هنرياتا، أو من وضع أكياسٍ حول شجيراتها لحمايتها من الصقيع.

غير أنني لم أعلم بشأن قيامه بهذه المهام من أجل هنرياتا إلا فيما بعد. كان يقوم بأعمالها الشتوية الخارجية؛ من كسحٍ للثلج، وتكسيرٍ للكُتل الجليدية المتدلية، والحفاظ على مخزون الحطب، إلى جانب تقليم أسياج الشجيرات وجزِّ الحشائش في الصيف. وفي مقابل ذلك كانت تؤجِّر الكوخ له وللخالة مابل بلا مقابل، وربما كان يتقاضى أجرًا كذلك. وظلَّ يقوم بهذه المهام لعامَين إلى أن تُوفِّي جرَّاء إصابته بالْتهابٍ رئوي، أو سكتةٍ قلبية، تلك الأشياء التي يُتوقع أن تؤديَ إلى الوفاة لدى الناس في هذه السن.

طُلب مني أن أدعوَه بالعم، مثلما طُلب مني أن أدعوَ زوجته بالخالة، ولم أجادل في هذا أو أتساءل عن صلة قرابتهما بنا؛ فلم تكن تلك هي المرة الأولى التي أتقبَّل فيها عمًّا أو خالةً غامضَين وهامشيَّين بالنسبة إليَّ.

ربما لم يكن العم ليو والخالة مابل يعيشان هنا من زمنٍ طويل، بالنظر إلى نظام عمل العم ليو، قبل الزيارة التي قمنا بها أنا وجدتي لهما. فلم نكن قد انتبهنا من قبلُ لوجود الكوخ، أو لمَنْ يعيشون به في زياراتنا السابقة لهنرياتا؛ ومن ثَمَّ بدا مُحتمَلًا أن تكون جدتي قد اقترحت على هنرياتا هذا الإجراء، «توصيةً» كما يقول الناس. ولكن أهي توصية لأن العم ليو كان «وضعه المالي سيئًا للغاية»؟

لستُ أدري. فلم أسأل أيَّ شخصٍ قط. وما لبثَت الزيارة أن انتهت، حتى كنت أنا وجدتي نعبر ممر السيارات المفروش بالحصى ونطرق الباب الخلفي، وكانت هنرياتا تُنادي عبر ثقب المفتاح قائلة: «ابتعد، أستطيع أن أراك، ماذا تبيع اليوم؟»، ثم فتحت الباب وضمَّتني بين ذراعيها الهزيلتين وصاحت قائلة: «أيتها الشقية الصغيرة! لماذا لم تقولي إنه أنتِ؟ مَنْ هذه السيدة الغجرية العجوز التي جئتِ بها معكِ؟»

•••

لم تكن جدتي توافق على تدخين السيدات أو معاقرة أي شخصٍ للكحوليات.

وكانت هنرياتا تُدخِّن وتتناول الكحوليات.

كانت جدتي تعتقد أن البناطيل للسيدات أمرٌ مُستقبَح، وأن النظارات الشمسية نوعٌ من التكلُّف والحذلقة. وكانت هنرياتا ترتدي الاثنتين.

كانت جدتي تلعب اليوكر، إلا أنها كانت تعتقد أنه من التكبُّر أن تلعب البريدج، وكانت هنرياتا تلعب البريدج.

والقائمة تطول؛ فلم تكن هنرياتا امرأة غير عاديةٍ في زمانها، ولكنها كانت امرأة غير عاديةٍ في تلك البلدة.

كانت هي وجدتي تجلسان أمام نيران المدفأة في غرفة المعيشة الخلفية وتتحدثان وتضحكان طيلة فترة ما بعد الظهيرة، بينما كنت أنا أجوبُ المنزل، أتمتع بمطلق الحرية لتفحُّص المرحاض المنقوش بالأزهار الزرقاء في دورة المياه، أو النظر عبر الزجاج الأحمر الداكن لباب خزانة الصيني. كان صوت هنرياتا عاليًا، وكان حديثها هو ما كنت أستطيع سماعه في معظم الوقت، وكان تتخلَّله نوبات من الضحك الساخر، يُشبه إلى حدٍّ كبيرٍ ذلك النوع من الضحك الذي يصاحب اعتراف امرأةٍ بارتكاب حماقةٍ كبيرةٍ أو قصةٍ من قصص الخيانة التي تفوق حدَّ التصديق.

فيما بعد سمعتُ حكاياتٍ عن هنرياتا، وعن الرجل الذي هجرته، والرجل الذي وقعت في حبه — وكان رجلًا متزوجًا ظلَّت تقابله طوال حياتها — ولا أشك في أنها كانت تتحدَّث عن ذلك، وعن أشياء أخرى لا أعرفها، ولعلَّ جدتي كانت تتحدَّث عن حياتها الخاصة، ربما ليس بهذه الصراحة، أو بصوتٍ أجش، ولكن ظلَّت تتبع نفس الأسلوب، فكانت تحكيها كقصةٍ تذهلها، وبالكاد تستطيع أن تصدِّق أنها تخصها. كان يبدو لي أن جدتي كانت تتحدَّث في ذلك المنزل مثلما لم تكن تفعل — أو لم تعد تفعل — في أي مكانٍ آخر، ولكنني لم يتسنَّ لي مطلقًا أن أسأل هنرياتا عمَّا كان يُسَرُّ به وعما يُقال بينهما لأنها ماتت في حادث سيارة — فطالما كانت متهورة في قيادتها — قبل وفاة جدتي بفترة، ومن غير المُحتمَل أنها كانت ستخبرني على أي حال.

•••

هذه هي القصة، أو ما أعرفه منها.

كانت جدتي، والرجل الذي أحبَّته — ليو — والرجل الذي تزوجته — جدي — يعيشون جميعًا على بُعد أميالٍ قليلةٍ بعضهم من بعض. كانت تذهب إلى المدرسة مع ليو الذي كان يكبرها بثلاث أو أربع سنواتٍ فقط. ولكن لم تكن تذهب مع جدي الذي كان يكبرها بعشر سنوات. كان الرجلان أبناءَ عمومةٍ ويحملان نفس اللقب، لم يكن بينهما أيُّ تشابهٍ في الشكل، وإنْ كان كلٌّ منهما وسيمًا حسبما أستطيعُ أن أجزم. كان جدي في صورة زفافه يقف منتصبًا؛ فقد كان أطول قليلًا من جدتي التي أنقصت حجم خصرها إلى أربعٍ وعشرين بوصة من أجل المناسبة، وكانت تبدو محتشمة ورزينة في ردائها الأبيض ذي الكشكشة. كان جدي عريض المنكبين، قوي البنية، غير مبتسم، وذا هيئة توحي بالذكاء والاعتداد بالنفس والالتزام الجاد بأي شيءٍ يُطلَب منه. ولم يتغيَّر كثيرًا في اللقطة المُكبَّرة التي لديَّ له، والتي الْتُقِطَت له حين كان في الخمسينيات أو أوائل الستينيات من عمره. كان في هذه الصورة رجلًا لا يزال يحتفظ بقوته وقدراته، إلى جانب قدرٍ ضروريٍّ من اللُّطف وقدرٍ كبيرٍ من التحفُّظ، رجلًا يُحترَم، وليس لديه من الإحباط أكثر مما يمكن أن يُتوقَّع أن يكون لدى أي شخصٍ في سِنِّه.

تعود ذكرياتي عنه إلى العام الذي قضاه ملازمًا الفراش، العام السابق على وفاته أو، كما قد تقول، العام الذي كان يُحتضر فيه. كان في الخامسة والسبعين، وكان قلبه يزداد ضعفًا شيئًا فشيئًا. كان والدي في نفس السن وفي نفس الحالة واختار أن يخضع لعمليةٍ جراحية، ومات بعدها ببضعة أيامٍ دون أن يستردَّ وعيَه. أما جدي، فلم يكن لديه هذا الخيار.

أذكرُ أن سريره كان في الطابق السفلي، في غرفة الطعام، وكان يحتفظ بكيسٍ من النعناع أسفل وسادته، ربما كان يُخفيه عن جدتي، ويعطيني بعضًا منه حين تكون مشغولةً في مكانٍ آخر. كانت له رائحة طيبة من رغوة الحلاقة والتبغ (كنت أقلق من رائحة كبار السن، وأشعر بارتياحٍ حين لا تكون كريهة)، وكان أسلوبه معي رقيقًا وعطوفًا، ولكن لم يكن به أيُّ تطفُّل.

بعد ذلك مات، وذهبتُ لحضور جنازته مع أبي وأمي. لم أشأ النظر إليه؛ ومن ثَمَّ لم أكن مُضطرَّة لذلك. كانت عينا جدتي حمراوَين من البكاء، وكان الجِلْد حولهما مجعدًا. كان الاهتمام الذي تُوليه لي قليلًا؛ ما دفعني للخروج والتدحرج على التل العُشبي فيما بين المنزل والرصيف، كان ذلك من الأشياء المُفضَّلة لديَّ عند الإقامة هناك، ولم يكن أحدٌ يُبدي أيَّ اعتراضٍ على ذلك قط. ولكن في هذه المرة نادتني أمي للدخول، وراحت تنفض بعض الحشائش عن ردائي. كانت في حالةٍ من السخط تعني أنني كنت أسلك سلوكًا سوف تُلام عليه.

ماذا كان اعتقاد جدي بشأن حقيقة أن جدتي في شبابها كانت تُحب ابن عمه ليو؟ هل كان يُحبها آنذاك؟ هل كان يأمُل أن تُحبه، وهل تحطمت آماله على صخرة الحب المتَّقد الدائر أمام عينيه؟ تحطمت لكونه متَّقدًا؛ فقد كانت قصة حبٍّ ظاهرة للأبصار استمرَّت ما بين المشاحنات والمصالحات التي كان مُضطرًّا هو وجميع من حولهما أن يكونوا على وعيٍ بها. فكيف كان لقصة حبٍّ أن تستمرَّ في تلك الأيام إلا على نحوٍ علنيٍّ إذا كانت الفتاة محترمة؟ لم تكن التمشية إلى الغابة واردة، وكذلك التسلُّل من الرقصات. وكانت الزيارات لمنزل الفتاة تشمل جميع أفراد العائلة، على الأقل حتى تتم خطبة الحبيبَين. وكانت النزهات في عربةٍ مفتوحةٍ تُرصَد من كل نافذة مطبخٍ عبر الطريق، وإذا تمَّ التخطيط لنزهةٍ بعد حلول الظلام، كانت تصبح في نطاقٍ زمنيٍّ محدودٍ جدًّا.

غير أن الممارسات الحميمية كانت ممكنة؛ فقد كانت شقيقتا جدتي الصُّغريان، تشارلي وماريان، تُرسَلان معها رقيبتبن عليها، ولكن أحيانًا ما كانتا تُخدَعان وتُرشَيان.

قالت الخالة تشارلي حين تحدَّثت إليَّ حول هذا الأمر: «لقد كانا مُغرمين كلٌّ منهما بالآخر مثلما يمكن لأي حبيبَين أن يكونا. لقد كانا شيطانين.»

دار ذلك الحديثُ خلال الخريف الذي سبقَ زواجي، وقت تحزيم الأمتعة. كانت جدتي قد أُجبِرت على أخذ إجازةٍ من العمل، وكانت في الطابق العلوي في الفراش تُعاني من الالتهاب الوريدي. كانت منذ سنواتٍ ترتدي ضماداتٍ مرنةً لدعم أوردتها المنتفخة المصابة بالدوالي، كانت الضمادات والأوردة غاية في القُبح في رأيها، حتى إنها كانت تكره أن يراها أيُّ شخص. وقد أَسرَّت لي الخالة تشارلي أن الأوردة كانت ملتفَّة حول ساقيها كأفاعٍ سوداءَ كبيرة. فبعد كلِّ اثني عشر عامًا أو نحو ذلك يلتهب أحد الأوردة، بعدها تُضطرُّ لملازمة الفراش خشية أن تتحرك إحدى الجلطات الدموية وتشق طريقها نحو قلبها.

على مدار الأيام الثلاثة أو الأربعة التي لازمت فيها جدتي الفراش، لم تكن الأمور تسير على نحوٍ جيدٍ مع الخالة تشارلي فيما يخص حَزْم الأمتعة؛ فقد اعتادت أن تكون جدتي هي مَنْ يتخذ القرارات.

قالت دون استياء: «سيلينا هي القائد. لا أعرفُ ماذا أفعل من دون سيلينا.» (وقد ثَبُتَ بالدليل صحة ذلك؛ فبعد وفاة جدتي سرعان ما ضعفت قدرة الخالة تشارلي على السيطرة على مجريات الحياة اليومية، وصار لزامًا أن تُنقَل إلى دار المسنين، حيث تُوفِّيت عن عمرٍ يناهز الثامنة والتسعين، بعد فترة صمتٍ طويلة.)

بدلًا من القيام بالعمل معًا، كنت أنا وهي نجلس إلى طاولة المطبخ ونتناول القهوة ونتحدَّث، أو بالأحرى نتهامس؛ فقد كان للخالة تشارلي طريقة في الهمس، وفي هذه الحالة ربما كان ثَمَّةَ سبب — فقد كانت جدتي بسمعها السليم موجودة في الطابق العلوي فوقنا مباشرة — ولكن غالبًا ما لا يكون ثَمَّةَ سببًا محددًا. يبدو أنَّ همسها كان فقط من أجل ممارسة سحرها وجاذبيتها — فالجميعُ تقريبًا يرَوْنها جذَّابة — لكي تستدرجك إلى نوعٍ أكثر دفئًا وأهميةً من الحديث، حتى لو كانت الكلمات التي تتفوَّه بها مجرد شيءٍ عن الطقس، وليس — كالآن — حياة جدتي العاصفة في شبابها.

ماذا حدث؟ كنت أتأرجح ما بين الأمل والخوف من أن أكتشف أن جدتي، في تلك الأيام التي لم تحلم فيها قط بأن كانت ستصبح جدةً لي، قد وجدت نفسها حُبلى.

ولكن بقدر جموحها وبقدر ما يجعل الحبُّ المرءَ ماكرًا، لم يحدث ذلك.

ولكن فتاة أخرى كانت حُبلى، أو بالأحرى امرأة أخرى، مثلما قد تقول؛ لأنها كانت أكبر بثماني سنواتٍ من الأب المتهم.

ليو.

إنها السيدة التي كانت تعمل في متجر الأقمشة في البلدة.

قالت الخالة تشارلي وكأنها كانت مكاشفة مؤسفة تخبرني بها على مضض: «ولم تكن سُمْعتها طيبة.»

كثيرًا ما كانت هناك فتيات وسيدات أخريات، وكان هذا هو محور المشاحنات بينهما؛ فقد كان ذلك ما دفع بجدتي إلى ركل خطيبها في رجليه ودفعه من عربته والعودة إلى المنزل بمفردها بحصانه. وكان هو ما جعلها تقذف علبة شوكولاتة في وجهه، ثم داست عليها حتى لا يكون بإمكان أحدٍ أن يلتقطها من الأرض ويستمتع بها، حالَ كان بهذه الدرجة من اللامبالاة والطمع لكي يحاول القيام بذلك.

ولكنها هذه المرة كانت باردة كالجبل الجليدي.

كان كلُّ ما قالته هو: «حسنًا، سوف تُضطر للزواج منها، أليس كذلك؟»

فقال إنه لم يكن واثقًا تمام الثقة من أنه طفله.

فقالت له: «ولكنك لستَ واثقًا من أنه ليس طفلك.»

فقال إنه من الممكن إصلاح كل شيءٍ إذا اتفق معها على أن يدفع نفقات إعالة الطفل، وقال إنه واثقٌ تمامًا من أن هذا هو كلُّ ما تسعى إليه.

قالت سيلينا: «ولكنه ليس كلَّ ما أسعى إليه أنا.» ثم قالت إنَّ ما كانت تسعى إليه هو أن يفعل ما هو صواب.

وقد تحقَّق ما أرادت؛ ففي خلال فترةٍ قصيرةٍ جدًّا، تزوَّج هو وسيدة متجر الأقمشة. ولم يمر وقت طويل على هذا الزواج حتى كانت جدتي — سيلينا — قد تزوجت هي الأخرى من جدي. واختارت لزفافها نفس التوقيت الذي اخترتُه أنا، وهو منتصف الشتاء.

وُلِدَ طفل ليو — إنْ كان طفله، وفي الغالب أنه كان كذلك — في نهاية الربيع وتُوفِّي فور ولادته، ولم تستمرَّ والدته في الحياة بعده لأكثر من ساعة.

وبعد فترةٍ وجيزةٍ وصلَ خطابٌ موجَّه إلى تشارلي، ولكنه لم يكن لها على الإطلاق؛ فقد كان بداخله خطابٌ آخر من المفترض أن تحمله إلى سيلينا.

قرأت سيلينا الخطابَ وأخذت تضحك وقالت: «أخبريه أنني حُبلى»، على الرغم من عدم ظهور أي معالم عليها، وكانت تلك هي أول مرةٍ تعرف فيها تشارلي بأمر حملها.

«وأخبريه أن آخر شيءٍ أحتاج إليه هو تلقِّي مزيد من الخطابات البلهاء من شخصٍ مثله.»

كان الطفل الذي تحمله آنذاك هو أبي، الذي وُلِدَ بعد عشرة أشهر من الزفاف في ولادةٍ متعسرةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ للأم. وكان الطفل الوحيد الذي وُلِدَ لها ولجدي. سألتُ الخالة تشارلي عن السبب، هل ثَمَّةَ إصابة ما لحقت بجدتي، أم كانت هناك مشكلة وراثية جعلت في الإنجاب خطورةً كبيرةً على حياتها؟ قلت إنها بالطبع لم تكن تعاني من مشكلة في الحمل، وإلا ما كانت قد حملت بأبي بعد شهرٍ من الزواج.

ساد بعض الصمت، ثم قالت الخالة تشارلي: «لا أعرفُ شيئًا عن ذلك.» لم تكن تهمس، بل تحدَّثت بصوتٍ طبيعيٍّ مرتفعٍ وبعيدٍ قليلًا، ظهرت به نبرةٌ بسيطة من الجُرْح أو التوبيخ.

لمَ هذا الانسحاب؟ ما الذي جَرَحَها؟ أعتقدُ أنه سؤالي الطبي، واستخدامي لكلمة مثل «حمل». فقد كنَّا على أعتاب عام ١٩٥١، وكان زواجي وشيكًا، وها هي تخبرني للتو بقصةٍ عن الحب وحملٍ غير موفَّق. ولكن لم يكن ليجديَ نفعًا، ولم يجدِ نفعًا، لامرأةٍ شابة — بل لأي امرأة — أن تتحدث بهذا البرود، والاطِّلاع، والوقاحة، عن تلك الأشياء، «الحمل».

ربما كان ثَمَّةَ سببٌ آخر لرد الخالة تشارلي لم يَدُرْ بخلدي وقتها. فلم تُرزَق الخالة تشارلي والعم سيريل بأطفالٍ قط، وحسب علمي لم يكن ثَمَّةَ حتى حمل؛ لذا ربما أكون قد تعثَّرت بمنطقةٍ حساسة.

بدا للحظةٍ وكأن الخالة تشارلي لم تكن تعتزم مواصلة قصتها. كانت تبدو وكأنها قد قرَّرت أنني لست جديرة بمعرفتها. ولكن بعد لحظةٍ لم تستطع أن تتمالك نفسها واستمرَّت في سردها.

بعد ذلك سافرَ ليو، وحقَّق نجاحًا كبيرًا في حياته. فعمل مع فريقٍ لتجارة قطع الأخشاب وإعدادها للتصنيع في أونتاريو الشمالية. وذهبَ للعمل في الحصاد وأصبح أجيرًا في الغرب. وحين عاد بعد سنوات، جاء وبصُحبته زوجة، وفي مكانٍ ما تعلَّم نجارة المنازل وتسقيفها؛ ومن ثَمَّ عمل في هذا المجال. كانت الزوجة شخصية لطيفة، وكانت تعمل بالتدريس. في مرحلةٍ ما من رحلتهما معًا، أنجبت طفلًا، ولكنه تُوفِّي مثل طفل ليو السابق. عاشت هي وليو في البلدة، ولم يكونا يذهبان إلى أي كنيسةٍ محلية؛ إذ كانت تنتمي إلى ديانة غريبة من نوعية الديانات التي لديهم في الغرب؛ ومن ثَمَّ لم يتسنَّ لأحدٍ أن يتعرَّف عليها عن كثب، حتى إن أحدًا لم يعرف أنها مصابة بسرطان الدم إلا قبل وفاتها به بفترةٍ قصيرة. وكانت تلك هي أول حالة سرطان دمٍ سمع بها الناسُ في هذا الجزء من البلاد.

استمرَّ ليو في حياته هنا، وحصل على عمل. وأخذ يُكثِر من زياراته لأقاربه، واشترى سيارة وكان يذهب بها لزيارتهم. وانتشرت الأقاويل عن عزمه الزواج للمرة الثالثة، وأنها كانت أرملة من مكانٍ ما بالقرب من ستراتفورد.

ولكن قبل هذا كان قد جاء إلى منزل جدتي في عصر أحد الأيام. كان ذلك في الوقت الذي تلا نزول الصقيع ولكن قبل هطول الثلج الشديد. وحينها كان جدي وأبي، الذي كان قد أنهى دراسته بالمدرسة في ذلك الوقت، يجرَّان الحطبَ من الغابة. لا بد أنهما قد شاهدا سيارة ليو، ولكنهما واصلا ما كانا يفعلانه. ولم يصعد جدي إلى المنزل ليُرحبَ بابن عمه.

وعلى أي حالٍ لم يمكث ليو وجدتي في المنزل الذي كان يمكنهما الاستئثار به بأكمله، فقد رأت جدتي أنه من اللائق أكثر أن ترتديَ معطفها وأن يخرجا إلى السيارة. ولم يجلسا فيها طويلًا أيضًا، بل انطلقا بها عبر الممر الضيق ثم خرجا عبر الطريق إلى الطريق السريع، حيث انعطفا وعادا أدراجهما. وفعلا ذلك عدة مراتٍ على مرأى أي شخصٍ كان ينظر عبر نوافذ أي منزلٍ ريفيٍّ يقع على الطريق. وفي ذلك الوقت كان كلُّ شخصٍ على الطريق يعرف سيارة ليو.

خلال هذه الجولة طلبَ ليو من جدتي أن تهرب معه، أخبرها أنه لا يزال غير مرتبط، ولم يلتزم بأي الْتزامٍ مع الأرملة. وربما يكون قد ذكرَ أنه لا يزال يحبها، يحبها هي، يحب جدتي، سيلينا.

فذكَّرته جدتي أنها لم تكن غير مرتبطة مثله، أيًّا كانت حالته هو، وهو ما لا يجعل لمشاعرها دخلٌ في الأمر.

قالت الخالة تشارلي بإيماءةٍ أو إيماءتَين صغيرتَين مضطربتَين برأسها: «وكلما احتدَّت في الحديث، كان قلبُها يزداد تحطمًا. بالتأكيد كان الأمر كذلك.»

أَوصَلَها ليو إلى منزلها، وتزوَّج بالأرملة، وكانت تلك السيدة هي التي طُلب مني أن أدعوَها الخالة مابل.

قالت الخالة تشارلي: «لو عرفت سيلينا أنني قد أخبرتكِ بأي شيءٍ عن هذا الأمر، لغضبت مني بشدة.»

•••

كان لديَّ ثلاث زيجات لأتأملها عن كثبٍ نوعًا ما في هذا الجزء المبكِّر من حياتي؛ زواج والدي، وأعتقد أنك قد تقول إنها كانت الأقرب، ولكنها على نحوٍ ما كانت الأكثر غموضًا وبُعدًا؛ بسبب الصعوبة الطفولية التي كنت أجدها في التفكير في وجود أي علاقةٍ بين والديَّ سوى تلك التي كانت تربطهما في شخصي؛ فقد كان أبي وأمي، كمعظم الآباء والأمهات الذين عرفتهم، يتناديان بأبي وأمي، وكانا يفعلان ذلك حتى في الحوارات التي لم تكن لها صلة بأطفالهما. كان يبدو وكأن كلًّا منهما قد نسيَ اسم الآخر. ولمَّا لم يكن ثَمَّةَ أي تفكيرٍ لديَّ في طلاقهما أو انفصالهما — إذ لم أكن أعرف أي والدين، أو زوجين، فعلا ذلك — فلم أكن مضطرَّة للحكم على مشاعرهما أو الانتباه الحثيث للأجواء بينهما مثلما يفعل غالبًا الأبناء هذه الأيام؛ فقد كانا من وجهة نظري رعاةً في المقام الأول؛ رعاة للمنزل، والمزرعة، والحيوانات، ونحن الأبناء.

حين سقطت أمي فريسة للمرض — المرض الدائم، وليس مجرَّد معاناةٍ من أعراضٍ فردية — انقلبت الموازين. حدث هذا حين كنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة تقريبًا. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا صارت عبئًا على كاهل الأسرة، فيما كنا نحن — أي أنا وأبي وأخي وأختي — نحاول أن نحافظ على استقرار الأمور وتوازنها؛ ومن ثَمَّ بدا أبي مرتبطًا بنا أكثر مما كان مرتبطًا بها، فقد كانت تكبره بثلاث سنواتٍ على أي حال؛ ما يعني أنها قد وُلِدَت في القرن التاسع عشر فيما وُلِدَ هو في القرن العشرين، ومع تطوُّر مرضها الطويل، بدأت تبدو كأمه أكثر من زوجته، وصارت بالنسبة إلينا أقرب إلى قريبٍ مُسنٍّ يعيش في كنفنا وتحت رعايتنا من كونها أمًّا لنا.

كنت أعلم أنَّ كون والدتي أكبر من والدي كان أحد الأشياء التي كانت جدتي تراها غير مناسبةٍ منذ البداية. وسرعان ما تكشَّفت أشياء أخرى، مثل حقيقة أن والدتي قد تعلَّمت قيادة السيارات، وأن طراز ملبسها من الطراز الحديث، وأنها قد انضمَّت إلى معهد السيدات العلماني وليس إلى الجمعية التبشيرية للكنيسة المتحدة، والأسوأ من ذلك كله أنها قد شرعت تجوب الريف لتبيع الأوشحة والقبعات المصنوعة من فِراء الثعالب التي كان زوجها يُربيها، ثم اتجهت إلى مجال التُّحف حين بدأت صحتها تضعف. وبقدر ما كان التفكير على هذا النحو قد يكون جائرًا — وهي نفسها كانت تعرف أنه جائر — ظلَّت جدتي عاجزةً عن منع نفسها من النظر إلى هذا المرض، الذي ظلَّ مجهولًا لفترةٍ طويلة، وكان نادرًا لمَنْ هم في سنِّ أمي، كمظهرٍ آخر من مظاهر التعمُّد والافتعال، وسعيٍ آخر وراء جذبِ الأنظار.

أما زواج جديَّ، فلم أشهده عمليًّا، ولكن سمعتُ عدة رواياتٍ له؛ من أمي التي لم تكن تهتم بجدتي مثلما لم تكن جدتي تهتم بها، ومع تقدُّمي في العمر سمعتُ رواياتٍ من أناسٍ آخرين أيضًا لم يكن لديهم أيُّ تحيزات؛ فكان الجيران الذين كانوا يمرون بمنزل جديَّ في طريقهم إلى منازلهم عائدين من المدرسة عندما كانوا صغارًا يحكون عن حلوى المارشميلو المنزلية التي كانت تصنعها جدتي بيديها، وعن مضايقاتها للآخرين وضحكها، ولكنهم قالوا إنهم كانوا يخشَوْن قليلًا من جدي. لم يكونوا يقصدون أنه كان سيئ الطِّباع أو وَغْدًا؛ فقط كان صامتًا. فقد كان الناس يُكنُّون احترامًا كبيرًا له؛ فقد خدم لسنواتٍ في مجلس البلدة، وكان معروفًا بأنه الشخصُ الذي يلجأ إليه الآخرون حين يُضطرُّون لطلب المساعدة في ملء وثيقة، أو في كتابة خطاب عمل، أو حالَ احتاجوا إلى شرحٍ لإجراءٍ حكوميٍّ جديد. كان مزارعًا ماهرًا، ومديرًا ممتازًا، ولكن لم يكن هدف إدارته هو كسب المزيد من المال، بل لإفساح مزيدٍ من الوقت للقراءة. كان صمته يجعل الناس في حالة اضطراب، وكانوا يعتقدون أنه لم يكن بالرفيق المناسب لامرأةٍ مثل جدتي؛ فقد كان يُقال إنه لم يكن ثَمَّةَ أي وجه شبهٍ بينهما وكأنهما قد جاءا من جانبَين مختلفَين للقمر.

لم يقل أبي قط إنه قد وَجَدَ هذا البيت الصامت الذي نشأ فيه غير مريحٍ على نحوٍ خاص؛ فدائمًا ما يوجد الكثيرُ للقيام به في أي مزرعة. وقد كان إنجازُ الأعمال والمهام الموسمية هو ما كان يُشكِّل محتوى أي حياة — أو كان كذلك آنذاك — وكان هذا هو أهمَّ ما في معظم الزيجات.

غير أنه لاحظ كيف أن والدته قد أصبحت شخصًا آخر مختلفًا، وكيف أنها كانت تنفجر فرحًا عند قدوم رفقة.

كان ثَمَّةَ آلة كَمَانٍ في الردهة، وكان أبي قد نضجَ وكبر قبل أن يعلم سبب وجود هذا الكَمَان، وأنه يخصُّ والده، وأن والده اعتادَ العزف عليه.

كانت أمي تقول إن حماها كان رجلًا نبيلًا عجوزًا يتميَّز بالرِّقَّة والهيبة والمهارة، وإنها لم تكن تتعجَّب من صمته؛ لأن جدتي كانت دائمًا ما تغضب منه لأتفه الأشياء.

•••

لو كنتُ قد سألتُ الخالة تشارلي صراحةً عمَّا إذا كان جداي قد نعما بالسعادة معًا، لعادت إلى نبرة التعنيف والتوبيخ مرةً أخرى. سألتُها عن سمات جدي الأخرى خلافَ الصمت، وقالت إنها لا يمكنها تَذكُّره جيدًا في واقع الأمر.

«كان غاية في الذكاء والعدل، رغم أنه كان عنيفًا في غضبه.»

«كانت أمي تقول إن جدتي كانت دائمًا ما تضجر منه.»

«لا أعرفُ من أين أتت والدتكِ بهذا الكلام.»

•••

لو نظرت إلى صورة العائلة التي الْتُقطت حين كانوا صغارًا، وقبل وفاة شقيقة جدتي ماريان، لقلت إن جدتي قد خطفت معظم الأنظار وسط العائلة، بطول قامتها، ووقفتها المعتدة بنفسها، وشعرها الرائع؛ فهي لا تبتسم إلى المصوِّر فقط، بل تبدو ضاحكة ضحكة مقتضبة. كانت في قمة الحيوية والثقة، ولم تتغير هيئتها، ولم تقصر قامتها أكثر من نصف بوصة فقط. ولكن في هذا الوقت الذي أتذكَّره (وقت كانت كلتاهما فيه في نفس عمري تقريبًا) كانت الخالة تشارلي هي مثارَ حديث الناس الذين كانوا يصفونها بالسيدة العجوز الحسناء؛ فقد كانت لها عينان زرقاوان صافيتان، بلون أزهار نبات الشيكوريا، وخفة كبيرة في حركاتها، وميلة رأس لطيفة. لعلَّ أفضل كلمة تصفها هي أنها كانت «فاتنة».

كان زواج الخالة تشارلي هو أكثر الزيجات التي استطعتُ رصدها؛ لأن العم سيريل لم يفارق الحياة حتى بلغت الثانية عشرة.

كان رجلًا قويَّ البنية مفتول العضلات ذا رأسٍ كبيرٍ زاده حجمًا شعرُه المُجعَّد الضخم، كان يرتدي نظارة كانت إحدى عدستيها من الزجاج ذي اللون الكهرماني الداكن لتخفيَ العين التي كانت قد أُصيبت حين كان طفلًا. لا أعرفُ إن كان لا يُبصر تمامًا بتلك العين أم لا؛ فلم تتسنَّ لي رؤيتها مطلقًا، وكنت أشعر بالغثيان من مجرد التفكير فيها؛ فقد رسمتُ في خيالي ركامًا صغيرًا من هلامٍ داكنٍ يهتز. أُتيحت له قيادة سيارةٍ أيًّا كان، وكانت قيادته سيئة جدًّا. أذكرُ ذات مرةٍ حين عادت أمي إلى المنزل، وقالت إنها قد رأته والخالة تشارلي في البلدة وكان قد دار بسيارته للخلف في منتصف الشارع ولم تكن لديها أدنى فكرةٍ كيف سُمِحَ له بالإفلات بهذه الفعلة.

«إنَّ تشارلي تخاطر بحياتها في كل مرةٍ تطأ قدماها تلك السيارة.»

سُمِحَ له بالإفلات بفعلته هذه، وأعتقد أن ذلك لكونه شخصًا مهمًّا على المستوى المحلي، ومعروفًا ومحبوبًا، واجتماعيًّا، وواثقًا بنفسه. كان مثلَ جدي مزارعًا، ولكنه لم يكن يقضي وقتًا كبيرًا في الزراعة. كان كاتبَ عدل، وكاتبَ البلدة التي كان يعيش فيها، وكان عضوًا مهمًّا في حزب الأحرار الكندي. وكان يملك بعض الأموال التي لم يتحصَّل عليها من الزراعة، ربما كانت من الرهون العقارية؛ فقد كانت ثَمَّةَ أقاويل حول امتلاكه استثمارات. كان هو والخالة تشارلي يملكان بعض الأبقار، ولكن لم يكونا يملكان أيَّ ماشيةٍ أخرى. أذكرُ أنني رأيتُه في الإسطبل يدير فاصل القشدة مرتديًا قميصًا وصدرية بذلة، وقد علَّق قلمه الحبر وقلمه الرصاص الإيفرشارب بجيب الصدرية. لا أذكر رؤيته فعليًّا وهو يحلب الأبقار؛ فهل كانت الخالة تشارلي تضطلع بهذه المهمة على نحوٍ تام، أم كان لديهم خادم يقوم بها؟

لم تكن الخالة تشارلي تُظهر انزعاجها من قيادته قط إذا انزعجت منها؛ فقد كانت قصة غرامهما قصة أسطورية. لم تكن كلمة «حب» تُستخدَم لوصف ما بينهما، كان يُقال إنهما «مُغرَمان كلٌّ منهما بالآخر». وكان أبي قد علَّق لي بعد فترةٍ من وفاة العم سيريل أن العم سيريل والخالة تشارلي كانا بحقٍّ مُغرَمين كلٌّ منهما بالآخر. لستُ أدري ما الذي أثار هذا الحديث؛ فقد كنا نقود السيارة في أحد الأوقات، وربما كان ثَمَّةَ تعليق — أو دعابة — عن قيادة العم سيريل. وشدَّد أبي على كلمة «بحق»، وكأنما يقرُّ بأن هذا هو ما كان يُفترَض بالأزواج أن يشعروا به بعضهم تجاه البعض، وأنه من الممكن حتى أن يدَّعوا هذا الشعور، ولكن في الواقع كانت مثل هذه الحالة نادرة الوجود.

أحدُ الأسباب هو أن العم سيريل والخالة تشارلي كان يدعو كلٌّ منهما الآخر باسمه الأول، وليس أبي وأمي؛ ومن ثَمَّ وضعهما عدم الإنجاب في مكانةٍ مميزةٍ عمَّن حولهم وربط بينهما ليس بدورهما، ولكن بذاتَيهما الدائمتَين. (حتى جدي وجدتي كان كلٌّ منهما يشير إلى الآخر، على الأقل حسبما كنت أسمع، بجدي وجدتي، ليصعدا بالدور لدرجةٍ أعلى.) لم يستخدم العم سيريل والخالة تشارلي ألفاظًا تودُّدية أو أسماء حيوانات أليفة مطلقًا ولم أرَهما قط يلامس أحدهما الآخر. لكنني أعتقد الآن أنه كان ثَمَّةَ انسجام، سيل من الرضا، فيما بينهما كان يُكسب الجو من حولهما إشراقةً وتألُّقًا كان بوسع الجميع إدراكه حتى ولو كان طفلًا متمركزًا حول ذاته. ولكن ربما كان هذا هو ما قيل لي فقط، وما أعتقدُ أنني أتذكره. ومع ذلك، فأنا على يقينٍ من أن المشاعر الأخرى التي أذكرها — إحساسَ الالْتزام والحاجة الذي نما على نحوٍ وحشيٍّ فيما يتعلق بأبي وأمي، وجوَّ الانفعال السخيف والاضطراب الراسخ الذي أحاط بجدي وجدتي — كانت غائبةً عن تلك الزيجة، وهو ما كان يُنظَر إليه بوصفه شيئًا يستحق التعليق، كيَوْمٍ رائعٍ في فصلٍ غير مستقر.

•••

لم تكن جدتي ولا الخالة تشارلي كثيرتَي الحديث عن زوجيهما الراحلَين؛ فكانت جدتي قد صارت آنذاك تدعو زوجها بعد وفاته باسمه؛ «ويل». كانت تتحدث دون ضغينةٍ أو أسًى، وكأنها تتحدَّث عن شخصٍ تعرفه من المدرسة. أما الخالة تشارلي، فربما كانت تتحدَّث إليَّ عندما نكون بمفردنا وفي غياب جدتي من حينٍ لآخر عن «عمكِ سيريل». كان كلُّ ما يمكن أن يكون لديها لتقوله أنه لم يكن يرتدي جوارب صوفية على الإطلاق، أو أن البسكويت المُفضَّل لديه كان بسكويت دقيق الشوفان المحشو بالتمر، أو أن أول شيءٍ كان يحب تناوله في الصباح هو كوبٌ من الشاي. وعادةً ما كانت تَستخدم همسها المكتوم؛ كان ثَمَّةَ إيحاء بأن هذا الشخص كان شخصًا بارزًا تعرفه كلٌّ منا، وأنها عندما قالت كلمة «العم»، إنما كانت تمنحني شرف الانتساب إليه بصلة قرابة.

•••

اتصل بي مايكل، وكانت تلك مفاجأة لي؛ فقد كان حريصًا على نقوده، ومدركًا للمسئوليات القادمة الملقاة على عاتقه، وفي تلك الأيام كان الناسُ الحريصون على نقودهم لا يُجرون مكالماتٍ هاتفيةً لمسافاتٍ بعيدةٍ ما لم يكن ثَمَّةَ خبرٌ خاصٌّ ومهمٌّ في العادة.

كان هاتفنا في المطبخ، وقد جاءَ اتصال مايكل قرب وقت الظهيرة في يوم سبت، وكانت أسرتي جالسة على بُعد بضع أقدامٍ قليلةٍ مني، يتناولون وجبة منتصف اليوم. بالطبع، كانت الساعة التاسعة صباحًا فقط في فانكوفر.

قال مايكل: «لم أستطع النوم طوال الليل. كنت قلقًا جدًّا لأنني لم أتلقَّ منكِ أي خطابات. ما الخطب؟»

قلت: «لا شيء.» حاولتُ أن أتذكر آخر مرةٍ كتبتُ له خطابًا فيها، بالتأكيد لم يمرَّ أكثر من أسبوع.

قلت: «لقد كنت مشغولة، وكان لديَّ الكثير من المهام التي كان عليَّ إنجازها.»

كنا قبل بضعة أيام قد ملأنا القادوس بنشارة الخشب. كان هذا هو ما نحرقه في موقدنا؛ فقد كان أرخص وقودٍ يمكن شراؤه. ولكن عندما وضعنا أولَ قِدرٍ منه في القادوس، خلَّف سحبًا من غبارٍ ناعمٍ جدًّا انتشر أثره في كل مكانٍ حتى على أغطية الفراش. ومهما حاولت منع ذلك، لم يكن بوسعك أن تمنع دخوله إلى المنزل عبر حذائك، وكان التخلُّص منه يتطلَّب الكثير من الكنس والنفض.

قال لي: «هذا ما استنتجته.» رغم أنني لم أكن قد كتبت له أيَّ شيءٍ عن مشكلة نشارة الخشب، ثم أردفَ قائلًا: «لِمَ تقومين بكل هذا العمل؟ لِمَ لا يُحضرون مديرةَ منزل؟ ألن يُضطرُّوا لذلك بمجرد رحيلك؟»

قلت: «لا عليك، أتمنى أن يعجبك ثوبي، هل أخبرتك أن الخالة تشارلي هي مَنْ يصنع لي ثوب الزفاف؟»

«ألا يمكنكِ التحدُّث؟»

«ليس بالضبط.»

«حسنًا. فقط اكتبي لي.»

«سوف أفعل. واليوم.»

«إنني أطلي المطبخ.»

كان يعيش في عِليَّة بها لوح تسخين للطهي، ولكن كان قد وَجَدَ مؤخرًا شقَّة بغرفة نومٍ واحدة نستطيع أن نبدأ فيها حياتنا معًا.

«ألا تهتمين حتى بمعرفة لون الطلاء؟ سوف أخبركِ على أي حال، أصفر مع أشغالٍ خشبيةٍ بيضاء. خزانات بيضاء، لكي تُدْخِلَ إليه أكبرَ قدرٍ ممكن من الضوء.»

قلت: «يبدو هذا لطيفًا حقًّا.»

حين أغلقتُ الهاتف قال أبي: «أنا واثقٌ من أنها ليست مشاجرة حبيبَين، أليس كذلك؟» كان يتحدَّث بأسلوبٍ بدا فيه التصنُّع والممازحة فقط ليكسر الصمت الذي كان يلف الغرفة. غير أنني شعرتُ بالإحراج.

فضحكَ أخي ضحكة مكبوتة.

كنت أعلمُ رأيهم في مايكل. كانوا يعتقدون أنه غاية في البشاشة، وذو بشرةٍ حليقةٍ وحذاءٍ لامع، وغاية في الخُلق والأدب بكل ما في الكلمة من معنًى. ومن غير المُحتمَل أن يكون قد نظَّف إسطبلًا من الروث أو أصلح سياجًا؛ فقد كانت لهم عادة من عادات الفقراء — ربما عادة يختص بها الفقراء المثقلين بذكاءٍ يفوق ما تؤهلهم له مكانتهم المتواضعة — هي عادة، أو بالأحرى ضرورة، تحويل مَنْ هم أعلى منهم، أو هؤلاء الذين يشكُّون في أنهم يعتقدون أنفسهم أعلى وأفضل منهم، إلى مثل هذه الشخصيات الكاريكاتورية.

لم تكن أمي على هذه الشاكلة؛ فقد كانت موافقةً على مايكل، وكان يعاملها معاملةً طيبة، وإنْ كان لا يشعر بالارتياح في وجودها، نظرًا لكلامها القانط الجامد وأطرافها المرتعشة والطريقة التي قد تخرج بها حركة عينيها عن السيطرة؛ ما يجعلها تزوغ لأعلى. فلم يكن معتادًا على المرضى، أو الفقراء. ولكنه كان يبذل أقصى جهده خلال زيارةٍ لا بد أنها كانت تبدو له مرعبة، وأقرب إلى معتقلٍ مُوحِش.

معتقل كان يتلهَّف لإنقاذي منه.

كان هؤلاء الأشخاص الجالسون إلى المائدة — ما عدا أمي — يعتقدون إلى حدٍّ كبيرٍ أنني خائنة لعدم بقائي حيثما أنتمي؛ أي البقاء في هذه الحياة، على الرغم من أنهم في واقع الأمر لم تكن لديهم رغبة في ذلك أيضًا؛ فقد كانوا يشعرون بالارتياح أن ثَمَّةَ شخصًا يريد أن يتزوجني. ربما كانوا يشعرون بالأسف أو بقدرٍ يسيرٍ من الخزي أنه لم يكن أحد الشباب ممن كانوا في محيط موطننا، إلا أنهم كانوا يتفهَّمون كيف أن ذلك لم يكن ممكنًا، وأن هذا سيكون أفضل بالنسبة إليَّ من جميع النواحي. كانوا يريدون أن يمازحوني بأسلوبٍ حادٍّ بشأن مايكل (كانوا يقولون إنه مجرد مزاحٍ فقط)، ولكن بوجهٍ عام، كانوا يرَوْن أنني يجب أن أتمسَّك به.

وقد كنت عازمة على التمسُّك به، وتمنيتُ لو استطاعوا أن يتفهَّموا أنه بالفعل لديه حسٌّ من الدعابة، وأنه ليس مغرورًا كما يظنون، وأنه لا يخشى العمل. كما كنت أود منه أن يتفهَّم أن حياتي هنا ليست بهذه الدرجة من البؤس أو الحقارة كما كانت تبدو له.

كنت عازمة على التمسُّك به وبعائلتي أيضًا، كنت أفكر أنني سأظل على ارتباطي بهم دومًا ما حييت، وأنه لا يستطيع أن يعيب عليَّ أو يجادلني من أجل الابتعاد عنهم.

وكنت أعتقدُ أنني أحبه. كان الحبُّ والزواج في خيالي مساحة مستحبَّة ومضيئة تدخل إليها ويتوافر لك بداخلها الأمان، لم يظهر العُشَّاقُ الذين تخيَّلتهم في صورة ضوارٍ جريئةٍ مجنَّحة، وربما لم يكن لهم وجود، واستطعت بالكاد أن أرى نفسي ندًّا لهم على أي حال.

لقد كان مايكل حقًّا يستحق مَنْ هي أفضل مني. لقد كان يستحق قلبًا كاملًا خالصًا له.

•••

في عصر ذلك اليوم ذهبتُ إلى البلدة كالعادة. كانت الحقيبتان قد امتلأتا تقريبًا، وكانت جدتي قد انتهت لتوِّها من تطريز كيس وسادة، كان واحدًا من اثنين قصدت جدتي إضافتهما إلى مجموعة الأشياء التي سآخذها إلى بيتي الجديد، وكان ذلك بعد أن برئت من آلام الالتهاب الوريدي. فيما كانت الخالة تشارلي قد كرَّست وقتها لحياكة ثوب زفافي. فنصبت ماكينة الحياكة في النصف الأمامي من غرفة المعيشة والذي كان مفصولًا بأبوابٍ جَرَّارة من خشب البلوط عن النصف الخلفي حيث كانت الحقيبتان موضوعتين. كانت حياكة الملابس هي الشيءَ الذي تُجيده، ولم تستطع جدتي قط أن تضاهيَها أو تتداخل معها في هذه النقطة.

كان مُزمعًا أن يكون طول ثوب زفافي حتى الركبتَين ومصنوعًا من القماش المخملي ذي اللون الخمري، وذا تنورةٍ مكشكشةٍ وخصرٍ ضيقٍ وما يُسمَّى بتقويرة قلبية، وأكمامٍ منتفخة. الآن أُدركُ أنه بدا منزليَّ الصنع؛ ليس لأي خطأٍ في حياكة الخالة تشارلي، ولكن فقط بسبب التصميم، الذي كان فخمًا في حدِّ ذاته، ولكن لم يكن فيه أيُّ ابتكار؛ فكان مجرد ثوبٍ منسدلٍ على نحوٍ عاديٍّ يفتقر إلى أي تميُّزٍ في تصميمه. وقد كنت معتادة على الملابس المنزلية الصنع حتى إنني لم أعِ ذلك.

بعد أن جرَّبت الثوب وبينما كنت أرتدي ملابسي العادية مرةً أخرى، دعتنا جدتي للمجيء إلى المطبخ وتناوُل القهوة. لو كانت هي والخالة تشارلي وحدهما، لكانا قد تناولا الشاي، ولكنهما اعتادتا شراء النسكافيه من أجلي. وكانت الخالة تشارلي هي مَنْ بدأت ذلك حين كانت جدتي تُلازم الفراش.

أخبرتني الخالة تشارلي أنها ستلحق بنا خلال لحظات؛ إذ كانت تحل بعض خيوط التسريج.

وبينما أنا بمفردي مع جدتي، سألتُها عمَّا كانت تشعرُ به قبل زفافها.

فقالت وهي تشير إلى النسكافيه: «إنه مركَّز جدًّا.» وهمَّت أن تقف على قدميها بتلك النخرة البسيطة التي صارت تُصاحب أيَّ حركةٍ مفاجئةٍ لها. وشغَّلت الغلاية للحصول على مزيدٍ من الماء الساخن. ظننتُ أنها لن تُجيبني، ولكنها قالت: «لا أذكر شعوري حينها على الإطلاق على أي حال، أذكر أنني لم أكن آكل لأنني اضطُررت لإنقاص مقاس خصري لكي يتناسب مع ذلك الثوب؛ لذا أتوقع أنه كان شعوري حينها هو الجوع.»

«ألم تشعري قط بالخوف من …؟» أردت أن أقول «من أن تعيشي حياتك مع ذلك الشخص.» ولكن قبل أن أتمكَّن من قول أي شيءٍ آخر، أجابت بخفةٍ وسرعة: «هذا الأمر سوف يحل نفسه بنفسه بمرور الوقت، فقط لا تشغلي بالك.»

ظنت أنني أتحدث عن الجنس، ذلك الأمر الذي كنت أعتقدُ أنني لم أكن بحاجةٍ لأي إرشاداتٍ أو طمأنةٍ بشأنه.

وأوحت إليَّ نبرتُها أنه ربما كان ثَمَّةَ شيء منفر في إثارتي لهذا الموضوع وأنها لا تنوي تقديم أي إجابةٍ كاملةٍ بشأنه.

كان انضمام الخالة تشارلي إلينا كما فعلت في تلك اللحظة سيجعل إصدار أي تعليقٍ آخر أمرًا غير مُحتمَلٍ على أي حال.

قالت الخالة تشارلي: «ما زلتُ قلقة بشأن الأكمام. تُرى هل ينبغي أن أُقصِّرها رُبع بوصة؟»

بعد أن تناولت قهوتها، عادت وقامت بذلك، وفكَّت تسريج كُمٍّ واحدٍ فقط لترى كيف سيبدو. ونادتني لكي آتيَ وأُجرِّبَ الثوب مرةً أخرى، وعندما فعلت، فاجأتني وراحت تنظر بتمعُّنٍ في وجهي بدلًا من ذراعي. كانت تُطبق على شيءٍ في قبضة يدها كانت تريد أن تعطيَه لي؛ ففردت يدي وهمست لي قائلة: «خُذي هذا.»

أربع ورقاتٍ من فئة الخمسين دولارًا.

قالت وهي لا تزال تتحدَّث بهمسٍ مرتعشٍ متعجِّل: «إذا غيَّرتِ رأيكِ؛ إذا كنتِ لا ترغبين في إتمام الزواج، فسوف تحتاجين إلى بعض المال للهروب.»

حين قالت «إذا غيَّرتِ رأيكِ»، ظننتُ أنها تمازحني فقط، ولكن حين وصلت لعبارة «فسوف تحتاجين إلى بعض المال»، أدركتُ أنها كانت جادَّة فيما تقول. وقفت متحجرةً في ثوبي المخملي يراودني شعورٌ بالألم في صُدغيَّ، وكأني قد تناولت جرعة من شيءٍ باردٍ أو حلوٍ جدًّا.

شحبت عينا الخالة تشارلي من الانزعاج مما قالته لتوِّها، ومما كان لا يزال لديها لتقوله، بمزيدٍ من التشديد، رغم أن شفتيها كانتا لا تزالان ترتعشان.

«ربما لا تكون تلك هي التذكرة المناسبة لك.»

لم يسبق لي أن سمعتها تستخدم كلمة «تذكرة» بهذه الطريقة من قبل؛ فقد بدت وكأنها كانت تحاول التحدُّث بأسلوب فتاةٍ شابة، كان الأسلوب الذي كانت تعتقد أنني أتحدث به، ولكن ليس لها.

كان بوسعنا سماع صوت الحذاء الأكسفوردي الثقيل الخاص بجدتي في الردهة.

فهززتُ رأسي ووضعتُ النقود تحت قطعةٍ من قماش ثوب الزفاف كانت فوق ماكينة الحياكة. لم تبدُ لي حتى كنقودٍ حقيقية؛ فلم أكن معتادة على شكل العملات فئة الخمسين دولارًا.

لم أكن أستطيع أن أدع مخلوقًا يكتشف طبيعتي الحقيقية، ناهيك عن شخصٍ ببساطة الخالة تشارلي.

انحسر الألم والوضوح اللذان كانا في الغرفة وفي صُدغيَّ. ومرَّت لحظة الخطر كنوبةٍ من الفواق.

قالت الخالة تشارلي في صوتٍ مبتهجٍ وهي تقبض على الكُم بإحكام: «حسنًا إذن، لعلَّ الأكمام كانت ستبدو أفضل بالشكل الذي كانت عليه.»

كان ذلك موجَّهًا إلى أذنَيْ جدتي. أما أنا، فكان موجَّهًا إليَّ بعض الهمس المتقطع.

«إذن لا بد — لا بد أن تعديني — «لا بد أن تكوني زوجة صالحة».»

فقلت: «بالطبع»، وكأنه لم يكن ثَمَّةَ داعٍ للهمس، ودخلت جدتي الغرفة ووضعت يدها على ذراعي.

وقالت: «أخرجيها من هذا الثوب قبل أن تفسده، لقد بدأت تعرق.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤