الفصل الثالث

خديجة

لم تنزل من السماء كما تنزل الملائكة رحمة وروحًا على الأرض، ولم تخرج من النهر كما كانت العذارى الحِسَان من بنات الماء يخرجن في الزمان القديم من الجداول والأنهار، ومن العيون والينابيع، ولم يحملها إلينا السحاب، ولا أرسلها إلينا نجم من النجوم، وإنما نشأت في القرية، وفي أسرة بائسة شقية من أُسَرها كما ينشأ غيرها من عشرات العذارى، بل من مئاتهن وألوفهن في المدن والقرى دائمًا، ولكنها امتازت من أترابها بوجه كأن الشمس ألقت رداءها عليه؛ نقي اللون لم يتخدد. ولم يكن أحد يعرف من أين جاءت بهذا الوجه السمح الطلق المشرق النقي، فقد كان وجه أبيها جهمًا غليظًا، قد احتفرت فيه الأخاديد احتفارًا، وفعل به البؤسُ والشقاءُ وشظفُ العيش الأفاعيلَ، وكان وجه أمها صورة رائعة للقبح، إنْ جاز أن تكون للقبح صورة رائعة، وكان ضِيق الحياة وخشونة العيش، وهذه الضرورات المحرجة التي تدفع البائسين من العمل إلى ما لا يحبون، وترضيهم آخِر الأمر عمَّا يكرهون؛ كان هذا كله قد غشَّى وجهَيْ هذين الأبوين بغشاء صفيق مؤلم من الكآبة والذلة والحزن والغفلة والغباء.

ولم تكن تمتاز بإشراق الوجه ونقائه فحسب، وإنما كان إشراق وجهها ونقاؤه مظهرًا لصورة رائعة بارعة من الجمال والحسن، قد أسبغت على جسمها كله، فكان شيئًا رائعًا متقنًا كأنما صُنِع في تمهُّل وتأنُّق وأناة، كأحسن ما يتمهَّل المثَّالُ البارع ويتأنق ويستأني بعمله، فيخرج تمثاله آية في الروعة وفتنة للعيون والقلوب جميعًا.

وكان صوتها — إذا تكلمت — رخصًا عذبًا صافيًا ممتلئًا، لا تكاد الأذن تسمعه حتى يحضر في النفوس هذا الوقت القصير بين انطلاق الفجر في ظلمة الليل كأنه السهم، وإشراق الشمس على الأرض حتى تملأها جمالًا ونورًا.

كان صوتها يحضر في النفس هذا الوقت القصير الذي يكون بين انطلاق الفجر وإشراق الشمس، والذي يترقرق فيه نسيم رقيق عليل، ويسقط فيه الندى كأنه تحية حلوة ملؤها الحياة والنشاط قد أرسلتها السماء إلى الأرض، وتستيقظ فيه الطبيعة نشيطة متكاسلة مع ذلك؛ تتغنى الطير وتحف الأوراق وتهف الغصون، ويهمس الضوء الفاتر إلى الأرض أن أفيقي وتأهَّبِي، فقد أوشك موكب الشمس أن يلم.

كان صوتها يحضر في النفس هذا كله إذا تكلَّمَتْ، ولم تكن تتكلم إلا قليلًا، وكان صوتها ذاك الرخص العذب الصافي يلائم وجهها المشرق النقي، وخلقها الرائع السوي، فكان شخصها أشبه شيء بآية من آيات الموسيقى التي لا تلذ السمع وحده، وإنما تلذ كل ما في الإنسان من ملكات الحس والشعور والتفكير. وكان الناس يتساءلون ولا يكفون عن التساؤل: من أين جاء هذان الأبوان اللذان آثرتهما الطبيعة بالدمامة والقبح، بهذه الآية التي استأثرت بأرقى الحسن وأنقاه؟ وكان فقيه القرية إذا ألَحَّ الناس في التساؤل أمامه، تلا عليهم هذه الآية من القرآن، مُنكِرًا عليهم تساؤلهم وإلحاحهم فيه: تُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. ثم يقول لهم: ويحكم! ما تنكرون أن يهب الله الجمال للقبح وهو يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل! إنكم لا تنكرون أن ينشق الليل المظلم عن النهار المبصر، ولا أن ينهزم ضوء النهار أمام ظلمة الليل، فلِمَ تنكرون أن يهب الله خديجة هذه لأمها محبوبة ولأبيها شعبان؟

وكانت محبوبة هذه امرأة نصفًا، تطوف بأهل القرية تصنع لهم الخبز، وتصنع لهم من الخبز نوعًا خاصًّا هو هذا الذي يُتَّخَذ من الذرة رقيقًا مستديرًا واسعًا، لا تحسن أن تصنع غيره من خبز القمح؛ فكنت تراها في آخِر الليل ملمة بهذه الدار أو تلك تهيئ العجين، وكنت تراها في أول النهار جالسة أمام الفرن، تدير بيدها السريعة الصناع قطع العجين، فتسويها في سرعة مدهشة على الشكل الذي ينبغي أن يُسوَّى عليه، ثم تقذفها إلى النهار قذفًا خفيفًا رفيقًا، ثم تستردها من النار وقد منحتها النضج الذي يجعلها سائغةً في الأفواه والحلوق والبطون. وكنت تراها حين يرتفع الضحى ويوشك النهار أن ينتصف عائدةً إلى بيتها ذاك الوضيع الحقير، وقد حملت أجرها طائفة من هذا الخبز تضيفها إلى طائفة، وتعيش عليها مع زوجها وبنيها وبناتها، ويقنعون بهذا الخبز في كثير من الأيام، وقد يضيفون إليه هذا الإدام أو ذاك، إنْ ساق الله إلى شعبان رزقًا، أو تفضَّلَتْ بعض الأسر الموسرة على هذه الأسرة المعسرة بشيء من طعام، فإنْ لم يكن هذا ولا ذاك فالخبز وحده، أو الخبز مع شيء مما تنبت الأرض، وتصل إليه الأيدي القصار من البصل والفجل، وهذه الأعشاب التي لا يتحرَّج البائسون من أن يستعينوا بها على الحياة.

وكان شعبان رجلًا مقتَّرًا عليه في الرزق، قد ورث عن أبيه مهنة لا تغني من جوع؛ كان بنَّاءً متواضعًا، لا يقيم الدور التي تُتَّخَذ من الحجر والآجر واللبن، وإنما يقيم البيوت والحجرات التي تُتَّخَذ من الطين الغليظ: تراب يُجمَع ويُصَبُّ عليه الماء، ويُخلَط به بعض الهشيم، ثم تُسوَّى منه قطع متلائمة أو غير متلائمة يضاف بعضها إلى بعض لتمتد في الفضاء، وترتفع في الجو، وتدور أو تستطيل حول رقعة ضيقة من الأرض، حتى إذا ارتفعت فبلغت القامة أو أقل من القامة، مُدَّ عليها شيء من سعف النخل، فاستقام منها بيت أو حجرة يأوي إليها البائسون من أهل القرى، فتقيهم أيسر ما ينبغي أن يتقوا من عاديات الطبيعة.

وأهل القرى لا يبنون هذه البيوت في كل يوم ولا في كل أسبوع، وإنما يبنونها حين يتاح لهم البناء، وحين تأذن لهم الظروف أن يتخذوا البيوت والحجرات، أو أن يقيموا الغرفة فوق هذه الحجرة أو تلك، أو فوق هذا البيت أو ذاك.

فكان يعمل اليوم أو اليومين أو الأيام القليلة ليظل بعد ذلك متعطلًا أيامًا أو أسابيع. وكان يوسع على أهله بهذه القروش التي يغلها عليه عمله من حين إلى حين، يكسوهم إن استطاع لهم كسوة، ويمتعهم بقليل من الطيبات إن طالت يده إلى قليل من الطيبات، فلم يكن بد من أن يعمل الصبية حين شبوا ليقوتوا أنفسهم حيث يعملون، وليرجعوا على أهلهم بفضل ما يساق إليهم من الرزق.

وكانت خديجة كاعبًا، تعمل في دار من دور أهل اليسار، تُقبِل مع الصبح المسفر فتنفق ما تملك من نشاط في خدمة أهل الدار، وتعود مع الليل المظلم إلى بيت أبويها فتنفق الليل فيه. وكانت راضيةً بهذه الحياة باسمةً لها على شيء من حزن كان يستقر في قلبها ويتغلغل في ضميرها، ولا يبين عنه لسانها حين ينطق، ولا وجهها حين يأخذ ما يأخذ من الأشكال. كانت تفكِّر من غير شك في بؤس أبويها وإخوتها الصغار، ولكنها لم تكن تعبِّر عن هذه الخواطر الكئيبة بلفظ أو لحظ أو حركة، إنما كانت تخفي حزنها كما يخفي البخيل كنزه، وربما نمت بهذا الحزن نغمة ضئيلة مرة، تغمر هذا الصوت الممتلئ العذب، فتترك في نفوس السامعين أثرًا غريبًا، وربما نمت بهذا الحزن سحابة خفيفة رقيقة تمر بهذا الوجه المشرق الجميل، مرًّا سريعًا لا يتيح للذين يرونها أن يفكِّروا فيها فضلًا عن أن يسألوا عنها. كانت حياتها في تلك الدار بهجة متصلة ورضًا مقيمًا، تقطعها بين حين وحين وفي لحظات قصار جدًّا هذه النميمة التي تهم أن تنبئ بالحزن، ولكنها تذوب قبل أن تنبئ بما همَّتْ أن تنبِّه إليه.

وكانت ربة الدار محِبَّةً لخديجة رفيقةً بها، عطوفًا على أهلها، تبرُّهم كلما سنحت لها الفرصة، وتُحسِن إليهم كلما أتيح لها الإحسان، وكانت كثيرًا ما تدعو محبوبة إلى الدار وتكلِّفها بعض العمل اليسير الهين أو الغليظ العنيف، تأجرها على ذلك لا بالقروش التي تضعها في يدها، ولكن بالثوب الذي تهديه إليها من ثيابها هي الخليعة، أو من ثياب أبنائها وبناتها، أو من ثياب زوجها، وبالطعام تكلِّفها حمله إلى زوجها وبنيها، وبالطرف تطرفها بها في أيام الأعياد وفي أيام السعة والرخاء، حين تلم أيام السعة والرخاء، ولكنها لم تكن تقف عند هذا النوع من البر، وإنما كانت تحرص على أن يكون رفقها بالأسرة متجدِّدًا، وعطفها عليها متصلًا.

وفي ذات يوم سمعَتْ ربةُ الدار في فناء دارها من نحو حظيرة الماشية صياحَ امرأة تصيح، وبكاءَ فتاة تبكي، وصوتَ عصًا تلهب جسمًا بضرب متصل، وصراخَ صِبْيَةٍ يجأرون بالشكاة، فتخرج من حجرتها مسرعة، ولا يروعها إلا محبوبة قد ألقت ابنتها على الأرض وأخذت بشعرها الطويل الجميل تجذبه بإحدى يديها جذبًا عنيفًا، ويدها الأخرى ترتفع وتنخفض بغصن يابس من هذه الغصون التي تُتَّخَذ لإدارة الخبز في النار واستخراجه منها، وغير بعيد من هذ المنظر الأليم طبقان من خزف قد نحيا ناحية، ومحبوبة تنظر إليهما وتسأل عنهما الفتاة، في حين تمعن يدها في جذب الشعر، وتمعن الأخرى في رفع العصا وخفضها.

قالت ربة الدار منكرةً: ماذا أرى وماذا أسمع؟! ثم أسرعت إلى محبوبة فردَّتْها عن الفتاة وانتزعت من يدها العصا، وإلى الفتاة فأنهضتها وفرَّقَتْ بينها وبين أمها، ولكن محبوبة أمعنت في بكاء متصل فيه شهيق وزفير، ثم لم تلبث أن أخذتها نوبة عصبية، من هذه النوبات التي تأخذ أمثالها من النساء حين يمعنَّ في الشهيق والزفير، حتى اضطرت ربة الدار إلى أن تنضحها بشيء من ماء لتردها إلى الاتزان والسكون.

فلما ثابت محبوبة إلى نفسها، واستنبأتها ربة الدار عن خطبها وخطب الفتاة، سمعت منها كلامًا لم يكد يبلغ نفسها حتى انهلَّتْ دموعها له غزارًا: سمعت منها أنها وجدت في زاوية من زوايا بيتها هذين الطبقين، فلم تشك في أن ابنتها تخون سادتها وتسرق ما في دارهم من متاع. لم يَبْقَ إذن إلا أن تسرق، فتخون مَن يُحسِنون إليها وإلى أهلها، ويتيحون لهم حياة فيها شيء من نعمة ورضًا! لم يَبْقَ إذن إلا أن تسرق فتُدخِل الشر على أهلها وتزيد عيشهم ضيقًا إلى ضيق، وحياتهم شقاءً إلى شقاء، من أجل هذه السرقة التي استكشفتها قُتِّرَ عليهم في الرزق، فرُدَّتْ هي عن بعض الدور التي كانت تصنع فيها الخبز، ولم يُدْعَ زوجها إلى بناء البيوت، ولا إلى تسوية الطوب منذ وقت طويل. لقد كنَّا نسأل عن مصدر هذا الشقاء، فقد عرفناه الآن، إن لنا ابنةً سارقةً تخون سادتها، وتختلس ما عندهم من متاع!

قالت ربة الدار وقد كفكفت عَبَراتها: على رسلك أيتها المرأة! فإن ابنتك لم تسرق هذين الطبقين، وإنما كلَّفْتُها أن تحملهما إليكم أمس مع الليل، وفيهما شيء من الطعام، كدأبي معها دائمًا، وما أرى إلا أنها قد نسيتهما حين أقبلت على عملها مع الصبح. قالت محبوبة: فإنها لم تحمل إلينا أمس طعامًا، كما أنها لم تحمل إلينا طعامًا قطُّ. وانجلت القصة بعد قليل، وتبيَّنَ أن خديجة كانت تستحيي أن ترفض ما تكلِّفها سيدتها أن تحمل من الطعام إلى أهلها، وكانت تستحيي أن تحمل إلى أهلها هذا الطعام، فكانت إذا خرجت بالطبق أو الأطباق تخفَّفَتْ مما فيها، تهديه إلى الفقراء إنْ وجدت في طريقها الفقراء، وتلقيه إلى الكلاب إن لم تجد في طريقها إلا الكلاب، وتلقيه في عرض الطريق إن لم تجد في طريقها ناسًا ولا كلابًا، ثم تضع الأطباق في زاوية من زوايا البيت، فإذا أصبحت عادت بها إلى الدار باسمةً ظاهرةَ الرضا، كأنها قد وسعت على أهلها بما حملت إليهم من رزق. ولكنها في ذلك اليوم قد أعجلت عن حمل الطبقين، ولم تذكرهما إلا حين رأت أمها مُقبِلة تحملهما وتسألها في غلظة عنهما؛ أين كانا ومن أين سرقتهما، ثم لا تمهلها ولا تنتظر منها جوابًا، وإنما تجذب شعرها بإحدى يديها وتلهب جسمها بذلك الغصن اليابس في يدها الأخرى، ويأخذها الغضب فتصيح، والفتاة يأخذها الألم فتبكي، وكلما أمعنت الفتاة في النحيب أمعنت أمها في الصياح.

منذ ذلك اليوم عرفت ربة الدار أن خديجة خادم لا كالخدم، وفتاة لا كالفتيات، فآثَرَتْها بالمودة، واختصَّتْها بالحب، وكادت تتخذها لنفسها صديقًا، وقصَّتْ على زوجها القصة آخِر النهار، فرَقَّ للفتاة وأهلها، وأوصى امرأته بها وبهم خيرًا، وتلا قول الله — عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ.

وفتيان القرية يتسامعون بقصة خديجة هذه، ويتحدثون بما تصوِّر هذه القصة من تعفُّفٍ لا يجدونه عند الأغنياء، ومن حياء نادر لا يجدونه فيما يشهدون من أمور الناس ولا فيما يُقَصُّ عليهم من أحاديث الجدات. وفتيان القرية يتحدثون عن جمال خديجة الفاتن، وحُسْنها الذي يسحر العيون ويخلب القلوب ويملك الألباب. وفتيان القرية يسرون في أنفسهم حبًّا لخديجة، وإعجابًا بها، وطمعًا فيها، ويعلنون بألسنتهم إطراء لخديجة وثناء عليها، والأماني تلعب بعقولهم كل ملعب، وتسلك بقلوبهم كل سبيل. ثم يتقدَّم الخاطب ذات يوم من أسرة ليست عظيمة الحظ من الثراء ولكنها بعيدة كل البعد عن الإعدام، لها أرض تزرع غير بعيد من القرية، ولها ماشية تخرج من الدار مع الصباح، وتعود إليها مع المساء، وتغل على الأسرة خيرًا كثيرًا.

والفتى قوي موفور الصحة، عظيم النشاط، جميل المنظر، منطلق اللسان، ولا سيما حين يأخذ زينته ويذهب إلى المسجد ليشهد صلاة الجمعة، ثم يعود فيأخذ مع رفاقه في ضروب من العبث وفنون من الحديث.

وأسرة خديجة تسمع أول الأمر ولا تصدق، ثم تعرف بعد إنكار، وتقبل بعد تردد فيه كثير من الأمل الذي يحيي النفوس، والخوف الذي يميت القلوب. وما يمنع هذه الأسرة البائسة أن تجد في هذه الخطبة روحًا من الله، سيتيح لها رخاءً بعد شدة، وسعة بعد ضيق؟ وما يمنعها أن ترى نفسها وبؤسها، فتشفق من إصهارها لأسرة ذات سعة ويسار؟ ولكن الفتى صادق محب ملح في صدقه وحبه، وأسرته لا تعدل برضاه وسعادته شيئًا آخَر، فهي صادقة ملحة في صدقها، تبتغي الوسائل إلى إقناع البؤس بأن يصهر إلى النعيم.

وقد استقامت الأمور بين الأسرتين، ولكنها لم تستقم في نفس خديجة، فهي تمتنع على هذا الزواج، وتلح في الامتناع، تؤثر حياتها هذه التي تحياها خادمًا على تلك الحياة التي تدعوها إلى الحرية والاستقلال بأمر نفسها، والقدرة على معونة أهلها. وهي تمتنع وتلح في الامتناع حتى تثير الريبة في نفس أبويها، فما ينبغي أن تصر على هذا الإباء إلا أن تكون قد قصرت في ذات نفسها، وفرطت فيما للشرف على الفتاة من حق.

ومحبوبة تفضي بسرها هذا البشع إلى سيدة خديجة في صوت يقطعه البكاء وتغمره الدموع، ولكن سيدة خديجة تردها إلى القصد وتعيد الطمأنينة إلى نفسها البائسة وقلبها القلق، وما تزال بالفتاة تلاينها حينًا، وتخاشنها حينًا آخَر، حتى تختلس منها الرضا اختلاسًا. وقد احتفلت أسرة الفتى ليوم الزفاف واختلف سيدة خديجة ليوم الزفاف أيضًا، وهُيِّئَتِ الفتاة لهذا اليوم المشهود من حياتها كأحسن ما تُهَيَّأ الفتيات من بنات الطبقة الوسطى لمثل هذا اليوم، وأَبَتْ سيدة خديجة إلا أن يبدأ الزفاف من دارها لا من دار شعبان.

وفي ذات ليلة كانت محبوبة قد انكفأت على وجهها أمام بيتها الحقير تريد أن تبكي فلا تجد الدموع، وتريد أن تتكلم فلا تجد الألفاظ، وإنما يتردَّد في حلقها صوت خفي منكر، إنْ دلَّ على شيء فإنما يدل على خوفها وهلعها مما ستنكشف عنه ساعة من ساعات هذا الليل حين يدخل الفتى على زوجه. وهي كذلك ملقاة على الأرض يضطرب جسمها من حين إلى حين اضطرابًا عنيفًا، وتجري في أطرافها رعشةٌ تخف لحظة، وتعنف لحظة أخرى، ويتردَّد في حلقها هذا الصوت المنكر البغيض، والفرح من حولها يملأ قلوب الشباب بهجة وسرورًا.

ثم تنطلق الزغاريد كأنها سهام من فضة تشق ظلمة الليل الحالكة، وتسمع طلقات للبنادق هنا وهناك، ويظهر جمع من النساء والصِّبْيَة قد نصبوا شيئًا يشبه أن يكون راية قانية، وهم يهتفون بألفاظ ينكرها السمع ويمجها الذوق، وسهام الزغاريد منطلقة يتبع بعضها بعضًا، كأنما تريد أن تمزق أحشاء الليل تمزيقًا، وامرأة وَقَاح تهز محبوبة هزًّا عنيفًا وتزجرها زجرًا مخيفًا، وتقول لها في صوت يسمعه الناس: أفيقي! ثوبي إلى نفسك، ما تخافين؟ لقد بيَّضَتْ خديجة وجهك ووجه شعبان.

وتثوب السكينة إلى محبوبة قليلًا قليلًا، وقد أقامها النساء فأجلسنها وقدَّمْنَ إليها شيئًا من ماء لتسترد صوابها كاملًا وقوتها موفورة.

وتنقضي الليلة كما تنقضي ليالي الأعراس، ويقبل النهار من غد، ولكن خديجة لا تبدو للزائرات إلا مكرَهَة على ذلك إكراهًا، تسمع منهن كل شيء ولا تقول لهن شيئًا، تحاول أن تمسك دموعها فلا تجد إلى إمساك الدموع سبيلًا.

وهن يسألنها، ويتساءلن فيما بينهن: ما خطبها؟ وما مصدر هذه الكآبة التي تغمر نفسها، وهذه الدموع التي تغمر وجهها؟ ومتى رأى الناس فتاةً يملأ قلبها الحزن في مثل هذا اليوم الذي تفيض فيه القلوب فرحًا وبشرًا؟! هن يسألنها فلا يجدن عندها جوابًا؛ لأنها لا تجد عند نفسها جوابًا، أو قُلْ إن الجواب مستقر في نفسها، ولكنها لا تستطيع أن تبديه لأنها لا تستطيع أن تصل إليه ولا تظهر عليه، وهن يتساءلن فيما بينهن فلا يجدن جوابًا لما يدور على ألسنتهن من سؤال. ولو جرت أنفسهن على سجيتها لاخترعن الجواب عن تساؤلهن اختراعًا. وأي شيء أيسر عليهن من الريبة تثار بالحق وبالباطل! لقد رأين الفتاة أمس تُزَفُّ إلى زوجها شاحبة الوجه ممتقعة اللون زائغة البصر لا تمسك نفسها إلا في جهد، كأنما كانت تساق إلى الموت وهي تنظر إليه، ولقد كانت أمها ملقاة على الأرض تضطرب اضطرابَ مَن مَسَّها الصرع وركبها الشيطان، أليس في كل هذا وفي بعض هذا ما يريب؟ ولكنهن رأين الراية القانية ترتفع في ظلمة الليل وبين خفقان المصابيح.

والضحى يرتفع، والنهار يوشك أن ينتصف، وهذه سيدة خديجة قد أقبلت زائرةً لها، تحمل إليها التحية وتحمل إليها الهدية أيضًا، فترى وتسمع ويروعها ما ترى وما تسمع.

ثم تخلو إلى الفتاة خلوة تطول شيئًا، وتخرج من عندها متضاحكة تقول لمَن حولها: عبث أطفال، وحياء فتاة غافلة لن تلبث الأيام أن تذهب به كما تذهب بكثير من الأشياء.

ولكن الأيام تمضي ولا تذهب بشيء، أو يُخَيَّل إلى مَن حول خديجة أن الأيام تمضي كما تعوَّدَتْ أن تمضي في أعقاب الأعراس، فالفتاة هادئة مطمئنة وإن كان وجهها الصبوح قد فقد غير قليل من جماله وبهجته، وغشيته سحابة مقيمة من حزن رقيق يزيدها إلى النفوس حبًّا، ويزيد موقعها في القلوب حُسْنًا، وإن كان صوتها الرخص العذب الصافي الممتلئ، قد جَرَتْ فيه نغمة حزينة متكسرة، تجعله ألذَّ موقعًا في السمع، وأسرع نفوذًا إلى القلب.

وزوج الفتاة سعيد مغتبط كأحسن ما يسعد الأزواج ويغتبطون.

وينطلق الفجر ذات يوم جريئًا يريد أن يمحو آية لليل، وتغمر الأرض هذه الساعة الحلوة التي تكون بين انطلاق الفجر وإشراق الشمس، والتي كان صوت خديجة يحضرها في النفوس بما يملؤها من ترقرق النسيم، وحفيف الأوراق، وهفيف الغصون، وسقوط الندى، وغناء الطيور، واستيقاظ الطبيعة، وفي هذه الساعة الهادئة الحلوة يخرج النساء والعذارى من أهل القرية ساعيات إلى النهر، متغنيات جمال الحياة، كأنه حلم يلمُّ بنفوسهن في آخِر عهدها بالليل، وأول عهدها بالنهار. ثم يَعُدْنَ إلى القرية صامتات، قد أخذ الابتسام يغادر ثغورهن قليلًا قليلًا، وأخذت الكآبة تغشى وجوههن شيئًا فشيئًا، وأخذ الهمُّ يستيقظ في قلوبهن فنونًا وألوانًا، وأخَذْنَ يتهيَّأْنَ لاحتمال أثقال الحياة وآلامها ما غمرت الشمس قريتهن بنورها الملح الثقيل.

ذهَبْنَ إلى النهر فرحات مرحات، وعُدْنَ إلى القرية كاسفاتِ البال بائساتِ النفوس. وافتُقِدَتْ خديجة حين تقدَّم النهار قليلًا فلم توجد، وإنما وُجِدت على شاطئ النهر، وفي مكان بعيد من حيث تعوَّدَ النساء أن يملَأْنَ جرارهن؛ جرةٌ مملوءةٌ وإلى جانبها بعض الحلى، والتُمِسَتْ خديجة في النهر فلم يظفر بها الباحثون.

قالت سيدتها وهي تكفكف دموعها تريد أن تنسجم، وتثبت صوتًا يريد أن ينفطر: لقد أُكرِهت خديجة إكراهًا على الزواج، ومَسَّ حياءها النقي ونفسها الطاهرة منه دنس، لم يستطع الحب أن يغسله فغسله الموت.

قال سيد خديجة: وصنع الله لأبويها؛ فقد كتب على محبوبة أن تطوف ما عاشت بالدور تصنع لأهلها الخبز، وكتب على شعبان ألَّا ينظِّف يديه ولا ثيابه من الطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤