الفصل الرابع

الصفة العامة لغارات العرب هذه والنتائج التي ترتبت عليها

مرادنا أن ننظر إلى هذه الغارات العربية من حيث المجموع وأن نشير إلى بعض حقائق لم يتسنَ لنا حتى الآن أن نتبسط فيها.

وكذلك نريد أن نذكر الشعوب المختلفة التي ضربت بأسهم مذكورة في هذه الغارات، ولا نزاع في أن النهضة الأولى قد كانت للعرب، وأن جميع الغزوات الكبرى كان يرأسها قواد من هذه الأمة، وأن الاسم العربي هو الذي كان غالبًا فيها، وأنه كان بمنزلة القطب من الرحى، وأن المراد بلفظة «سارازين» عند كتَّاب الأوربيين هو العرب لا غير.

فمن أين جاءت لفظة سارازين هذه؟ الجواب جاءت من اللفظة اللاتينية «ساراسنوس» التي أصلها اللفظة اليونانية «سراكنوس» وهذه اللفظة معروفة منذ القرون الأولى من التاريخ المسيحي، والناس تقصد بها العرب الرحل الذين في جزيرة العرب وبين دجلة والفرات وسورية وبلاد العجم، قد ذهب الناس مذاهب شتى في مأخذ هذه اللفظة، وأكثر الآراء اتفقت على أنها مشتقة من «شرقي» لا سيما أن بطليماوس الجغرافي الفلكي اليوناني الذي كان بمصر يتكلم في جغرافيته عن شعب يقطن في بلاد جزائر الغرب يقال له: مغاربة Machurebe فمن هنا ظهر أنه أريد بكلمة «شرقيين» التي جاءت منها كلمة «ساراكينو» العرب الذين بقوا في آسية، كما أن الذين جلوا منهم إلى إفريقية تسموا مغاربة وذلك كما هي الحال اليوم.

وقد ذهب بعض علماء المسيحيين في القرون الوسطى إلى أن «سرازين» مشتقة من «سارة» زوجة إبراهيم الخليل، وهذا غير وارد؛ لأن سارة هي أم إسحق لا أم إسماعيل جد العرب.

ومن الأسماء التي يطلقها المسيحيون على العرب في القرون الوسطى الإسماعيلية،١ أي أبناء إسماعيل، وهذه هي نسبة موافقة للواقع؛ لأن قسمًا كبيرًا من قبائل العرب متسلسل من إسماعيل، ومحمد من هذه السلالة، ولكن العرب لا يعترفون بأن إسماعيل كان ابن أمة وأن إسحق يمتاز عليه، وهم ينسبون إلى إسماعيل كل ما ورد في التوراة عن إسحق، ومما استعملوه في القرون الوسطى من الأسماء التي كانت تطلق على العرب لفظة «هجارنة» أي سلالة هاجر، وهذا الاصطلاح، أي هجارنة، مجهول عند العرب، ثم إن أعظم شعب اشترك مع العرب في هذه الغزوات هو الشعب الساكن في جبل الأطلس ونواحيه المنتشر من مصر إلى الأوقيانوس الأطلنطيكي، ومن البحر المتوسط إلى السودان، والذي يقال له: البربر. يعرفهم الإنسان بلونهم النحاسي وأنوفهم الحادة وشفاههم الرقيقة ووجوههم المستديرة، والمظنون أن هذه الأقوام التي يقال لها: البرابر قد وجدت في إفريقية قبل أن وجد الفينيقيون في قرطجنة، وهم من قديم الزمان معتصمون بجبالهم لا يخضعون لسلطة أجنبية، وكان اليونان والرومان يقولون عنهم: البرابرة فبقي عليهم اسم بربر إلى الآن. وقد اندمج هؤلاء البربر مع غيرهم من الإفريقيين ومع بقايا الشعب القرطجني وبقايا الرومان والفاندال، وتألف منهم شعب واحد يقال له: الشعب المغربي Maure أو الشعب الإفريقي Afri ou Afrecaia.
وقد كان بين الأقوام الذين اشتركوا مع العرب في غزو فرنسة من هم من سلالة جرمانية أو صقلبية، وذلك أنه في القرنين الرابع والخامس للمسيح تقدم أسلاف الذين كانوا ساكنين في شمالي البحر الأسود ونهر الدانوب، زاحفين إلى قلب أوربة وإلى جنوبيها، بأسماء مختلفة، كصقالبة وخرواطيين وسربيين ومورافيين وبوهيميين وتديروا بولونية وبوهيمية وسربية ودالماسية، وقسمًا من بلاد اليونان، وكانوا في أثناء زحفهم يقتتلون مع الأمم السكسونية والأمم الهونية التي منها المجار، وكان الفريقان في حروب دائمة مع شارل مارتل وأولاده وأحفاده؛ لأن ممالك هؤلاء كانت دائمًا عرضة لغارات هؤلاء البرابرة، ولم تنقطع هذه الحروب المصطلمة إلا بعد أن دخل الجرمانيون والسلاف في النصرانية، وقد كان البرابرة المذكورون يستعملون الأسرى الذين يقعون في أيديهم كالحيوانات بلا فرق، وكان أهالي هولندة يبيعون أسراهم كالعبيد، وانتشرت هذه العادة في فرنسة والبلاد المجاورة لها، ولم تنقطع إلا بعد أن دخل هؤلاء البرابرة في النصرانية٢ وتهذبوا.

ومن المعلوم أن تجارة الرقيق امتدت جدًّا بعد أن افتتح المسلمون الشام ومصر وإفريقية والأندلس؛ لأن العرب كانوا يعرفون الرق ويحملون عبيدهم على جميع الأشغال اليدوية وعلى الحرث والزرع، أما في الشرع الإسلامي فالرقيق لا يهان أصلًا، وكل عبد تظهر كفايته في شغل من الأشغال يقدر أن يرقى إلى ما يرقى إليه الحر بدون فرق وكان التجار يذهبون إلى بلاد الجرمانيين والسلاف وأحيانًا إلى نواحي بحر الأدرياتيك والبحر الأسود ويأتون بأصناف الرقيق، ولم يزل أهالي القوقاس يبيعون من أولادهم إلى اليوم، فكانت هذه الشعوب تبيع من أولادها إلى التجار، وكان يأتي منهم قسم إلى فرنسة لا بالبيع والشراء بل بواسطة السبي في الحروب.

ولما كان المسلمون غيرًا في قضية الحريم صاروا يخصون هؤلاء العبيد ليمكنهم استخدامهم في داخل الأحاريم بدون خوف فتنة، وهكذا تولدت في فرنسة مهنة جديدة هي مهنة الخصي، وتأسس لذلك معمل كبير في فاردون Verdun في بلاد اللورين.

وكان الصبيان الذين ينجون من خطر هذه العملية القاسية يباعون في أسواق الأندلس بأثمان عالية، وكانوا يتهادون الخصيان من الصقالبة كما يتهادون الخيل أو الحلي الثمينة.

وقد روى أحد كتَّاب العرب أنه في سنة ٩٦٦ أراد أمراء كتلونية من الإفرنج أن يتزلفوا إلى خليفة قرطبة فقدموا له هدايا من جملتها عشرون خصيًّا صقلبيًّا، والعرب يصفون جميع الرقيق الجرماني والصقلبي والسلافي بلفظة صقلبي Saclabi ونظن أنه من هذه اللفظة جاءت كلمة اسكلاف Esclave بمعنى عبد. وكان أكثر حرس خلفاء قرطبة وأمراء الأندلس من الصقالبة، وكان منهم كثير في صقلية، ولهم في مدينة بلرم حارة منسوبة إليهم، وكان منهم عدد كبير في إفريقية، وقد يصل الصقالبة إلى أعلى المناصب، ولذلك لا يمكنك أن تقرأ تاريخًا لدولة عربية ليس فيه ذكر للصقالبة؛ إذ بدون ذلك يكون التاريخ مغلقًا لا يتحصل فهمه.٣

ولم يكن بين العرب والبربر أناس من شمالي أوربة ومن أصل وثني فقط، بل وجد لهم أنصار ويا للخجل قد ولدوا في حجر النصرانية، من أهل إيطالية وأهل فرنسة، وقد كان اليهود يستثمرون بؤس الأهالي ويشترون الأولاد من ذكور وإناث ويأتون بهم إلى مراسي البحر حيث كانت ترد سفن اليونان والبنادقة وتحملهم إلى بلاد الإسلام، وكانت هذه التجارة القبيحة قد وصلت إلى قلب عاصمة النصرانية، وقد جاء في مجموعة موارثوري أنه في سنة ٧٥٠ اضطر البابا زخريًّا أن يشتري بماله من أيدى البنادقة عددًا كبيرًا من الأولاد ذكورًا وإناثًا كانوا يريدون الخروج بهم من رومة ثم إن البابا الذي خلف زخريًّا اضطر أن يحرق مراكب كثيرة لليونان آتية لحمل الرقيق، وقد جاء في تاريخ الصليبيين للمسيو ميشو أن هذه التجارة كانت جارية في أوربة حتى القرن الثالث عشر، ولكن بشيء من الاحتياط، وكان أسارى المسيحيين والسبي منهم يستخدمون في جيوش المسلمين، وكان السبي من أعظم مقاصد هؤلاء في الغزو، فكلما حصلت معركة رأيت أسواق الأندلس وإفريقية غاصة بالأسرى المسيحيين، فأما الأطفال والأولاد فكانوا يربون في الإسلام وفي اللغة العربية، وكانوا لا يقدرون أن يرتدوا عن الإسلام إذا بلغوا، وأما الأرقاء الذين بلغوا سن الرشد فلم يكونوا يُجبرون على الإسلام لأنه جاء في القرآن لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ على أن كثيرًا من المسيحيين البالغين كانوا يخدمون في جيوش المسلمين عن طيب خاطر.

وأضف إلى هؤلاء قسمًا من أهالي البلاد التي افتتحها المسلمون، فإن العرب والبربر عندما افتتحوا الأندلس وجدوا أعوانًا لا يُحصى عددهم من المسيحيين واليهود، ولما لم يكن جيش العرب كافيًا لحفظ جميع هذه الفتوحات كانوا كلما دخلوا بلدة عهدوا إلى اليهود بحراستها،٤ ولما دخل العرب إلى أرض فرنسة وما جاورها من البلاد لم يخل الأمر من أنهم وجدوا من أهل البلاد رجالًا ممن لا يعرفون الحمية الدينية ولا الوطنية، وممن دأبهم أن يستفيدوا من المصائب العامة، فمشوا بين أيدي العرب في غزواتهم وفتوحهم وحطبوا في حبالهم، ولقد رأينا كيف أن «مورونت» دوق مرسيلية وغيره من سادة البلاد تمالأوا مع العرب على أبناء بلادهم، فإذا كان هذا شأن الكبار فما ظنك بالصغار؟ ولا شك أن العرب في فتوحاتهم في مقاطعات دوفيني وبييمونت وسفواي وسويسرة كانوا قد وجدوا من الأهالي أعضادًا لهم سرًّا وعلنًا، وكان مؤرخو ذلك العصر لا يصرحون بذلك حياء، ويجتزئون بالإشارة إلى خيانة بعض المسيحيين، ولكن الحقيقة أنه لولا تلك الخيانة لم يكن المسلمون ليستقروا في تلك البلاد القاصية المنقطعة عن أوطانهم الأصلية، وهم في قلة من العدد، في زمن كانت فيه المواصلات غير ما هي الآن.
نعم إن العرب كانوا يجدون من أهالي البلاد ردءًا لهم، وقد رأينا في تاريخ دير نوفاليس كيف أن المسلمين قاتلوا الأهالي بقرب فرسل Verceil وتغلبوا عليهم وساقوا عددًا منهم أسرى ثم دخلوا المدينة وعرضوا الأسرى للبيع، كما تعرض السلع، وصار كل من أراد يدفع في الأسير ثمنًا إلى آخر القصة.
أما من جهة اليهود وسياستهم في جنوبي فرنسة، لذلك العهد، فقد قرأنا في سيرة القديس تيودار Theodard رئيس أساقفة أربونة أنه لما دخل المسلمون بلاد اللانغدوق انحاز اليهود إليهم وفتحوا لهم أبواب مدينة طلوزة، وأن شارلمان — تأديبًا لليهود على خيانتهم — أمر بأنه كل سنة في الأعياد الكبرى الثلاثة يؤتى بيهودي ويصفع على باب الكنيسة العظمى، وقد بقيت هذه العادة مدة طويلة ثم تبدلوا بها دفع مبلغ من الدراهم. ولنا اعتراض على هذه الرواية من جهة أن العرب لم يدخلوا طلوزة فعلًا فلعل هذه الحادثة وقعت في فتح مدينة أخرى، وإذا تركنا قضية أنساب الغزاة ورجعنا إلى لغاتهم فإننا نجد أنهم لم يكونوا بأجمعهم يتكلمون بالعربية، فقد روى ابن القوطية أن بعضهم كان يتكلم بالبربرية، وأنه سنة ١٠١٩ عندما غزا المسلمون أربونة كان الغزاة ذلك اليوم من الذين لا يعرفون العربية، وكذلك لم يكن جميع الغزاة مسلمين، بل كان فيهم يهود ووثنيون وأحيانًا مسيحيون، وقد كان في البربر عبدة أوثان ومجوس، ولم يدخلوا جميعًا في الإسلام إلا بعد فتح إفريقية بمدة طويلة.٥ ومن الغريب أن المسيحيين في القرون الوسطى كانوا يسمون غزاة العرب بالوثنيين، مع أنه لا يوجد أبعد عن الوثنية من المسلمين، ومن شدة توحيدهم للباري تعالى يكرهون جميع شعائر الوثنية ويحرمون تصوير المخلوقات الحية، نظير اليهود، ولكن شدة حرمة المسلمين لمؤسس ديانتهم جعلت العوام في أوربة يعتقدون أن المسلمين يعبدونه، كما أن المسيحيين في القرون الوسطى كانوا يطلقون لقب وثني على كل من ليس مسيحيًّا وقد جاء في التاريخ المنسوب إلى المطران توربين Turbin أنه يوجد في إسبانية على شاطئ البحر تمثال من نحاس صنعه محمد نفسه وأن المسلمين يسجدون له، وكذلك فيلومين Philomane في تاريخه لفتح شارلمان بلاد لانغدوق يتكلم عن تمثال لمحمد من الفضة المذهبة كان المسلمون في أربونة في أثناء استيلائهم عليها يعتقدون أنه ملجأ لهم، وكذلك جاء في رواية تمثيلية اسمها لعب القديس نقولا كان لها شهرة في القرون الوسطى أن أحد أمراء المسلمين في إفريقية كان يعبد صنمًا اسمه ترفاغنت Tervagant وأنه عندما كان يحصل على مراده كان يغطي خدود الوثن بأوراق الذهب، ثم إن في قصيدة إفرنسية تذكر وقائع رولان الشهير أن مسلمي سرقسطة كان عندهم مغارة جعلوها هيكلًا لآلهتهم، وكان فيها تماثيل من ذهب كل تمثال في يده صولجان وعلى رأسه تاج، وأن المسلمين كانوا يجتمعون في تلك المغارة للعبادة.٦
وكان اسم «ترفاغنت» ينقلب أحيانًا إلى ترماغنت وكان يرد معه اسم أبولين Apolin وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، فتدور في أقاصيصنا القديمة، مثل قصة لافيوكت (البنفسجة) التي نشرها فرنسيسك ميشال، وزعموا أن هذه الأسماء هي أسماء آلهة إسلامية!
وقد بلغ من تعصب أجدادنا وتحاملهم على المسلمين أنه في الرواية المسماة بلعب القديس نيقولا كان يوجد تمثال لذلك القديس كانوا يسمونه محمدًا باعتبار أن لمحمد تمثالًا، وأنهم كانوا يسمون هيكل الأوثان محمدية Mohamarie فانظر إلى غرابة تصاريف الأقدار، وقابل بين هذه الخرافات وبين الحقيقة، وتأمل كيف صنع محمود الغزنوي عندما غزا الهند سنة ١٠٢٥م، واستولى على صنم أصرَّ على كسره، وعرض عليه الهنود مقدار وزنه ذهبًا فأبى إلا أن يكسره وأن يضعه على أسكفة باب المسجد في عاصمته، حتى تدوسه الأقدام.٧ وليست هذه الحادثة فذة في بابها، فتأمل في كتابنا المسمى «خلاصة التواريخ العربية عن الحروب الصليبية» تجد من أمثالها كثيرًا.

ماذا كان السبب يا ترى في ذهاب آبائنا في الوهم والخطأ إلى هذا الحد؟ الجواب أن بعض العلماء ذهبوا إلى كون أسماء ترفاغنت وأبولين وما أشبه ذلك كانت آتية من بلاد النورمانديين أهالي شمالي أوربة الذين كانوا يعبدون الأصنام، فالعامة في أوربة خلطوهم بالمسلمين بزعمهم أن كل من ليسوا مسيحيين وثنيون! وكذلك كان البربر الذين جاءوا مع العرب متمسكين ببعض شعائر وثنية كانوا يمارسونها ظنت العامة أن هذه الشعائر كان يمارسها العرب أيضًا، ولا يجوز أن ننسى أنه في هذه الكتب التي تتهم المسلمين بالوثنية وتزعم هذا الزعم الغريب أنهم ينحتون تماثيل من حجر أو خشب أو معدن ويعبدونها وقد ورد أن المسلمين إذا وجدوا تلك التماثيل لم تنفعهم انقضوا عليها وحطموها وجعلوها جذاذًا.

على أن الاسم العربي والدين الإسلامي كانا هما السائدين في هذه الفتوحات الإسلامية في أوربة، فليس عندنا شيء من الآثار عن البربر أو الصقالبة الذين كانوا مع العرب في مغازيهم، وكل ما عندنا عن هذه الفتوحات إنما هو من رشحات أقلام العرب المسلمين.

أما أسباب هذه الفتوحات العربية، والعلل الأصلية في اقتحام هذه الغمرات، فهي متعددة، فمنها ما يرجع إلى حب الغنائم وكسب الأموال، ومنها ذوق خاص بالضرب في الآفاق، ومنها ما هو محض تجرد لنشر الدين الإسلامي ورجاء ثواب هذا العمل المبرور عند الله فإن القرآن يحث على الجهاد في سبيل الله انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فالمسلمون الذين كانوا يقدرون على حمل السلاح كانوا يجاهدون بأنفسهم، والذين لم يكونوا قادرين على القتال كانوا يجاهدون بأموالهم وجاء في القرآن: الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وكل مسلم يموت وهو يقاتل في سبيل اللهِ فإنه يموت شهيدًا وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فالمسلمون يسمون شهيدًا كل من بذل دمه في سبيل الإسلام، كما أن المسيحيين يسمون شهيدًا كل من مات لأجل النصرانية.

ثم إن الشرع الإسلامي يفرض على المسلمين أن يدعوا غير المسلمين إلى الإسلام، أو إلى دفع الجزية، وذلك قبل إعلان الجهاد ومباشرة الحرب ويجوز أن يكون قد حصل هذا الإعلان عند دخول العساكر الإسلامية إلى فرنسة ولكن الأهالي لم يجيبوا دعوة الإسلام فاضطر أمراء المسلمين إلى تجريد الحسام، وكان المسلمون في أوائل الفتح يتقلدون السيوف ويتأبطون الرماح ويتنكبون القسي، وكانوا كلهم متعممين، ثم إنهم بتغير الأوقات صاروا يتشبهون بالنصارى في أزيائهم وأسلحتهم، ويلبسون الدروع ويغوصون في الزرد وطالما كانوا يقتنون سيوف مدينة «بوردو» لشهرتها في ذلك الوقت، وتركت عساكرهم العمائم وصاروا يلبسون على رءوسهم الكمة الهندية، وكان أمراء الفرنسيس في كتلونية أهدوا الخليفة عشر أدراع سلافية ومائة سيف إفرنسي، وأنعم الخليفة على حاجبه يوم توليته إياه الوزارة بمائة فارس إفرنجي متقلدين السيوف والحراب غائصين في الحديد على رءوسهم الكمم الهندية، وبالاختصار كان المسلمون قد اقتدوا في شكتهم وأعلامهم وسروج خيولهم بأوربة المسيحية، ولكن بدون شك كانوا يسترجحون في التسلح جانب الخفة، ويتجنبون السلاح الثقيل الذي كان يعول عليه الأوربيون.٨

أما الغنائم فكانت عبارة عن الحجارة النفيسة والنقود المضروبة والمنسوجات والأدوات والأسرى والسبي، وكان السبي أفضل جزء من الغنائم، وكان الأمير يستأثر بالخمس بحسب الشريعة، وينفقه في إعانة الفقراء وأبناء السبيل، وكان الباقي يوزع على الجند، وللفارس ضعفا ما للراجل، وكان يوجد دائمًا في ساقة الجيش تجار يشترون كل ما يقع في أيديهم من صامت وناطق.

أما الأسرى فليسوا كأسرى هذه الأيام، فكان المسيحي إذا وقع أسيرًا كبلوه وإذا انتهت قسمة الغنائم عرف الأسير ذلك الرجل المسلم الذي خرج هو في نصيبه فيصير له مملوكًا يتصرف به كيف شاء، ويصير هو وجميع ما يعمله ملكًا لسيده، ويتوارثه الأبناء عن الآباء، ويعود أولاده أيضًا أرقاء نظير والدهم، وإذا كان سيده غيورًا على الإسلام عرض على ذلك الأسير المسيحي اتخاذ الإسلام دينًا فإذا أسلم فقد يعتقه وإن لم يعتقه افتكه بعض الصالحين ومحبي الخير من المسلمين؛ لأن تحرير الرقاب هو من أفضل القربات عند المسلمين، وهو بعد تحريره يصير في المجتمع الإسلامي نظير سائر الأحرار ويبلغ من درجات العلياء ما يقسم له حظه ونصيبه ويطلق عليه اسم مولى وهو اسم يتضمن معنى السيد ومعنى المملوك معًا، وهناك طبقة أخرى وهي طبقة العبيد الذين يعتقهم سادتهم ولكن على شرط أن يؤدوا إلى سادتهم شيئًا معلومًا كل سنة.٩
وإن كان الأسير المستعبد أبى أن يتحول عن دينه إلى الإسلام فقد كانوا يستعملونه في حرث الأرض أو في حمل الأثقال، وقد وجد مسيحيون كثيرون قبلوا الإسلام، وآخرون بقوا متمسكين بنصرانيتهم، وكلهم كانوا يمتازون بالخدمة وكان يعول عليهم في الحروب، وقد كان منهم كثير في الحرس الخاص للخلفاء والملوك لا سيما في قرطبة، ولم يكن أسرى المسيحيين الذين بقوا متمسكين بدينهم ليلبثوا عبيدًا بدون أمل في الحرية، بل كان أمراء المسلمين وأغنياؤهم ممن يصير إليهم بعض هؤلاء الأسرى إذا وقعت لهم حوادث جاء التوفيق فيها لهم رفيقًا أرادوا شكر الله تعالى على نعمته فحرروا من عندهم من الأسرى وسنة ٩٩٧ علم المنصور بن أبي عامر بأن الله كتب لجنوده النصر في واقعة كبيرة في إفريقية فشكرًا لله تعالى أسرع إلى تحرير ألف وثمانمائة أسير مسيحي من ذكور وإناث.١٠ وكان المسيحيون يجمعون أموالًا ويذهبون إلى إسبانية وإفريقية لافتكاك الأسارى، هذا يفتك أباه وهذا أخاه وهذا صديقه وهلم جرا، ومن هناك تأسست رهبانيات بقيت مدة قرون في أوربة لم يكن لها عمل إلا افتكاك الأسارى من بلاد المسلمين، وقد سجل التاريخ من مآثر هذه الجمعية ما هو فوق الوصف، ومن ذلك عمل إيزان رئيس دير القديس فيكتور في مرسيلية، الذي ذهب في سنة ١٠٤٧ إلى الأندلس برغم ضعف جسمه وكثرة أمراضه، وأفتك عددًا من أسارى المسيحيين وجاء بهم قاصدًا فرنسة، فبينما هم في البحر هاجمهم قرصان فأخذوهم ووقعوا ثانية في الأسر، ورجع إيزان يسعى من جديد سعيًا حثيثًا ويذهب ويجيء حتى افتكهم مرة ثانية، وعندما جاء بهم إلى مرسيلية كان الضنى قد بلغ منه مبلغه فما وطئ أرض مرسيلية حتى مات دنفًا.

وأما الرقيق من النساء فكن يشتغلن في قصور الأمراء وحرم الأغنياء ويساعدن زوجات الرجل الذي يملكهن، وإذا امتازت إحداهن بجمال أو قسام كانت تُعلَّم وتُهذَّب وتُباع بثمن غالٍ أو يتزوج بها مالكها وكثيرًا ما كن يُرسَلن هدايا إلى الخلفاء والكبراء، وذلك كما حصل للأميرة «لمبيجية» ابنة أود دوق أكيتانية التي صارت إلى الخليفة في دمشق وإذا تزوج المسلم بأمة صارت بذلك حرة وكان أولادها أيضًا أحرارًا، ولم يكن فرق بينها وبين الزوجة التي هي حرة من الأصل، وإن كان وُلد للرجل من جاريته أولاد، ولو لم يكن عقد نكاح، ورضي بأن يعترف بهم فإنهم يصيرون أحرارًا وتصير أمهم حرة أيضًا لكن مع بقائها تحت سلطة زوجها، ومثل هذه الجارية عند وفاة زوجها تتحرر تمامًا ويقال لها عندهم: أم ولد. وكانت قصور خلفاء دمشق وبغداد وقرطبة ملأى بالنساء اللائي يقال لهن: أم ولد. وكان أولاد هارون الرشيد، ما عدا واحدًا فقط، كلهم أبناء جوار يقال للواحدة منهن: أم ولد. أما إذا كان الأب ولد له أولاد من جاريته ولم يرد أن يعترف بهم فإنهم يبقون هم وأمهم عبيدًا.

ولنضرب لك مثلًا على ما كان يعانيه الأسرى المسيحيون، في بلاد الإسلام، بالحادثة الآتية:

في أواخر القرن العاشر وقع رجل من أحلاس الحرب، من بلدة طلوزة، أسيرًا في أثناء ذهابه لزيارة بيت المقدس، فصار إلى بيت رجل من الأغنياء استخدمه في حرث الأرض، فقال لهم: إنه لا يحسن هذا العمل وإنه لا يحسن غير القتال، فجعلوه جنديًّا، وحضر وقائع كثيرة وآل به التقلب في البلاد إلى أن حضر حرب قرطبة الأهلية سنة ١٠٠٩ مسيحية، وهناك امتاز بالبسالة ونبه أمره، ولما كان «شنجو» كونت قشتيلة قد خاض غمرات تلك الحرب وشاهد ما شاهده من إقدام هذا الرجل أمر بإطلاق سبيله.

أما مصير المسلمين الذين كانوا يقعون في أيدي الإفرنج فلم يكن يختلف كثيرًا عن مصير المسيحيين الذين يقعون أسرى في بلاد الإسلام، ولقد كان الرق معروفًا بفرنسة، وكان يأتيها رقيق كثيرون من جرمانيين وسلاف وغيرهم من شمالي أوربة، فإذا كان يُستعبد فيها الأوربيون فبديهي أن يُستعبد فيها الأسرى من المسلمين، ولم يكن فرق بين الأسرى في الإسلام والأسرى في بلاد الإفرنج، سوى أن الرقيق في الإسلام إذا تحرر أصبحت له جميع حقوق الأحرار، بخلاف القاعدة في أوربة فإن طبقة العبيد ولو تحرروا تبقى منحطة عن طبقة النبلاء، وتبقى بينهما فواصل، وكان المسلمون يبذلون أيضًا الأموال في افتكاك أسراهم، فمنهم من يفكه أهله، ومنهم من يفكه أصحابه، ومنهم من يفكه سلطانه، وقد تأسست عند المسلمين جمعيات لفداء الأسرى كما عند المسيحيين، وذلك إن فك العاني معدود من أفضل الأعمال في الإسلام، وقد سأل محمدًا سائلٌ عما يجب أن يعمله لينال أفضل الثواب فأوصاه النبي بتحرير الرقاب، وقد روى النويري ولذريق شيميناس أنه في زمن الأمير هشام بن عبد الرحمن بلغ من ظفر جيوش الإسلام أنهم بحثوا عن أسرى يفكونهم بالمال المجموع لذلك الغرض فلم يجدوا أسيرًا مسلمًا يفكونه.

وكان يؤتى بأسرى المسلمين إلى آرل ومرسيلية وأربونة، ويباعون فيها، ويأتي أناس من أبناء ملتهم إلى هذه المدن فيفدونهم فأما المسلمون الذين لم يحصل لهم نصيب الافتكاك من الأسر فكانوا يصيرون إلى العبودية، فيشتغل الواحد منهم في خدمة مالكه، وأكثر ما كانوا يستعملونهم في الحرث، وكان يحق لمالك العبد أن يبيعه أو أن يضربه أو أن يعذبه، وكثيرًا ما كانوا يكبلونهم بالحديد لئلا يفروا، ولم يكن للعبيد من المسلمين، كما لم يكن للعبيد من اليهود ومن الوثنيين، حق أن يتزوجوا بالمسيحيات ولو كُنَّ من الخوادم، ومن كانت منهن متزوجة بغير مسيحي كان لا يؤذن بدفنها في مقابر النصارى بل هناك ما هو أكثر من ذلك، وهو أنه لم يكن يؤذن في زواج العبد من الأمة ولو كانا من ملة واحدة، وإنما كان للمالك أن يأذن في مساكنة العبد للأمة في مكان واحد، ولكن على شرط أن الأولاد الذين يولدون لها يكونون ملكًا للمالك المذكور، ولقد تلاشى الرق من أوربة في نواحي القرن الثاني عشر إلا أنه بقي جائزًا بحق غير المسيحيين لا سيما المسلمين، وعلى ذلك شواهد من آثار القرن الثاني عشر والقرون التالية، ومن جملتها نصوص واردة في مجموعة القوانين البحرية القديمة تأليف المسيو بارديسو، غير أن ذوي التقوى كانوا إذا أرادوا أن يشكروا الله تعالى على نعمة أفاءها الله عليهم أعتقوا عبيدهم ثم عمت العادة بأن كل عبد طلب أن يتعمد أي أن يتنصر يصير حرًّا، وهكذا اندمج العبيد في سائر الأمة.

وكان العبيد من المسلمين يشتغلون في المزارع من أملاك المتمولين أو أوقاف الأديار والكنائس، وقد مر بنا أن أسارى المسلمين الذين وقعوا في اليد سنة ١٠١٩ أمام أربونة قد وزعهم المسيحيون على الكنائس وعلى بعض الزعماء، وهكذا وقع للمسلمين الذين كانوا في فرنسة بعد سقوطهم في معركة سنة ٩٧٥ ولجميع عساكر المسلمين الذين انفصلوا عن مجموع جيشهم في أثناء غزواتهم للبلاد الإفرنسية.

وكانت هناك أسباب أخرى لزيادة عدد الرقيق المسلم في فرنسة، منها الحروب الصليبية في الشرق، ومنها الحروب التي كانت تقع بين الإفرنج وبين مسلمي الأندلس، وقد ذكر المسيو بارديسو — في كتابه المار الذكر — أن منها ما كان آتيًا أيضًا بطريق التجارة، ومما لا نزاع فيه أنه قد بقي استعباد أسرى المسلمين في فرنسة عادة متبعة دهرًا طويلًا، وفي سنة ١١٤٩ أوصى أرنود مطران أربونة بعبيده المسلمين لمطران بيزيه Beziers وفي سنة ١٢٥٠ أوصى روميو فيلنوف Romeo de Villeneuve الذي كان وزيرًا عند كونت بروفنس، قبل موته، ببيع العبيد المسلمين الذين كانوا في أراضيه، وكانوا من الذكور والإناث، ذكر هذا المسيو بوش في تاريخ بروفنس، وبعد ذلك بمئتي سنة ورد ذكر شراء الملك رينه Reué١١ لثلاثة عبيد من المسلمين، وقد اطلعنا على قرارات لمجمع الأساقفة في طراكونية في إسبانية المنعقد ١٢٣٩ من جملتها أن يُجبَر المسلمون الذين بفرنسة على اتخاذ لبس خاص بهم، وكذلك اليهود، وقد جاء مثل هذا الاقتراح في قانون لأسقف بيزيه سنة ١٨٦٣.
وكان المتحمسون بالنصرانية يغضبون للسماح بزواج الأرقاء في فرنسة بحيث وجد في قانون رهبانية جيتو Jéteau مادة تمنع أديار هذه الرهبانية أن يجتمع فيها مسلمون ومسلمات في محل واحد، بل كان هناك معاهد دينية ترفض استخدام العبيد المسلمين في أشغالها.

لقد مر بنا أن المسلمين الذين كانوا يطلبون المعمودية يصيرون أحرارًا، وكان هذا حقًّا لهم، ولما كان كثير من هذا الطلب لا يقع عن إخلاص أو عقيدة، وكان بعض هؤلاء المتعمدين إذا حصلوا على حريتهم يعودون إلى ضلالهم، فكان لسادة هؤلاء العبيد الحق في امتحانهم مدة من الزمن، وعند ذلك صار كثير من المسيحيين الذين لا وجدان لهم يمتحنون عبيدهم من المسلمين امتحانات يقصدون بها منعهم من الدخول في النصرانية، ومنهم من كانوا وقد تنصر عبيدهم، يرفضون الموافقة على تحريرهم ويستمرون على إرهاقهم بأشد ما يمكن، ولقد أصدر الباب كليمنفوس الرابع سنة ١٢٦٦ منشورًا أنزل به صواعق الغضب على رئيس دير القديس بندكنس في ميرنده، لكونه عذَّب رجلًا مسلمًا غنيًّا كان قد تنصر، وزعم هذا الرئيس أن تنصره كان غير حقيقي وضبط له أملاكه وحرم منها أولاده.

فأنت ترى أنه كان من المسلمين المستعبدين في فرنسة أشخاص ذوو أملاك، وكانوا مثل اليهود يقرضون الأموال بالربا، وكان إذا غضب الشعب على المرابين من اليهود أدخلوا المسلمين أيضًا في دائرة غضبهم، وقد قلنا: إنه لم يكن للمسلمين حق في التزوج بمسيحيات، وإن كل مسيحية كانت ترضى بأن يتزوجها مسلم كانت تُحرم من حق الدفن في المقابر المسيحية، وكان هؤلاء المسلمون يعطلون أشغالهم في الأعياد المسيحية قسرًا.

وبالإجمال فعدد المسلمين الذين تنصروا في فرنسة كان كبيرًا،١٢ وهذه نتيجة طبيعية للحالة التي كانت يومئذ ولكن الفرنسيس الذين مع الأسف اتخذوا الإسلام دينًا كان عددهم أكبر، فإن الغزوات الإسلامية الأولى لفرنسة وسبي المسلمين للذراري من أهلها وما كان التجار يتجرون به من الرقيق، كل هذا قد أدخل في الإسلام عددًا لا يحصى من الإفرنج، ومن المعلوم أن المسلمين يتلقون المسيحيين الداخلين في دينهم بمزيد التساهل ويعتنون بهم ويوفرون حظوظهم وأرزاقهم وبهذا كثر عدد النصارى الذين صبأوا عن دينهم ودخلوا في الإسلام.
ولنتكلم الآن عن كيفية حكم المسلمين في فرنسة أيام كانوا سائدين فيها وعن طرز معاملتهم لرعاياهم وعن سياستهم المدنية والدينية والخراجية، فإنهم قد استقروا بعد غزواتهم الأولى في بروفنس ودوفيني وبييمونت وسفواي وسويسرة، ولكن استقرارهم الحقيقي لم يكن إلا في بعض المعاقل الحصينة وفي ضواحيها، ولم يتفق لهم أن استولوا في فرنسة على بلاد بأسرها، نعم كانت في أيديهم معابر الجبال والأنهار، فكانوا يأخذون من السابلة رسومًا على المرور، وكان الوادعون منهم يشتغلون بالفلاحة والزراعة، وربما أدوا الضرائب عن محصولاتهم إلى أمير البلاد التي كانوا فيها، أما بلاد بروفنس التي كانت تجاور حصن فركسينت فقد كانت دائمًا عرضة لعبث عصاباتهم، وفي أوائل فتحهم لجنوبي فرنسة أيام شارل مارتل وابنه ببين القصير لم يطل الأمر أن وقعت بينهم الحروب التي أدت إلى التنفيس من خناق المسيحيين، فكان للقوط في اللانغدوق أمراؤهم وقوامسهم يلون أمورهم وإنما لم يكن المسلمون يعطون هؤلاء الأمراء سلطة عسكرية واسعة فكأنهم كانوا يحفظون حق السيطرة لأنفسهم على الحكومات المسيحية المحلية، وقد ذكرا يزيدور الباجي المؤرخ المسيحي الذي عاش في ذلك العصر أن عقبة أمير الأندلس في سنة ٧٣٤ كان يلتزم سياسة ترك الشعوب التي تخضع لحكم المسلمين على قوانينها الأصلية، وقد وقع في يدنا منشور من الوالي المسلم لمدينة قويمرة في البرتغال يظهر منه أنه كانت للمسيحيين إدارة خاصة بهم، ونص هذا المنشور هو ما يلي: يكون على مسيحيي قويمرة كونت يلي أمورهم ويحكم فيهم بالسداد، وكما كانت عادة المسيحيين في الأحكام وله أن يفصل الخصومات التي تقع بينهم، ولكنه لا يقدر أن يحكم على أحد بالقتل إلا بعد موافقة قاضي المسلمين وذلك بأن الجاني يؤتى به أمام القاضي ويقرأ نص الحكم عليه بحسب الشريعة المسيحية، فإذا وافق القاضي أمكن تنفيذ الحكم بالقتل وإلا فلا، ويكون لكل مدينة من المدن الصغيرة قاض خاص بها يحكم فيها بالعدل ويكف المنازعات، وإن أهان مسيحيٌّ مسلمًا عومل بشرع المسلمين، وإن سطا مسيحي على عرض مسلمة أجبر على الإسلام وعلى التزوج بالمرأة التي اعتدى على عرضها، وإلا فالقتل، وإن كانت المرأة محصنًا فإن المعتدي على عرضها يُقتل بلا مراجعة.١٣ وقد وُجد نص هذا المنشور في دير لوربان Lorban وطبع في أشبونة سنة ١٦٠٩.
أما من جهة سياسة المسلمين الدينية في فرنسة فليست عندنا عنها معلومات شافية للغليل، وكل ما نعلم أن المسلمين تركوا للنصارى حريتهم الدينية، وأن السواد الأعظم من أهل أربونة مثلًا بقوا مسيحيين، وكان عددهم كبيرًا، وقد ترك لهم المسلمون كنائسهم وبيعهم مع القسيسين والوفهة الذين يخدمونها، على أنه لم يسمع أن المسلمين في أربونة وما جاورها من فرنسة مثلًا متعوا المسيحيين بالحقوق التي أمتعوهم بها في قرطبة والمدن التي في قلب المملكة، نعم إن المسلمين في قرطبة استولوا على كنائسها الكبرى، ولكنهم أبقوا للمسيحيين سائر كنائسهم وتركوا لهم أديارهم التي للرهبان والتي للراهبات على السواء، وتسامحوا معهم في أمر لم يتسامح فيه المسلمون لا في إفريقية ولا في آسية وهو قرع المسيحيين للأجراس١٤ في مواعيد صلاتهم، أما في أربونة وما جاورها من المدن فلم يكن للمسيحيين أساقفة كما في قرطبة، ولا كانت لهم أديار ولم يكن السبب في ذلك كله من المسلمين بل كانت هناك فوضى كنسية كما يستدل عليه من كتاب بعث به القديس بونيفاس إلى البابا زخريا سنة ٧٤٢ وهذه الفوضى كانت ناشئة عن الانقلابات التي أحدثتها حروب أولاد كلوفيس فيما بينهم، أما في شمالي إسبانية فقد وقعت الفوضى الكنسية لدى وصول المسلمين إلى البلاد، ففي أراغون مثلًا، عندما جاء المسلمون واستولوا على هذه المملكة، فر الأسقف إلى جبال البيرانه ولم تعد الأسقفية إلى أراغون إلا بعد ذلك بثلاثمائة سنة، أي عندما أُجلي المسلمون عن البلاد، ولا يظهر أنه كان في برشلونة أسقفية لعهد وجود المسلمين فيها، بل يظهر أن أمراء المسلمين تحاشوا قبول الأسقفيات في المدن الواقعة في الثغور، وقد كان المسلمون يتركون للمسيحيين كنائسهم على شريطة أن يكتفوا بالقديم منها، وأن لا يؤسسوا كنائس جديدة، وإن بنوا شيئًا جديدًا منها فلا يكون إلا مكان القديم، وذهب بعض فقهاء الإسلام إلى أنه لا يجوز تجديد الكنيسة الجديدة إلا بأحجار الكنيسة القديمة، ولم يكن للمسيحيين حق في الطواف في الأسواق بالصلبان والأعلام المسيحية ولم يكن أيضًا للمسيحيين أن يعارضوا نصرانيًّا يريد الدخول في الإسلام، وقد تبين من الأمر المتعلق بنصارى قويمرة في البرتغال أنه كان على كل كنيسة دفع ضريبة لبيت المال، مقدارها خمس وعشرون قطعة فضية، وكان على كل دير دفع خمسين قطعة أما الكنائس العظمى فكانت تدفع مائة قطعة.
وقد تقدم أن المسلمين في مدن الأندلس كانوا يعاملون النصارى بالحسنى، كما أن النصارى كانوا يراعون شعور المسلمين فيختنون أولادهم ولا يأكلون لحم الخنزير، ومع هذا فقد وجدت كتابات للمسيحيين من القرن التاسع تدل على أن مراجل البغضاء كانت تغلي أحيانًا بين الفريقين، وأنه كان محظورًا على المسيحيين إقامة شعائر دينهم علنًا بالاحتفال اللازم، وأن المسلمين كانوا إذا سمعوا قرع النواقيس اشمأزوا ونفروا وربما قذفوا وشتموا، ولكن لا ينكر أن المسيحيين أيضًا كانوا إذا سمعوا الأذان تعوذوا بالله ورسموا إشارة الصليب على صدورهم، وقد أقر بذلك القديس أولوج Euloge الذي كان من المضطهدين سنة ٨٥٠.

أما من جهة الخراج فقد تقدم أن السمح (ابن مالك الخولاني) أمير الأندلس كان هو البادئ بتنظيم الجبايات واستخراج الارتفاعات سواء في إسبانية أو في جنوبي فرنسة، وقبل ذلك كانت أمور الجباية فوضى والحبل منتشرًا، وقد وزع السمح قسمًا من الأراضي المأخوذة من المسيحيين على غزاة المسلمين وعلى العائلات الفقيرة، بعد أن كان بعض ذوي السلطة قد استأثروا بها لأنفسهم من دون الفقراء، وقد ضم السمح بقية الأراضي إلى بيت المال، وكان الخراج المفروض على أراضي المسلمين هو عُشر المحصول بخلاف المسيحيين فقد كانوا يدفعون الخمس، أي ضعف خراج المسلمين، وكان المسيحيون عدا الخمس يدفعون الجزية، وهي إتاوة شخصية كان يتقاضاها المسلمون من المسيحيين في مقابلة محافظتهم على دمائهم وأموالهم وأمتاعهم بحريتهم الدينية، أما من أسلم من المسيحيين فكان معفي من الجزية، وكان ملوك الأندلس يضربون رسمًا على البضائع والسلع، فالمسلم كان يؤدي اثنين ونصفًا في المئة، والمسيحي كان يؤدي خمسة في المئة، وكانوا يسمونها زكاة وكانت تنفق في إعانة الفقراء وافتكاك الأسرى.

وكان المسلمون يسمون المسيحيين الذين خضعوا لهم ودفعوا الجزية المعاهدين أو أهل الذمة، أي الذين لهم على المسلمين ذمة الحماية والمحافظة، أما المسيحيون الذين لم يكونوا خاضعين للإسلام فكانوا يسمونهم أعلاجًا واحدها علج، وكانوا يقولون: عجمي لكل من ليس بعربي، ويسمون مشركًا كل من يقول بأن الله ثلاثة أقانيم لأن المسلمين لا يرون في الثلاثة الأقانيم إلا ثلاثة أشخاص.

ويحق للإنسان أن يسأل: بأي لسان كان العرب يكالمون الأمم التي تغلبوا عليها؟ فإن من عادة العرب أن لا يحفلوا بغير لغتهم كما أن المسيحيين لذلك العهد كانوا من الجهل والبربرية بحيث لم يكونوا يفكرون في تعلم العربية، ولم يذكر التاريخ رجلًا مسيحيًّا لأوائل أيام الفتح الإسلامي أتقن العربية غير هارتموت Hertmote رئيس دير سانغال الذي كان يعرف العربية واليونانية والعبرية، وكان من رجال أواخر القرن التاسع، ولم يبدأ آباؤنا بتعلم العربية إلا في أيام الحروب الصليبية؛ إذ لم يجدوا غنى عن الاطلاع على لغة قوم استولوا على جانب من بلادهم، فكانوا يذهبون إلى إسبانية حيث كانت العربية واللاتينية تُعلَّمان جنبًا إلى جنب ويقرأون العربية على أهلها، وفي سنة ١١٤٢ أكمل بطرس رئيس دير كلوني Cluny أول ترجمة لاتينية للقرآن، وبدأ يكتب الردود على دين الإسلام، وتبعه في ذلك مؤلفون كثيرون من النصارى.
على أننا لا نشك في أنه في أول دخول العرب إلى فرنسة كانت اللغة العربية معروفة فيها، وكان كثير من الإفرنج يحسنون التكلم بها، وذلك لأن العرب كانوا يأخذون أبناء البيوتات النبيلة رهائن على طاعة أهلهم لهم، ويرسلون هذه الرهائن إلى قلب مملكتهم، فكان لابد لهم هنالك من أن يتعلموا العربية، وكذلك كان بديهيًّا أن الأسرى والعبيد من المسيحيين يتعلمون العربية، فإذا عادوا إلى بلادهم كانوا من جملة الإفرنج الذين يعرفون هذه اللغة، وأضف إلى ذلك المسلمين المستعبدين الذين كانوا في أرض فرنسة فقد كانوا كلهم يتكلمون بالعربية، ولا تنس التجار وزوار بيت المقدس الذين برغم جميع تلك الحروب الهائلة لم ينقطعوا عن التجارة ولا عن الزيارة، وكانوا يختلفون إلى مصر والشام وغيرهما من بلاد الإسلام، ومن جملة هؤلاء الإنكليزي القديس غيلبود Geillebaud الذي ذهب إلى الشرق ووصل إلى الشام سنة ٧٣٤ للمسيح، وقيل: إنه عند وصوله إلى دمشق قبض عليه على ظن أنه جاسوس، فلما علموا أنه قادم لزيارة بيت المقدس خلوا سبيله، فطاف في سورية وفلسطين بدون معارضة؛ ولكن لم يقع في أيدينا شيء من المعلومات عما دار من الأحاديث بين الخليفة في دمشق وبين القديس المذكور.

وكان المسيحيون في ذلك العصر مستسلمين للأقدار يعتقدون أن غزوات العرب لبلادهم إنما هي عقاب من الله تعالى للبشر على خطاياهم فكانوا راضين بما قدره الله عليهم لا يحاولون دفع ما نزل بهم ولم ينهضوا في أوربة لاستعمال الوسائل البشرية الكفيلة بدفع الأذى عنهم إلا في أيام الحروب الصليبية.

وكان المسلمون في غاراتهم يستعملون السبي فيربون الصبيان إلى أن يبلغوا رشدهم، ويجعلونهم جنودًا، ويربون الصبيات إلى أن يبلغن رشدهن فيتخذوهن حلائل، وكانوا في أي مكان شنوا فيه الغارة وضعوا ذلك نصب أعينهم، تأمل في كيفية حلولهم بجزيرة أقريطش، فقد تقدم أن خمسة عشر ألفًا من ربض قرطبة أجلوا عن الأندلس على أثر فتنة الربض المشهورة، فجاءوا إلى الإسكندرية، ومن هناك عزموا على النزول في أقريطش نظرًا لحسن هوائها وجودة تربتها، ولما وصلوا إلى تلك الجزيرة أمرهم قائدهم بأن يبدأوا بالعمارة، وأحرق السفن التي جاءوا بها، فصاح رفاقه به قائلين له: كيف يمكننا بعد الآن أن نراسل نساءلنا وأولادنا؟ فأجابهم: إنني أعطيتكم وطنًا جديدًا وهذا الوطن هو الذي يكفل لكم إيجاد نساء تتزوجون بهن، وبعد ذلك عليكم أنتم أن تنسلوا الأولاد، ولما جاء المسلمون ودخلوا أرض فرنسة فاتحين لم يكن لهم مقصد سوى نشر دين الإسلام وإخضاع فرنسة وكل أوربة لأحكام القرآن، ولكن فيما بعد ذلك دخل في تلك الغزوات مقاصد أخرى، كحب النهب أو الأخذ بالثأر، ومن هذا القبيل نزول العرب في أواخر القرن التاسع في أرض بروفنس.

وقد ذكر المؤرخ ليو تبرند كيفية فتح العرب لصقلية فقال: إن أمير صقلية من قبل إمبراطور القسطنطينية كان قد خرج من طاعته، فأرسل يستنجد أمير العرب في القيروان، فشاور هذا أعوانه فيما يفعل، فأشاروا عليه بإصراخه، ولكن على شرط أن العسكر الإسلامي يأخذ ما يمكنه من الغنائم ويقفل بدون استقرار في تلك الجزيرة، وذلك لأنهم لمعرفتهم بشدة قرب صقلية من الأرض الكبيرة كانوا يعتقدون أن مقام أمة تخالف أهل تلك الديار في اللغة والعقيدة لا يمكن أن يكون هناك لا طويلًا ولا وطيدًا، وأنه لا مناص من أن يكر اليونان والإفرنج فيسترجعوا تلك الجزيرة ولو بعد حين، قيل: إن أحدهم سأل يوم عقد تلك الشورى بشأن غزو صقلية ما مقدار المسافة التي تفصل بين الجزيرة والأرض الكبيرة؟ فأجابوه بأن الإنسان يقدر أن يأتي ويرجع مرتين أو ثلاثًا في النهار، فسأل: وكم المسافة بين صقلية وإفريقية؟ فقيل له: مسافة يوم وليلة. فقال: لو كنت طيرًا ما رضيت أن أجعل مقامي بهذه الجزيرة والحال هي هذه من جهة المسافة. ذكر ذلك النويري. والحقيقة أن المسلمين لم يعولوا على البقاء في صقلية إلا بعد أن رأوا أمورها فوضى، وبعد أن وجدوا أمراء تلك البلاد يستعينون بهم بعضهم على بعض، لا تجمعهم جامعة قومية ولا تضمهم صارخة وطنية.

أما الآثار الحجرية التي تركها المسلمون في فرنسة على أثر غزواتهم فيها فهي قليلة جدًّا ففي أربونة مثلًا حيث بقي العرب نحوًّا من أربعين سنة، لم نجد لهم بناءً خاصًّا بهم، وغاية ما عملوا أنهم زادوا في تحكيم القلاع التي فيها حتى جعلوها في مناعتها لا تؤخذ، ولكن لم يجد المؤرخون هناك كتابات عربية ولا آثارًا يتحققون كونها عربية. وقد قيل عن بناء في مدينة سردانية التي بجوار جبل لويس: إنه من عمل المسلمين، ولكن ذلك القول لم يثبت لأنه بناء لا يشابه أبنيتهم المعهودة، نعم يوجد في جنوبي فرنسة كثير من المسكوكات العربية وأكثرها ليس عليه ذكر الملوك الذين ضربت في أيامهم، ولا ينكر أنه في أواخر القرن التاسع للميلاد كان المسلمون قد قطعوا مراحل بعيدة في المعارف والفنون وأخذوا يتقدمون يومًا فيومًا في المدنية، وفي ذلك الوقت كان نزولهم في بلاد بروفنس ودوفني وسافواي وسويسرة، ولا نزاع في أن مسلمي إسبانية وصقلية بل مسلمي إفريقية نفسها كانوا في ذلك العصر أرقى من مسيحيي فرنسة والبلاد المجاورة لها التي كانت غائصة في فتن كقطع الليل المظلم ولسنا الآن في صدد المدنية الباهرة التي أثلها العرب في الأندلس فمن ذا الذي لا يسمع بعظمة جامع قرطبة الأعظم، ومن لا يعلم ما شاده العرب من الجسور والمعابر وشقوه من الأنهر والجداول لري الأراضي، وما بنوه من القصور المنيفة الشامخة، ولعمري لم ينحصر فضلهم في الصناعة والفن بل كانت لهم القدم الراسخة في العلوم العقلية والفلسفة وكانوا ترجموا إلى العربية كتب أرسطو وأبيقراط وجالينوس وديسقوريدوس وبطوليماووس وغيرهم، وكشفوا من العلم أسرارًا جديدة أضافوها إلى ما تلقوه عن غيرهم. فكان تفوق العرب على المسيحيين في ذلك العصر حقيقة ثابتة لا مراء فيها وكان المسيحيون يفتقرون إليهم في العلم ويردون حياضهم فيه، وقد روى المؤرخون أن شانجة ملك ليون كان في سنة ٩٦٠ جاء إلى قرطبة ملتمسًا الاستشفاء، لدى أطباء العرب، من مرض كان قد أعياه شفاؤه، فوجد عند أطباء العرب الراحة التي كان ينشدها وبقي طول حياته يذكر الحفاوة التي استُقبل بها والاعتناء الذي رآه في قرطبة بشأنه، وفي تلك الأيام كان راهب اسمه جربرت انتجع إسبانية، طلبًا للعلوم الطبيعية والرياضية، فبلغ من العلم مبلغًا خيل لعامة فرنسة إذ ذاك أنه ساحر.١٥

أما العرب الذين جاءت عصائبهم ونزلت في أرض فرنسة وتدرجت إلى جبال الألب فلم يكونوا من النمط الأول؛ أي من الذين يريدون أن ينشروا ثقافة أو يؤثلوا مدنية، وإنما كانت غاراتهم كلها منبعثة عن طمع في النهب وغرام بالكسب. فالنهضة الحقيقية في أوربة لم تبدأ إلا منذ القرن الثاني عشر أي منذ زحف أهل الغرب لقتال أهل الشرق، ووجدت النصرانية والإسلام في الصراع وجهًا لوجه، فوقع الاحتكاك بين المسلمين والمسيحيين، وأفاق الفرنسيس والإنكليز والألمان من رقدتهم ونفضوا عنهم غبار الخمول، ووجدوا ضرورة المشاطرة في المدنية الإسلامية، وكان علم اللغة اليونانية قد دُرِّسَ، وصار العلم اليوناني غير معروف إلا عند العرب، فأخذ المسيحيون من فرنسة وجوارها يؤمون إسبانية لأجل ترجمة التآليف العربية المنقولة عن اليونان، وذلك إلى اللغة اللاتينية التي كانت يومئذ لغة الكتابة والعلم في أوربة، وقد بقيت هذه التراجم إلى القرن الخامس عشر هي عمدة الجامعات والمدارس في معرفة علوم يونان.

ولا مندوحة لنا عن أن نقول كلمتين عن آثار هؤلاء العرب الذين نزلوا في فركسنيت، فإن الأثر الذي أثروه هناك من الآبار المحفورة والأسراب المكفورة والحجارة المنحوتة والأبنية المحكمة لا تزال بقاياه بارزة للعيان، دالة على صبر عجيب وهمة بعيدة، ولكن لم يوجد على شيء من ذلك الحصن كتابات عربية كما وجد في الحصون التي من بناء العرب في الأندلس.

وقد ذكروا أن حصونًا كثيرة على قنن الجبال هي من بناء العرب المذكورين وأنه كانت لهم أبراج كثيرة منتظمة بلبة الساحل الإفرنسي والإيطالي، اختاروا لها تلال الجبال لتوقد بها النيران ليلًا على حسب عادة العرب الذين كانوا يشبون هذه النيران إيذانًا بوقوع الحرب وطلبًا للمدد وجمعًا للقوة. وقد ذكر ذلك المسيو ألفونس ده نيس Denys في كتابه النزهة البديعة في مقاطعة الفار، وكذلك جاء في كتب العرب كلام على الأربطة والمراقب التي شادها الأمير عقبة بن الحجاج السلولي، أمير الأندلس في جنوبي فرنسة، في نواحي سنة ٧٣٤ وقد ذكر أيزيدور الباجي أن السمح بن مالك الخولاني الذي تولى قبل عقبة إمارة الأندلس، قد بنى هو جانبًا من هذه الأبراج، ولكننا لا نعلم لماذا ينسبون بناء هذه الأبراج كلها إلى العرب، ولماذا لا يجوز أن يكون أهل البلاد أنفسهم هم الذين بنوها، أو بنوا بعضها، احتياطًا لأنفسهم ومراقبة لأعدائهم.١٦ هذا ومما وجد من آثار العرب في فرنسة الأطالس الحريرية والأسفاط الثمينة من العاج والفضة والكؤوس البلورية والأسلحة النفيسة، ولا يزال منها جانب في خزائن الكنائس وفي مخادع الغواة؛ والناس تقومها بأثمان غالية مما يدل على مكانة الصنعة العربية في الأنفس، ولكن من المحقق أن أكثر هذه المصنوعات العربية هي من عصر متأخر عن القرن الثامن، ولم يكن مقام العرب بفرنسة خاليًا من تأثير في طرق الزراعة فإن هؤلاء القوم لم يحلوا في مكان إلا طبقوا الأراضي بالعمل، وجروا الأقنية، ونسقوا من تحتها الجنان شاهدك على ذلك تلك البساتين المنقطعة النظير، في مرسية وبلنسية وغرناطة، ويقال: إن العرب الذين نزلوا في بروفنس هم الذين بدأوا في استثمار شجر البلوط، ولا يزال هناك غابة منه يقال لها: غابة المغاربة. وكذلك العرب هم الذين كانوا يستخرجون القطران من أشجار الصنوبر والأرز، ويقلفطون به المراكب، ولهذا تجد أهالي بروفنس لا يقولون للقطران غودرون Goudron كما يقول سائر الفرنسيس، بل يقولون قطران Quitran.١٧
وقالوا: إن العرب هم الذين أصلحوا جنس الخيل في فرنسة، وذلك أنهم كانوا يأتون على سفنهم بالجياد العراب ليتسنى لهم عليها بث الغارات في داخل البلاد، فبقي جنسها في فرنسة من ذلك الوقت والآن يوجد صنف من الخيل في مقاطعة كامرغ Camergue متولد من ازدواج الخيل الأندلسية بخيول تلك المقاطعة.

ومما يظنه الناس من بقايا عادات العرب نوع الرقص الذي يطلع عليه الإنسان في جنوبي فرنسة وهو يختلف باختلاف الأماكن، فمنه زفن يقع في الليالي يرقص فيه الشاب بين فتاتين، وفي أثناء رقصه يقدم فاكهة تارة إلى هذه وطورًا إلى تلك، ومنه ما يقف فيه الراقصون خطًّا، بإزاء الراقصات خطًّا، ثم يشتبك الخطان أحدهما بالآخر والشخص الذي يكون على رأس كل من الخطين يعمل إشارات يقتدي بها الآخرون، وهناك رقص عسكري يرقص فيه اثنان كل منهما متقلد سيفًا يحاول أن يصيب به الآخر أشبه بالأقران في ساحة القتال إذا أرادوا أن يهاجموا أو يدافعوا.

أما وجود أناس في فرنسة نقدر أن نحكم عليهم حكمًا باتًّا بأنهم من أصل عربي فغير محقق، قيل لنا: إن قومًا يسكنون على ضفاف نهر الصاوون، بين ماصون وليون، لا سيما على الضفة الشمالية أنهم من بقايا شرذمة من العسكر العربي انقطعت عن مجموع الجيش في أيام شارل مارتل وقالوا: إن لهؤلاء عادات خاصة وألفاظًا خاصة قد تكون باقية من اللغة العربية ولكن شيئًا من هذا لم يتحقق، لا سيما أن تلك الألفاظ هي في الحقيقة مشتقة من اللاتينية، أو باقية من الإفرنسي القديم وأن البلاد الواقعة بقرب ماصون لم ينزل بها عرب بل كانت ملجأ لمن فروا من وجه العرب، وكذلك قيل: إن جماعة من سكان البلاد المجاورة لجبال البيرانه، يقال لهم: كاغوت، هم من أصل عربي. ولكن لم يثبت شيء من هذا، بل الأرجح أن هذا الجيل من الناس هو من جملة الأجيال الغريبة المنتشرة في بريطانية وأوفرنيه باسم كاكو وكابوت وما أشبه ذلك.

ثم إنه كما لا يخفى في زمن الملك هنري الرابع هاجر من إسبانية إلى فرنسة عدد كبير، نحو من مائة وخمسين ألف نسمة من مسلمي الأندلس، فرارًا من تضييق فليب الثالث ملك إسبانية الذي منع أن يجتمع في جزيرة الأندلس دينان، وأجبر بقية المسلمين فيها على التنصر بالنار والسيف، ولما وجد أن الكثرين منهم لا يزالون مسلمين باطنًا، وأن لهم علاقات بالدولة العثمانية التي كانت في ذلك العصر ذات صولة عظيمة، أجمع أخيرًا على طردهم من بلاده، فجاءوا إلى فرنسة ولكنهم لم يكونوا في فرنسة إلا عابري سبيل؛ لأنهم أبحروا من سواحل فرنسة إلى إفريقية والبلاد العثمانية ومن بقي منهم في فرنسة تنصر واندمج في مجموع الأمة كما أشار إلى ذلك شينيه Chenier في كتابه المباحث التاريخية عن المغاربة.١٨
أما تأثير الأدب العربي في آداب لغات الأمم الساكنة في جنوبي أوربة، فقد قيل فيه: إنه وقع في لغة الأوك Oc التي كان يتكلم بها أهالي جنوبي فرنسة وكتلونية، إذ هناك أقام العرب طويلًا، وقد دخل في اللغة الإفرنسية كلمات كثيرة من العربية لا مراء فيها، وهذا الاختلاط في اللغات لم يقع بخاصة أيام وجود العرب بفرنسة، بل قد وقع أكثره بعد جلائهم عنها؛ لأن العلاقات التجارية لم تنقطع بين العرب والفرنسيس في يوم من الأيام، وبالإجمال فتأثير العرب في فرنسة كان أقل مما يتوهم الناس، وإن ما أجروه فيها من العيث والتدمير ليتضاءل في جانب ما خربه النورمانديون والمجار، بل نقدر أن نقول: إنه بقيت للعرب مكانة عظيمة في نفوس الناس، حتى أصبحت لفظة سرازين ولفظة روماني كأنهما واحدة، وحتى تعوَّد العامة أن ينسبوا إلى السرازين أي العرب كل ما يرونه كبارًا أو جبارًا.

ومن الغريب أنه لم يبقَ من غارات النورمنديين والمجار إلا تذكارات في بطون التواريخ، والحال أن تذكار غزو العرب لفرنسة لا يزال في جميع الأذهان كأنه حديث العهد، وقد وقعت غزوات العرب قبل غزوات النورمنديين والمجار، واستمر وجودهم في البلاد إلى ما بعد جلاء المجار واندماج النورمنديين في مجموع الأمة، إلا أن غزوات العرب الأولى كان فيها من العظمة والأبهة ما لا يمكن أن يقرأه الإنسان إلا وتعروه الدهشة والحيرة، وكان العرب يمتازون عن النورمنديين والمجار بكونهم أمة بقيت مدة طويلة تسير على رأس المدنية العامة، وأنهم بعد جلائهم عن فرنسة لم تزل تحت الرعدة من احتمال غاراتهم، ثم إن الحروب العظيمة التي تولوا كبرها، سواء في الأندلس أو في إفريقية أو في آسية في وجه الصليبيين، قد أضافت إلى اسمهم لمعانًا جديدًا فوق اللمعان الذي كان من قبل، وكل هذا لم يكن كافيًا في تفسير مكانة العرب المكينة في الصدور لولا قصص الفرسان والفروسية التي كان يتغنى بها أهل فرنسة وجوارها، خلفًا عن سلف، فقد كانت هذه القصص تكاد تكون الأسمار الوحيدة للأمراء والنبلاء، بل الأسمار الوحيدة لعامة الشعب، وإنما كان يعجب بتلك القصص وهاتيك الأخبار من سير الأبطال كل من كان يدعى نفسًا عالية وحسًّا نجيبًا، وقد تضاءل كل تاريخ بجانبها وهزل كل أدب ما عداها، وكان أكثرها شعرًا ولهذا الشعر رواة اختصوا به، يذهبون من بلدة إلى بلدة ومن قرية إلى قرية، فينشدونها الجماهير التي تترنح لها أعطافهم، وكان لا يحتفل بعيد ولا بموسم إلا اندفع أولئك الرواة في إنشاد تلك القصائد عن سير أبطال الوطن، وكانت أكثر هذه السير تدور على حروب المسلمين، وعلى ما جالده صناديد الفرنسيس في دفع غاراتهم، ولما كان في هذه القصص وتلك القصائد من المبالغة ما هو جدير بكل القصاص الذين يترنمون بوقائع الأبطال، كانت الواقعة الواحدة تتجسم وتنمو وتصبح أضعاف ما هي تجسيمًا لفضل أولئك الذين تولوا كبر تلك الوقائع، حتى صار في تاريخ كل مدينة وكل بلدة من فرنسة وإيطالية أمير عربي أو بطل عربي يبارزه أمير إفرنسي أو بطل إفرنسي وبعد أن يشتد البِراز ويطول العراك وتظهر فيه خوارق الأقدار، ينتهي بالبداهة بتغلب البطل الفرنسي على البطل العربي.

وبالجملة فقد كان العرب لذلك العهد، هم الأمثلة العليا والأقيسة البعيدة، في الشجاعة والشهامة وعزة النفس ومكارم الأخلاق والعفو عند المقدرة وقرى الضيف، تشهد بذلك وقائع ونوادر كثيرة، منها ما رواه بعض مؤرخي الإسبانيول من أنه في سنة ٨٩٠ أراد ملك أشتورية، أذفونش الكبير، أن ينتدب مؤدبًا لابنه وولي عهده فاستدعى اثنين من مسلمي قرطبة، حرصًا على تهذيبه؛ إذ لم يجد في المسيحيين إذ ذاك كفؤا لهذه المهمة.

ومن الغريب أنه في قصة من قصص الفروسية المتعلقة بشارلمان الكبير يروون أنه في صغره ذهب واقتبس من أنوار العرب، وأنه من تأثير ذلك تمكن من إدارة تلك السلطنة العظيمة التي جدد بها مجد العالم الغربي، وقد بقيت هذه الأقاصيص هي المعول عليها في الأندية والمجامع، وهي الفكاهة المستطرفة في المواسم والمحافل إلى عهد غير بعيد، ولم يدخل التمحيص التاريخي عندنا إلا منذ مائة وخمسين سنة؛ إذ أخذ الناس ينبذون ما هو من عمل الخيال إلى ما هو من لباب الوقائع الراهنة.

وختام القول: إنه لو نشر موسى بن نصير وطارق بن زياد وعبد الرحمن الناصر والمنصور بن أبي عامر، ورأوا ما هي عليه الحالة في زماننا هذا، لوجدوا اختلافًا كثيرًا في بيئتي المسيحيين والمسلمين، عما كانتا عليه في الأعصر السالفة. ولكن مما لا شك فيه أنهم بعد الوهلة الأولى كانوا يبتهجون بالمكانة العليا التي جعلها القصاص والزجالون من آبائنا لأعمالهم الكبيرة، وكانت نفوسهم المشغوفة بمعالي الأمور تقابل بمزيد الإكبار ذلك الشعور النبيل الذي كان يختلج عند من نسميهم البرابرة من آبائنا والذي لا يزال يتلاشى يومًا فيومًا.

انتهى كتاب رينو ببعض اختصار وتصرف.

هوامش

(١) من الغريب أن لفظة إسماعيلية لم تتناول العرب وحدهم بل صارت تطلق فيما بعد على جميع المسلمين، وقد كان في بلاد المجار طائفة من المسلمين في القرن الثاني عشر والثالث عشر للمسيح انقرضت الآن وكان يقال لها: الإسماعيلية، وهذه الطائفة معروفة في تاريخ المجار ويظهر أنه لقلة عددها أخذت تذوب تدريجًا في سواد الأمة المجرية، كما أن بعض ملوك المجار القدماء ضيقوا على هؤلاء المسلمين مرارًا ليحملوهم على النصرانية وهكذا تلاشوا من هناك.
وقد ذكر ياقوت الحموي هذه الطائفة في معجم البلدان تحت لفظة باشغرت فقال: وأما أنا فإني وجدت بمدينة حلب طائفة كثيرة يقال لهم: الباشغودرية شقر الشعور والوجوه جدًّا يتفقهون على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، فسألت رجلًا منهم استعقلته، عن بلادهم وحالهم، فقال: أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية في مملكة أمة من الفرنج يقال لهم الهنكر، ونحن مسلمون رعية لملكهم في طرف من بلاده نحو ثلاثين قرية، كل واحدة تكون بليدة، إلا أن ملك الهنكر لا يمكننا أن نعمل على شيء منها سورًا خوفًا من أن تعصى عليه، ونحن في وسط بلاد النصرانية، فشمالينا بلاد الصقالبة وقبلينا بلاد البابا وفي غربينا الأندلس وفي شرقينا بلاد الروم قسطنطينية وأعمالها، قال: ولساننا لسان الإفرنج وزينا زيهم ونخدم معهم في الجندية ونغزو معهم كل طائفة؛ لأنهم لا يقاتلون إلا مخالفي الإسلام، فسألته عن سبب إسلامهم مع كونهم في وسط بلاد الكفر، فقال: سمعت جماعة من أسلافنا يتحدثون أنه قدم إلى بلادنا منذ دهر طويل سبعة نفر من المسلمين من بلاد بلغار وسكنوا بيتنا وتلطفوا في تعريفنا ما نحن عليه من الضلال وأرشدونا إلى الصواب من دين الإسلام، فهدانا الله والحمد لله فأسلمنا جميعًا وشرح الله صدورنا للإيمان، ونحن نقدم إلى هذه البلاد ونتفقه، فإذا رجعنا إلى بلادنا أكرمنا أهلها وولونا أمور دينهم، فسألته: لم تحلقون لحاكم كما تفعل الإفرنج؟ فقال: يحلقها منا المتجندون ويلبسون لبسة السلاح مثل الإفرنج أما غيرهم فلا. قلت: فكم مسافة ما بيننا وبين بلادكم؟ فقال: من هنا إلى القسطنطينية نحو شهر ونصف، ومن القسطنطينية إلى بلادنا نحو ذلك. انتهى.
قلت: إن قوله الإفرنج مبني على كون الشرقيين يسمون جميع نصارى أوربة إفرنجة، وإلا فالمجار ليسوا من الإفرنج في شيء، ثم إني قد سألت علماء التاريخ من المجار عن قضية هؤلاء المسلمين الذين وجدوا في بلادهم في القرن السابع للهجرة، فأجابني الجنرال «تيودور كلوك» معلم التاريخ في جامعة بودابست بما خلاصته: إنه كان يوجد مسلمون أصلهم من البلغار في بلاد المجار عاشوا في أيام الملوك المجار من عائلة أربارد من سنة ٨٩٦ للمسيح إلى سنة ١٣٠١ وكان يقال لهم الإسماعيلية، وكانوا في القرن الحادي عشر يعيشون جماعات في جنوبي بلاد المجار، وكان منهم حراس لقلعة بست، وكان منهم في القرن الثالث عشر لا في مدينة بست فقط بل في جميع هكاريا، وكان أكثرهم من طبقة التجار، وفي سنة ١٠٧٧ صدر أمر الملك «لاديسلاوس» بتنصير الإسماعيلية، ولكن بقي منهم كثيرون في الباطن على دين آبائهم، وفي سنة ١٠٩٥ صدر أمر الملك «كولومان» بأن لا يكون في القرية من الإسماعيلية أكثر من النصف، وبأن يزوجوا بناتهم من المسيحيين، وفي أيام الملوك الذين بعده كان الإسماعيلية يؤثرون الخدمة العسكرية، وكان الملك غيزه الرابع أرسل إلى الإمبراطور الألماني «فردريك بربروسة» سنة ١١٦١ جيشًا لمعونته فيه خمسمائة من الإسماعيلية المذكورين. وفي سنة ١٢٢٦ للمسيح كان اجتماع ياقوت الحموي بأناس من هؤلاء الإسماعيلية في مدينة حلب، وفي سنة ١٢٢٢ وقع اضطهاد على الإسماعيلية واليهود، وفي المدة التي بين سنة ١٢٣٥ وسنة ١٢٧٠ كان الإسماعيلية صيارف يقرضون ملك المجار أموالًا، وما زالوا إلى سنة ١٢٤٢ معروفين كمسلمين، ومن ذاك الوقت أخذوا يندمجون في الشعب المجري، وفي سنة ١٢٦٦ كان لا يزال منهم قرية اسمها تمركني Temerkeny وفي زمان لورفيك الكبير كان لا يزال بعض عائلات مسلمة من بقايا الإسماعيلية.
وسنذكر شيئًا أوسع من هذا عن الإسماعيلية (أي مسلمي المجار) في رحلتنا إلى بلاد المجر وبوسنة، وإنما كان مرادنا هنا أن نذكر كون الإفرنج لا يقتصرون على العرب بلقب إسماعيلية بل قد يعنون بذلك كل المسلمين من عرب وعجم فإنه مما لا شك فيه أن المسلمين الذين كانوا في بلاد المجار لم يكونوا عربًا بل كانوا من المجار أو الباشقرد وعلى كل حال من أصل تتاري.
(٢) استشهد رينو على مسألة الرقيق وبيعه في أوربة بمجموعة الدون بوكيه وبجغرافية ابن حوقل وبالمقري، وقد رأينا أن ننقل عبارة ابن حوقل عن «المسالك والممالك» قال: وبالأندلس سلاع كثيرة ترد إلى مصر والمغرب وأكثر جهازهم الرقيق من الجواري والغلمان من سبي إفرنجة وجليقية والخدم الصقالبة وجميع من على وجه الأرض من الصقالبة الخصيان من جلب الأندلس؛ لأنهم بها يخصون، ويفعل ذلك بهم تجار اليهود عند قرب البلد، وجميع ما يسبى إلى خراسان من الصقالبة باق على حالته ومقر على صورته، وذلك أن بلد الصقالبة طويل فسيح، والخليج الآخذ من بحر الروم ممتدًا على القسطنطينية وأترا بزوندة يشق بلدهم بالعرض، فنصف بلدهم بالطول يسبيه الخراسانيون والنصف الشمالي يسبيه الأندلسيون من جهة جليقية وإفرنجة وانكيبردة (لونبارديه وتوابعها) وقلورية (كالابره) وبهذه الديار من سبيهم الكثير باق على حاله. انتهى.
وأما في نفح الطيب فيقول عن الإسبانيول: إنهم يحاربون بالأفق الشرقي أمة يقال لهم الفرنجة، هم أشد عليهم من جميع من يحاربونه، إذ كانوا خلقًا عظيمًا في بلاد واسعة جليلة متصلة العمارة آهلة تدعى الأرض الكبيرة، هم أكثر عددًا من الجليقيين وأشد بأسًا وأعظم إمدادًا يحاربون أمة الصقالبة المتصلين بأرضهم لمخالفتهم إياهم في الديانة، فيسبونهم ويبيعون رقيقهم بأرض الأندلس، فلهم هنالك كثرة وتخصيهم للفرنجة يهود ذمتهم الذين بأرضهم وفي ثغر المسلمين المتصل بهم، فيحمل خصيانهم من هنالك إلى سائر البلاد، وقد تعلم الخصاء قوم من المسلمين هناك فصاروا يخصون ويستحلون المثلة. انتهى.
قلت: والخصاء ممنوع شرعًا.
(٣) لو أردنا التعرض لموضوع الصقالبة ومن نبغ منهم في الإسلام، ومن وصلوا إلى الدرجات العلى لطال الأمر جدًّا وقد يستحق ذلك تاريخًا مستقلًا.
(٤) جاء في نفح الطيب أن مغيثًا مولى الوليد بن عبد الملك جمع يهود قرطبة فضمهم إلى مدينتها استنامة إليهم دون النصارى للعداوة بينهم وقال: إنهم لما فتحوا غرناطة ضموا اليهود إلى قصبتها وصار ذلك لهم شنشنة في كل بلد يفتحونه أن يضموا يهوده إلى القصبة مع قطعة من المسلمين لحفظها ويمضي معظم الناس لغيرها وإذا لم يجدوا يهودًا وفروا عدد المسلمين المخلفين لحفظ ما فتح. انتهى.
(٥) ومن الغريب أنه في أخريات هذه الأيام قام أناس من الفرنسيس يريدون أن يثبتوا كون البربر ليسوا جميعًا بمسلمين، تقصد هذه الفئة أن تأفك البربر عن الإسلام، فالمؤرخ المستشرق رينو يشهد كما ترى بأن البربر أسلموا قاطبة، وإن كانت هذه القضية لا تفتقر إلى شهود.
(٦) بمثل هذه الخرافات خدع رجال الكنيسة أهل أوربة مدة تزيد على ألف سنة، ولم يكن العوام في القرون الوسطى وحدهم يصدقونهم بل كان أسيرًا لهذه الأوهام أو لبعضها كثير من الخواص، ولا تزال إلى ساعتنا هذه في أوربة برغم ترقيتها وانتشار المعارف فيها أوهام وأفكار مخلوطة عن المسلمين تضحك الثكالى نسمع منها ونقرأ كل يوم بل كل ساعة.
وقد نقلنا عن المسيو درمنغهم الإفرنسي في السيرة النبوية في الطبعة الثانية من حاضر العالم الإسلامي هذه الأقوال المضحكة التي يهزأ بها رينو هنا، وقد شدد درمنغهم نفسه عليها النكير ولكن رجال الكنائس لا يزالون إلى يوم الناس هذا ينشئون أبناء مللهم في مثل هذه الترهات البسابس ويقلبون لهم حقائق الإسلام عمدًا تنفيرًا لهم منه كما فعل سلفهم في القرون الوسطى.
(٧) الصنم المذكور هو صنم سومانات وقصته شهيرة.
(٨) جاء في الإحاطة في أخبار غرناطة تأليف لسان الدين بن الخطيب كاتب الأندلس الأكبر في وصف ملابس أهل الأندلس وأسلحتهم ما يلي: وجندهم صنفان؛ أندلسي، وبربري. والأندلسي منهم يقوده رئيس من القرابة (أي قرابة السلطان) أو حصى (الحصى الرجل العاقل) من شيوخ المسالك وزيهم في القديم شبه زي أقيالهم وأضدادهم من جيرانهم الفرنج من إسباغ الدروع وتعليق الترسة واتخاذ عراض الأسنة وقرابيس السروج واستركاب حملة الرايات كل منهم بصفة تختص بسلاحه وشهرة يعرف بها ثم عدلوا الآن عن هذا الذي ذكرنا إلى الجواشن المختصرة والبيض المرهفة والدرق العربية والسهام الملطية والأسل العطفية، (ثم قال) والعمائم تقل في زي أهل هذه الحضرة إلا ما شذ في شيوخهم وقضاتهم وعلمائهم والجند العربي منهم. انتهى. ولا يخفى أن لسان الدين كان يصف الأزياء في حضرة غرناطة في زمانه وهو القرن الثامن للهجرة.
وجاء في نفح الطيب نقلًا عن ابن سعيد في المغرب: وأما زي أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم لا سيما في شرقي الأندلس فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيًا ولا فقيهًا مشارًا إليه إلا وهو بعمامة وقد تسامحوا بشرقها في ذلك ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان وإليه الإشارة وقد خطب له بالملك في تلك الجهة وهو حاسر الرأس وشيبه قد غلب على سواد شعره، وأما الأجناد وسائر الناس فقليل منهم من تراه بعمة في شرق منها أو في غرب وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة، وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده وكثيرًا ما يتزيى سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم فسلاحهم كسلاحهم وأقبيتهم كأقبيتهم وكذلك أعلامهم وسروجهم. انتهى.
(٩) الولاء هو حالة العبد بعد عتقه بالنسبة إلى سيده ومن العبيد من يتفق مع سيده على أنه يعتقه ثم يأخذ العبد بدفع ثمنه تقسيطًا، ويسمى هذا العبد مكاتبًا، قال ابن الأثير: الكتابة أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه إليه منجمًا فإذا أداه صار حرًّا. قال: وسميت كتابة بمصدر كتب؛ لأنه يكتب على نفسه لمولاه ثمنه ويكتب مولاه له عليه العتق، وقد كاتبه مكاتبة والعبد مكاتب. قال: وإنما خص العبد بالمفعول لأن أصل المكاتبة من المولى وهو الذي يكاتب عبده. قال ابن سيده: كاتبت العبد أعطاني ثمنه على أن أعتقه، وفي التنزيل العزيز وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا معنى الكتاب والمكاتبة أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجِّمه عليه ويكتب عليه أنه إذا أدى نجومه في كل نجم كذا فهو حر، فإذا أدى جميع ما كاتبه عليه فقد عتق وولاؤه لمولاه الذي كاتبه.
(١٠) قال الأستاذ العلامة حجة الإسلام، رشيد رضا في كتابه الذي صدر جديدًا باسم «الوحي المحمدي»: إن العلماء اتفقوا على شرعية عتق الكافر وأنه قربة ولكنهم اختلفوا في عتقه في الكفارة.
ولقد رأينا أن ننقل إلى هذا الكتاب خلاصة ما أورده الأستاذ المشار إليه في كتاب «الوحي المحمدي» بشأن الرقيق في الإسلام فإن الناشئة العصرية لا سيما المتخرجين في المدارس الأوربية لا يعلمون عن الرق في الإسلام ما يلزم أن يعلموه وإذا سألوا الفقهاء الجامدين عن هذا الباب زادوهم خبالًا فلهذا اخترنا أن نقفهم على حكم الإسلام في قضية الرقيق محررًا بقلم الأستاذ الحجة. قال لله دره: كانت شعوب الحضارة القديمة من المصريين والبابليين والفرس والهنود واليونان والروم والعرب وغيرها تتخذ الرقيق وتستخدمه في أشق الأعمال، وقد أقرته الديانتان اليهودية والنصرانية وظل الرقيق مشروعًا عند الإفرنج إلى أن حررت الولايات الأميركية المتحدة رقيقها في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وتلتها إنكلترة باتخاذ الوسائل لمنعه من العالم كله في أواخر القرن التاسع عشر، ولم يكن عمل كل منهما خالصًا لمصلحة البشر وجنوحًا للمساواة بينهم، فإن الأولى لا تزال تفضل الجنس الأبيض الأوربي المتغلب على الجنس الأحمر الوطني الأصلي بما يقرب من الاستعباد السياسي المباح عند جميع الإفرنج للشعوب، كما أن إنكلترة تحتقر الهنود وتستذلهم ولكن النهضة الهندية في هذا العهد قد خفضت من غلواء الإنكليز، فلما ظهر الإسلام كان مما أصلحه من فساد الأمم إبطال ظلم الرقيق وإرهاقه ووضع الأحكام لإبطال الرق بالتدريج السريع؛ إذ كان إبطاله دفعة واحدة متعذرًا في نظام الاجتماع البشري من الناحيتين: ناحية مصالح السادة المسترقين، وناحية معيشة الأرقاء. فإن الولايات المتحدة لما حررت رقيقها كان بعضهم يضرب في الأرض يلتمس وسيلة للرزق فلا يجدها فيحور إلى سادته يرجو منهم العود إلى خدمتهم كما كان. وكذلك جرى في السودان المصري فقد جرب الإنكليز أن يجدوا للأرقاء رزقًا بعمل يعملونه مستقلين فيه، فلم يمكن، فاضطروا إلى الإذن لهم بالرجوع إلى خدمة الرق السابقة بشرط أن لا يكون مسموحًا للمخدومين ببيع الأرقاء والاتجار بهم. وقد شرع الله تعالى لإبطال الرق طريقتين: عدم تجديد الاسترقاق في المستقبل، وتحرير الرقيق القديم بالتدريج الذي لا ضرر ولا ضرار فيه.
  • الطريقة الأولى: منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء إلا استرقاق الأسرى والسبايا في الحرب التي اشترط فيها دفع المفاسد وتقرير المصالح ومنع الاعتداء ومراعاة العدل والرحمة، وهي شروط لم تكن قبل الإسلام مشروعة عند المليين ولا عند أهل الحضارة، فضلًا عن المشركين الذين لا شرع لهم ولا قانون، ولست أعني بالاستثناء أن الله تعالى شرع لنا من هذا النوع من الاسترقاق كل ما كانت الأمم تفعله معاملة لهم بالمثل، بل شرع لإولي الأمر من المسلمين مراعاة المصلحة للبشر في إمضائه أو إبطاله، بأن خيرهم في أسرى الحرب الشرعية بين المن عليهم بالحرية والفداء بهم. وهو نوعان: فداء المال، وفداء الأنفس إذا كان لنا أسارى أو سبي عند قومهم، وذلك قوله تعالى الذي أوردناه في قواعد الحرب فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ولما كنا مخيرين فيهم، بين إطلاقهم بغير مقابل والفداء بهم، جاز أن يعد هذا أصلًا شرعيًّا لإبطال استئناف الاسترقاق في الإسلام، فإن ظاهر التخيير بين هذين الأمرين أن الأمر الثالث الذي هو الاسترقاق غير جائز لو لم يعارضه أنه هو الأصل المتبع عند جميع الأمم، فمن أكبر المفاسد والضرر أن يسترقوا أسرانا ونطلق أسراهم ونحن أرحم بهم وأعدل، كما يعلم مما يأتي، ولكن الآية ليست نصًّا في الحصر ولا صريحة في النهي عن الأصل فكانت دلالتها على تحريم الاسترقاق مطلقًا غير قطعية، فبقي حكمه محل اجتهاد أولى الأمر، إذا وجدوا المصلحة في إبقائه أبقوه، وإذا وجدوا المصلحة في ترجيح المن عليهم أو الفداء بهم عملوا به.

    وإنما تكون مصلحة الاسترقاق أرجح من هاتين المصلحتين أي: المن على الأسرى والفداء بهم — في حالات قليلة لا تدوم كأن يكون المحاربون للمسلمين قومًا قليلي العدد، كبعض قبائل البدو، يقتل رجالهم كلهم أو جلهم فإذا ترك النساء والأطفال والضعفاء من الرجال لأنفسهم لا يكون لهم قدرة على الاستقلال في حياتهم، فيكون الخير لهم أن يكلفهم الغالبون ويقوموا بشؤونهم المعاشية، ثم تجري عليهم أحكام الطريقة الثانية في تحريرهم، وقد يتسرون بالنساء فيكن أمهات أولاد وربات بيوت حرائر أو محصنات من الفواحش مكفيات أمر المعيشة على الأقل، وقد سن النبي لأمته ترجيح المن على الأسارى والسبايا بالعتق، قولًا وعملًا، في غزوة بني المصطلق وغزوة فتح مكة وغزوة حنين كما هو مفصل في كتب السيرة النبوية وغيرها؛ إذ لم يكونوا أسروا من المسلمين أحدًا؛ لأن المسلمين قد أثخنوهم وظهروا عليهم، فعلم منها أن روح الشريعة الإسلامية ترجيح جانب الفضل والإحسان عند القدرة، ومنه عتق الأسرى والسبايا والمن عليهم بالجزية بلا مقابل حاضر ولا خوف مستقبل، بل لمحض الإحسان.

  • الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبًا وندبًا وهو أنواع:
    • النوع الأول: من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر مسائل:
      • (١) الحرية في الإسلام هي الأصل في الإنسان، كما كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عامله على مصر عمرو بن العاص (وقد اشتكى عليه قبطي): يا عمرو منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ وقد أخذ الفقهاء من هذا الأصل أن الرق لا يثبت بإقرار المرء على نفسه وجعلوا قول منكره راجحًا على قول مدعين فيكلف إثباته.
      • (٢) أن الإسلام حرم استرقاق الأحرار من غير أسرى الحرب الشرعية العادلة بشروطها كما تقدم وجعل ذلك من أعظم الآثام. روى البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي قال: «قال الله تعالى: ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره». وفي حديث الثلاثة الذي لا يقبل الله منهم صلاة «ورجل اعتبد محررًا» أي جعله كالعبد في استخدامه كرهًا وأنكر عتقه أو كتمه وهو في سنن أبي داود وابن ماجه.
      • (٣) شرع الله تعالى للمملوك أن يشتري نفسه من مالكه بمال يدفعه ولو أقساطًا، ويسمى هذا في الشرع الكتاب والمكاتبة، وأصله قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّـهِ الَّذِي آتَاكُمْ أمر بمكاتبتهم إن علم المالك أنهم يقدرون على الكسب والوفاء بما التزموه، وأنه خير لهم وأمر بإعانة المالك لمكاتبه على أداء ما باعه نفسه به، ويدخل فيه الهبة وحط بعض الأقساط عنه وجعل في مال الزكاة المفروضة سهمًا تدخل فيه هذه الإعانة وندب غير المالك لذلك أيضًا.
        ذهب بعض العلماء إلى أن الأمرين في الآية للوجوب: الأمر بالمكاتبة والأمر بالإعانة عليها، والأكثرون على أن الأول للندب والثاني للوجوب. وفي صحيح البخاري بعد ذكر الآية: قال روح عن ابن جريج: قلت لعطاء: واجب عليَّ إذا علمت أن له (أي لمملوكه) مالًا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار: قلت لعطاء: أتأثره عن أحد؟ قال: لا. ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنسًا المكاتبة — وكان كثير المال — فأَبَى، فانطلق سيرين إلى عمر، فدعاه عمر فقال له: كاتبه. فأَبَى. فضربه بالدرة وتلا فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا فكاتبه.
      • (٤) إذا خرج الأرقاء من دار الكفر ودخلوا دار الإسلام يصيرون أحرارًا وعلى الحكومة الإسلامية تنفيذ ذلك ومستنده في السنة معروف.
      • (٥) إن من أعتق حصة له في عبد عتق كله عليه من ماله، إن كان له مال، وإن كان لغيره حصة فيه فله أحكام، وفي ذلك أحاديث في الصحيحين وغيرهما، منها حديث أبي هريرة: أن النبي قال: «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا أو شقيصًا فِي مملوكٍ فخلاصُهُ عليه فِي مالِهِ إنْ كانَ لهُ مالٌ وإلا قُوِّمَ عليْهِ فاستُسْعِيَ بهِ غيرَ مشقوقٍ عليهِ» وحديث ابن عمر مرفوعًا أيضًا: «مَنْ أعتقَ نصيبًا لَهُ فِي مملوكٍ أوْ شركًا لَهُ فِي عبدٍ فكانَ لَهُ مِنَ المالِ مَا يبلغُ قيمتَهُ بقيمةِ العدلِ فَهُوَ عتيقٌ» والشقيص كالنصيب وزنًا ومعنى.
      • (٦) من عذب مملوكه أو مثَّل به أو خصاه عتق عليه، فقد روى الإمام أحمد أن زنباعًا أبا روح وجد غلامًا له مع جارية له فجدع أنفه وجبه فشكاه إلى النبي ، فسأله فاعترف وذكر ذنبه، فقال النبي للغلام: «اذهبْ فأنتَ حرٌ» ويؤخذ منه أن الجب والخصاء حرام وموجب لعتق العبد وينفذه الحاكم، فكل ما كان يتخذ من الخصيان المماليك ففيه مخالفة للشرع الإسلامي بخصائهم وعدم عتقهم.

        وفي رواية له (الإمام أحمد) أخرجها أبو داود وابن ماجه جاء رجل إلى النبي صارخًا فقال له: مالك؟ قال: سيدي رآني أُقَبِّل جارية له فجب مذاكيري. فقال النبي «عليَّ بالرجل» فطلب فلم يقدر عليه، فقال للغلام: «اذهب فأنت حر». وفي جامع الأصول من حديث سمرة بن جندب وأبي هريرة أن النبي قال «مَنْ مثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ».

      • (٧) إيذاء المملوك بما دون التمثيل والتعذيب الشديد حرام، ولا كفارة لذنبه إلا عتقه، فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: «لَطَمَ مملوكَه أو ضربَه فكفارتُه أنْ يعتقَهُ». وللشيخين والترمذي عن سويد بن مقرن قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي فقال: اعتقوها. وقيل له: إنه ليس لبني مقرن خادم غيرها، فرخص لهم باستخدامها ما دامت الحاجة وإطلاقها إذا زالت، وروى مسلم وغيره عن أبي مسعود البدري قال: كنت أضرب غلامًا بالسوط فسمعت صوتًا من خلفي: اعلم أبا مسعود فلم أفهم الصوت من الغضب قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود. فألقيت السوط من يدي، وفي رواية فسقط من يدي السوط من هيبته، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر منك على هذا الغلام (وفي رواية عليه) فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار.
      • (٨) التدبير عتق لازم وينعقد بقول السيد لعبده أنت مدبر وأنت حر عن دبر مني أي بعد أن أدبر عن هذه الدنيا، وكذا أنت حر بعد موتي إذا قصد به التدبير فإن أطلق ولا قرينة فبعض العلماء يرجح أنه تدبير تقوية لجانب العتق الذي هو من مقاصد الشرع الأساسية، ومنهم من يرجح جانب الوصية. ومن أحكام التدبير أنه لازم في الحال لا يجوز الرجوع عنه كالوصية وأنه لا يجوز للمدبِر (بالكسر) بيع المدبَر (بالفتح) عند مالك وأبي حنيفة وأن من دبر بعض مملوكه وهو مالك له كله سرى العتق إلى باقيه وقال جمهور العلماء: إن أولاد الجارية المدبرة تابعون لها في العتق والرق فإذا عتقت عُتقوا معها.
      • (٩) عتق أمهات الأولاد، وهو أن الجارية التي تلد لسيدها ولدًا تصير حرة من رأس ماله بعد موته، فلا تدخل في ملك الورثة ولا يجوز له بيعها في حياته عند جمهور السلف والخلف، وأولهم عمر وعثمان، ففي حديث عمر عند الإمام مالك: أيما وليدة ولدت من سيدها فإنه لا يبيعها ولا يهبها ولا يورثها وهو يستمتع منها فإذا مات فهي حرة.
      • (١٠) أن من ملك أحدًا من أولي القربة عتق عليه وأعم ما فيه حديث سمرة بن جندب مرفوعًا: مَنْ ملكَ ذَا رحمٍ محرمٍ فهوَ حرٌ.
    • النوع الثاني: من وسائل تحرير الرقيق الموجود الكفارات، والمراد بها القربات التي تمحو الذنوب وأعظمها عتق الرقاب، وهي ثلاثة أقسام؛ أحدها: واجب حتمًا على القادر على العتق ككفارة قتل النفس خطأ وكفارة الظهار، وهو تشبيه الرجل زوجه في أمه، وكان طلاقًا في الجاهلية، وكفارة إفساد الصيام عمدًا. ثانيها: واجب مخير فيه وهو كفارة اليمين فمن حلف يمينًا وحنث فيه فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة كما قال الله تعالى وحكمة التخيير ظاهرة. ثالثها: مندوب، وهو العتق لتكفير الذنوب غير المعينة وهو من أعظم مكفراتها.
    • النوع الثالث: من وسائل إلغاء الرق الموجود، جعل سهم من مصارف الزكاة الشرعية المفروضة (في الرقاب) بنص القرآن، هو يشمل العتق والإعانة على شراء المملوك نفسه، ومن المعلوم أن زكاة الأمة الإسلامية تبلغ مئات الألوف وألوف الألوف من الدراهم والدنانير فلو نفذت أحكام الإسلام فيها وحدها لأمكن تحرير الرقيق في دار الإسلام.
    • النوع الرابع: منها العتق الاختياري لوجه الله تعالى، قد ورد في الكتاب والسنة من الترغيب في العتق ما يدخل تدوينه في سفر كبير ومما يدل على أنه من أعظم العبادات آية البر من سورة البقرة، ومن أشهر أحاديث الترغيب في العتق قوله : أيَّمَا رجلٍ أعتقَ امرءًا مسلمًا استنقذَ للهُ بكلِّ عضوٍ منهُ عضوًا مِنَ النارِ، وحديث أبي ذر قال: سألت رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: إيمانٌ باللهِ وجهادٌ فِي سبيلِهِ. قلت: قلتُ: فأيُّ الرقابِ أفضلَ؟ قالَ: أغلَاهَا ثمنًا وأنفَسَهَا عندَ أهلِهَا، ومن أشهرها حديث أبي موسى الأشعري: أيما رجل كانت له جارية أدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها وأعتقها وتزوجها فله أجران.
أضف إلى هذا وصايا الله ورسوله بالمماليك، ومنها تخفيف الواجبات عليهم وجعل حد المملوك في العقوبات نصف حد الحر، وقد قرن الله الوصية بهم بالوصية بالوالدين والأقربين ونهي النبي عن قول السيد: «عبدي أو أمتي» وأمره أن يقول: «فتاي وفتاتي وغلامي» وأمر بأن يطعموهم مما يأكلون ويلبسوهم مما يلبسون. انتهى ببعض اختصار، ومنهم تفهم معالي الشرع الإسلامي وما فيه من المبادئ الإنسانية والرحمة بالضعفاء والعمل لتحرير الرقاب بكل وسيلة ممكنة، وتعلم أنه ليس من ضرب تحرير الرق عند الإفرنج الذي فيه من الرياء ومن تسلط الأقوياء على الضعفاء ومن استعباد الشعوب القوية للشعوب المهضومة ومن جعل الأجناس البشرية نازلًا بعضها عن بعض ما كل أحد يحكم به إن كان منصفًا.
(١١) كان يقال له: الملك رينه الصالح وكان من ألقابه دوق أنجو وكان كونتا على بروفنس توفي سنة ١٤٨٠.
(١٢) في فرنسة ولا سيما في المقاطعات الجنوبية منها، عائلات كثيرة معرفوة بأنها من سلالة السرازين، أي المسلمين، ومنها ما تدل سحناؤها إلى اليوم على العروبة، وفي نفس سويسرة عائلات ملقبة بالسرازين، في جنيف وفي بازيل، ومن أشهر من انتسب إلى أصل عربي في جنيف العالم العلامة الفيلسوف «ابن أبي زيد» وكان أهل سويسرة يقولون له: أبو زيت Abou Zit وأصله عربي من سكان طولوز، وكان أهله من العرب الذين تنصروا ثم اتخذوا مذهب البروتستانت، فلما صدر أمر لويس الرابع عشر بإخراج كل البروتستانتيين من فرنسة، خرج أبو زيد هذا مع من خرجوا إلى جنيف، ثم نشأ فيها ونبغ في جميع العلوم الرياضية والطبيعية والفلك والفلسفة والتاريخ وغيرها، وكان معاصرًا لفولتير وروسو ونيوطن في إنكلترة، وصديقًا لهم جميعًا، وكانت له عندهم المكانة العليا وربما استفتوه في عويص المسائل العلمية، وقد ذكرت جريدة جورنال ده جنيف إحدى المرار أن فولتير استفتاه في مسائل غاب عنه علمها، ومر بفولتير صاحب له قاصدًا إلى جنيف، فسأله فولتير: ما شغلك في تلك البلدة؟ وكان فولتير ساكنًا في ضواحي جنيف كما لا يخفى بقرية فرناي. فقال له صاحبه: أريد الاجتماع بعالم كبير. فقال له: إذن تريد أن تجتمع بصاحبنا العربي. وأما جان جاك روسو فبينه وبين أبي زيد مراسلات مجموعة في كتاب، وكان هذا العلامة العربي زاهدًا عظيم التواضع معرضًا عن الدنيا، عرضوا عليه في جنيف أعلى المناصب فرفضها، واقتصر على وظيفة قيم لخزانة الكتب العمومية، وفي جنيف اليوم شارع مشهور باسم شارع أبي زيد، وكان سلف أبي زيد هذا أطباء في طولوز، وقد كتب محرر هذه السطور عن أبي زيد العربي الجنيفي منذ بضع سنوات مقالة في الجرائد العربية لخصناها عن الجرائد السويسرية وربما نعود إلى موضوعه بعد التوسع في معرفة حياته.
(١٣) كان يجب على المسيو رينو وهو مستشرق عليم بأمور المسلمين أن ينبه على كون المعتدي على عرض المسلمة المتزوجة يجازى بالقتل بحسب الشرع سواء كان مسيحيًّا أو مسلمًا أي إن هذا الجزاء ليس خاصًّا بالمسيحيين.
(١٤) ذكر رينو في حاشية هذه الجملة أن المسيحيين في جبل لبنان هم وحدهم الذين في الشرق يسمح لهم المسلمون بقرع الأجراس.
(١٥) في موضوع آثار العرب في فرنسة يحسن أن نذكر شهادة طبيب كبير اسمه البروفسور دالماس هو أستاذ الأمراض النسائية بكلية الطب في مدينة مونبيليه في جنوبي فرنسة الذي ألقى في فضل العرب على جامعة مونبيليه محاضرة قيمة حضرها جم من الشبان الشرقيين، من مصريين وعراقيين وسوريين، ونشروا عن ذلك مقالة في جريدة الأهرام. وقد بدأ البروفسور دالماس بذكر فتوحات العرب لعهد الخلفاء الأولين، وقال: إنهم كانوا يحملون مدنيتهم حيثما ذهبوا وأين ما حلوا، وقال: إن مدنية العرب لم تنحصر في فن البناء ونشر الزخرف العربي وتشييد الجوامع فقط بل كانت تتناول الكثير من العلوم والمعارف التي هي أساس العلوم الحديثة، وخص بالذكر علمي النبات والطب، وذكر أنه إلى العرب يعود الفضل في تعريف الغرب بالمدنية اليونانية. ثم قال: إن العرب نزلوا ببلدة ماجلون، ضاحية مونبيليه، وأقاموا بها مدة من الزمن إلى أن أجلاهم عنها شارل مارتل وأحرقها حتى لا يعودوا إليها وكانوا في أثناء وجودهم فيها يبيعون بعض الكتب الطبية، ثم جاء منهم أطباء وصاروا يمارسون حرفة التطبيب، ثم ذكر من الأطباء أسماء بعض اليهود الذين تلقوا الطب العربي مثل صموئيل بن طيبون وناتان بن زكريا، وأسماؤهما منقوشة على لوحة الأستاذية بمدخل كلية الطب، وقال: إن بعض الرهبان الذين ترقوا إلى درجة البابوية كانوا قد طلبوا العلم بجامعة مونبيليه على أساتيذ من العرب، وقال: إن ملك نابار عندما مرض بصدره التجأ إلى أطباء العرب، وقال: إنه يوجد في متحف الجامعة بعض آثار وجدت في ماجلون عليها بعض الآيات القرآنية والأشعار العربية، وكنت سمعت من المرحوم الأخ أحمد بك شوقي أمير الشعراء الذي درس علم الحقوق في جامعة مونبيليه هذا الخبر بعينه رواه لي لأول تعارفنا في باريز سنة ١٨٩٣.
(١٦) نقول: إنه يجوز أن يكون الإفرنج قد بنوا شيئًا من هذه الأبراج في سواحلهم ولكن مما لا مشاحة فيه أن الأبراج التي في جميع سواحل الأندلس مطردة متسقة على طول تلك السواحل كانت من بناء العرب، وأن عادة إيقاد النيران في الأبراج إيذانًا بالحرب ومدًّا للصريخ إنما هي عادة في الغالب عربية، وكان العرب في أوائل الفتح الإسلامي نشروا هذا النمط من الأبراج النارية من الإسكندرية إلى طنجة، فكانت إذا وقعت واقعة ذات بال أوقدت النيران من طنجة ولا تزال من برج إلى برج حتى يبلغ ذلك الإسكندرية، في الليلة الواحدة.
ولما سرتُ من مالقة إلى الجزيرة الخضراء سنة ١٩٣٠ التي ذهبت فيها إلى الأندلس اجتازت بنا السيارة هذه المسافة في ست ساعات، فكنت كذا قطعت مسافة ٣٠٠ أو ٥٠٠ متر حاذيت برجًا مخروطي الشكل شاهقًا في الفضاء، وعلمت أن هذه الأبراج كلها عربية.
(١٧) القطران: عرفه العرب بأنه دهن يخرج من شجر الأبهل والأرز، وهو يلفظ بالفتح و بالكسر. ونحن في سورية نلفظه بالفتح (قطران) ويظهر أن العرب الذين نزلوا سواحل بروفانس كانوا يلفظونه بالكسر (قطران)، ولذلك قال الفرنسيس Quitran.
(١٨) عندما اشتد التضييق إلى الدرجة القصوى على بقايا مسلمي الأندلس، تحريقًا بالنار، وتبليصًا من المال، واستعبادًا للذكور والإناث، وتعذيبًا بمختلف الأشكال، بحجة أنهم وإن كانوا قد تنصروا ظاهرًا فلا يبرحون مسلمين باطنًا أرسل هؤلاء سرًّا يستغيثون بالدولة العثمانية، وذهب منهم خلسة من الأندلس وفد أدرك مدينة بلغراد، حيث كان الصدر الأعظم على رأس العساكر العثمانية الزاحفة يومئذ إلى تلك الأقطار، فبث الوفد إلى الصدر الأعظم كل ما يعانيه المسلمون من العذاب تحت حكم الإسبانيول، وأنهم مع ذلك لا يسمحون لهم بالخروج من البلاد، وأن منهم مائة وخمسين ألفًا خرجوا إلى فرنسة، وهم يلتمسون من الدولة العثمانية أن تتوسط لدى ملك فرنسة وملك إسبانية في أمر السماح لبقايا المسلمين المذكورين بالرحيل إلى بلاد الإسلام، فعرض الصدر الأعظم ما سمعه من الوفد الأندلسي على السلطان أحمد خان الأول — رحمه الله — وفي الحال لبَّى السلطان العثماني نداءهم، وكتب إلى ملك فرنسة هنري الرابع يرغب إليه في تسفير المسلمين الذين التجأوا إلى مملكته على مراكب تبعث بها الدولة العثمانية فتحملهم إلى بلاد الإسلام، أو على مراكب إفرنسية تتعهد الدولة العثمانية بدفع كرائها.
وكان هنري الرابع قد سمح بدخول هؤلاء المسلمين إلى فرنسة على شريطة أن يقبلوا المذهب الكاثوليكي، فلما جاءه هذا الكتاب من السلطان أحمد وكان يهمه عدم إغضابه، أجاب طلبه وأمر بتسفير المسلمين المذكورين إلى إفريقية وغيرها من بلاد الإسلام، فخرج منهم فئات لحقوا بالمغرب، وآخرون بالجزائر وتونس، وآخرون وصلوا إلى مصر والشام، ومنهم من قصد إلى القسطنطينية، وقد بقيت منهم فئة قليلة في فرنسة انتهى الأمر بأن سلالتها صارت إلى النصرانية واندمجت في الفرنسيس. أما الذين كانوا لا يزالون في إسبانية، فبقي «فليب الثالث» يمنع خروجهم منها، إلى أن بلغه الخبر عما فعله هنري الرابع من النزول على إرادة السلطان العثماني، فحسب لتدخل الدولة العثمانية حسبانًا كبيرًا، وأمر فجمع عظماء مملكته، وتشاوروا في قضية بقايا المسلمين في تلك المملكة، فأشار بعضهم بمنع خروجهم مهما وقع وعول الجمهور ومنهم الملك على إخراجهم جميعًا تخلصًا من غوائل بقائهم في إسبانية، إذ قد ثبت للدولة الإسبانية أنه مع وجود هذه العلاقات السرية بين المسلمين الأندلسيين وبين الدولة العثمانية لم يأت أحد منهم برغم تنصرهم في ظاهر الأمر، ليخبر الحكومة الإسبانيولية بشيء من تلك الحركات، فاستدلوا من هذا على أن هؤلاء لا يزالون مسلمين، وإن أظهروا التنصر، وأنه يكون من الحزم إجلاؤهم أجمعهم عن إسبانية حتى لا تتعرض هذه المملكة بسببهم لحرب مع الدولة العثمانية لا تعلم عاقبتها، فأخرجوهم جميعًا على مراكب الحكومة الإسبانية، وكانوا نحوًا من ستمائة ألف نسمة، فذهب أكثرهم إلى المغرب، وانبثوا في الريف، وعمروا تطوان والرباط وسلا وجانبًا من فاس، وذهب كثيرون فسكنوا تلمسان والجزائر وتونس، ووصل آخرون إلى الشرق. وكان ذلك في سنة ١٦١٢ مسيحية.
وقد استوفينا تاريخ هذا الجلاء الأخير لمسلمي الأندلس في الطبعة الجديدة من «حاضر العالم الإسلامي» واعتمدنا في كثير من المعلومات التي كانت مجهولة عند الجمهور على كتاب ابن عبد الرفيع الأندلسي الذي روى عنه ابن جندار صاحب تاريخ رباط الفتح فمن شاء عن هذه المسألة بحثًا شافيًا للغليل فليراجع تاريخ رباط الفتح أو حاضر العالم الإسلامي الطبعة الجديدة، ولكننا سنخصص بهذا الموضوع إن شاء الله جزءًا بتمامه من أجزاء هذا الكتاب، فيه جميع تاريخ مسلمي الأندلس الذين أجبروا على التنصر بعد سقوط مملكة غرناطة ولبثوا مسلمين في الباطن أكثر من مائة سنة، وكان الإسبان يقولون لهم: «الموريسك» وقد أجمع المنصفون على أنه لم تعذب في الدنيا أمة ما عذبه الموريسك هؤلاء، حتى انفك عقالهم وخرجوا من إسبانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤