العادات واللغة والعمارة في بلاد «فارس» القديمة

مقدمة

تدلُّ ظواهرُ الأحوال على أن الميديين والفرس كانا يعيشان في الأزمان القديمة عيشةً متشابهة، ولما كانت الأحوال الجوية والاجتماعية لم تتغيرْ في كلا البلدين؛ فإننا لن نكون قد ذهبنا بعيدًا عن جادة الصواب إذا قلنا: إنهم كانوا قومًا أحرارًا محاربين، يَتَّسمون بسمات الرجولة التي يتسم بها البدوُ في أيامنا، وإن بعضهم على أية حال قد انحدر من أصلاب أجدادهم القدامى. وهذا الرأي عن أخلاقهم كان يعترف به الإغريقُ، وإذا كان الإغريقُ قد نالوا شهرةً أبديةً في الدفاع عن «هيلاس»؛ فإن جزءًا من هذه الشهرة، قد ناله الفُرس الشجعانُ الذين على الرغم من انحطاط نوع الأسلحة والدروع التي كانوا يُدافعون بها في حُرُوبهم مع الإغريق الذين كانوا قد سُلِّحوا بأحسن الأسلحة؛ حاربوا في موقعة «بلاتا Plataea» ليقتحموا صفوف الإغريق ويجدوا لأنفسهم طريقًا غير مبالين بحياتهم.

عادات الفرس

مما لا نزاع فيه أن الحيوية التي يُعبَّر عنها بالشجاعة والعزيمة هي أحسن ذخر تستند عليه الفضائل الإنسانية الأخرى، ولا نِزاع في أن الفرس القدامى قد تعلموا بوجه خاص «امتطاء صهوة الجواد، ونزع القوس والتحلي بقول الصدق»، وكذلك كانوا يتحاشون ذل الدين كما كانوا كرماء لضيوفهم، وقد ضرب لنا «هردوت» مثلًا في كرمهم، وذلك أن إغريقيًّا كان قد حارب حتى غطى جسمه بالجروح دفاعًا عن سفينته، ولما أعجب الفرس بشجاعته ورأوا أن جروحه لم تكن مميتة ضمدوها وعاملوه معاملة الشجاع المغوار، وقد كانوا يعتبرون البيع والشراء في السوق سُبَّة، وحتى اليوم لا نجد فارسيًّا ذا مكانة يتنازل بالدخول في حانوت لشراء حاجياته.

ولكن نجدُ مقابلَ هذه الصفات الحسنة أنَّ الفارس كان ينقصُهُ ضبطُ النفس، سواء أكان ذلك في السراء أم في الضراء، يُضاف إلى ذلك أنه كان محبًّا للزهو والصلف إلى حَدٍّ كبير، كما كان محبًّا للبذخ، وهذه صفات نجدها في كل الأمم ذات الثراء، والفرس كسلالة كانوا — ولا يزالون — مشهورين بحدة البصيرة وسرعة الجواب، والنكات التي تكون أحيانًا في منتهى المكر.

هذا، وكان الفرس معروفين بإسرافهم وبخاصة في الطعام، وقد ذكر لنا «هردوت» أنهم كانوا يأكلون ألوانًا قليلة أصيلة، ولكن كانوا يقدمون ألوانًا كثيرة بمثابة حلوى، غير أن ذلك لم يكن دفعة واحدة، أما ولائمُهُم وفخامتها وبذخها فسنشيرُ إليها عند التحدث عن حياة ملوكهم.

هذا، وقد كان الفُرس مثل الإغريق والسيثيين يعكفون على الكاس والطاس، ويقول «هردوت» إنهم كانوا يستقرُّون على مسافة هامة، وهم سكارى في المساء، وبعد ذلك في الصباح إذا رأوا أنه لا داعي لتغيير رأيهم الذي استقروا عليه فإنهم ينفذونه، وكان الفارسي يعتبر إنجاب ذكور عدة ثروة، وأكبر مثال على ذلك أن «فتح علي شاه» قد ترك بعد مماته ثلاثة آلاف مِن نسله، وقد كان ذلك سببًا في رفع مكانته بدرجة تفوق المألوف بين رعاياه.

القوانين

كان قانون الميديين والفرس الذي لم يتغير — على ما يظن — غايةً في الصرامة، غير أنه لم يكن أحزم من قوانين الإمبراطوريات التي سبقتْها على وجه التأكيد، فكان الملك يفعل ما يريد غير أنه لم يكن في استطاعته أن يغير أمرًا كان قد أصدره، وكانت حياة رعاياه وأملاكهم تحت رحمته، ولكن في الوقت نفسه كان الخوف من القتل هو الذي يخفف من حدة إساءة استعمال الحقوق، وكان القانون الجنائي، وهو الذي جعل الموت — وذلك بحق — عقابًا على القتل وهتك الحرمات والخيانة، وما شابه ذلك من جرائم فظيعة. ويظهر أنه كان يطبق كذلك على الجرائم الأقل قسوة، ولكن من جهة أُخرى نجد أن في معاملة بلد فطري أهله متوحشين لا سجون منظَّمة فيه؛ كان من المستحيل الحكم بالموت أو التشويه في حالة محاكمة اللصوص وغيرهم من أصحاب الأخلاق الفاسدة، وقد كانت العقوباتُ بالإلقاء في النار ودفن الفرد حيًّا وسلخ الجلد والصلب شائعةً في ذلك الوقت كما كانت في «آشور» من قبل.

مركز المرأة

كان تعدُّد الزوجات مباحًا، وكانت الطبقات العُليا يضعون نساءَهم في الخُدُور كما كانت المحفات المستورة تستعمل لحملهن في الأسفار.

هذا، وكانت المرأة لا تظهر في الكتابات ولا في النقوش المصوَّرة، ولكن من جهة أُخرى لم تكن المرأةُ الريفيةُ محجبة، ومن المحتمل كان مركزها أحسنَ حالًا من أخواتها اللاتي كان محرمًا عليهن الظهورُ في المجتمعات أو استقبال آبائهن أو إخوتهن.

ولما كانت هذه هي القاعدة العامة في الشرف؛ فإن نساء الفرس كن يشاطرنهن فيها، غير أن سبب انحطاط الفرس كدولة عظمى يكمن في أنها كانت تصرف طول يومها في الغزل وفي الأعمال المنزلية الأخرى، الفرس كانوا يعتقدون أن المرأة إذا قامت بعمل ما فإنه يُعَدُّ حَطًّا من قدرها، وقد كان مثلهم الأعلى في هذا الصدد أقل بكثير من المثل الأعلى للمرأة الإغريقية، وذلك أن المرأة الإغريقية على الرغم من أنها كانت حبيسة في بيتها فإنها كانت تصرف طوال يومها في الغزل وفي الأعمال المنزلية الأخرى.

الملك وبلاطه

ليس هناك دولةٌ في العالم كانت حياتُها متركزة حول الملك أكثر من الفرس،١ وعلى ذلك فإن وصف مركز الملك وحياته يقدم لنا صورة حقيقة عن الأحوال في «إيران» بعد أن أصبحت الإمبراطوريةُ الفارسيةُ قائمةً على أساسٍ مكينٍ، كان الملكُ هو الحاكمَ المطلقَ والموردَ الوحيدَ للقانون والشرف، فقد خَصَّ نفسه بالعظمة، فكان هو الرجلَ الوحيدَ الذي على أخلاقه وقدرته تتوقفُ سعادةُ البلاد وشقاؤها؛ لذلك كان المنتظر منه أن يراعي عادات البلاد، وكان عليه أن يستشير الأشراف، كما كان لزامًا عليه أن يحترم القرارات التي أصدرها، وكان ثوبه الملكي الأرجواني الذي يرتديه هو الثوب الميدي الموقر الفضفاض، وكان يلبس على رأسه عمامة عالية ذات لون بَرَّاقٍ (لا يلبسها إلا الملك)، وقد جاءت صورتها في نقوش مدينة «برسيبوليس Persepolis»، وكان يحلِّي أذنيه بقرطين ويديه بأساورَ، كما كان يَتَحَلَّى بسلاسلَ وحزامٍ كُلُّها من الذهب، وقد ظهر في النقوش قاعدًا على عرش منمَّق، وله لحيةٌ طويلةٌ وشعر مجعد ويقبض في يده على صولجان مدبب مُرَكَّب في نهايته تفاحةٌ من الذهب، ويقف خلفه تابعٌ وفي يده المروحة اللازمة، ويقف عند رأس البلاط قائدُ الحرس الذي كانت رتبتُهُ — بطبيعة الحال — من أهم الرتب، وكان كبار الموظفين يشملون المدبر الأول للقصر، ورئيس البيت، والخصي الأول، يُضاف إلى هؤلاء عينا الملك وأُذُناه أو الشرطي السري، والتشريفاتي، وحامل الكأس والصيادون والرسل والموسيقيون والطباخون، وكلهم كانوا ضمن رِجَال البلاط.
وقد ذكر لنا المؤرخ «كتسياس Ctesias» أنَّ الملك كان يُطعم يوميًّا خمسة عشر ألفًا من الشعب، وأنه كان يقدم في طعامهم الغنمَ والماعزَ والجمالَ والثيرانَ والخيلَ والحميرَ، وكانت النعام والإوز تؤكل أيضًا، كما كانت تؤكل لحوم كل أنواع الصيد. وكانت تُقَدَّم للملك مائدةٌ منفردةٌ، غير أن الملك أحيانًا، وكذلك أولادُهُ المقربون يُسمح لهم بالأكل معه، وهذه العادةُ لا تزالُ شائعةً في «فارس» حتى الآن، وقد كان الملك يمعن في السكر وهو متكئٌ على الأرائك الذهبية، وفي الولائم الكبيرة كان يرأسها بنفسه، وكانت أطباقُ الذهب والفضة عديدةً معروضةً بأُبَّهة وفخار — كما هي الحال في البلاط الإنجليزي الآن.

وكانت الحرب والصيد من دأب ملوك الفرس، وما دامتا مستمرتين فإن شباب الملِك كان دائمًا محفوظًا، وكان من عادة الملِك أن يحتل وسط خط القتال، وكان يُنتظر منه أن يُظهر شجاعة وبطولة، أما في الصيد فكان الملك يطارد الحيوان المفترس بمساعدة الكلاب، وكان من عادته أن يتبع في صيده الطرق الآشورية، فكان الحيوان يحفظ في سياج ضخمة تُدعى «بييري-داساه» ومنها اشتقت كلمة الفردوس التي سمي بها الشاعر المشهور، وقد سبقهم في هذا النوع من الصيد قدماء المصريين.

هذا، وكان صيدُ الحمير البرية من أنواع الطرد المحبب لدى الملوك، فكانوا يطاردونها بالخيل التي عمل لها محاط، إلى أن تقع فريسة في أيدي الصيادين، (راجع: Xenophon Anabasis 1, 5, 2).

أَمَّا في داخل القصرِ فَكَانَ الملك يسلي نفسه بلعبة الشطرنج، ولقد كان من المفروض أن الملوك الذين تركوا كل شيء لوزرائهم يشعرون بالسأم، كما هي الحال الآن مع طلاب اللهو، ومن ثم نقرأ عن حالات نشاهد فيها أنَّ الملك كان يُسَلِّي نفسه بهواية مثل الحفر أو حتى مسح الخشب بالفارة.

ومن الغريب أنَّ مُلُوك «فارس» على وجهٍ عام، كانوا أُميين على خلاف ملوك «آشور»، ومن المدهش أن هذه العادة لا تزال موجودةً حتى يومنا هذا في بعض كبار الموظفين! وكان يأتي بعد الملك رؤساء الأُسر الذين يُعرفون باسم «الأمراء السبعة»، وكان من حقهم طلب الدخول على الملك في أيِّ لحظة، إلا إذا كان في خدر نسائه، وقد كانوا — في العادة — يشغلون وظائفَ عالية، ويؤلفون مجلسًا مستديمًا، ومِنْ بعدهم تأتي فروعٌ صغيرةٌ، وأتباعٌ من الأُسر الكبيرة.

هذا، وقد كانت جماعة التجار يُنظر إليها بعينٍ مِلْؤُها الاحتقارُ الشديد، ومِن ثم نفهم أنه لم تكن هناك طبقةٌ متوسطةٌ بين الأشراف وعامة الشعب، وكان الفردُ من الرعية إذا سُمح له بالدخول في المجلس ينبطح على الأرض عند الدخول على الحضرة ويداه مختفيتان عن الأنظار، وهذه العادة لا تزال موجودة حتى الآن.

وقد حَدَّثَنا هردوت عن تسليحِ الفُرس، فيقول إنهم كانوا يلبسون على رءوسهم عمامةً ناعمةَ الملمس تُسَمَّى Tiaraويرتدون قمصانًا من ألوانٍ مختلفةٍ لها أكمامٌ تظهر في شكلها أنها مؤلفةٌ مِن قُشُور من حديد مثل قشر السمك، وكما كانوا يرتدون سراويلَ، وبدلًا من الدرع العادي كانوا يلبسون درعًا من البوص المجدول تحته قوس، وكانوا يتسلحون بحرابٍ قصيرة وخناجرَ معلقة على الفخذ الأيمن من الحزام.

وكانت الملكة سيدة في حريمها، وكان من حقها أن تلبس الإكليل الملكي الذي يجعلها سيدة على زوجات الملك الأخريات، وكان لها دخلٌ عظيمٌ خاصٌّ بها، كما كان لها موظفون وخدم خاصُّون بها، وعندما كانت ملكة ذات خلق عظيم تحتل هذا المنصب فإن نفوذها يكون عظيمًا، أما النساء الثانويات فلم يكن لهن نفوذ يُذكر نسبيًّا، وكانت مئات الحظيات تأتي كل واحدة منهن ليلة إلى فراش الملك اللهم إلا إذا اجتذبت إحداهن قلب الملك بصفة خاصة.

وقد كان مركز الملكة نفسُهُ عرضةً لأنْ يخسف بوساطة أم الملك التي كانت لها المكانة الأُولى في البلاط، ولا أَدَلَّ على ذلك من الأعمال التي أتتها «أمستريس Amestris»، زوج الملك «أكزركزيس الأول» — كما سنرى بعد — وكان الخصيان عديدين في القصور الملكية، وعندما كانت تنحدر الأسرة المالكة في طريق الترف والنعيم فإن نفوذ هؤلاء الخصيان السيئ كان يفسد الأمراء الصغار الذين كان يقوم على تربيتهم هؤلاء الخصيان، ولا بد أنَّ تكاليف بلاطٍ كالذي وصفناه كان حملًا ثقيلًا على الإمبراطورية، وقد ظل كذلك حتى الآن.

هذه كانت العاداتُ الهامةُ الشائعةُ في أُمَّة الفُرس، ولا نِزَاعَ في أنَّ الطيب منها يربي على السيئ، وعندما نأخذ — بعين الاعتبار — ما لديانتهم من مبادئَ ساميةٍ سليمة؛ فإنه لا يُدهشنا قَطُّ أنَّ هؤلاء القوم الآريين قد أسسوا إمبراطورية عظيمة، وسيطروا على ما فيها مِن أقوامٍ ينتسبون إلى السلالتين السامية والتورانية، وهضموا مدنيتيهما.

لغة الفرس القديمة

يرجع الفضل في حل معميات اللغة الفارسية إلى مجهودات «جروتنفند ولاسن» وبصفة خاصة إلى «سير هنري رولنسن»، وهي اللغةُ التي كان يتحدث بها «كورش»، وإنه لمن المهم — بنوع خاص — أنْ نَعلم أن الكثير من كلماتها مثل الكلمة الدالة على حصان وجمل … إلخ التي استعملها الفرسُ الأقدمون؛ لا تزال باقيةً في الفارسية الحديثة، والواقعُ أن اللغة كانت فارسيةً قديمة، والنظرية القائلة إن الكتابة الفارسية مشتقةٌ من الكتابة الآشورية مقبولةٌ عندما نعلم ما كان للآشوريين من تأثير على بلاد «ميديا» و«فارس».

نقش «دارا» الثلاثي في «بهيستون Behistun»

ترك لنا الملكُ «دارا» نقشًا على صخرة عالية من صخور سلسلة جبال بالقرب من «همدان»، ويرجعُ الفضلُ في التعرُّف على هذا الأثر وحَلِّ رُمُوزه إلى الأثري «رولنسن» الذي عانى كثيرًا في نقله مِن على الصخرةِ التي يبلغ ارتفاعُها حوالي أربعة آلاف قدمٍ، وقد ترجم المتن أخيرًا كل من «كنج» و«طومسون»، وهذه هي أحدثُ ترجمةٍ يُعتمد عليها حتى يومنا هذا.

وقد مثل على هذه اللوحة الملك «دارا» يتبعُهُ موظفان عظيمان من رجال دولته، ويظن أن أحدهما هو حموه المسمى: «جوبرياس Gobryas» وهو منتصر على أعدائه، ويظهر الملك وهو يطأ بقدمه اليسرى «جوماتا» الماجوسي، وهو ممثل ملقًى على ظهره وذراعُهُ مرفوعة تضرعًا للملك، ويشاهد في الأمام سبعةُ عصاة رُبطوا معًا بأيديهم مغلولة، وقد ذكر اسم كل واحد منهم معه، وفوق ذلك يرفرف الإله «أهورامازدا» وقد رفع له الملك «دارا» يده اليمنى تَعَبُّدًا وخشية.

نُقش هذا الأثر الخالد بثلاث لغات، وهي: الفارسية والعيلامية الجديدة، ثم البابلية، ويقدم لنا ألقاب الملك «دارا» واتساع مملكته، ثم يشير بعد ذلك إلى موت «بارديا» أو «سمرديس» على يد «دارا»، والثورة التي قام بها «سمرديس» الدجال، وهو «جوماتا» الماجوسي في أثناء غياب «قمبيز» في «مصر»، وقد جاء ذِكْرُ موت هذا المدعي على يد «دارا» بشيءٍ من التفصيل، ثم يأتي بعد ذلك الثورات التي قامتْ على «دارا» بالتطويل وينتهي النقش باستحلاف الحُكَّام الفُرس المقبلين أن يحذروا الدجالين كما يستحلف القارئ أن يحفظ النقش من العطب.

وقد صب الملك العظيم اللعنة على كل من يخرب هذا الأثر في الكلمة التالية: يقول «دارا» الملك: إذا نظرت هذه اللوحة وهذه النقوش وكسرتها ولم تحافظ عليها طوال استمرار نسلك؛ فإذن ليت «أهورامازدا» يذبحك، وليت نسلك يُمحى، وكل شيء تعمله ليت «أهورامازدا» يقضي عليه.

وإنه لَمِنَ المستحيل أن نقدر هنا ما لهذا النقش الثلاثي من أهمية؛ إذ لا تقتصر أهميتُهُ على ما له مِن قيمةٍ أثرية وحسب، بل أكثر من ذلك وبخاصة لما يُلقيه من أضواء على الكتابة المسمارية والبابلية والآشورية، وهي التي أصبح حَلُّها ممكنًا بوساطة شرح هذه الوثائق الفارسية.

باسارجادا (مورغاب)

كانت «باسارجادا» عاصمة بلاد الفرس وتُعرف كثيرًا باسمها اليوناني «برسيس Persis» وموقع هذه العاصمة يختلف عن العاصمة الحديثة التي جاءتْ بعدها، وهي «برسيبوليس» وذلك أن «باسارجادا» تقعُ في مكانٍ منعزل في وادٍ صغيرٍ، في حين كانت «برسيبوليس» تطل على سهلٍ فسيحٍ وتقعُ الأُولى في الشمال الشرقي من الثانية، وتحتوي «باسارجادا» على آثارٍ قيمةٍ نَخُصُّ بالذكر منها «تخت سليمان»، وهو عبارة عن طوار مُقام على قمة تل صغير، وهو مبنيٌّ بأحجارٍ ضخمةٍ من الحجر الأبيض، كان بعضُها متصلًا بالبعض الآخر بوساطة مشابكَ من حديد، وقد وجد فيها قطعة واحدة ضخمة من الحجر الجيري مُثل عليه صورةُ الملك «كورش» العظيم وروحُهُ، وقد نُقش عليها: «إني «كورش» الملك الأخمينيسي»، وقد مثل الملك في هذا الحجر بصورة أكبر من الحجم الطبيعي … وتدلُّ صناعة نحته على أنه يرجع إلى الفن الآشوري من حيث الجناحين وثوبه المهذب٢ ووجهه آرِيُّ الملامح، ومن المحتمل أن هذه أول صورة آرية لملك عظيم حُفظت لنا على مدى الدُّهور، وقد عُثر على قبر «كورش» في هذه المدينة أيضًا، ويُقال إن الذي وضع تصميمه مهندسٌ إغريقيٌّ، وكان القبرُ في الأصل مُحاطًا بقاعة عمد لا تزال قواعدُ بعضها باقيةً حتى الآن في مكانها.
وهذا القبرُ يُعرفُ باسم «مشهد أُمِّ سليمان» والقبر قد أُقيم على مبنًى يتألف من سبعة مداميك من الحجر الجيري الأبيض، ويقول: «آريان Arrian» إن النقش التالي قد كُتب عليه: يا أيها الإنسان إني «كورش» بن «قمبيز» الذي أسس دولة الفرس وكان ملك «آسيا»، لا تحقد عليَّ إذن بسبب هذا الأثر (راجع: Ten Thousand Miles etc, p. 328). ويقول المؤرخ «سيكس Sykes»: إنه يشك في وجود أثر آخر له أهميةٌ عُظمى من الوجهة التاريخية، يُمكنُ أن يفوق في نظر الآريين قبر مؤسس الإمبراطورية الذي دُفن منذ حوالي٢٤٤٠ سنة خلت.

قصور «برسيبوليس»

تقع «باسارجادا» على الجُزء الأعلى من نهر «بولفار Polvar» ويفصلها عن «برسيبوليس» سلسلةُ جبال شامخة، وسهل «مرداشت Merdasht» الذي تقع فيه «برسيبوليس» وهو خصبُ التربة وحَسَنُ الموقع؛ إذ كان يزوره في فصل الربيع الملك العظيم، وتحتوي «برسيبوليس» على عدة آثار هامة أهمها «تخت جامشيد Jamshed» أو عرش جامشيد الذي أشار إليه «عمر الخيام» في شعره حيث يقول:
يقولون إن الأسد والضب يحرسان
القصور التي نعم فيها «جامشيد» وثمل

وهذا التختُ الجبار يبلغُ ارتفاعُهُ حوالي ٤٠ قدمًا عن رقعة الوادي الذي يُطِلُّ عليه، ويبلغُ طولُهُ حوالي ١٥٠٠ قدم، في حين أنَّ تخت «باسارجادا» لا يَزيد طولُهُ على ٣٠٠ قدم، ويبلغ عرضُهُ حوالي ٩٠٠ قدم، وهو في صناعته يُشبه تخت «باسارجادا» ويُشاهَد فوق هذا الطوار أو التخت خارجةٌ مدهشةٌ، أقامها الملك «أكزركزس» الأول ببوابتها الضخمة تكنفها ثيرانٌ مجنحةٌ، يُلمح في صنعتها الفنُّ الآشوريُّ، وقد جاء في النُّقُوش التي نُقشتْ فوقها ما يأتي: «أتى «أكزركزس» الملك العظيم، ملك الملوك، ملك ممالك عدة ذات ألسُن مختلفة، ملك هذا العالم، ابن «دارا» ملك الأخمينيسيين، أن «أكزركزس» الملك العظيم يقول: إنه بفضل «أورموزد» أقمتُ هذه البوابة التي مثل عليها كل الممالك.» ولا تزال بعض أعمدة هذه الخارجة وتماثيلها باقية وإن كان الدهر قد براها.

ولا نزاع أن هذه الخارجة تؤلف المدخل إلى القصر العظيم، الذي كان يُعَدُّ مفخرة «برسيبوليس»، وهو الذي كان قد أقامه «أكزركزس»، ويحتوي على قاعاتٍ عدة، وبخاصة قاعة «أكزركزس» التي كانت تحتوي على اثنين وسبعين عمودًا، لم يَبْقَ منها إلا اثنا عشر عمودًا، وقد عُثِرَ فيها على نُقُوش هامة. وكذلك وجد على هذا الطوار قصر الملك «دارا»، وعلى الرغم من أنه أصغرُ من قصر «أكزركزس» فإنه ذو أهمية، ومن المحتمل أنه كان يحتوي فقط على الحجرات التي كان يسكن فيها الملك.

ولكن يوجد خلف الطوار قاعة مائة العمود، وكانت أكبر المباني في هذه المدينة، ولها خارجةٌ عظيمةٌ في الجهة الشمالية، وكان يحرس هذه الخارجةَ تماثيلُ ضخمةٌ وبابان يؤديان إلى داخل القاعة، والنقوش التي على العرش غايةٌ في الجمال، وهي تمثل الملك العظيم على عرشه يحمله صفوفٌ مِن رعاياه، في حين يرفرف فوقه الإله، ومن المحتمل أن ما جَعل لقاعة مشورة «دارا» الفخمة هذه أهمية أكثر مِن أيِّ مبنًى غيرها؛ هو أنها كانت نفس القاعة التي كان يولم فيها «الإسكندرُ» ولائمَه عندما دخل «فارس» فاتحًا.

المقابر المنحوتة في الصخر

لقد أظهرتْ قصور مدينة «برسيبوليس» ما كان للملك العظيم من عظمة وقوة، ولكن المقابر الصخرية التي تقع في غربها، وهي التي نقلت عن طراز المقابر المصرية؛ لها جلالٌ أكثرُ روعة ورهبة، والواقعُ أنه لا نزال نُشاهد أربع مقابر منحوتة في واجهة جبل عمودي، لكلٍّ منها بابها المصنوعُ من الحجر على الطراز المصري؛ إذ يمثل واجهة قصر له أربعة عمد، يقع بينها المدخل وفوق هذا المدخل يشاهد عرشٌ يتألفُ من طبقتين كل منهما محمولٌ بسور من الأعمدة من طراز عمد قاعة المائة عمود، ويُشاهَد الملك قابضًا على قوس بيده اليسرى في حين أنَّ يده اليمنى مرفوعة تضرعًا للإله «أهوراماذدا» الذي يرفرف فوقه، ومن بين هذه المقابر مقبرة الملك «دارا» الأول وتبلغ مساحتها ٦٠ × ٢٠ قدمًا، وكانت قد بُنيت لتسع ثماني جثث.

الآجر المشغول بالميناء

عُثر في مقبرة الملك «أرتكزركزس» (منمون) في «سوس» على إفريزين فخمين وهما إفريز الرماة، وهو يؤلف أجمل مثال من الميناء ذات الألوان المختلفة المشغولة على الآجر وارتفاعه حوالي ٥ أقدام، وهو يمثل موكبًا من المحاربين نقشوا نقشًّا بارزًا بالحجم الطبعي، وهؤلاء المحاربون من كل لون، وتدل حرابهم ذات العقد الذهبية على أنهم «الخالدون»، وهم الذين يمثلون في نظر العالم المتمدين فخار وأبهة وقوة الملك العظيم، والثاني هو إفريز الأسود، وهو كذلك ذو ألوان مختلفة، وقد مثلت الأسود وهي تخطو إلى الأمام فاغرة أفواهها.

الصياغ الأخمينيسيون

كشف عن كنز على شاطئ نهر «أموداريا» منذ عهد قريب جدًّا، موجود الآن بالمتحف البريطاني، ويلفت النظر في هذا الكنز نموذج عربة فارسية قديمة من الذهب، وكذلك صورٌ من الذهب Armilla، وهي تدلُّ على ما وصل إليه فَنُّ الصياغةِ من الإتقان في عهد الأخمينيسيين.

صناعة البرنز

هذا، وقد عُثر في بلدة «خينامان» الواقعة غربي «كرمان» على عدة آلات من البرنز، منها بلطةٌ رسم عليها صور دب ونمر ووعل.

والخلاصةُ من كل ما سبق في هذا الفصل هي أن بلاد «فارس» قد قلدت بحرية من حيث فنونها ومبانيها الممالكَ العظيمة التي احتكت بها، وبخاصة أخذت عن «بابل» و«آشور» و«مصر» و«هيلاس»، غير أنها لم تقلد هذه البلاد تقليدًا أعمى، ويُلحظ ذلك حتى في تقليدها التماثيل الضخمة التي أخذتها عن «آشور» فإنها لم تأخذ إلا مكانًا ثانويًّا في القصور البديعة التي أقامها ملوك الأخمينيسيين، وهي التي نُشاهد فيها الروعةَ والجلال عندما تكون مزدحمةً برجال الجيش والقصر، ولا بد أنها كانت تؤثر في نفس أعظم ناقد من المواطنين الآثنيين، وذلك على الرغم من أن الغرض من إقامتها هو تفخيمُ الملك العظيم وإظهار عظمته.

١  يُستثنى من ذلك الفرعون في مصر فإنه كان إلهًا، والإله لا مَرَدَّ لقوله؛ لأنه يحكم على حسب شريعة «ماعت» التي شرعها إله الشمس «رع» عندما حكم على الأرض («ماعت» معناها العدالة).
٢  انظر [ملحق الصور].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤