عهد الملك قمبيز

مستيو-رع كمبيثت

ذكرنا الفصل السابق الوثائق التي وصلت إلينا حتى الآن، من الآثار المصرية المباشرة، من عهد الحُكم الفارسي الأول ﻟ «مصر»، وسنُحاول هنا أن نَستخلص تاريخ تلك الفترة من هذه الوثائق وغيرها، مما وصل إلينا من مصادر أُخرى تَمُتُّ إلى هذه الفترة من تاريخ أرض الكنانة. وأول وثيقة تميط لنا اللثام عن أحوال الفتح الفارسي ﻟ «مصر» وتسلط «قمبيز» عليها وإقامته فيها؛ هي النقوش التي جاءت على تمثال «وزاحر رسن» الموجود حاليًا بمتحف «الفاتيكان»، والواقع أن «وزاحر رسن» هذا قد لعب دورًا هامًّا في هذه الفترة من تاريخ البلاد المصرية، ومن أجل ذلك سنفحص نقوشه فحصًا دقيقًا، وندرسها درسًا وافيًّا مستفيضًا؛ بغية الوصول إلى نتيجة مرضية.

ولد «وزاحر رسن» في مدينة «سايس» الواقعة بالقرب من «كفر الزيات» الحالية، من أبوين مغمورَي الذكر، وكان أبوه يسمى «بفتوعونيت» وتُدعى أمه السيدة «أتم أردس»، وتدل شواهدُ الأحوال على أن والده لم يكن معروفًا من قبل، وقد حاول بعض الأثريين أن يوحد اسمه وألقابه باسم وألقاب صاحب تمثال رجل عظيم بمتحف «اللوفر»، غير أن تلك المحاولة قد أخفقت؛ لأن ألقاب هذين الرجلين لم يكن بينها شَبهٌ ما؛ وذلك لأن صاحب تمثال «اللوفر» كان ذا مكانة عظيمة في حاشية آخِر ملوك العهد الساوي في حين أن والد «وزاحر رسن» لم يكن يحمل أي لقب ديني كسميه، وعلى ذلك يجب أن نضرب صحفًا عن محاولة أيِّ تقارُب بين هذين الرجلين، ومن ثم نترك جانبًا التفسيرَ الذي أدلى به الأثري «رفييو» وعاضده فيه الأثري «مالت» وهو أن «وزاحر رسن» قد أصبح خائنًا لبلاده حِقدًا عليها وتَنكُّرًا لها بعد أن فقد وظائفه الدينية العالية التي كانت وراثية في أسرته.

(راجع: Rev. Egypt I (1880) p. 70-71; Culte de Neit ä sais p. 144; Prasek, Forschung zur Gesch, Des Altertums 1, 2.)
وقد نفى «جوتييه» (راجع: Gauthier L. R. Iv p. 112, No. 3).

حيث يقول: إن أولاد الملك «إبريز» كانوا معروفين لدينا، وعلى ذلك لا يوجد أيُّ سبب يحملنا على الظن مع «رفييو» أن «أتم أردس» التي جاء ذكرها على تمثال متحف «الفاتيكان» كانت ابنة ملك.

أما القول بأن «وزاحر رسن» نفسه كان شطربة كما ادعى المؤرخ «براشك» فليس له نصيب من الصحة قط.

(راجع: Prasek, Gesch. Der Meder und perser. 2, 48 & 109.)
هذا، ولا يمكن توحيده مع «كومبافيس Kombaphis»، كما ذكر لنا ذلك الأثري «بركش» أيضًا، (راجع: Brugsch id. 1, 251)، وعلى أية حال فإنه لا يمكن أن ينسب إلى «وزاحر رسن» هذا على قدر ما وصلت إليه معلوماتُنا؛ أي أثر غير تمثال «الفاتيكان» وتمثال آخر وهو التمثال رقم ٢ الذي تحدثنا عنه من قبل.

مجال حياة «وزاحر رسن»

تحدثنا نقوش تمثال «وزاحر رسن» على أن مجال حياته كان مدنيًّا في الأصل؛ فقد كان في عهد الملك «أحمس» الثاني «أمسيس» يشغل وظائف مدنية عالية، ولا نعرف شيئًا عن سُلُوكه مدة احتدام الحرب التي وقعت بين «مصر» والفرس، غير أنه لُوحظ — بعد انتهاء هذه الحروب — أنه كان من بين رجال حاشية الملك «قمبيز».

ولا نزاع في أنه كان يميل — كل الميل — إلى جانب الفرس، وقد كان له تأثيرٌ على نتيجة الحرب التي قام بها الفرس لفتح «مصر»، وبخاصة عندما نذكر أن «وزاحر رسن» كان قائدًا للأسطول المصري في البحر في عهد «بسمتيك» الثالث، فقد وضعه هذا المنصبُ السامي في مكانةٍ خاصة غاية في الأهمية، ومن المحتمل أن الخدمات العظيمة التي أَدَّاها فعلًا لملك الفرس، والتي كان لا يزال يؤديها بعد تقربه من الفرس؛ قد خولت له أن يتوسط لدى «قمبيز» في صالح أسرته وفي صالح مدينته «سايس» مسقط رأسه، كما توسط كذلك لدى الملك لخدمة الآلهة المصرية.

ويدل ما لدينا من نقوشه على أنه قد احتفظ بعددٍ عظيمٍ من ألقابه، وقد نال — فضلًا عن ذلك — ألقابًا جديدة من الفرس، وبخاصة لقب «رئيس الأطباء»، ولا بد أن هذا اللقب كان لقبًا حقيقيًّا لا لقبَ شرفٍ وحسب. أما الوظيفة الهامة التي كان يقوم بأدائها لدى ملك الفرس؛ فهي وظيفة رئيس المراسيم ومُرشد الملك إلى كل العادات المصرية القديمة من دينية واجتماعية، وغير ذلك.

وتُحدثنا النقوش أن «وزاحر رسن» قد سافر بعد وفاة «قمبيز» إلى الخارج؛ أي في عهد الملك «دارا» الأول؛ فقد ذهب إلى «عيلام» ليكون بالقرب من مليكه، ولكن لا نعلم شيئًا قط عن الأحوال التي اقتضتْ هذا السفر.

وقد ذهب المؤرخون مذاهبَ شتى متضاربة في هذا الصدد، ولا حاجة بنا إلى سَردِها هنا؛ فإنها كلها محض حدس ورجم بالغيب.

(راجع: Revillout, Rev. Egypt. I (1880) p. 71; Maspero, Hist. Anc. des Peuples de l’orient Classique 3, 685: Farina Bibychnis, 18 (1929) 455.)

وعلى أية حال نعلم من نقوش «وزاحر رسن» أن العاهل الجديد؛ أي «دارا»، قد أرسله إلى «مصر» في بعث رسميٍّ، كما سنتحدث عن ذلك بعد، وقد كان القيام بتنفيذ هذا الأمر آخرَ عملٍ قام به، جاء في النقوش التي تركها لنا، وقد استغرق حوالي ستة أعوام.

والواقع أن ما جاء في نقوش تمثال «وزاحر رسن» يُعدُّ دفاعًا عن موقفه بالنسبة لبلاده، فقد أراد أن يفهم خلفه بأنه كان جديرًا بكل حمد وثناء من أسرته، ومن مدينته ومن رؤسائه، وبوجه خاص من آلهته، ومما يُلحظ في نقوشه أنه لم يذكر لنا من الوقائع التاريخية إلا التي اشترك فيها هو، وبخاصة عندما تكون هذه الوقائع عونًا له على إظهار تُقاهُ وصلاحُهُ وخدماته لآلهة «سايس» مسقط رأسه.

وإذا كان «قمبيز» لم يُظهر اهتمامَه إلا بمعبد الإلهة «نيت» وإذا كان «وزاحر رسن» قد أظهر نفس الاهتمام بوصفه الساعدَ الأيمنَ لملك الفُرس؛ فإن ذلك كان يرجع — بلا شك — للاختيار الخفيِّ للأمور التي ذكرها لنا صاحبُ التمثال في نقوشه، هذا بالإضافة إلى أنه كان في خدمة أجانب؛ أي في خدمة الفُرس، فكان مدينًا لهم بمركزه الهام؛ ولذلك كان عليه أن يختار من الأمور ما يعجبهم، ثم يعرضها عليهم دون تعليق بعد أن كان قد أخذ للأمور عدتها ومَهَّدَ السبيلَ بما لديه من سياسة وتجارب لتنفيذها دون تعليق، وهذه هي التحفظات التي يجب أن نضعها هنا من جهة القيمة التاريخية لهذه الوثيقة.

ومن جهة أُخرى يجب أن نلحظ أن ما قصه علينا «وزاحر رسن» في نقوش تمثاله كان مفروضًا أن يقرأه المارةُ «هذا إذا كان تمثالُهُ على ما يظهر موضوعًا في معبد «أوزير» بمدينة «سايس»»، وكان معاصرًا للحوادث التي ذكرها عليه.

هذا، ومن الطبيعي أن يضع أمام المارة صورة مشوهة جدًّا عن العصر الذي عاش فيه هو، وأن يُفهم القوم أنه أَسهم في الإصلاحات التي جرت فيه.

على أنه كيف يكون رئيس الأطباء «وزاحر رسن» هذا ليس في حاجة إلى ملق الملك «قمبيز»؟ والواقع أن هذا يرجع إلى أن المتن قد وُضع بعد موت هذا الملك، يُضاف إلى ذلك أنه على الرغم من أن «وزاحر رسن» كان ميالًا بعواطفه إلى الفرس، إلا أنه قد تحدث عن وجود اضطرابات عظيمة في أيامهم؛ فقد أشار إلى التخريب الذي سَبَّبَه الأجانبُ في أثناء حروبهم وتوطيد أقدامهم في «مصر». وأخيرًا نجد أنه قد برهن على حياده في تلك الفترة بأنْ وضع أسماءَ مُلُوك الأسرة الساوية في طغراءات، وأسبقها بلقبَي: ملك الوجه القبلي والوجه البحري، كما فعل مع ملوك «فارس»، وذلك في حين أننا نجد بعض الوثائق كانت لا تعترف بالملك «أحمس» الثاني ملكًا كما جاء ذلك في تاريخ «هردوت»، (راجع: Herod. III 16)، وكما ذكر لنا «ماسبرو» (راجع: Hist. III p. 663)، و«جريفث» أيضًا (راجع: Pa p. Ryland III p. 99)، ومن جهة أُخرى نجد في تواريخ المتون المكتوبة بالخط الديموطيقي أن الأمر كان على عكس ذلك؛ إذ نرى أن «أحمس» الثاني قد عُومل بوصفه ملكًا على حين أن «قمبيز» وحتى «دارا» قد ذُكرا بوصفهما شخصين عاديين.
(راجع: Spiegelberg A. Z. L III p. 30; Sottas, A. Z. 23, p. 46.)

ومِن ثَم لا ينبغي علينا ألا نُقلِّل من القيمة التاريخية لهذا المتن الذي نحن بصدده، وألا نعد صاحبه رجلًا وصوليًّا، ولكن بشرط أن نذكر أنَّ الحوادث التي دَوَّنَها في هذا المتن كانت قد اختِيرت بصورةٍ شخصيةٍ تُوحِي بما يُشْتمُّ منه رائحة التحيُّز، ومن ثم يمكنُ استعمالُهُ واستخلاصُ معلوماتٍ ثمينةً من محتوياته.

والواقع أن «وزاحر رسن» قد وصف لنا في متنه هذا فتح الفرس ﻟ «مصر»، بألفاظ تنطوي على الإبهام، فلم يذكر لنا الحروب التي قامتْ بين البلدين، وهذا الصمت من جهة «وزاحر رسن» كان أمرًا طبيعيًّا؛ لأن ذكرها في هذا الوقت لم يكن من السياسة أو اللباقة التي يُحمد عليها صاحبها، ولا تدعو إلى الفخار في ظرف كهذا، وعلى ذلك فقد أراد أن يمثل لنا الملوك الأجانب الذين اغتصبوا «مصر» بأنهم كانوا يواصلون بأمانة إنجاز الأعمال التي بدأها الملوك الوطنيون، والواقع أن الدور الذي قام به «سماتوي تفنخت» في أثناء الفتح الفارسي الثاني ﻟ «مصر» على يد «أردشير» الثالث يشبه الدور الذي قام به «وزاحر رسن» غير أنه يُعَد أقلَّ وضوحًا من الدور الذي قام به الأخيرُ كما سنرى بعد، وتدلُّ ظواهرُ الأُمُور على أن كلًّا منهما كان يلعب دورًا مزدوجًا، فكان مذبذبًا بين هؤلاء وهؤلاء.

(راجع: Spiegelberg, Chronique demotique de Paris Recto. V 15-16.)

والواقع أن الفتح الفارسي في القصة التي رواها لنا رئيس الأطباء «وزاحر رسن» قد ظهر في صورة هجرة؛ إذ يقول: «إن سكان البلاد الأجنبية الذين أتوا مع «قمبيز» قد استوطنوا «مصر».» وفي فقرة أُخرى نجد أن مهاجمين قد استقروا في معبد الإلهة «نيت»، ولا نِزَاعَ في أن المقصودَ من ذلك كان رجالُ الجيش الفارسي الذين أبقاهم معه «قمبيز» طوال مدة إقامته في «مصر» (٥٢٥–٥٢٢ق.م)، وقد كانت «مصر» في عهده تعد بمثابة قاعدة للأعمال الحربية التي قام بها على بلاد «كوش» والواحات، ومن المحتمل أن عددًا من سكان البلاد المجاورة ﻟ «مصر» قد انتهزوا فرصة الفتح الفارسي ودخلوا «مصر» مستوطنين فيها، وقد يكون ذلك صحيحًا — كما جاء في الوثيقة السالفة التي من عهد الملك «أكزركزس».

وتدلُّ الوثائقُ التي في متناولنا على أن الغُزاة كانوا من سلالات عدة؛ ولذلك نجد أن «وزاحر رسن» قد اختار التعبيرَ الملائم للدلالة على ذلك في نقوش تمثاله؛ فقد قال عنهم: «الأجانب الذين من كل البلاد الأجنبية»، والواقع أن البردية الآرامية التي عُثر عليها في «مصر» والتي يرجع عهدها إلى القرن الخامس تكشف لنا عن وجود فُرْس وخوارزميين وكسبيين، وبوجه خاص جَمٌّ غفير من الساميين يحملون أسماء بابلية وآرامية ويهودية.

(راجع: Ed. Meyer, Das Papyrusfund Von Elephantine 25 et Noël Aimé-Giron, Textes Araméens d’Egypte p. 58.)
هذا، وقد دل على وجود جنود من البابليين في جيش «قمبيز» وثيقةٌ بالخط المسماري، (راجع: Meissner, A. Z. 29, p. 123)، وقد أحس المصريون بوصول هؤلاء الأجانب بما ارتكبوه من عُنف وقسوة، وكان ذلك — بلا نزاع — بداية عهدٍ من الفوضى وسوء النظام، ويُلحظ أن رد الفعل الذي أحدثتْه الغزواتُ الفارسية ﻟ «مصر» في الأدب والدين ذو طابع هام بارز؛ ففي أسطورة الإله «حور» التي نقشت على جدران معبد «إدفو» نجد أن الإله «ست» عدوه قد أحفظه وأثار غضبه بوصمه له بأنه ميدي؛ «أي فارسي».
(راجع: Chassinat Edfu, 6, 214-215 F; Kees, Kult-legende und Urgeschichte, Nachr., Göttingen 1930 p. 346.)

هذا، ونجد أسماء أقوام الأقواس التسعة القديمة أعداء «مصر» التقليديين (راجع: «مصر القديمة» الجزء التاسع) قد بدءوا يسمون بأسماء حديثة، فنجد أن رُماة الصحراء الذين وحدوا بالبدو قد سموا بأهل بلاد «ميا».

(راجع: Chassinat, Edfu, 6, p. 198; sethe, Spuren der Perserherrschaft Nachr., Göttingen 1916 p. 130.)
هذا، ويُلحظ أن التعبير «أجانب كل البلاد الأجنبية» — الذي ذكرناه فيما سبق — يدل على الغزاة في المتنين رقم ١، ٦، ويوجد في نفس نقش معبد «إدفو» الذي نحن بصدده صيغٌ سخريةٌ عملت ضد أعداء الملك، وهؤلاء هم في الأصل آسيويون (راجع: Ibid. 6, 235)، وتدل الأحوال على أن «وزاحر رسن» لم يخف ما ارتكبه الأجانب من آثام، ويُلحظ هذا في الفقرتين الشهيرتين من نقوشه وهما اللتان تذكران: «الاضطراب العظيم جدًّا الذي حدث في مقاطعة «سايس» وفي كل «مصر»، وهذا الاضطراب لم يحدث مثيله من قبل».

وقد أراد بعض المؤرخين أن يرى في هذه الاضطرابات إشارةً إلى أعمال العنف التي ارتكبها «قمبيز» في «مصر»، وهي التي ذكرها الكُتاب الأقدمون، وبخاصة «هردوت» وهناك الفقرات التي جاء فيها ذكر هذا العنف.

(راجع: Herod. 3, 16, 27, 130; Diodorus 1, 46; Strabo 17, 1, 27; Plutarch, De lside 44 justin 1, 9, etc.)

وقد تابع «قمبيز» السير من مدينة «منف» إلى مدينة «سايس» قاصدًا أن يتم ما بدأه؛ لأنه عندما دخل قصر «أحمس» الثاني أمر في الحال بأن يحضر جسم «أحمس» الميت من ضريحه، وعندما تم له ذلك أعطى الأوامر بجلده ونتف شعره ووخزه وانتهاك حرمته بكل طريقة ممكنة، ولكنهم عندما أخذ منهم التعبُ كل مأخذ من هذا العمل «لأنه لما كان الجسم محنطًا فقد قاوم ولم يُمزق إربًا إربًا» أمر «قمبيز» بحرقه، وبذلك أمر بما هو كفر؛ لأن الفرس كانوا يَعتبرون النار إلهًا؛ «أي يعبدونها»، ومن ثم فإن حرق الميت لم يكن — بحالٍ — مسموحًا به في كلتا الأمتين «الفارسية والمصرية»، فلم يكن مسموحًا عند الفرس للسبب السابق؛ وذلك لأنهم يقولون: إنه ليس من الحق أن نقرب لإله جسم إنسان ميت، أما من جهة المصريين فقد كانت النار تُعَد حيوانًا حيًّا وأنها تلتهم كل شيء يمكن أن تصل إليه، وعندما تتخم بالطعام تخبو بما التهمتْه، وعلى ذلك كان قانونُهُم أَلَّا يعطى — بأية حال من الأحوال — جسمٌ ميتٌ لحيوانات مفترسة؛ ولهذا السبب كانوا يحنطونها «حتى لا ترقد وتأكلها الديدان».

ومن هذا نرى أن «قمبيز» قد أمر بشيء منبوذ في عادات الأُمَّتين، وعلى أية حال فإن المصريين يقولون إنه ليس «أحمس» الثاني الذي عُومل بهذه المعاملة، بل كان مصريًّا آخر في نفس قامة «أحمس» الثاني قد أهانه الفرسُ ظَانِّينَ أنهم قد أهانوا «أحمس»؛ لأنهم يقولون إن «أحمس» كان قد أُخبر — بوحيٍ — بما سيحدث له بعد الموت؛ لأجل أن يعالج الشر الذي كان سيلحق به، ولذلك دُفن جسم هذا الرجل الذي عُذب بالقرب من باب مدفنه وكلف ابنه بأن يدفن جسمه هو في أقصى جُزء في الضريح.

والآن فإن هذه الأوامر التي أعطاها «أحمس» وهي الخاصة بدفنه هو، ودفن هذا الرجل يظهر لي أنها لم تُعط قط، ولكن المصريين يفخرون بها كذبًا، وجاء في فقرة أخرى (Herod. III 27): وعندما وصل «قمبيز» إلى «منف» ظهر العجل «أبيس» للمصريين وهو الذي يُسميه الإغريق «أبا فوس»، وعندما حدث هذا الظهور أسرع المصريون في الحال إلى ارتداء أثمن الملابس، وأقاموا أعيادًا انقطعوا أثناءها عن العمل، وعندما رآهم «قمبيز» مشغولين هكذا استنبط منهم أنهم يقومون بهذه الأفراح بسبب عدم نجاحه في حملته على بلاد النوبة، فأمر حُكَّام «منف» بالحضور أمامه، وعندما مثلوا في حضرته سألهم: «لماذا لم يفعل المصريون شيئًا من هذا القبيل عندما كان في «منف» من قبل ثم فعلوا ذلك الآن عندما عاد فاقدًا جزءًا عظيمًا من جيشه؟» فأجابوا أن إلههم قد ظهر لهم، وهو الذي كان معتادًا أن يظهر في فترات متباعدة، وأنه عندما ظهر كان المصريون جميعًا قد اعتادوا أن يفرحوا ويُقيموا أعيادًا، وعندما سمع «قمبيز» بذلك قال لهم: إنهم كذبوا وأمر بقتلهم بسبب كذبهم (٨) وبعد قتلهم أمر بمثول الكهنة في حضرته، وعندما قص الكهنة نفس القصة قال: إنه سيكشف فيما إذا كان إلهًا طيعًا على هذا النحو قد أتى بين المصريين، وبعد أن قال ذلك أمر الكهنة أن يحضروا «أبيس» إليه وعلى ذلك ذهبوا ليحضروه.

وهذا العجل «أبيس» أو «أبا فوس» هو عجل بقرة لا يُمكنُها أن تحمل في غيره، ويقول المصريون: إن الثور ينزل من السماء على البقرة، ومن ثم تضع «أبيس»، وهذا العجل الذي يُسمى «أبيس» يُميز بالعلامات التالية: إنه عجل أسودُ فيه بقعةٌ مربعةٌ بيضاء على جبهته، وعلى ظهره صورةُ نسر، وفي الذيل شعرٌ مزدوجٌ، وعلى لسانه صورة جعران (٢٩)، وعندما أحضر الكهنة «أبيس» استل «قمبيز» خنجره كإنسانٍ يكاد أن يكون قد خرج عن حواسه، قاصدًا بذلك بَقْرَ بطن «أبيس»، ولكنه ضربه في فخذه، وبعد ذلك أخذته نوبةُ ضحك قائلًا للكهنة: «أنتم أيها الأغبياء هل هناك آلهة مثل هذه من دم ولحم وتحس بالفولاذ؟ حقًّا إن هذا إله جديرٌ بالمصريين، ولكنكم لن تهزءوا مني.»

وبعد أن تكلم هكذا أمر رجاله بتعذيب الكهنة، وقتل كل المصريين الذين كانوا يجدونهم على يد هؤلاء الذين كان هذا عملهم، وعلى ذلك فض عيد المصريين وعوقب الكهنة، ولكن «أبيس» الذي جُرح في فخذه خارتْ قواه في المعبد، وفي النهاية مات من الجرح ودفنه الكهنةُ دون علم «قمبيز».

وفي فقرة أخرى نقرأ عن تعسُّف «قمبيز» ما يأتي: (راجع: Herod. III par, 37) وبعد ذلك ارتكب أعمالًا جنونية مع الفرس وحلفائه أثناء مكثه في «منف»؛ إذ فتح المدافن القديمة وفحص الأجسام الميتة، وكذلك دخل معبد «فلكان» واحتقر تمثاله؛ لأن تمثاله كان شديد الشبه بتمثال «باتيس Pataice» الفنيقي وهو الذي يضعه الفنيقيون عند مقدمة سفنهم الحربية وهو على صورة قزم، وكذلك دخل معبد «كابيري» (وهو محرم على كل فرد دخوله إلا الكهنة) وحرق هذه التماثيل بعد أن مثل بها بطُرُق مختلفة، وهذه كلها مثل تمثال «فلكان» ويقولون: إنها أولاد هذا الأخير هذا ما أورده لنا «هردوت»١ غير أن ما جاء في متن «وزاحر رسن» ليس فيه ما يسوغ حتى التقريب بينه وبين ما جاء في «هردوت»؛ وذلك لأن الكلمة المصرية التي استعملها «وزاحر رسن» في متنه، وهي كلمة «نشن» لا تعني — في الواقع — إلا اضطرابًا سياسيًّا أو فوضى، ولا تعني قط مصيبة أو كارثة، وإذا جاز لنا أن نثق في الصيغ الثابتة التي تُستعمل في وصف «تعذيب كبير» فإنا نكون هنا أمام حالة فوضى وسوء نظام، يُمكن أن نجعل سكان مدينة عظيمة في خطر مما يجعل القويَّ يقهر الضعيف ويترك الخائف دون حماية، كما جاء في متن تمثال «وزاحر رسن»، ولكن هذا الوصف لا يمكن أن يعزى إلى أعمال الشدة التي ارتكبها «قمبيز» كما حدثنا عن ذلك «هردوت»، وهي الفظائع التي ذكرناها فيما سبق، والواقع أن تعسف «قمبيز» كان موجهًا بصورة خاصة للدين، ولكن على ما يظهر لم يمس هذا التعسف صغار الشعب الذين يتحدث عنهم متن تمثال «وزاحر رسن»؛ إذ إن هذه الأعمال تصبغ بصفة كارثة عامة نزلت بالبلاد جميعها، مثل الاضطراب الذي يحدثنا عنه متن التمثال.

ومن جهة أخرى ليس أمامنا ما يبرر أن «وزاحر رسن» قد أشار من طرف خفي إلى أعمال السوء التي ارتكبها «قمبيز» سيده وحاميه، وهو الذي كان يعمل جاهدًا باستمرار على إظهار مقاصده الحسنة نحو «مصر»، أما ما يجب أن نفهمه من عبارة «الألم العظيم» فيبحث عنه في نفس متن تمثال «وزاحر رسن»، فالاضطرابُ الذي فوجئتْ به البلادُ جميعًا قد نتج عن استقرار الأجانب في «مصر»، كما ذكر في المتن، أما سوء النظام الذي حدث في مقاطعة «سايس» فنجد مقابلًا له في إقامة الغزاة في معبد الإلهة «نيت».

وهذا التغير في حالة البلاد يؤكده بصفة غير مباشرة ما جاء في عقد بابلي خاص ببيع عبد مصري (Meissner A. Z. (1891) p. 123-124) وهذا العبد كان قد جيء به إلى «مسوبوتاميا» عام ٥٢٥ق.م، بوصفه غنيمة حرب ومن ثم يُمكننا القول بأنه في بداية الفتح الفارسي كان سكان «مصر» يجتازون فترة أليمةً في حياتهم، ومع ذلك فإنه بعد الفتح الفارسي تدل الأحوالُ على أن الحياة قد عادتْ بسرعة إلى مَجراها الطبيعي؛ ففي نهاية السنة السادسة من عهد «قمبيز» (٥٢٤ق.م) كان في الإمكان الاحتفال بدفن عجل «أبيس» كما جاء ذلك في الوثيقة رقم ٣، وكذلك في نفس السنة نرى أحد الكهنة القاطنين في الدلتا قد أرسل في طلب مرتبه في معبد من معابد «مصر» الوسطى (راجع: Griffith Ryl. Pa p. 3, 105-106)، وأخيرًا نجد في أربع وثائق من عهد «قمبيز» ما يُبرهن على أن حكمه في «مصر» كان لصالح البلاد ورقيها، (راجع: Sottas A. S. 23, p. 46).
ومما يؤسَف له أن متن تمثال «وزاحر رسن» لم يقدم لنا تفاصيل أكيدة عن هذا الموضوع، فلم نعلم منه شيئًا إلا ذِكْره احتلال معبد «سايس»، ومن المحتمل أن المدرسة التي كان يجب أن تكون بجوار المعبد قد خربت ونهبت؛ وذلك لأن الملك «دارا» — فيما بعد — كان مضطرًّا لأنْ يهبها كل المواد اللازمة لإصلاحها، ولا نِزَاع في أنَّ إصلاح مدرسة «سايس» كان من أعمال «دارا» لا من أعمال سلفه، ومع ذلك فإنه يظهر أن «قمبيز» قد كبح جماح جُنُوده بمَنعِهم من التعدِّي على الأهلين وأصلح — على الأقل ولو جزئيًّا — الأضرارَ التي نتجت عن الغزو، وقد وصف لنا ذلك المتن رقم ٢، ومن جهة أخرى نعرف على حسب رأي المؤرخ اليهودي «جوسيفس» (راجع: Ant. Jud II, 15, 315)، أن قمبيز أسس مدينة «بابل» القريبة من «منف» (راجع: 315 Ed. Meyer Sitzungsber. Pr. Ak. Wiss. (1915) p. 310 note 1).
ونعرف مكانين يَحملان اسم الفاتح الفارسي «قمبيز»، واحد منهما جنوبي الشلال الثاني (راجع: Ptolemie. 4, 7; pline Hist, Nat. p. 181).
والثاني عند قناة السويس (راجع: Id 6, 165) وينسب «ديودور» الصقلي (راجع: Diod. 1, 33) إلى «قمبيز» تأسيس مدينة «مروى»٢ بالسودان.

هذا، ونعلم أن الغُزاة قد طردوا بأمر من «قمبيز» من داخل سور الإلهة «نيت»، كما أمر بتطهير المعبد، وعلى ذلك يمكن «وزاحر رسن» أن يتحدث عن تَعَسُّفات الأجانب؛ وذلك لأن سيدَه وحاميَه «قمبيز» لم يكن شخصيًّا مسئولًا عنها، بل على العكس حارب تلك التعسفات وأوقفها.

سياسة «قمبيز» في «مصر»

تدل شواهد الأحوال على أن «قمبيز» باتخاذه هذه الإجراءات كان يبحث — ولو في الظاهر — عن إرضاء الشعب المقهور والتودُّد إليه، ومن أجل الوصول إلى قصده هذا اتخذ لنفسه ألقابًا فرعونية وهي الألقاب الخمسة التي كان يَتَقَلَّدُها — في العادة — كل فرعون عند توليه عرش الملك في «مصر». غير أننا لم نجد له منها حتى الآن إلا ثلاثة ألقاب، فقد كان يُلقب: (١) نسل رع، (٢) واسمه قمبيز، (٣) واسمه الحوري، وهو الذي يوحِّد الأرضين.

وقد ألف له هذه الألقاب أو الأسماء «وزاحر رسن» الذي أوضح له بطبيعة الحال، كذلك الأهمية الدينية لبلدة «سايس» حتى إنه جعله يُعيد إلى محاريب هذه المدينة خُدَّامَها ودخلها المقدس، وكذلك أمر بأن تُقام شعائرها الدينية وتُقدم القربات للإله «أوزير».

وأخيرًا ذهب «قمبيز» نفسه إلى هذه المدينة الملكية التي كانت مقر مُلك أسلافه من المصريين؛ ليسجد أمام الإلهة «نيت»، ويقوم بنفسه بتقديم قُربانٍ عظيمٍ لآلهة المدينة — كما يقول المتن المصري — (راجع: المتن سطر ٢٥)، وذلك في حين نجد أن «هردوت» يقول كما أسفلنا (Herod. III 10) إن «قمبيز» حضر إلى «سايس» وهتك حرمة ضريح «أحمس» «أمسيس» فما هي الحقيقة يا ترى؟ ثم يقول: «وزاحر رسن»: إن جلالته قد عمل ذلك لأني أفهمته كل عمل مفيد أُقيم في هذا المحراب لكل ملك.

والآن يتساءل الإنسان: أليس من الجائز أن «قمبيز» قد عمل ذلك كله بعد أن أفهمه «وزاحر رسن» أن أعماله الأولى كانت خاطئة؟

ومما تجدرُ ملاحظتُهُ هنا أن الموازنة بين «قمبيز» والملوك الآخرين السابقين قد ذُكرت في ثلاث فقرات من متن «وزاحر رسن» (سطر ٢٥، ٢٦، ٢٩)، والواقع أن «قمبيز» كان يود — في الظاهر — أن يستمر في السير على حسب تقاليد الأُسرة المنحلَّة السابقة، وهي التي كانتْ عاصمتُها الملكية مدينة «سايس»،٣ مقر ملك أسلافه من المصريين، كما كانت الإلهة «نيت» إلهة الأسرة الحاكمة بطبيعة الحال، وقد كان يدفن فيها ملوك «سايس» في داخل سور الإلهة «نيت» كما حدثنا عن ذلك «هردوت» (راجع: Herod. III 1169).
وعلى أية حال لا ينبغي لنا أن نُبالغ في الأهمية التي يَنسبها ملوكُ الفرس إلى «سايس» وآلهتها، وذلك على الرغم من أننا نرى أن الملك «دارا» قد أعلن نفسه ابن الإلهة «نيت» كما نقرأ ذلك في المتون التي وصلتْ إلينا عنه (راجع: المتن رقم ٨ سطر ١، ٣) والواقع أنه يجب علينا أن نذكر أن متون تمثال «وزاحر رسن» وضعها رجلٌ ساوي، وكان غرضُهُ من ذلك أن يُظهر فيها مناقبَه الحسنة، وأعماله الخيرة التي قام بها لآلهة المدينة، ولا نزاع في أن ما قَصَّهُ علينا هذا الساوي يتعارض مع منشور «قمبيز» الذي حدد فيه دخل المعابد (راجع: Ed. Spiegelberg, Verso d: Ed. Meyer Id. 309–311).
فلقد اختفت فجأة هبات الأفراد للمعابد التي كانت عديدة في عهد الأسرة السادسة والعشرين في زمن الفرس، ومن المحتمل أن ذلك كان نتيجة لمنشور «قمبيز»، ومن المحتمل إذن أن ما نُسب إلى «قمبيز» من أعمال العُنف في الحرب وما أتاه جنودُ الاحتلال من سلب ونهب في كل المعابد المصرية (راجع: Cowley Aram, Pa p. No. 30, 13-14 (date 408))، وكذلك على حسب ما جاء في «استرابون» نعرف أن «قمبيز» قد خرب معابد «هليوبوليس»، (راجع: Strabo 17, 1, 27 & Pline Hist. Nat. 36, 66; Recke A. Z. 1935 (p. 123 note 2)).

فقال متحدثًا عن «عين شمس»: «والمدينةُ الآن مهجورةٌ تمامًا وتحتوي على المعبد القديم الذي أُقيم على الطريقة المصرية، وهو يقدم لنا شواهدَ عدةً عن جنون «قمبيز» وكفره؛ فقد سعى لتخريبها بالنار وبالحديد فهَدَمَها وحَرَقَها في كل ناحية كما فعل ذلك بالمِسَلَّات، وهناك اثنتان منهما أُتلفتا إتلافًا تامًّا، وقد نُقلتا إلى «روما»، ولكن هناك مِسَلَّاتٌ أُخرى لا تزال موجودةً هناك أو في «طيبة»، وهي «ديوس بوليس بارفا» الحالية، ولا يَزال بعضُها منصوبًا، غير أنها قد أكلتْها النارُ تمامًا، وأُخرى ثاويةٌ على الأرض.»

وكان دخل معبد الإلهة «نيت» غيرَ معترف به ولم يُعمل له حسابٌ بين المعابد التي احتَفظت بامتيازاتها؛ فقد كان الأمرُ الملكيُّ بإعادة الدخل المقدَّس لمعابد «سايس» في مجموعها «وهو كما يقول المتن حرفيًّا كما كانت من قبل» قد أتى بعد ذلك طرد الأجانب كلهم الذين كانوا قد احتلوا حرم الإلهة «نيت»، وعلى ذلك يجب أن يكون قبل المنشور الذي نحن بصدده الآن، وقد يجوز أن الصورة التي رسمها أمامنا «وزاحر رسن» ليست مطابقةً للأصل تمامًا، وبخاصة عندما نرى أنه قد وصف لنا الفاتح في صورة ملك صالح تقي يسير على حسب التقاليد، ولا نزاع في أن في هذا الوصف بعض المبالغات، وقد يجوز كل المبالغة كما نشاهد الآن في أيامنا أن الملوك الطغاة تُوصف بالتقوى والصلاح، وأقربُ شاهدٍ على ذلك ما شاهدناه في مصرنا الحديثة عندما وصف «فاروق» بالصلاح والتقى!

وعلى الرغم من هذه التحفُّظات فإن ما جاء في متن «وزاحر رسن» لا يُمكن أن نَشُكَّ فيه إلا بشيءٍ من الصعوبة.

موضوع قتل العجل «أبيس»

ولدينا متونٌ أُخرى ذكرناها فيما سبق، تؤكد احترام «قمبيز» للديانة المصرية،٤ ونعلم من لوحة عثر عليها في سربيوم «منف» أن أحد عجول «أبيس» قد دفن باحتفال، في العام السادس من حكم «قمبيز» (٢٢ق.م).

وقد وصل إلينا غطاء تابوت إهداء هذا الفرعون للعجل «أبيس» هذا.

وعلى الرغم من كل هذا يحدثنا الكُتاب الأقدمون أن «قمبيز» قد قتل ثورًا مقدسًا، كما ذكرنا من قبل (راجع: Plutarch, de Iside. 44, Justin. 1, 9 Clement d’Alexandrie. Protrepticus 4, 52, 6).

فقد حدثنا «هردوت» بأن «قمبيز» عاد من حملته الفاشلة في بلاد النوبة ودخل في «منف» وقد كان المصريون في عيد عجل «أبيس» جديد ظهر لهم، وقد ظن «قمبيز» — كما ذكرنا آنفًا — أن المصريين كانوا في فرح بسبب فشل حملته، فجرح العجل «أبيس» وقد مات متأثرًا من جراحه بعد زمن قصير، وقد دفنه الكهنة على غير علم من «قمبيز».

وإنه لمن الصعب أن نوفق بين هذه القصة وبين ما جاء على اللوحات الجنازية التي وُجدت للعجول «أبيس» في هذه الفترة، فالثور الذي مات في عهد «قمبيز» لم يُدفن خفية (راجع: الوثيقة ٢، ٤)، وكذلك العجل الذي خلفه وهو الذي مات في السنة الرابعة من عهد الملك «دارا» الأول (الوثيقة ٥) لم يكن قد قتله بطبيعة الحال الملك «قمبيز» على أنه لو وُجد فراغ من الزمن بين هذين العجلين لَتأكدنا من تاريخ موت العجل الأول المزعوم، ولكن هذا ليس هو الوضع الحقيقي؛ إذ على العكس لو قَارَنَّا تاريخَ دفن العجل الأول وقد كان الدفن يحدث عادة بعد سبعين يومًا من تاريخ موت «أبيس»، وكان ذلك في السنة السادسة الشهر الحادي عشر اليوم العاشر من عهد الملك «قمبيز» بتاريخ ولادة «أبيس» الثاني، وكانت في السنة الخامسة الشهر الخامس في اليوم التاسع والعشرين من عهد الملك «قمبيز»؛ فإنا نجد أنه أثناء حوالي خمسة عشر شهرًا كان قد وُجد عجلان من عجول «أبيس» في وقت واحد، وهذا يَتنافى مع العقائد الدينية المصرية، وهي التي — على حسبها — لا يُمكن أن يظهر الإلهُ في حيوانين في آنٍ واحد.

فالعجل «أبيس» في الواقع يولد إلهًا، وتوارث الثيران المقدسة يجب أن يحدث لا من تتويج «أبيس» إلى تتويج آخر، بل من ولادة عجل «أبيس» إلى ولادة عجل «أبيس» آخر، وما لدينا من لوحات جنازية نادرة متتابعة للعجول «أبيس» تؤكد هذا المبدأ؛ فاللوحتان رقمي ١٩٣، ٢٤٠ المحفوظتان بمتحف «اللوفر» قد عثر عليهما في السربيوم بمدينة «منف» (راجع: Rec. Trav., 22 (1900) 20, 21, I,d, 167).
وتفهم من نقوشهما أن عجلًا منهما قد وُلد في اليوم التالي من موت سلفه، هذا ونفهم كذلك من اللوحات الجنازية التي عثر عليها في بوخيوم «أرمنت» (أي مدفن عجول «أرمنت») (راجع: Mond. And Myers, The Bucheum Vol. 2; Herog. Inscr. By Fairman. 28–34, See especially the telas 7–12).

إنه في مدة معلومة كانت تؤلف سلسلة متتابعة لعجول، ولكن لم نجد فيها ما يثبت وجود عجلين مقدسين في آنٍ واحد.

ومن ثم فإن لوحتي «أبيس» في العهد الفارسي يوجد فيهما تناقضٌ يحتاج إلى إيضاح،٥ وأولُ ما نَلحظه في هذا الموضوع هو: أن تاريخ موت «أبيس» الذي مات في عهد «قمبيز» لم يُوجد على اللوحة (راجع: الوثيقة رقم ٣)، وهذه اللوحة لم يبق عليها إلا تاريخ الدفن، وإذا طرحنا من هذا التاريخ سبعين يومًا، وهي الأيام التقليدية اللازمةُ للتحنيط، والمعروفة لنا من لوحاتٍ أُخرى وُجدت في السربيوم؛ فإنا نحصل على تاريخ موت العجل، وهو لا يتفق مع تاريخ ولادة العجل الذي جاء ذِكرُه على اللوحة رقم ٥؛ إذ كان في الواقع بعد ذلك بحوالي خمسة عشر شهرًا تقريبًا، فهل لا يمكننا في هذه الحالة أن نَفرض أن الفترة التي وقعت بين الموت والدفن للعجل «أبيس» الذي جاء ذِكرُه في اللوحة رقم ٣؛ كانت أكثر من سبعين يومًا، وأن «أبيس» هذا كان قد مات قبل ولادة خلفه؟
ومما يؤسَف له أن اللوحة رقم ٣ قد وصلت إلينا في حالة رديئة جدًّا، مما لا يَسمح لنا أن نؤكد هذه النظرية التي فرضناها هنا، ونَوَدُّ أن نَلفت النظر هنا إلى أنه لا يوجد في اللوحات الجنازية الأُخرى للعجل «أبيس» ما يُقابل القِطَع التي بقيت لدينا، وهي التي يُمكن قراءةُ ما عليها (الأسطر ٥–٧)؛ إذ نجد فيها أمرًا ملكيًّا والأمر بتنفيذه، وهذا الأمر خاص بدفن «أبيس»، فإذا تغاضَينا عن الصيغ الدينية العادية التي نجدها في مثل هذه النقوش؛ فإننا نجد أن المتن رقم ٣ يُوحي بأن دفن العجل «أبيس» كان يجري في أحوالٍ غير عادية استوجبتْ تَدَخُّل الملك، فهل كان هذا الأمرُ خاصًّا بتأخيرٍ في جنازة «أبيس» والثور المقدس الذي ذُكر على اللوحة رقم ٥ قد وُلد في اليوم التاسع والعشرين من الشهر الخامس من السنة الخامسة من عهد «قمبيز»٦ (= ٢٩ مايو ٥٢٥ق.م)، وقد كان يجب أن يكون سلفه وهو العجل صاحب اللوحة رقم ٣ قد مات على حسب القاعدة قبل هذا التاريخ.
والواقع أن هذه اللوحة معاصرةٌ للفتح الفارسي ﻟ «مصر»، وهو الذي قد أُرخ — بدون شك — في مايو-يونية سنة ٥٢٥ق.م، وقد عرفنا ذلك من ثلاث أوراق ديموطيقية مؤرخة بشهر هاتور–طوبة من السنة الثانية من عهد «بسمتيك» الثالث، والظاهر إذن أنه في شهري مارس–مايو سنة ٥٢٥ق.م كان هذا الملك لا يزال يحكم «مصر» (راجع: Ryl. Pa p. 1, 3.24) ولما كان لم يمكث إلا شهورًا معدودات، وأن مدة حكمه كانت متداخلة في سنتين مدنيتين فإن الفتح الفارسي لا يمكن وضعُهُ في أكثر من نهاية الشهر السادس من السنة الثانية من حُكم هذا الفرعون (أمشير = يونية)، ويؤكد لنا ذلك المصادرُ القديمةُ، وهي التي على حسبها حدث الفتحُ قبل نهاية شهر يونية (راجع: Prasek, Forschung zur Gesch. Des Alterthums 1, 58).
ومن الممكن أنَّ الفوضى التي سادت البلاد المصرية في أوائل الفتح الفارسي قد سببتْ تأخيرًا كبيرًا في إقامة الحفل بجنازة العجل «أبيس»، وهذا التأخيرُ الذي كان يزيدُ على سنةٍ قد لا يدعو إلى الدهشة كثيرًا إذا ألقينا نظرة على المتن رقم ٦، وهو الذي يُظهِر لنا أهمية التجهيزات التي كان يَستلزمها الاحتفالُ بدفن «أبيس» (راجع: Kees, Kulturgeschichte, 74 Note 2)، وهذه الطريقةُ التي اتُّبعت هنا لحل مسألة وجود عجلَي «أبيس» في آنٍ واحدٍ، إن هي في الواقع إلا حَل موضوع شاذ بآخر مثله شاذ، ولذلك يجب أن ننظر إلى هذا الموضوع بعين حذرة إلى أن يأتي المتنُ الذي يحل هذا اللغز.
وقد ظن الأثري «فيدمان» (Gesch. Agy p., p. 229) أن العجل «أبيس» الذي دُفِنَ في السنة السادسة من عهد «قمبيز» كان قد قتله الملكُ نفسه، ولا بد أن حياة هذا العجل القصيرة كانت قد اندمجتْ في حياة العجل الذي مات في عهد الملك «دارا»، وأن هذه خدعةٌ كان الغرضُ منها محو آثار الجريمة التي ارتكبها «قمبيز»، ويقول «فيدمان»: إن الغش قد ظهر لنا في لوحة الحيوان الذي قُتل، ويعني بذلك: اللوحة رقم ٣، وهي التي وضعها الكهنةُ سرًّا، والأشهُر الخمسة عشر التي وُجد فيها في وقت واحد عجلَا «أبيس»؛ إن هي في الواقع إلا مدة حياة الثور الذي صرعه «قمبيز».

ويقول «بوزنر»: إنه يجب أن تُهمل هذه النظرية؛ وذلك لأن الترجمة التي قَدَّمَها لنا «فيدمان» للوحة رقم ٣ تُبرهن على أن التاريخ الذي جاء في السطر الثامن قد أخطأ فيه، يُضاف إلى ذلك أن التصحيحات التي عُملت في الأسطُر الأربعة الأُولى قد أصبحتْ مؤكدة، وذلك بموازنة البقية الباقية منها، التي لا تزالُ ظاهرة بما يُقابلها من مُتُون مماثلة.

ومن هذه الأسطُر نفهم أن التحنيطَ والنقوشَ الخاصة بالعجل «أبيس» هذا قد عملت رسميًّا، ويؤكد ذلك نقوش التابوت (الوثيقة رقم ٤) التي لم تكن معروفة في عهد «فيدمان»، وعلى حسب هذه النقوش نَفهم أن هذا التابوت كان قد أهداه «قمبيز» لهذا العجل «أبيس». وحتى لو فرضنا أن نقوش اللوحة والتابوت كاذبةٌ — وفي ذلك شكٌّ — فإن وجود هذا التابوت المصنوع من الجرانيت وحجمه الضخم يجعل نظرية «فيدمان» — القائلة إن «أبيس» هذا كان قد دُفن خفية — قابلةً للشك الكبير، يُضاف إلى ذلك أن التاريخ الذي جاء في السطر الثامن من اللوحة له معنًى هام؛ إذ يُبرهن على أن «أبيس» الذي ذُكر على اللوحة قد عاش حوالي تسع عشرة سنة لا خمسة عشر شهرًا كما ظن «فيدمان»، وعلى ذلك لا يكون هو العجل الذي قتله الملك؛ لأنه على حسب ما جاء في «هردوت» قد حدث القتل بعد ولادة «أبيس» أو في أثناء أعياد التتويج، وهي الأعيادُ التي كانت تُقام عادةً بعد مُضِيِّ بضعة أشهُر من ولادة «عجل أبيس» جديد — وقد كان على أكثر تقدير مدة شهرين على حسب اللوحة ٣٤ — (راجع: Rec. Trav. 22, 11) وثمانية أشهر وثمانية وعشرين يومًا على حسب اللوحة رقم ١٩٣ (راجع: Ibid. 20-21) وتسعة أشهر ويومين على حسب اللوحة رقم ٢٤ (Ibid. 167) وتسعة أشهر وأحد عشر يومًا على حسب اللوحة رقم ١٩٢ (Ibid. 20)، وإذا أردنا أن نجمع حياة «أبيس» صاحب اللوحة رقم ٣ مع حياة خلفه، فإن حياة العجل الأخير تكون على ذلك حوالي السنة السابعة والعشرين من عهد الملك «أمسيس» الثاني.

وعلى أية حال فإن هذه الوسيلة التي كان الغرض منها مَسْحَ آثار الجريمة لا يمكن أن تكون قد حدثت إلا منذ اللحظة التي تكون فيها ذكريات قتل «أبيس» بيد قمبيز قد بدأت تتناسى بعض الشيء؛ أي في عصرٍ كان يجبُ فيه ألا تكون سببًا لمضايقة نُفُوذ الفاتحين، على أن هذه الحيلة التي أتى تأثيرُها متأخرًا وغيرَ مؤكد يظهر أنها كذلك قليلةُ الاحتمال، وكذلك قليلةُ الجدوى، وعلى أيَّة حال فإن الحل الذي اقترحه «فيدمان» وكذلك الحلول الأُخرى التي يمكن أن يتصورها الإنسانُ ليجعل متن اللوحة يتفق مع ما جاء في قصة «هردوت»؛ تكون من باب الحدس والتخمين الخطر، وإنه لمن الحكمة أن ننظر إلى ما جاء في قصة «هردوت» بعين الشك في تفاصيلها ومجموعها.

ونستخلصُ من هذا العرض الطويل أن المحاولات التي عُملت للتوفيق بين ما جاء في النقوش الهيروغليفية وبين ما جاء في قصة «هردوت» وما نقله لنا «ديودور» و«استرابون» وغيرهم؛ لم تقدم لنا هنا نتائجَ مرضيةً يَرتاح إليها النقدُ العلميُّ، والواقعُ أن حُكْمَ «قمبيز» كما جاء في المتون المصرية يدلُّ — على ما يظهر — على أنه كان ملكًا أكثر حكمة وروية مما افتراه عليه الكُتاب الأقدمون من أقاويل، ومع ذلك قد يكون كل ما نسبه لنفسه بوصفه فرعونًا لا يخرج عن كونه كالفراعنة الآخرين، يقولون ما يحلو لهم، ويخفون ما شاءوا أن يخفوا من مخازٍ وأعمالٍ مشينة؛ ولأنهم آلهةٌ والآلهةُ لا تخطئ.

١  Diodorus I, 46, Strabo, 17, 1, 27: Plutarch De Iside, 44: Justin 1, q etc.
٢  ويشمل النيل كذلك جزائر في داخل مياهه، كثيرٌ منها يوجد في «إثيوبيا»، ومنها واحدةٌ عظيمةُ المساحة، تُدعى «مروى»، وقد أقيم عليها كذلك مدينةٌ عظيمةٌ تَحمل نفس اسم الجزيرة، وهي التي كان قد أَسَّسَها «قمبيز»، وقد سماها باسم والدته «مروى». ويقولون: إن هذه المدينة في صورة درع طويل، وهي تفوق في حجمها الجزائر الأخرى في ستاد، وهي كذلك تحتوي على مدن طولها هو ٣٠٠٠٠ ستاد، وعرضها ألف هذه الأجزاء؛ وذلك لأنهم يقولون إن ليست بالقليلة وأعظمها شهرة هي «مروى».
٣  ولا بد أن العاصمة الإدارية في هذا العهد كانت مدينة «منف» (راجع: Griffith Ryl. Pa p. 3, 79 note 4: 97, note 2, 182).
٤  راجع ما كتبه «هردوت» (Herod. III 34) إذ نجد أن «قمبيز» قد استشار وحي «بوتو». وتَدُلُّ الأحوالُ على أنه في عهد الملك «دارا» الأول قد نشأتْ في «مصر» عبادة مؤسس الأسرة السابعة والعشرين؛ أي أنه «قمبيز» كما ذكر ذلك الأستاذ «جريفث» (راجع: Ryl. Pa p. III p. 30 note 1 & p. 132, No 10). حيث نجد أنه قد جاء في ورقة محفوظة في مدينة «برلين» (راجع: Berlin Papyrus N. 3110 (pl. 1, 10, 1)) ويرجع عهدها إلى السنة الخامسة والثلاثين من عهد الملك «دارا» الأول، أن الملك «قمبيز» كان له كاهن روح مما يدل في هذا العهد على أنه كان يُعبد، ولا بد أن نلحظ هنا أن سياسة الأخمينيسيين كانت دائمًا حسنة بالنسبة لآلهة البلاد التي فتحوها (راجع: Ed. Meyer Gesch, des Altertums 3, (1912) 56-57).
٥  وقد اعترف «مابرو» (راجع: Maspero Hist. Anc. 3, 668 note 4) بوجود عجلين «أبيس» في وقت واحد، غير أنه اعترف بأن هذا أمرٌ شاذٍّ (راجع: كذلك: Revillout Notice des Pa p. Dem. p. 386-387).
٦  ومنذ أن وضع «فيدمان» كتابه عن «مصر» (Wledmann Gesch. Aeg. 226-227) استعمل المؤرخون هذا التاريخ لتحديد تاريخ فتح «مصر» (راجع: عن ذلك «بورخارت» Borchardt, Die Mitteill. Zur Zeitlichen Festlegung von Punkten der Aegyptischen Gesehich. Und ihre anwendung. p. 64). حيث يقول: إنه في ٢٩ مايو ٥٢٥ق.م، كان «قمبيز» قد اعترف به فعلًا ملكًا على «مصر»؛ وذلك لأنه يحمل لقب ملك الوجه القبلي والوجه البحري، وأن هذا اليوم كان قد أرخ به على حسب سني حكمه غير أن المتن لا يقول إن «قمبيز» كان يوجد في هذه اللحظة في وادي النيل، بل يصف حادثًا بعيدًا عن شخص الملك، وهو ولادة عجل «أبيس»، وقبل كتابة هذا المتن بثماني سنين.
والواقع أنه في الوثائق الديموطيقية التي جاءتْ بعد الفتح الفارسيِّ؛ قد وجدنا أن السنين الأخيرة من حُكم «أمسيس» وتواريخ حكم «بسمتيك» الثالث — وهما معاصران لحكم «قمبيز» في بلاد «فارس» — قد حُذفت ووُضع مكانها سنو حكم الملك الفارسي.
قارن السنة ٢ (٥٢٨ق.م = السنة ٤٢ من حكم أمسيس) والسنة ٨ (٥٢٢ق.م) من عهد «قمبيز» في البردية رقم ٥٠٠٥٩ الموجودة بمدينة «القاهرة» (راجع: Cat, Geu. Spiegelberg, Dem Denkmaler 3, 42–45; Griffith Ryl. Pap 3, 105-106). ومن الممكن كذلك أنَّ نفس التغيير قد حدث في المتن رقم ٥، وعلى ذلك لا يُمكننا أن نؤكد أن التاريخ ٢٩ مايو سنة ٥٢٥ق.م كان الغزاةُ فيه فعلًا في «مصر»، وأن «بسمتيك» الثالث لم يكن جالسًا فعلًا على عرش الكنانة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤