الملك «دارا» الثاني

حكم هذا الملك على حسب ما رواه «مانيتون» تسع عشرة سنة، ولم يرد شيء عن سني حكمه قط في الآثار المصرية، ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى أن السنة التاسعة عشرة من عهد «دارا» قد وجدت في متن بطلمي في معبد «إدفو»، وقد نسبها بعضُ المؤرخين (راجع: Actes du Congress International des Orientalistes tenu a Leide, t. IV p. 233–235: Introduction a Ed. Meyer Geschichte des Alten Agypten p. 45). إلى «دارا» الثاني، ولكنها يجب أن تُنسب إلى «دارا» الأول، (راجع: L. R. IV p. 153 No. 4).
هذا، ولا بُدَّ أن نُشير هنا إلى أنه بعد موت «أرتكزركزس» (أردشير) الثاني عام ٤٢٤ق.م، خلفه على عرش «سوس» أخوهُ «أكزركزس» الثاني، والظاهرُ أنه لم يمكث على عرش الملك إلا شهرين، (راجعْ: Unger Chronologsie de Manethon p. 285; Maspero Hist. Ancienne III p. 278 n., wiedmann Aeg. Gesch. p. 666) ثم قتله أخوه «سوجديانوس Sogdianos» الذي لم يحكم بدوره إلا ستة أو سبعة أشهُر، وبعد ذلك قتله أخوه «أوكوس» الذي خلفه على أريكة الملك باسم «دارا» الثاني.

ولم يترك لنا كُلٌّ من «أكزركزس» الثاني و«سوجديانوس» — خلال حكمهما الذي لم يَدُمْ أكثر من سنتين — أيَّ أثر من أعمالهما في «مصر»، كما لم نعثرْ على اسم واحدٍ منهما، لا في الهيروغليفية ولا في الديموطيقية.

ولم يكن «دارا» الثاني هذا ابن الملك «أكزركزس» الأول، بل كان صهره، وكان يطلق عليه اسم «أوكوس»، وقد كان قبل توليه عرش بلاد «فارس» شطربة مديرية «هيركاني»، وبعد قتل «سوجديانوس» خلفه على العرش عام ٤٢٣ق.م، وقد أطلق عليه اليونان «ابن أبيه»؛ وذلك لأنه كان واحدًا من أولاد «أرتكزركزس» الأول العديدين غير الشرعيين، والواقعُ أن «دارا» الثاني هو الملك الوحيد بعد «أرتكزركزس» الأول الذي ترك له على الآثار في «مصر».

فنجد في المعبد الذي أقامه «دارا» الأول في الواحة الخارجة أن «دارا» الثاني هذا أضاف طغراءه في أماكن عدة، وقد نقش هناك بوجه خاص ذكرى له على الآثار في «مصر».

(راجع: Brugsch, Reise Nach der Grossen Oase El. Khargeh p. 13 ff & Lepsius A. Z. XII (a874) p. 73, 75, 78; Brugsch A Z.XII (1875) p. 51 ff: Wiedmann Gesch. p. 240 No. 1-2; id. p. 880 No. 1.)

وقد كان المعبودُ المحلي للواحة الخارجية يُدْعَى «آمون رع سيدهبت» (أي الواحة الخارجة) الإله الأعظم القوي الساعد، وتَدُلُّ النقوشُ على أن «دارا» الثاني قد زاد في لقبه وهو «محبوب آمون رع» بإضافة نعوت مختلفة لهذا الإله، وقد نظفت مصلحة الآثار هذا المعبد ورَممته (راجعْ: «فخري» الواحة الخارجة).

ولا يفوتُنا هنا أن نذكر أنه في عهد حُكم هذا الملك، وبعبارة أَدَقَّ: في عام ٤٠٧ق.م، دونت البرديةُ المشهورةُ باللغة الآرامية، والتي عُثر عليها في «الفنتين» وسُميت باسمها (راجع: Cowley, Aramaic Popyrus of the fifth Century, Oxford. 1923).
وهذه الورقةُ تُحدثنا عن المستعمرة اليهودية التي كانت تقطن «الفنتين» وقتئذٍ، والواقعُ أنَّ تأسيسَ هذه المستعمرة يرجع على أَقَلِّ تقديرٍ إلى حُكم الملك «أبريز» (٥٨٨–٥٦٩ق.م)، (راجع: Schafer Klio (1904) p. 155 ff) ومن المحتمل أنها ترجع إلى أقدم من ذلك؛ إذ قد تكون في عهد «بسمتيك» الثاني (٥٩١–٥٨٨ق.م)، أو حتى في عهد «بسمتيك» الأول (٦٦٣–٦٠٩ق.م)، (راجع: Dictionnaire de la Bible supplement face-X (1923) p. 983-984).
وأوراق «الفنتين» الآرامية هذه عثر عليها في هذه البلدة على دفعات من عام ١٩٠٤–١٩٠٨م، على يد بعثات أوروبية مختلفة، ومعظم هذه الأوراق مؤرخٌ ويمكن وضعُ الأوراق بعد الفحص ما بين عامي ٤٩٥، ٤٠٠ق.م، وبعبارة أُخرى في عهد الحكم الفارسي ﻟ «مصر»، وكان يهودُ «الفنتين» يؤلفون مستعمرة حربية ينفق عليها ملك «فارس»، وعندما طرد الفرس من «مصر» عام ٤٠٠ق.م؛ كان على يهود «الفنتين» أن يُغادروا هذا المكان الذي احتَلُّوهُ منذ أكثرَ مِنْ قرنٍ من الزمان، ومن المحتمل أنَّ هؤلاء اليهود لم يُشتتْ شملُهُم دفعة واحدة؛ وذلك لأنه لدينا وثيقةٌ آرميةٌ مؤرخةٌ بالسنة الخامسة من عهد الملك «إمرتي»، وهو الملك الوحيد الذي يُعرف في الأسرة الثامنة والعشرين — كما سنرى بعدُ (راجع: Papyrus no. 35 de Cowley o p. cit.) في عهد البطالمة الذين أظهروا حُسن معاملتهم لهذه الطائفة.

ومما تَجدُرُ ملاحظتُهُ هنا أن كهنة الإله «خنوم» لم يكونوا على حُسن تفاهُم — على الأقل في نهاية العهد الفارسي — مع اليهود القاطنين في «الفنتين»؛ لخلاف في الدين، وبخاصة عندما نعلم أن المصريين كانوا يحتقرون اليهودَ وديانتَهم ويبتعدون عنهم كُلَّ البُعْد؛ ولذلك فإنه في عيد الفصح الذي كان يحتفل فيه اليهودُ بذبح «خروف صغير»؛ نجد أن كهنة «الفنتين» الذين كانوا يعبدون الإله «خنوم» (أي الكبش) لم يصرحوا بذبح الخروف، وهذا لم يكن بالأمر الغريب من جانب المصريين.

وعلى أية حال فإنه من الجائز جدًّا أنَّ تاريخَ اليهود لم يكن مجهولًا لدى المصريين، فمِنْ غير المعقول أن يوجد تعايشٌ طويلٌ بين المصريين واليهود دون أن يوجد لذلك تأثيرٌ مهما كان ضئيلًا حتى لو كان بين الفريقين خلافٌ في الثقافة والآراء، وعلى ذلك فمِن الجائزِ أن يكون تاريخ «يوسف» وسبع السنين العجاف معروفًا عند كهنة معبد «خنوم» في «الفنتين» عن طريق اليهود.

هذا، ويُعَدُّ «دارا» الثاني آخر ملوك الأخمينيسين الذي تألفت منهم الأسرة السابعة والعشرون، على حسب رأي «مانيتون»، وبعد وفاة هذا العاهل حكم بلاد «فارس» بعده «أرتكزركزس» الثاني، غير أن هذا العاهل ومَن خلفه مِن ملوك الفرس لم يظهروا في «مصر»، ومنذ السنين الأخيرة من عهد «دارا» الثاني أخذت الحركةُ المصريةُ القوميةُ تَقوى وتشتد في البلاد، وأخذت في طرد المستعمر من بلادها إلى أن أفلحت في التخلُّص من شطربة الفرس الذي كان يحكم «مصر» ووضعت مكانه على عرش «مصر» أميرًا مصريًّا يُدعَى «أميرتايوس» وكان مستقلًّا عن عاصمة ملك «فارس» تمام الاستقلال. وهكذا بدأ عهدٌ جديدٌ في التاريخ المصري — كما سنشرحُ ذلك فيما يلي …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤