الخلاصة

والآن بعد سَرْدِ تواريخ هؤلاء الملوك الذين حكموا بلاد السودان وهم بمعزل عن البلاد المصرية — بقدر ما وصلت إليه معلوماتُنا — نرى من الواجب علينا الاعترافُ هنا بأن المادةَ التاريخيةَ التي بَيْنَ أيدينا حتى الآن لا تَخرج عن سرد تواريخ حُكْمِ هؤلاء الملوك، وما كانت عليه مقابرُهُم المنهوبةُ مِن فقرٍ أو غِنًى، هذا بالإضافة إلى بعض لوحاتٍ أقامها بعضُ المُلُوك في المعابد التي أقامها ملوكُ الأسرةِ الخامسة والعشرين العظام بمثابة تذكار لهم وحسب، ذاكرين في النقوش التي خَلَّفُوها حُرُوبَهم وما قاموا به من أعمال جليلة لآلهتهم ومعبوداتهم في أنحاء البلاد، ونرى من خلال هذه النقوش؛ أنها كانت ترمي إلى غرضٍ واحد، وهو إرضاء الآلهة، أو بعبارة أخرى: إرضاء الكهنة الذين كانوا أصحاب القوة، وبخاصة كهنة الإله آمون.

هذا، وتدلُّ شواهدُ الأحوال على أن الشعب في ذلك الوقت لم يكن في بحبوحةٍ من العيش، فقد رأينا أنَّ الملوك كانوا يقومون بحملاتٍ تأديبية لقهر المغيرين من أهل الصحراء والبدو، وكذلك لقهر بعض الأقاليم السودانية نفسها عندما تشق عصا الطاعة، وفضلًا عن ذلك يلحظ من الأشياء التي تركها اللصوصُ الذين نهبوا مقابر الملوك والملكات الذين دفنوا في «نوري» وفي «مرو» أنه كان هناك انحطاطٌ تدريجيٌّ في الثقافة التي ورثها هؤلاء الملوك عن المصريين؛ فنجد أولًا أنه كان هناك نقص ظاهر في معرفة اللغة المصرية القديمة، وذلك أنه على الرغم من عِظم هرم الملك مالويبأماني نسبيًّا وغنى أثاثه الجنازي؛ فإنه يظهر من جهةٍ أُخرى أنه كان ملكًا ثريًّا ميسورًا، ولكن نجد بعد عصره حتى نهاية العهد المروي أن الأواني الفخارية التي وُجدتْ في مقابر مَنْ خلفه من الملوك كانت مصنوعة صناعة رديئة، كما أن صياغة الذهب كانت خشنة وغير مُتْقَنة.

يُضاف إلى ذلك أن مقابر الملوك، لم تكن تحتوي إلا على القليل من الأشياء المصنوعة من الخزف المطلي، وعلى النادر من جعارين القلب التي كانت مكتوبةً كتابةً رديئة خاطئة.

هذا، ولم تعد بعدُ الأواني المصنوعة من الحجر تُصنع محليًّا، والقليلُ الذي وُجد من الأواني المصنوعة من المرمر في مقابر الملوك والملكات؛ فإنه — على ما يظهر — قد جُلب من مصر!

أَمَّا النقوشُ التي كانت تُنقش على جدران مقاصير الملوك وحُجَر دفنهم؛ فكانت آخذةً في الانحطاط لدرجة أنَّ بعضها كان غاية في الرداءة والخشونة، أما اللغةُ المصرية فلم تكن تُفهم بعدُ، فكانت ثلاثة الأسماء الأولى من أسماء الملوك الخمسة التي كان يحملها عادة ملوك مصر؛ قد أصبحت ثابتة، وأصبحت تُنقل من ملك لآخر بوصفها جزءًا من الألقاب الملكية.

وليس لدينا من هذا العصر إلا ثلاثة نقوش تاريخية حتى الآن، أقدمها نقش الملك «أمان-نيتي-يريكي» الذي وُجد — كما ذكرنا من قبل — على جدران معبد الملك تهرقا «الكوة»، وقد كُتب باللغة المصرية القديمة، غير أن شكل الإشارات كان قد تدهور، ومِن الواضح أنه على الرغم من أن اللغة المصرية كانت لا تزال اللغة الرسمية للكتابة فإنها لم تكن لغة الكلام، ولا أَدَلَّ على ذلك من اسم هذا الملك الفَظِّ في نطقه وشكله، ويعني: «المولود من آمون «ني» (وكلمة «ني» معناها هنا البلد، وهو لقبٌ كان يُطلق على مدينة «طيبة»)، ومن المحتمل أنَّ هذا اللقب قد أتى مع آمون إلى «نباتا» وأصبح يُطلق على «نباتا».

وقد وصفت «نباتا» في هذا المتن بأنها الجبلُ المقدس لأرض «نحسي»؛ أي أرض الجنوبيين دالة بذلك على أنه كان يُنظر إليها فعلًا من قبل «مرو» بأنها إقليمٌ ناءٍ عنها، وهذا النقشُ قد ألف فيها. ويحدثنا النقشُ — كما ذكرنا سابقًا — كيف أن الملك كان في الواحدة والأربعين من عمره، عندما خلف الملك «تالخاماني» على عرش المُلك بعد موت الأخير في «مرو»، وهذا يؤكد أن ملوك السودان كانوا يقطنون «مرو» منذ زمن طويل قبل أن أصبح دفن الملوك فيها عادة متبعة، وفي زمنه كان قوم «رهرهس» — ويحتمل أنهم جزءٌ من «البيجا» — يغيرون على الإقليم الذي يقع بين النيل و«العتبرة» فأغاروا على الماشية واستولوا على بعض أسرى.

وقد أرسل الملك أولًا الجيش على «الرهرهس» وصدهم، ثم زحف — على ما يظن — بطريق البر من «مرو» إلى «نباتا» لأجل أن يتوج هناك، فوصل إلى «نباتا» في تسعةِ أيامٍ، وذهب إلى قصره في جبل برقل، وهناك أعطى القبعة الرسمية لأرض «النوبة» وهي التي بقيت تُستعمل في بلاد النوبة حتى القرن الثالث عشر الميلادي، (راجع: Arkell, A History of the sudan, p. 192, Fig. 24).

ثم ذهب إلى معبد «آمون رع» الذي يقطن الجبل المقدس حيث اعترف به «آمون» ملكًا على البلاد، وبعد ذلك انحدر الملك في النهر إلى «كارتن»، وهي أكبر بلد بين «نباتا» و«الكوة»، وموقع هذه البلدة لم يُحقق حتى الآن (كورتى؟) ومن المحتمل أنها كانت تقع على المنحنى العظيم للنيل، وقد أغار عليها سُكَّان الصحراء الغربية، وهم الذين يسمون «مدد» ويحتمل أنهم نفس «البيجا» (وبالمصرية مجو) مرة أخرى، وعلى ذلك أرسل عليهم الملك حملةً تأديبيةً قبل أن يسير إلى «الكوة» التي وصل إليها بعد سبعة عشر يومًا من مغادرته «نباتا»، وفي «الكوة» قدم له الإله قوسًا وسهامًا أطرافُها من البرنز، ثم غادرها إلى «بنوبس» التي كانت على مقربة من «الكوة».

ومن المحتمل أنها كانت المعبد الذي في جزيرة «أرجو»، والظاهرُ أنه قطع الرحلة في يوم واحد، وعند وُصُوله ذهب إلى معبد «آمون رع» في «بنوبس» وقدم له الإله أربعة أقاليم هدية كان قد استولى عليها بمساعدة آلهة هذه الأقاليم، وهي — كما جاءت في اللوحة التي ترجمناها — «جم-امن-ست»، «سكست» و«ترهت» «مورس»، ولم يعرف أماكنها، ولكن يظن أنها في أرض «المدد» (البيجا) الذين غزوا «كار تن»، ثم عاد بعد ذلك الملك إلى «الكوة» حيث أهداه الإله هناك سبعة أقاليم استولى عليها وهي «مركر»، «ارتكر»، «اشمت»، «جركن»، «ارم»، «تاي-نبت» و«ار»، وفي «الكوة» نظف الطريق المؤدي إلى معبد «آمون»، وكان قد طغى عليه الرمل لمدة اثنين وأربعين عامًا، وهناك زارتْه أُمُّهُ كما زارتْ تهرقا أمه في مصر، ثم تحدث مع الإله آمون وأمر بإصلاح بعض المباني.

والنقشُ الثاني هو لوحة الملك «حرسيوتف» التي ترجمناها في مكانها عند التحدُّث عن هذا الملك، ويرجعُ تاريخُ هذا المتن إلى السنة الخامسة والثلاثين من حُكم هذا العاهل، وقد عُثر عليها في «جبل برقل» وهي محفوظةٌ الآن بالمتحف المصري، ويُحدثنا المتنُ عن تِسعِ حملات قام بها هذا الملكُ على أعدائه في الأراضي المجاورة له، كما ذكر لنا أسماء أماكن مختلفة، ربما يُمكن تحديدُ موقعها يومًا من الأيام بدرجةٍ أكبرَ من الدقة، أكثر مما نعرفُهُ هنا الآن على ضوءِ كُشُوف حديثة.

فقوم «مجو» (وهم البيجا الحاليون) الذين يسكنون في الأراضي شبه القاحلة الواقعة في شرقي النيل، وقد حاربوا الملك «حرسيوتف» في ثلاث حملات قام بها عليهم كما نازله في ثلاث حملات أخرى قوم «رهرهس»، هم الذين غزو جزيرة «مرو» قبل عهده كما أسلفنا، وفي حملة أخرى هرب بعض الثوار من «اقنا» وهي في نطقها تشبه بلد: «اكن» وهي الميناء الواقعة على الشاطئ الغربي للنيل على مقربة من الشلال الثاني بالقرب من «بوهن»، إلى «أسوان»، وهذا يوحِي بأنه في هذا الوقت كانت بلاد النوبة السفلى (أي إقليم وادي حلفا – الشلال) لم تكن تابعةً لأحد، بل كانت مشاعة بين مملكة «كوش» وبلاد مصر.

ويُحدثنا «حرسيوتف» في أول متنه كيف أنه علم في منام رآه أن «آمون» قد منحه عرش البلاد، ثم سافر بعد ذلك إلى «نباتا» وقد استقبله «آمون» راضيًا عنه، ثم زار بعد ذلك معابد «جمأتون» «الكوة» و«بنوبس» (يحتمل أنها أرجو) ومحراب الآلهة «باستت» في «تار» (لم يحدد مكانها، ولكن يظهر أنها تقع بين «نباتا» و«مرو»)، وقد ذكر لنا نشاطه في إقامة المباني في «نباتا» وغيرها، كما ذكر الأعياد التي أسسها في اثنتي عشرة بلدة.

ومما يلفت النظر في نقوش هذه اللوحة أنها تُشبه ما جاء على لوحة «أمان-نيتي-يريكي»؛ وذلك لأن هؤلاء الملوك كانوا يُقَلِّدون بعضهم بعضًا، من حيث الفُتُوح والمباهاة في التغالي في خدمة الإله «آمون» والخضوع لكهنته، وهذه كانت عادةً أصيلة عرفناها في ملوك مصر، عندما كان الفرعون منهم ينقل البلاد التي فتحها أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة نقلًا أعمى وينسب فتحها لنفسه دون استحياء.

والنقش الأخير هو الذي تركه لنا الملك «نستاسن» (٣٢٨–٣٠٨ق.م)، وهذا الملكُ هو آخرُ عاهل لكوش دُفن في جبانة «نوري»، وقد تَحَدَّثْنَا عن هذا المتن طويلًا فيما سبق، والخلاصةُ أنه قد تولى عرش المُلك حوالي الوقت الذي ضم فيه «الإسكندر الأكبر» أرض الكنانة إلى إمبراطوريته المنقطعة النظير. وتقصُّ علينا لوحة «نستاسن» كيف أنه طلب إليه وهو في «مرو» الذهاب إلى «نباتا» حيث نصبه آمون على «الت» التي يحتمل أنها «ألوا» وهي الإقليم الذي يقع حول الخرطوم، وكانت «صوبه» (التي تقع على بعد اثني عشر ميلًا فوق الخرطوم) عاصمته، ولم يعمل في «صوبه» هذه أعمال حفر علمية إلا مجسات قليلة غير أنه يوجد الآن في أرض كتردائة «الخرطوم» تمثال كبش عليه نقش باللغة المروية وكان قد أوتي به من صوبه إلى الخرطوم، والذي أحضره هو غوردون، وهذا يدل على أن بلدة «صوبه» في هذا الوقت كانت ذات أهمية ملحوظة.

وقد زار «نستاسن» معابد «الكوة» و«بنوبس» و«تار» عند تَوَلِّيهِ عرش الملك، كما فعل ذلك من قبل «حرسيوتف»، كذلك قام بعدة حملات حربية في أنحاء بلاده مِمَّا يُوحِي بِأنَّ البلادَ لم تكن في سلام، بل كانت الأخطارُ تزداد فيها بدرجةٍ عظيمة، والواقعُ أنه كان في مقدور قوم «البيجا» أن يسرقوا من معبدَي «الكوة» و«تار» أشياءَ من الذهب كانت في أمان منذ عهد الملك «اسبالتا»، وفي كلا الحالتين لم يقبض على اللصوص، واضطر الملك أن يصنع بدلًا منها من ماله الخاص في معبدي هذين الإلهين.

وبعد عهد هذا العاهل تبتدئ بلاد كوش عهدًا جديدًا، خارجًا عن نطاق هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤