النقوش الهيروغليفية والفارسية التي وصلت إلينا عن القناة

أوردنا حتى الآن المصادرَ الثانوية التي وصلت إلينا عن القناة التي تُوصل بين البحرين، وهي عديدةٌ، ولكن مما يؤسَف له جد الأسف أنَّ المصادر الأصلية المنقوشةَ عن هذه القناة من العهد الفرعونيِّ ضئيلةٌ جدًّا، غير أنَّها على ضآلتها غايةٌ في الأهمية؛ لأنها تؤكد ما جاء في المصادر الإغريقية واللاتينية والعربية بصفة قاطعة، والوثائقُ المنقوشةُ التي في مُتناولنا حتى الآن اثنتان، إحداهما ترجع إلى العهد الفارسي حوالي عام ٥٢١ق.م، والأُخرى ترجعُ إلى العهد البطلميِّ حوالي عام ٢٠٥ق.م، وسنتكلمُ عن كلٍّ في مكانه الزمني، حسب الترتيب التاريخي؛ أي أننا سنتناولُ هنا الكلام عن القناة وتَقَلُّباتها في العصور التاريخية مِن أقدم العُهُود حتى العهد العربي، فنتحدثُ أولًا عن قناة «الجفار» وقناة «سيزوستريس»، فقناة «نكاو»، فقناة «دارا»، فقناة البطالمة، وأخيرًا قناة العرب، أو «خليج أمير المؤمنين».

قناة الجفار

انظر الكلام عنها فيما بعد.

قناة سيزوستريس

تاريخ إنشاء «قناة سيزوستريس»

إن المُطَّلِع على ما جاء في كتابات المؤرخين القدامى، من إغريق ورومان وعرب؛ لا يكاد يَشُكُّ في أنه كانت توجدُ قبل عهد الفرعون «نكاو الثاني» أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين (حوالي ٦٠٩ق.م) وصاحب مشروع حفر قناة تربط بين البحرين؛ مواصلاتٌ مائيةٌ تربطُ بين النيل والخليج العربي (= البحر الأحمر)، ومن جهة أُخرى ليس هناك شَكٌّ في أنه كانت توجدُ في الأصل مواصلاتٌ طبيعيةٌ حَلَّ مَحَلَّهَا — بمرور الزمن — حفر قناة من صنع الإنسان، وإذا كان كل من «هردوت» و«ديودور» قد أرجع القناة إلى ما قبل حُكم الفرعون «بسمتيك الأول» (٦٦٣–٦٠٩ق.م)، فإن كُلًّا من «استرابون» الجغرافي و«بليني القديم» قد نسب شرف حفرها للملك «سيزوستريس» أحد مُلُوك الأُسرة الثانية عشرة، الذين كان يسمى بعضُهُم بهذا الاسم.

هذا، ونجد أن بعض مؤرخي العرب — وبوجه خاص «شمس الدين المقريزي» — قد نَسَبَ حفرها لملكٍ مصري يُدْعَى «طرسيس بن ماليا» أو «طرطيس بن ماليا» الذي عاصر — على حسب زعمهم — «إبراهيمَ» عليه السلام.

تحديد عهد «إبراهيم» على وجه التقريب في التاريخ

ولا يبعد أنَّ «إبراهيمَ» كان فعلًا معاصرًا للملك «سيزوستريس» «سنوسرت» الثاني أحد ملوك الأُسرة الثانية عشرة، وأن اسم «طوطيس بن ماليا» أو «طرسيس بن ماليا» هو تحريف الاسم «سيزوستريس»، وتدلُّ ظواهرُ الأُمُور على أن «إبراهيم» قد عاش في الفترة حوالي ٢٠٠٠ق.م، وهي نفسُ الفترة التي عاش فيها ملوكُ الأسرةِ الثانية عشرة المصرية — على أغلب الظَّن.

منظر مقبرة «خنوم حتب» ﺑ «بني حسن» وعلاقتُهُ بزيارة «إبراهيم» المزعومة ﻟ «مصر»

ومما يَطيب ذِكرُهُ في هذا المقام أن لدينا منظرًا في مقبرة من مقابر جبانة «بني حسن» معاصرًا للملك «سنوسرت الثاني» يقرب نظرية تحديد عهد «سيزوستريس» الثاني بعد ظهور سيدنا «إبراهيم»، وهذا المنظر يمثل وصول رئيس من البدو يصاحبه أسرته وأتباعه إلى «مصر»، ويُشاهَدون في هذا المنظر وهم يقدمون الخضوع لحاكم مقاطعة «بني حسن» وهو أحد المقربين من الفرعون «سيزوستريس» الثاني، وقد حدد زمن وصولهم إلى «مصر» بزمن القحط الذي كان قد انتاب بلاد «مسوبوتاميا» (ما بين النهرين) مسقط رأس «إبراهيم»، كما أعلن ذلك في مديحه للحاكم «خنوم حتب» صاحب المقبرة التي عليها المنظر، والأشياء الممثلة في هذا المنظر تشبه التي جاءت في التوراة منسوبة إلى سيدنا «إبراهيم».١

ملوك الأسرة الثانية عشرة ومشاريعهم العمرانية المائية العظيمة

ومن المهم جدًّا في هذا الصدد أن نذكر أن ملوك «مصر» الذين يحملون اسم «سيزوستريس»، وبوجه عام: كل ملوك الأسرة الثانية عشرة؛ كانوا أصحاب مشروعات عمرانية خاصة بالري والتجارة، ولا أدل على ذلك مما قام به «سيزوستريس الأول» من إعادة حفر قناة عند الشلال الأول؛ لِتَفَادِي صخور هذا الشلال حتى تُصبح التجارةُ بين «مصر» وبلاد «النوبة» سهلةً ميسورةً طوال العام بدلًا من قصرها على وقت الفيضان فقط، هذا بالإضافة إلى ما قام به أخلافُهُ مِن مَشَارِيعَ مماثلة، وبخاصة ما أَتَمَّهُ «أمنمحات الثالث» من مشاريعَ عظيمةٍ للري في «الفيوم»، وبخاصة تخزين مياه الفيضان في بحيرة «موريس»، ومِن ثَمَّ ليس بغريب أن يكون أحدُ ملوك هذه الأسرة الذي كان يحمل اسم «سيزوستريس»؛ قد تَمَكَّنَ من الإفادة من استعمال الوادي القديم لفرع النيل البلوزي، الذي كان لا يزال مغطًّى بفيضاناته ومنتشرة فيه البحيرات والبِرَك، لحفر قناة تكونُ أداةً للمواصلات بين نهر النيل والخليج العربي، وذلك بأَقَلِّ تكاليف ممكنة، كما أفاد من بعده «أمنمحات الثالث» من خَزْنِ مياه فيضان النيل بأقل قسط ممكن من المال، وقد تَحَدَّثْنَا مليًّا عن هذه المشروعات في الجُزء الثالث من مصر القديمة.

الرواياتُ التاريخيةُ التي تسند إنشاء القناة ﻟ «سيزوستريس» الثاني

وقد جاءت الرواياتُ التاريخيةُ القديمةُ، التي رواها المؤرخون الإغريق وغيرهم مؤيدة لذلك؛ فقد لَفَتَ العالمُ الألماني «زيته» النظر إلى ما رواه «اراتوستين» (حوالي عام ٢٧٦م) الفلكي الإسكندري الذائع الصيت نقلًا عن «استرابون» الجغرافي العظيم عن هذه القناة إذ يقول:

إن «سيزوستريس» كان قد تعرف على ساحل البحر الأحمر، وإنه على حسب ما جاء فيما رواه كل من «استرابون» (Strabon tome III, p. 404)، و«بليني القديم»؛ قد قاد جيشًا إلى بلاد «زيمت» وإنه في «ديرا» الواقعة على الساحل الإفريقي لباب المندب كانت توجد لوحةٌ أقامها الملك «سيزوستريس» عليها نقوشٌ هيروغليفيةٌ، تُحدثنا عن الاحتفال بمرور هذا الفرعون في هذا المضيق بسُفُنه، وإنه بالقُرب من «تورس» — وهما جبلان يشبهان ثورين — الذي لا يبعد عن بلدة «بطليموس» التي أَسَّسَها «بطليموس الثاني»، يشاهد معبد للإلهة «إزيس»، وهذا الأثر يدل على تقى «سيزوستريس» وعنايته العظيمة بهذه الإلهة.

علاقة الإلهة إزيس بالملك «سيزوستريس»

ومما يُقَوِّي صحة هذه الرواية أن اسم الملك «سيزوستريس» المحرف عن اسمه بالمصرية «سنوسرت»؛ معناه في الأصل «رجل القوية»، وكلمة القوية هنا نعتٌ للإلهة «إزيس»، بوصفها أنها كانت أُمَّ الإله «حور»، وهو اسمٌ كان يحملُهُ كُلُّ ملك يتربعُ على عرش «مصر»، ولا غَرَابَةَ أن ينسب الملك لأمه.

الحملات البحرية والمواصلات التجارية في هذه العهود القديمة

وقد تحدث كل من «ديودور» الصقلي المؤرخ المشهور وهردوت (Herod. II, 102) عن حملاتٍ بحريةٍ قام بها «سيزوستريس» في هذه الجهة؛ فقد ذكر الكهنةُ أنه كان أَوَّلَ مَنْ ساح بسُفُن طويلة في خليج العرب لمناهضة الأُمم التي حوله، وقد أخضعها كلها لسُلطانه، وقد زحف في فُتُوحه إلى أنْ وجد أنَّ الخليج لم يَعُدْ صالحًا للملاحة بسبب المضايق التي فيه، والماء الضحضاح المنتشر في نواحيه.

هذا، ولدينا نقشٌ في «وادي جاسوس» الواقع عند البحر الأحمر، يتحدث عن وُجُود ميناءٍ بحرية أَسَّسَها أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، وهو «أمنمحات الثاني»، وأخيرًا تشهدُ المناظرُ المصريةُ القديمةُ، التي على جدران معبد الدير البحري، الخاصة بالحملة التي أرسلتْها الملكةُ «حتشبسوت» إلى بلاد «بنت» أن السفن التي كانت محملةً بمحاصيلِ هذه البلاد كانت تصعد في النيل حتى «طيبة».

ومن كل هذه الشواهد التي أوردناها هنا يُمكن أن نستنبط أنه منذ الأسرة الثانية عشرة (حوالي ١٩٠٠ق.م) كانت توجد علاقاتٌ تجاريةٌ وحربيةٌ بين «مصر» وشواطئ البحر الأحمر، وهذه العلاقات كان لا يمكن وجودُها إلا بوساطة مواصلات مباشرة أو بوساطة وُجُود مستودعات للميرة والذخيرة بين النيل والخليج العربي.

أعمال الحَفْر الحديثة في منطقة القناة تَدُلُّ على وُجُود طريقٍ مائية

وقد دَلَّتْ أعمالُ الحفر التي عُملت حديثًا عند «تل الرطابة» على وُجُود موقع مدينة قديمة يرجع عهدها إلى الدولة القديمة، وقد ازدهرتْ بوجهٍ خاصٍّ في عهد «رعمسيس» الثاني (حوالي ١٣٠٠ق.م)، والواقعُ أنه قد وُجدتْ آثارٌ هامةٌ من عهد هذا الفرعون، وكذلك من عصر «رعمسيس الثالث» في تلك البقعة.

وتدل ظواهر الأحوال على أن «تل الرطابة» هذا هو موقع مدينة تعد مركز حدود محصن للميرة والذخيرة، وتقع على قناةٍ قد احتلتْ مكان وادي «طميلات» على مقرُبة من البحر الأحمر، وكذلك أسفرتْ أعمالُ الحفر التي عُملت في «تل المسخوطة» القريب من «تل الرطابة» عن كشف مدينة مصرية ضخمة من عهد «رعمسيس الثاني»، وقد أُميط اللثامُ فيها عن آثارٍ من العُهُود التي تلتْ «رعمسيس» حتى عصر البطالمة.

ومن الجائز جدًّا أنه كانت توجد قناةٌ منذ الأسرة الثانية عشرة كان الغرضُ منها سد الحاجة من المياه؛ لعدم كفاية ماء فرع النيل لتزويد الأهلين بالماء، وقد لُوحظ وُجُود هذه القناة بصفةٍ قاطعة في عهد «رعمسيس الثاني»، وكانت تحتل مكان «وادي طميلات الحالي»، وعلى أيَّةِ حال لا بد من الاعتراف بوُجُود هذه القناة سواءٌ أكان «نكاو» قد أصلحها أم بدأ إنشاء واحدة جديدة، ولم يتمكن من إتمامها.

ولما جاء «دارا» قام بحفرها فعلًا، وذلك على الرغم مما جاء من خلط فيما كتبه المؤلفون الإغريق وغيرهم بشأن هذه القناة.

الفرس وقناة السويس

تحدثنا حتى الآن عما كتبه المؤرخون الإغريق عن شق قناة تربط بين البحرين تخرج من النيل، ويرجع عهدُها إلى الأُسرة الثانية عشرة (حوالي ١٩٠٠ق.م) غير أن كل ما وصل إلينا لا يُعَدُّ وثائقَ أصلية يُعتمد عليها تمام الاعتماد من الوجهة التاريخية، يُضاف إلى ذلك ما جاء في هذه المصادر الثانوية من تضارُب في سَرْدِ الوقائع.

اللوحات التذكارية التي كشف عنها على طول قناة «السويس» في العهد الفارسي

وقد كانت أول وثائق أصلية وقعتْ في أيدينا، ويعتمد عليها تمامًا في إثبات وجود قناة توصِل بين البحرين، هي اللوحاتُ التي كشف عنها في أماكنها الأصلية في منطقة «السويس»، ويرجع تاريخُها إلى أوائلِ العهد الفارسي في «مصر» (حوالي عام ٥٢١ق.م).

والواقعُ أنَّ أعمال الحفر التي عملت في تلك المنطقة حديثًا؛ قد أسفرت حتى الآن عن وُجُود أجزاءٍ عدة من لوحاتٍ ثلاثٍ يرجع عهدُها إلى حكم الملك «دارا الأول» عاهل الفرس وخلفه «أكزركزس»، وهذه اللوحاتُ كانت قد نُصبتْ على طُول القناة من النيل حتى البحر الأحمر.

لوحة «السرابيوم»

وتدل شواهد الأحوال على أنه كانت توجد لوحةٌ رابعة، غير أنَّنَا لا نعرف عنها شيئًا إلا المكان الذي أُقيمت فيه، وقد عُرفت عند الأثريين بلوحة «السرابيوم»، وكانت منصوبةً في البُقعة الواقعةِ بين بحيرة «التمساح» والبحيرات المرة.

حفائر «كليرمون جانو» في هذه البقعة

وقد قام الأثريُّ «كليرمون جانو» بحفائرَ في مكانِ هذه اللوحة عام ١٨٨٤ ميلادية، وقد عُثِرَ على قِطَع صغيرة من لوحة عليها نقوشٌ مصريةٌ قديمةٌ، وقد نقل حوالي ٢٣ أو ٢٤ قطعة منها في عام ١٨٨٦ ميلادية إلى متحف «اللوفر»، غير أنها اختفتْ بعد هذا التاريخ بعامين، ولعل الأيام تكشف عن مكانها.

اللوحات أقيمتْ على الشاطئ الأيمن للقناة

وقد أقيمت اللوحاتُ الأربعُ على الشاطئ الأيمن للقناة تجاه البحر الأحمر على مرتفعات من الأرض، وكانت قد أُقيمت لغرضِ أنْ تراها السفنُ التي تَسيرُ في القناة، وهذا يدلُّ على كِبَر حجمها وضخامةِ القواعد التي أُقيمت عليها، كما يدل على حسن اختيار الأماكن التي نصبتْ فيها، وقد وُجدت في كل موقع من مواقع هذه اللوحات الثلاث — وهي لوحة «تل المسخوطة» ولوحة «كبريت»، ولوحة «السويس» — قطعٌ منقوشةٌ بالكتابة الهيروغليفية والمسمارية.

النقوش التي على اللوحات ولُغاتها

وقد وُجدتْ على لوحة «كبريت» أو لوحة «شلوفة» نقوشٌ هيروغليفيةٌ ومسماريةٌ على وجهيها، ومن المحتمل أن هذا النظام كان متبعًا في لوحة «السويس»، أما اللوحةُ التي وُجدت في «تل المسخوطة» فقد وُجد أنَّ كُلًّا من المتنين الهيروغليفي والمسماري قد نُقش على جزء خَاصٍّ، ويلفت النظر كذلك أن المتن المسماري قد دُوِّنَ بثلاثِ لغاتٍ، وهي الفارسيةُ القديمةُ والبابليةُ ثم العيلاميةُ، وقد ذكر عليها الألقاب الملكية والمرسوم الخاص بعقيدة «أهورامازدا»، هذا بالإضافة إلى مختصَر خاص بشق القناة وبسياحة أُسطول مصري إلى بِلاد فارس.

ومما يؤسف له جد الأسف أنه لم يَبْقَ محفوظًا لنا — على وجه التقريب — من هذه المتون إلا المتن الذي على لوحة «كبريت»، والظاهرُ أن لوحتَي «تل المسخوطة» و«السويس» مُوَحَّدَتان من حيث اللغة بلوحة «كبريت».

لوحة «تل المسخوطة»

ومما هو جديرٌ بالذكر هنا أنَّ لوحة «تل المسخوطة» مصنوعةٌ من الجرانيت الوردي، ومحفوظةٌ بمتحف «القاهرة»، وأَهَمُّ ما يَلْفِتُ النظر في نُقُوشها هو ما جاء في الصف الثاني الذي يحتوي على قائمةٍ مؤلفةٍ مِن أسماء أربع وعشرين إقليمًا، وهي بعض الأقاليم أو الأقطار التي كانت منتفعة بالقناة، وهذه الأقطارُ كانت هي التي تتألف منها الإمبراطوريةُ الفارسيةُ في هذ العهد، أما الصفُّ الثالثُ من هذه اللوحةِ فقد جاءتْ فيه عبارةٌ تدلُّ على حَفْرِ القناة في عهد الملك «دارا الأول» الفارسي.

لوحة «كبريت»

واللوحة الثانية هي لوحة «كبريت» محفوظةٌ الآن بمتحف «الإسماعيلية»، وهي مصنوعةٌ من الجرانيت الوردي، ويُلحظ أن أحد وجهيها قد خُصِّصَ للمتن الهيروغليفي والآخر للترجمة باللغات الفارسية والعيلامية والبابلية، ويحتوي الصفُّ الثاني من نُقُوشها على أمرٍ بحفر القناة وتسيير السفن فيها.

لوحة «السويس»

واللوحة الثالثة هي «لوحة السويس»، وكانت مُقامةً على مسافة ستة كيلومترات شمالي مدينة «السويس»، ويدل ما بقي منها على أن الذي نصبها في هذا المكان هو الملك «أكزركزس الأول» خليفة «دارا الأول» ملك الفرس، (راجع: Posener, La Premère Domination Perse en Egypte, p. 180 ff; Bourdon, anciens Canaux Anciens Sites et Ports de Suez).

خلاصة ما جاء على لوحات القناة الثلاث

وُجُود طريق بحرية بين فارس وأملاكها الإفريقية ووصفها

مما لا جدال فيه أنه كانتْ توجدُ طريقٌ بحريةٌ مستعملةٌ في عهد «دارا الأول» ملِك الفرس؛ لتسهيل المواصلات بين عاصمة مُلكه وبين أملاكه الإفريقية، والبرهان على ذلك ما نجدُهُ منقوشًا على اللوحات التي أُقيمت على طُول القناة التي كانت تربطُ النيل بالبحر الأحمر، وكانت هذه القناةُ تبتدئ من النيل بالقرب من «بوبسطة» «الزقازيق»، وتجري متتبعة وادي «طميلات» متفادية من جهة الشرق بحيرة التمساح، ثم تخترق البحيرات المرة إلى أَنْ تصل إلى خليج السويس بالقُرب من بلدة «الكبرى» الحالية.

وكان عرضُ القناة حوالي خمسة وأربعين مترًا، والظاهرُ أنه كان على شاطئيها طريقان، تستعملان لجَرِّ السفن التي كانت تمر في القناة، وكانت المسافةُ بين «بوبسطة» حتى البحر تُقطع في مدة أربعة أيام.

الملك «نكاو الثاني» وقناة «السويس»

ولم يكن الملك «دارا الأول» هو أول من بدأ حفر هذه القناة، بل الواقع أن أول من شرع في حفرها هو الملك «نكاو الثاني» فرعون «مصر» الذي حكم من ٦٠٩–٥٩٧ق.م، والواقع أنَّ كل ما فعله «دارا» هو إصلاح ما حفره «نكاو» من هذه القناة ثم إتمامها، وهذا هو ما يَلُوحُ استنباطُهُ مِن لوحة «تل المسخوطة» السالفة الذكر، وذلك على حسب ما جاء في السطر السابع عشر من هذه اللوحة؛ حيث يفهم أن «دارا» قد أرسل سفينة لأجل أن تفحص عن المياه (وقد عمل جلالتُه على أن تذهب سفينةٌ لأجل جَسِّ الماء)، وليعلم أنه على مسافة ٨٤ كيلومترًا تقريبًا «ليس هناك ماء»، وهذه المسافةُ هي طُولُ القناة القديمة، التي كانت تقعُ بين لوحات الحدود التي أقامها الملك «دارا» بين «تل المسخوطة» و«السويس».

وعبارة «ليس هناك ماء»، قد كررت في اللوحات الأخرى، يضاف إلى ذلك وُجُود كلمة «رمال» على لوحتَي «كبريت» و«السويس»، ومن المحتمل جدًّا أنَّ هذه العبارات تصفُ الحالةَ التي كانت عليها القناةُ قبل الأعمال التي قام بها «دارا الأول» فيها لإصلاحها وإتمامها.

علاقة حفر القناة بالفتح الفارسي ﻟ «مصر»

إن ما لدينا من معلوماتٍ يَدُلُّ على أنَّ الأحوال التي تَمَّتْ فيها هذه الإصلاحاتُ غيرُ واضحة، بل يُحيطُها الغموض، ويَجِبُ أن نضع علاقة منطقية بين حفر القناة وبين حملة «دارا» على «مصر»، وذلك أنه من الجائز أن تكون الحادثتان متعاصرتين، هذا إذا لم تكونا قد وقعتا في وقت واحد، وفي ذلك يقول «دارا الأول» في متن الرواية المسمارية التي أُقيمت على القناة: «إني فارسيٌّ وبمساعدة فارس فتحت «مصر»، وقد أمرت بحفر قناة من أول النهر المسمى «النيل» الذي يجري في «مصر» حتى البحر الذي يتصل بالفُرس، وبعد ذلك حفرت هذه القناة هنا كما أمرت، وعندئذٍ قلت اذهبوا من أول «بيرا» حتى الساحل واهدموا نصف القناة — كما هي «إرادتي».

هذا، ويذكر لنا المتنُ المصريُّ الذي وُجد ممزقًا عند هذه النقطة رحلةً قام بها «دارا» إلى مكانٍ مجهولٍ، ونقرأُ في نفس المتن بعد أجزاء مهشمة أن الملك «دارا» أمر بأن يمثل بين يديه رجالُ إدارة مدينة وسألهم بعض أسئلة، فهل لا يُمكن أنْ نفرض أن الملك «دارا» وهو في طريقه إلى «مصر» قد وقف بالقرب من القناة، واستعلم عن صلاحيتها للملاحة؟ غير أنه مما يؤسَف له جد الأسف أن الحالة التي وُجدتْ عليها اللوحاتُ — من التمزيق — تقف حجر عثرة في تحقيق هذه النظرية، وكل ما نعرفه هو أن الملك «دارا الأول» أمر بإصلاح القناة وبحفر بئر أو عِدَّة آبار على طول القناة.

أول أسطول يعبر القناة

وبعد أن تَمَّ حفرُ القناة قام أسطولٌ مؤلفٌ من أربع وعشرين سفينة (وفي رواية أخرى: اثنتين وثلاثين) محملة بالإتاوة من «مصر» إلى بلاد فارس، وقد عرف «هردوت» أن «دارا» قد أفلح في شَقِّ القناة، غير أننا نعلم أن بعض الكُتاب من بعده أمثال «أرسطو» و«ديودور» و«استرابون» و«بليني القديم» قد ظنوا أن القناة لم تُشَقَّ في العهد الفارسي؛ وذلك لاختلاط الأمر عليهم في استقصاء مصادرهم.

علاقة الفتح الفارسي للهند بمشروع حفر قناة «السويس»

ومما يَطيبُ ذكرُهُ هنا أن الرحلة البحرية التي قام بها الأسطولُ الفارسيُّ من «مصر» إلى «فارس» بوساطة القناة كان لها صلةٌ بالرحلة التي قام بها «سيلاكس» البَحَّار والجغرافيُّ الإغريقيُّ الذي عاصر الملك «دارا الأول» حول الهند، وذلك أن العاهل «دارا» الأول كان قد فتح جُزءًا كبيرًا من بلاد «آسيا» بإشرافه، وقد كان شغوفًا بمعرفة موقعِ نهر الهند الذي كان يُعَدُّ ثانيَ نهر يُمكنُ الحصولُ منه على تماسيحَ، ويصب ماؤه في البحر.

وقد أرسل من أجل ذلك سُفُنًا بقيادة نفرٍ ممن يعتمد عليهم؛ لوضع تقاريرَ صحيحة له عن ذلك، وكذلك أرسل «سيلاكس» للغرض عينه، وقد أفلحت الحملةُ، وكان مِن نتائجها أنْ ذهب «سيلاكس» إلى خليج العرب «البحر الأحمر» في سفينة بعد أنْ تَعَرَّفَ على نهر الهند، فحقق بذلك الصلة بين بعض المديريات الفارسية القصوى وبعضها الآخر.

والواقعُ أن مشروعَ حفر قناة «السويس» كان له صلةٌ بمشروع فتح الهند؛ وذلك لأن فتح الهند — على حسب قول «هردوت» — قد جاء مباشرة على أثر سياحة «سيلاكس» إلى بلاد الهند، وعلى ذلك تَدُلُّ الظواهرُ على أن المشروعين كانا بمثابة تصميم واحد عمل، وتم عن تدبير وروية.

وعلى ذلك فإنه من الجائز أن القناة كانت قد أصلحتْ في عهد قريب من تاريخ فتح الهند (٥١٨ق.م)، وهذا ما يُقَوِّي الاعتماد على التأريخ الذي اقترحه الأثريُّ «فيدمان» لسياحة «دارا» إلى «مصر» في تلك السنة.

قائمة الممالك التي وُجدتْ على لوحات القناة

ويؤيدُ لنا — على ما يظهر — صحة هذه الملاحظات؛ ما جاء في الصف الثاني من لوحات القناة، وهذا الجزء من النقوش يحتوي على قائمة تشمل أربعة وعشرين اسمًا للبلاد التي تؤلف جزءًا من الإمبراطورية الفارسية، ومن ثم نفهم أنَّ هذه الوثيقة، وكذلك المتون المسمارية التي من هذا الطراز؛ لا تقدم لنا قائمة المديريات الفارسية، بل تسمى نخبة من الممالك التي كانت تتألف منها الإمبراطورية الفارسية المنتفعة بالقناة.

وهذه الممالكُ مقسمةٌ قسمين متساويين، موزعين توزيعًا منظمًا على اليمين وعلى الشمال من وسط الصف، ونعرف منها فعلًا أربعًا وعشرين مملكة.

وبدرس ما بقي من متون لوحات القناة الثلاث حصلنا على قائمة أسماء ممالك تقسم الإمبراطورية الفارسية قسمين، يفصل الواحد عن الآخر خطٌّ يخرج من الخليج الفارسي حتى بحيرة «أورمياة» وما بعدها.

مجموعة الممالك التي في الشرق

(١) «فارس»، (٢) «ميديا»، (٣) «عيلام»، (٤) «هرو»، (أربا)،٢ «برتو» (بارثيا = خورسان)، (٦) «بختر»، (= بكتريان، وهي الآن ضمن التركستان والفرس)، (٧) «سوجدا» = سوجاديان = بخارى وسمرقند «هرخدي» (اراخوذي = اسم بلاد تابعة لبلاد الفرس القديمة)، (٩) «سرنج» (= درانجيان Drangiane)، (١٠) «سدجوز» (= ستاجيدس Sattagydes)، (١١) «خرسم» = (خوارزم)، (١٢) «سك بح سك تا» (= سرداريا وموداريا = سيحون وجيحون).

مجموعة البلاد التي في الغرب

(١٣) «ببر» (= بابل) (١٤) «أرمينيا» (١٥) «ابونيا»، (١٦) كبورشيا (بآسيا الصغرى)، (١٧) «سرديس»، (١٨) «آشور»، (١٩) «مصر»، (٢٠) «لوبيا»، (٢١) بلاد العرب، (٢٢) «كوش» (أي السودان)، (٢٣) «مج»، (= عومان)، (٢٤) «هندوس» (أب الهند)،٣ وبمُوازنة كتابة هذه الأسماء بالهيروغيليفية بكتابتها باللغات الأرمنية والبابلية والفارسية؛ يتضح أن القائمة الجغرافية للوحات القناة قد أخذت عن أَصْل آرامي، والظاهرُ أن اللغة الآرامية كانت اللغة الإدارية للإمبراطورية الفارسية.

ومهما يكن مِن أمر فإنه مما لا شك فيه أنه يُمكن أن نستخلص — فيما يخص هذه المتون — أن اللغة المصرية القديمة كانت لغةً رسمية بجانب اللغة الفارسية القديمة واللغة البابلية واللغة العيلامية، ولكن يلحظ أنه في حين أنَّ هذه اللغات كانت مستعملة في كل أنحاء الإمبراطورية؛ فإنا نجد أن لغات البلاد الخاضعة للحُكم الفارسي مثل اللغة المصرية لم تكن مستعملة إلا في البلاد التي كانت تنطق بها، ومن ثم نجدُ أنه قد أُضيف إلى نقش مسماري على ضفاف «البسفور» آخر إغريقي.

هل أتم «دارا» حقيقة حفر القناة؟

وبعد هذا العرض عن قناة «دارا» الأول لا يزالُ أمامنا سؤالٌ محيرٌ، وهو: هل ما جاء في هذه اللوحات التي نصبتْ على طول القناة ما يوضح حقيقة أن «دارا» الأول أَتَمَّ حفر هذه القناة بصورة قاطعة؟ وهذا السؤال قد نتج عن جملةٍ جاءتْ على لوحة «كبريت» في المتن المسماري، وهي: «لقد أمرت بحفر قناة من أول النهر المسمى النيل الذي يجري في «مصر» حتى البحر الذي يتصل ببلاد «الفرس»، وهذا المتنُ يُعبر — على الأقل — عن مقاصد ملك قوي كان له فائدةٌ عظيمةٌ في إنشاء مواصلاتٍ بين عاصمة مُلكه وفتوحه الجديدة عن طريق البحر، وذلك لِتَفَادِي عقباتٍ مِن أيِّ نوع يُمكن مصادفتُها في الطريق البرية، غير أن الذي حفر هذه الأسطُر على لوحة «كبريت» المصنوعة من الجرانيت، على الرغم مِن أنه دون العمل الذي حقق لم يكن — بالتأكيد — قد رأى نهايته؛ وذلك لأن لوحة «الكبرى» التي تُعَد أقرب لوحة من البحر هي للعاهل «أكزركزس» خلف «دارا الأول»، ولكن نقرأ على نفس لوحة «كبريت» بعد التصريح الذي اقتبسناه هنا، وبعد الاعتراف بتنفيذ هذا الأمر ما يأتي: «هذه القناة قد حُفرت هنا كما قد أمرت.» وقد عرتنا الدهشةُ عندما نقرأ بعد هذه العبارة ما يأتي: وعلى ذلك قلت «اذهبوا من أول «بيرا» حتى الشاطئ واهدموا نصف القناة على حسب إرادتي.»

ونحن — في الواقع — لا نعرف ما هي «بيرا»، ويدلُّ سياقُ الكلام الذي فيه هذه الجملة المنقوشة على لوحة أُقيمت عند «كبريت» على أنَّ هذا الأمرَ ينطبقُ على جزء القناة الواقع بين «كبريت» والبحر، ولكن ما هو الدافعُ الذي دعا إلى التصريحِ بهذا العزم؟ فهل يا ترى كان لذلك علاقةٌ بالانتصارات الإغريقية على الفُرس في موقعتَي «آتوس» و«ماراتون» والخوف من بعض محاولات عدائية على مواصلات الإمبراطورية البحرية؟ أو أن ذلك كان نتيجة للثورة التي قامت في «مصر» قبل موت «دارا» بقليل؟ أو كان ذلك سببه الاعتراف المقنع للامتناع عن العمل الذي شرع فيه؟ وهذا ما يقدم لنا تفسير تلك الرواية التي نجدها في مؤلفات الكُتاب الإغريق منذ «أرسطو».

ولكننا قد رأينا أنه كانت توجدُ عند «الكبرى» الواقعة على مسافة ستة كيلومترات من «السويس» لوحةٌ أقامها «أكزركزس» الذي خلف «دارا الأول» على عرش الملك، وهذه اللوحةُ كانت قد أُقيمت على قاعدةٍ من اللبنات ارتفاعُها متران؛ لتوضع عليها اللوحة الجرانيتية بعيدة عن ماء المستنقع الملح، وقد كشف عنها الأثري «كليدا» في هذا المكان على مسافة ٤٥٠ مترًا، حيث توجد آثارٌ ظاهرةٌ للقناة القديمة، ويُلحظ أنه في هذا المكان، لا يصلُ ماءُ المستنقع إلى أكثرَ مما هو عليه الآن.

وتدلُّ البحوثُ الجغرافية التي عملت عن هذه المنطقة على أن بقايا الشواطئ القديمة الباقية توحي بأنه في عصور حديثه نسبيًّا كان المستوى الذي يمكن أن يصل إليه البحر أكثر ارتفاعًا من أيامنا هذه، وعلى ذلك فإن هذه اللوحة يجب أن تكون قد أُقيمت بالقرب من شاطئ البحر، وأن وُجُودها يحملنا على أنْ نؤكد أن «أكزركزس» بعد أن تخلص من مخاوفه السياسية أو المائية التي كانت تقفُ في وجه سلفه «دارا الأول»؛ قد أَتَمَّ حفر القناة حتى البحر، وهي القناةُ التي يُحدثنا عنها «هردوت» بأنها كانت مستعملةً في العهد الذي ساح فيه هو في حُكم الملك «أرتكزركزس» حوالي عام ٤٥٠ق.م.

قناة الجفار

لاحظ الأقدمون أن طبقة المياه الجوفية الناشئة مِن رَشْح النيل؛ كانت لا تكفي عيش الإنسان في الإقليم الذي يقعُ بين فرع النيل البلوزي ومنطقة البحيرات حتى الخليج العربي، فأنشئوا لإصلاح هذا النقص قناةً واسعةً عميقةً صالحةً للملاحة، تأخذ مياهها من النيل لري هذه الأراضي أولًا حتى حدود الخليج العربي وفيما بعد حتى «استراسين» = بلدة «الفلوسية» القريبة من «القنطرة» الحالية، وهكذا كانت القناةُ تخترق كل السهل المعروف الآن باسم «الجفار» حاملة الحياة والثراء في هذه الأقاليم المقفرة.

ومعلوماتُنا التاريخيةُ عن قناة «الجفار» لا تكاد تُذكر، ولكن على قِلَّتِها يُمكنُ بما لدينا مِن آثارٍ باقيةٍ أن نتتبع سيرَ مجراها، ولا بد أنها كانتْ معروفة جدًّا في عصرها، وأقدمُ وثيقةٍ منقوشةٍ عن هذه القناة موجودةٌ حتى الآن على جدران معبد الكرنك الكبير، ويرجع عهدُها إلى حُكم الفرعون «سيتي الأول» أحد ملوك الأُسرة التاسعة عشرة. وهذه الوثيقةُ معروفةٌ جدًّا؛ فهي تؤلف المنظرَ الذي يمثل عودة الملك «سيتي الأول» مظفرًا من حملته الأُولى على «سوريا» وقد مثل باسم طريق «حور» إلى حدود «مصر» أمام قلعة «ثارو» (= تل أبو صيفة)، القريب من «القنطرة»٤ الحالية التي تخترقها قناة، ويشاهد في الجهة الأُخرى من القلعة أنه قد تَجَمَّعَ هناك القومُ الوافدون لتحية مليكهم بعد عودته من «فلسطين» مظفرًا، وهذا يُذكرنا بعودةِ البطل المصري «سنوهيت» إلى «مصر» من منفاه وله قصةٌ شائعةٌ تَرجعُ إلى عهد الملك «سنوسرت الأول»، وكذلك يذكرنا بوصول «يعقوب» إلى «مصر» لِلَّحَاق بابنه «يوسف» كما جاء ذكر ذلك في التوراة والقرآن.

ففي الحالة الأُولى نرى سفراء الملك «سنوسرت» الأول يستقبلون «سنوهيت» عند «ثارو» (تل أبو صيفة) ومعه حاشيتُهُ (المتن المصري يتحدث هنا عن طريق «حور»)، وفي الحالة الثانية نجد أن «يوسف» قد أرسل مع رُسُل له التصريحَ لوالده بالدخول إلى أرض «مصر»، غير أن الرواية العبرانية تضع بدل بلدة «ثارو» بلدة «العريش»، ولكن الأمر الذي يَلفتُ النظرَ بوجه خاص جدًّا — وهو ما يهمنا هنا — هو نهاية رحلة «سنوهيت» من أول «ثارو» وكان قد قطعها في سفينة، وكان رُسُل الملك قد وصلوا يحملون إليه الهدايا قبل وُصُوله في سفينة أيضًا.

ومن ذلك نفهم أنه منذ بداية الأسرة الثانية عشرة في عهد الملوك الذين كانوا يحملون اسم «أمنمحات» أو «سنوسرت»؛ كانت قناة الجفار تجري حتى «القنطرة» ومن ثم يمكن القولُ — دون أي شك — إن هذه القناة يرجع عهدُها — على الأقل — إلى الأُسرة الحادية عشرة (حوالي عام ٢١٠٠ق.م)، ونحن نعلم أن أُمراء هذه الأسرة قاموا بحملاتٍ على شبه جزيرة «سيناء» وعلى «سوريا» الجنوبية، ومن المحتمل إذن أنَّ هؤلاء الأمراء قد حفروا هذه القناة لتسهيل سير حملاتهم، غير أنَّهُ مما يؤسف له جد الأسف أنه لا يوجدُ لدينا ما يُثبت أن جُزء القناة من «ثارو» حتى «الفلوسية» القريبة من «القنطرة» هو من عمل الفراعنة.

ونلحظ عند «ثارو» أنَّ الطريق تخترق القناة، ولكن لأجْل تسهيلِ العبور عملت قنطرة، وقد مثل كل من القناة والقنطرة في المنظر المرسوم على جدران الكرنك، ومن المحتمل أن كلًّا منهما يرجع عهده للأسرة الحادية عشرة، والآن يستطيعُ المرءُ أن يتساءل: هل كانت «القنطرةُ» واقعة في داخل المدينة (أي مدينة «ثارو»)؟ والواقع أنها قد مثلت في منظر الكرنك موضوعة بين بوابتين صخمتين.

ويشاهد على اليسار من الجهة الآسيوية على مسافة صغيرة برجٌ ضخمٌ، ذو درج، ويشاهد على الجهة اليُمنى من القناة حول البوابة وعلى صَفَّيْن ثلاثةُ مبان مماثلة، يوجد بينها برجٌ للحراسة يرقب الخروج من «مصر». ومن ثم نفهم أن القنطرة كانت تخترق القلعة.

«ثارو» أو «قنطرة» في العهد الروماني

وفي خلال الاحتلال الروماني ﻟ «مصر» كانت «ثارو» قد فقدت أهميتها الاستراتيجية، والظاهرُ أنَّ الطريق قد تَحَوَّلَتْ عن مكانها نحو الشمال قليلًا، وكذلك نقلت القنطرةُ إلى الغرب قليلًا على مسافةِ ثلاث كيلومترات، وكان لا يزال المبنى الجديد يُرى في منتصف القرن الثالث بعد الميلاد، وقد حتم إقامة القنطرة الجديدة هدمها، ولكن اسمها بقي في اسم القرية التي أُقيمت في هذا المكان («القنطرة» الحالية).

اسم القناة في منظر الكرنك

وتُسمَّى القناةُ التي رُسمت في منظر الكرنك «تادنيت» ومعناها القطع، غير أنَّ هذا الاسم الذي يُمكن أن يُطْلَقَ على أيِّ عمل مماثل صنعتْه يدُ الإنسان لا يظهر أنه هو الاسمُ الأصليُّ لهذه القناة.

وقد دَلَّتِ البحوثُ على أن «ثارو» كانت المكان الرئيسي للخليج؛ حيث كانت تمر عليه الناس والحيوان وكل المحاصيل العربية الداخلة إلى «مصر» بوساطة هذه المدينة، وقد كانت القناة تمتد من أول «ثارو» حتى الفلوسية الحالية القريبة من «القنطرة» وفي هذه الجهة وُجدت آثارٌ للقناة التي تأخذ ماءها من فرع النيل البلوزي.

قناة البطالمة

مِمَّا لا جدال فيه أنَّ أَهَمَّ وثيقة نُقشت على الحجر عن قناة نيلية تربط بين البحرين الأحمر والأبيض؛ هي اللوحةُ التي خَلَّفَها لنا «بطليموس الثاني» «فيلادلف»، عثر عليها الأثري «نافيل» أثناء الحفائر التي قام بها عند «تل المسخوطة»، وهي محفوظةٌ الآن بالمتحف المصري، ومما يؤسفُ له جد الأسف أنَّ اللوحة قد نُقشت نقشًا رديئًا، وقد تآكلتْ نُقُوشها؛ ولذلك فإنه من الصعب قراءتُها وحَلُّ معانيها، وسنُورد هنا الفقرات الهامة الخاصة بموضوع القناة، (راجع: Naville, The Store. City of Pithom p. 15 ff., 4th Edition 1903).

مُلَخَّص الترجمة:

نجد بعد سرد ألقاب الملك «بطليموس الثاني» زيارة هذا العاهل لبلدة «بثوم»؛ أي «تل المسخوطة»، فيقول المتنُ في السطر السابع: «إن جلالته ذهب بشخصه لبلدة «هروبوليس Heroopolis» عرش والده «آتوم»، وقد كانت البلاد في انشراح … وعندما زار جلالته معبد «بي قرحت» أهدى هذا المعبد إلى والده «آتوم»، وهو الإلهُ العظيمُ العائشُ في «تل المسخوطة» «تكو» …

وبعد جُملة غامضة جدًّا يَظهر أنَّ الحديثَ في اللوحة كان خاصًّا بسياحةٍ قام بها «بطليموس» لمقابلة آلهة «مصر» العائدين ﻟ «مصر» من بلاد الفرس، وبعد ذلك يتحدث المتنُ عن رحلةٍ قام بها «بطليموس» والملكة «آرسينوي» في مقاطعة «هروبوليس «نفر-اب»» وحفر قناة، فيذكر المتن أنه في السنة السادسة عشرة الشهر الثالث من … لجلالته حفروا قناة لإرضاء قلب والده الإله «آتوم» الإله العظيم، وهو الإله العائش في «تل المسخوطة»؛ وذلك لنقل آلهة مقاطعة «تانيس» (= صان الحجر = خنت اب)، وابتداؤها هو النهرُ الذي في شمال «عين شمس» ونهايتُها في بُحيرة التمساح، وتجري بمحاذاة جانبها الشرقيِّ نحو الجدار العظيم الذي يبلغ ارتفاعُهُ مائة «ذراع»؟ وذلك لأجل أن يصد الثوار بعيدًا عن هؤلاء الآلهة، وبعد فقرة غاية في الغموض استعصى حَلُّها يتحدثُ المتنُ عن تأسيس بلدة «أرسينوي»، وعن حملةٍ على بلاد البدو في طلب الفيلة؛ لاستعمالها في جيش الملك.

ويدل فحص متن اللوحة على أن «بطليموس» قد حفر قناة غير قناة الشرق التي جاء ذكرُها في نُقُوش اللوحة، وأن الأخيرة كانت موجودة من قبل.

أما القناة الجديدة فكانت تأخذُ ماءها من الفرع البلوزي الذي يخترق مقاطعة «تانيس»، أو كان يربطها بقناة «ثارو» السالفة الذكر، وتجري تجاه «تل المسخوطة»، وهو مكانٌ محصنٌ يؤلفُ مع قناة «ثارو» الجُزْءَ الأوسط من «جدار الشرق» الذي ورد في النصوص القديمة.

رأي الأثري «كليدا»

ويقولُ الأثريُّ «كليدا» إن فحصه موضوعَ قناة «بطليموس الثاني» أَدَّى إلى أن هذه القناة كانت تأخذُ ماءها بالقرب من «دفنه»، على مقربة من منبع قناة «ثارو»، عند منتصف الطريق بين «فاقوس» ومصب الفرع البلوزي، وهذا يفسر الخلافَ الذي نجدُهُ في كلام المؤرخين.

الطريقُ البري من «قفط» إلى «برنيقة»

غير أنَّ هذه القناة هجرت في آخر عهد البطالمة، واستعمل بدلًا منها طريقٌ بريٌّ من «قفط» إلى «برنيقة»، أو إلى ميناء «ميوس هرموس»، وهي ثغرٌ على ساحل البحر الأحمر، والأُولى كانتْ مستعملةً منذ عهد «بطليموس» الثاني، وذلك أنه في السنة العاشرة من حُكْمه ٢٧٥ق.م، أسس هذا العاهلُ مدينةَ «برنيقة» على شاطئ خليج «أكاتارتوس Acatartos» (وهو الآن جرفٌ غيرُ صحي على شاطئ البحر الأحمر)، والواقعُ أن «برنيقة» هذه كانت تُعد نهاية طريقٍ برية أنشأها «بطليموس» بوساطة جُنُوده بين البرزخ الذي يفصل النيل عن البحر، وقد أُقيم فيه — على مسافاتٍ — مَحَاطُّ مجهزةٌ بماء عذب وإصطبلات؛ لأجل أن يعوض نقص الماء في هذه الجهة.

سببُ إنشاءِ هذا الطريق

ويقول الجغرافيُّ «استرابون»: إن سبب إنشاء هذا الطريق من «قفط» حتى «برنيقة»؛ كان للتغلُّب على الصعوبة التي تَعترض السياحة فِي بحرٍ رياحُهُ شديدةٌ، وبخاصة خليج «السويس» الضيق، وتَدُلُّ الحقائقُ التاريخيةُ على أن استعمال الطريق المائية الموصلة بين البحرين لم تُهمل بعد عهد الملك «بطليموس فيلادلف»، بل من المحتمل أنها هجرتْ في خلال القرن الأول قبل الميلاد واتخذت بدلًا منها طريق «برنيقة/قفط».

ميناء «ميوس هرموس»

وكذلك ينسب إنشاء ميناء «ميوس هرموس» (= ميناء القواقع) الواقعة على البحر الأحمر لإيجاد طريق بينها وبين «قفط»، وسبب ذلك أن المسافة بين هذه الميناء وبين النيل كانت أقصر (المسافة بين «قنا» وميناء «مينوس هرموس» حوالي ١٨٣ كيلومترًا)، وكذلك لوُجُود مَرسًى شاسعة ممتازة فيها — كما يقول «استرابون» — وإذا صدقنا ما يقوله «استرابون» عن هذه الميناء؛ فإنها لم تكن مستعملةً للتجارة في عهد البطالمة إلا بقدر معلوم؛ وذلك لأنه في عهد هؤلاء الملوك كانتْ تجارةُ «الإسكندرية» العامة إلى الهند تَسير بوساطة النيل، وكذلك بوساطة ميناء «ميوس هرموس»، وعلى العكس من ذلك كانت التجارةُ في عهد الإمبراطور «أغسطس» نشطةً في هذه الميناء؛ إذ قد أقلع منها مائة وعشرون سفينة إلى الهند، وذلك في عهد ولاية «اليوس جالوس» الروماني على «مصر».

ميناء «ميوس هرموس» تحمل محل «برنيقة»

وأخيرًا يظهر أن «ميوس هرموس» قد حَلَّتْ محل «برنيقة» نهائيًّا، فكانت الطريق التجارية من «قفط» إلى «ميوس هرموس» هي الطريق العامة المتبعة، لدرجة أنَّ كل التجارة كانت تمر بها، وعلى ذلك فإنه من المحتمل جدًّا أن الطريق المائية إلى «السويس» — بوساطة قناة — قد هجرتْ شيئًا فشيئًا، ونقصت قيمتُها كما نقص عُمْقُها، ومن ثم لم تصبحْ صالحةً لسير السفن الكبيرة فيها.

إحياء الطريق المائية بين البحرين

وتدل شواهدُ الأحوال على أنه في بداية العصر المسيحي كانت القناةُ التي تربط النيل بالبحر الأحمر مهملةً، غير أنها قد ذكرت أحيانًا بأنها الطريق إلى الهند، كما جاء ذِكْرُ ذلك على لسان كل من الكاتبين «لوسيان» والجغرافي «بطليموس» في منتصف القرن الثاني المسيحي، ويتساءل الإنسان عن الأسباب التي دعتْ إلى إعادة استعمالِ هذه الطريق النهرية والبحرية بين «إفريقيا» و«آسيا» و«أوروبا»؟

الإمبراطور «تراجان» وإصلاح القناة

وإجابة على ذلك نقول: إنه من المحتمل أن الإمبراطور «تراجان» الروماني بعد انتهاء حروب «داسيس»؛ شرع في فتح بلاد العرب السعيدة و«أرمينيا» وبلاد ما بين النهرين («العراق» الحالية)، وقد رأى أنه من الأُمُور الحربية الهامة لديه أن يُعيد إنشاءَ طريق مواصلات بحرية بين البحر الأبيض المتوسط و«مصر» والبحر الأحمر الذي تغمرُ مياهُهُ ميناء «عيله»، وبذلك توجد طريقٌ إلى الخليج الفارسي، غير أن هذا الإمبراطور قد تُوُفِّيَ حوالي عام ١١٧ ميلادية.

ومما يلفت النظرَ بصفةٍ خاصة؛ أنْ نقرأ فيما كتبه مؤرخو العرب — خصوصًا «المقريزي» — أن الإمبراطور «هدريان» ربيب «تراجان» وخليفته هو الذي أَتَمَّ القناة التي ابتدأها «تراجان» وأن «هدريان» هو الذي أعاد حَفْرَ هذه القناة التي تَصُبُّ في بحر القلزم «البحر الأحمر»، ومما يَطِيبُ ذِكرُه هنا — بهذه المناسبة — أن الإمبراطور «هدريان» كان قد زار «مصر» عام ١٣٢ ميلادية، ومكث فيها مُدَّةً طويلة، وهذا يتفق مع الرأي القائل إنه هو الذي أعاد حفر القناة.

الأسباب التي دعت لإعادة حفر هذه القناة

وقد حَدَّثَنا كُلٌّ من الجغرافي «بطليموس» وكُتاب العرب عن العمل الذي قام به كل من «تراجان» و«هدريان»، فنفهم مما كتباه أن انحدار مجرى القناة في زمنهما كان ضعيفًا عند «بوبسطة»، ومن نقطة تقع ما بين «عين شمس» و«بوبسطة» حتى «القلزم» الواقعة على البحر الأحمر، مما سَبَّبَ صعوبةَ الملاحة، ومن ثَمَّ نفهم أن ما قام به هذان العاهلان كان ينحصرُ في حفر القناة من جديد بصورةٍ جِدِيَّةٍ، أو إنشاء قناة جديدة تحمل المياهَ مِنَ النيل من عند «بابليون» («مصر القديمة» الحالية).

والظاهرُ أن هذه القناة قد استمرت مستعملةً حتى العهد الإسلامي في «مصر» على حسب ما رواه «المقريزي»، وهو القائلُ إن الإمبراطور «هدريان» قد حفر القناة التي تَصُبُّ في بحر القلزم، وكانت السفنُ تَمُرُّ فيها في الأزمان الأُولى من العهد الإسلامي.

١  راجع مصر القديمة، الجزء الثالث.
٢  «خورسان» الشرقية و«سيستان».
٣  راجع: Journal of Near Eastern Studies Vol. II. October 1943 No. 4, p. 308.
٤  راجع: J.E.A. Vol. 6. Pl. XI.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤