الفصل الثامن

تضامن

لم يكن عمر بن الخطاب رحمه الله، يقدر حين صدر بالمسلمين من الحج سنة ثماني عشرة للهجرة، أنه يستقبل بالمسلمين من أهل بلاد العرب، ومن أهل الحجاز ونجد وتهامة خاصة، عامًا أسود قاتمًا يمتحن المسلمون به في أنفسهم وأموالهم وأخلاقهم، وفيما أتيح لهم من الصبر على الشدائد والثبات للمكروه والنفوذ من الخطوب، وفيما أتيح لهم كذلك من هذا الشعور الكريم الممتاز الذي يجعل الإنسان إنسانًا، ويرقى به إلى المنزلة العليا من منازل الكرامة، وهو شعور التعاطف والتآلف والتضامن الاجتماعي الذي يلقي في روع كل فرد مهما تكن منزلته، أنه عضو من جماعة يسعد بسعادتها، ويشقى بشقائها، ويأخذ بحظه مما يصيبها من النعماء والبأساء، وما ينوبها من السراء والضراء.

لم يكن عمر — رحمه الله — يقدِّر أن الغيب قد أضمر له وللمسلمين من أهل بلاد العرب هذه المحنة القاسية، يمحص بها قلوبهم، ويصفي بها نفوسهم، ويعلِّمهم بها أن الحياة ليست نعيمًا متصلًا، ولا رضاء مقيمًا، ولا خصبًا يتجدَّد كلما تجدَّدَتِ الفصول، وإنما هي مزاج من النعيم والبؤس، ومن اللذة والألم، ومن السعادة والشقاء، وأن سبيل المؤمن الذي مسَّ الإيمانُ قلبَه حقًّا، هو ألَّا يطغى إذا استغنى، ولا يبطر إذا نعم، ولا ييأس إذا امتحن بالبؤس والشقاء، وألَّا يؤثر نفسه بالخير إن أُتِيح له الخير من دون الناس، وألَّا يترك نُظَرَاءَه نهبًا للنوازل حين تنزل، وللخطوب حين تلمُّ، وإنما يعطي الناس مما عنده حتى يشاركوه في نعمائه، ويأخذ من الناس بعض ما عندهم حتى يشاركهم في بأسائهم، فالله لم ينشر ضوء الشمس ليستمتع به فريق من الناس دون فريق، والله لم يرسل النسيم لتتنفسه طائفة من الناس دون طائفة، والله لم يُجرِ الأنهار ولم يفجِّر الينابيع لتشرب منها جماعات من الناس وتظمأ إليها جماعات أخرى، والله كذلك لم يُخرِج النبات من الأرض ليشبع منه قوم ويجوع آخرون.

وإنما أسبغ الله نعمته ليستمتع بها الناس جميعًا، تتفاوت حظوظهم من هذا الاستمتاع، ولكن لا ينبغي أن يُفرَض الحرمان على أحد منهم، مهما يكن شخصه، ومهما تكن طبقته، ومهما تكن منزلته بين مواطنيه.

لم يكن عمر — رحمه الله — يقدِّر حين صدر من الموسم في ذلك العام أن الله سيرسل إلى المسلمين عامًا جديدًا يمتحنهم فيه بالجوع والظمأ والعُرْي، امتحانًا لم يعرفوا مثله منذ عهد بعيد أشد البعد، وكيف كان عمر يستطيع أن يقدِّر ذلك وأمور الدولة الناشئة تجري على خير ما كان المسلمون يحبون من العدل والسعة وبُعْد الصيت، وانتشار الفتح وكثرة الفيء وغزارة الرخاء؟ ولكن العام الجديد يقبل، وإذا السماء تبخل بمائها حتى تحترق الأرض ظمأً إلى هذا الماء، وحتى تسودَّ كأنها الرماد، وحتى يضطر المسلمون إلى أن يسموا هذا العام عام الرمادة.

بخلت السماء بالماء، وجادت الشمس بالحر، وعجزت الأرض عن أن تُخرِج للناس ما يأكلون وما يطعمون به ما كانوا يسومون من الثاغية والراغية. وينظر عمر بعد أن استقر في المدينة، فإذا الأزمة تسعى متمهِّلة مستأنية، ولكنها مستوثقة من نفسها ملِحَّة في سعيها، وإذا أهل البادية قد أجدبوا واشتدَّ عليهم الجدب، فلم يفكروا إلا في أن يهرعوا إلى خليفتهم، يلتمسون عنده ما يطعمهم من جوع، ويسقيهم من ظمأ، ويكسوهم من عُرْي، وما له لا يفعل ذلك وهو قد أخذ أبناءهم وآباءهم وإخوانهم وكاسبيهم وعائليهم، فرمى بهم تلك الثغور، ودفع بهم إلى حروب يعرفون أولها ولا يعرفون آخِرها! وما لهم لا يهرعون إليه وهم كانوا يشعرون بحبه لهم، وعطفه عليهم، وبره بهم، يسعى إلى أقصاهم كما يسعى إلى أدناهم، لا يقصر عن السعي إليهم ساعة من ليل أو ساعة من نهار.

ثم ينظر عمر فإذا جزيرة العرب كلها ترسل إليه مَن بقي فيها من الشيوخ والنساء والأطفال والعاجزين الذين لا يقدرون على شيء، والقادرين الذين لا يجدون شيئًا يقدرون عليه … هنالك ينهض عمر للقاء هذه الأزمة العنيفة الجائحة نهوضَ الرجل الذي يعرف الحق كما لم يعرفه أحد بعده، ويحمل العبء كما لم يحمله أحد بعده، ويواجه الخطب مصمِّمًا على أن ينفذ منه أو يموت من دونه مهما تكن الظروف، حتى أصبح عام الرمادة ذاك كنزًا من كنوز المسلمين لا ينفد ولا يدركه الفناء؛ يجد المسلمون فيه من العِبرة والموعظة الحسنة والقدوة الصالحة، ما لا يمتنع عليه قلب له حظٌّ من رفق ولين، إلا أن يكون من تلك القلوب التي وصفها الله عز وجل، بأنها قست فهي كالحجارة أو أشد قسوة. وقد بدأ عمر رحمه الله بنفسه في مقاومة هذا الخطب، فأبى إلا أن يكون رجلًا من المسلمين؛ يشقى كما يشقون، ويجزع كما يجوعون، ويظمأ كما يظمئون، ويشتد على نفسه وعلى أهله بمقدار ما تشتد الأزمة على أشد الناس فقرًا وبؤسًا، يفعل ذلك لأنه مؤمن قبل كل شيء بأن من الحق عليه لنفسه ولله وللناس أن يفعل ذلك، ثم يفعله لأنه مؤمن بأن من الحق عليه أن يعلم الناس كيف يكون التضامن والتعاون والتعاطف، حين تنزل المِحَن وتلمُّ الخطوب، فيأبى إلا أن يعيش كما يعيش أفقر الناس!

رأى المسلمين لا يجدون السمن إلا في مشقة وجهد، فحرَّم على نفسه السمن حتى تجده عامة الناس، وفرض على نفسه الزيت والخبز الجاف، فلما ثقل عليه الزيت ظنَّ أنه إن طُبِخ له فقد يكون أخفَّ على معدته احتمالًا، فأمر أن يطبخ له بالزيت، وأكله مطبوخًا فكان أوجع له وأعسر هضمًا، حتى تغيَّرَ لونه واسودَّ وجهه، وكان شديد البياض، ثم جعل يطعم الناس على الموائد العامة ويجلس معهم إلى هذه الموائد يأكل مما يأكلون منه. ثم أمر المنادين أن ينادوا في الناس: مَنْ يَشَأْ أن يُقبِل على هذه الموائد ليأكل منها فَلْيفعل، ومَن شاء أن يُقبِل على هذا الطعام فيأخذ منه حاجته وحاجة أهله ليأكل معهم فَلْيفعل. وكان يُشرِف بنفسه على إعداد الطعام، وربما علَّم الطبَّاخين كيف يطبخون. ولكن الأزمة تشتد وتشتد، وأهل البادية يهرعون إلى المدينة، وكثير منهم لا يستطيعون أن ينتقلوا من أماكنهم، قد هلك الزرع، وجفَّ الضرع، ونفقت الماشية، وأصبح من الحق على الخليفة أن يدرك هؤلاء الناس في مواطنهم، ويحمل إليهم أرزاقهم ما داموا عاجزين عن السعي إلى هذه الأرزاق؛ هنالك يكتب عمر إلى عمَّاله في الأقاليم يأمرهم بأن يرسلوا إليه الأمداد. واقرأ هذا الكتاب القصير الرائع الذي كتبه عمر إلى عامله على مصر عمرو بن العاص رحمه الله، وانظر إلى ما في هذا الكتاب القصير الرائع من عنف عنيف ملؤه الرحمة الرحيمة، والرفق الذي ليس بعده رفق: «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاصي. سلام عليك. أما بعدُ، أفتراني هالكًا ومَن قِبَلي، وتعيش أنت ومَن قِبَلك؟ فيا غوثاه! … يا غوثاه! … يا غوثاه!»

فلم يكد عمرو بن العاص — رحمه الله — يقرأ هذا الكتاب الذي يزجره فيه أمير المؤمنين أشد الزجر، حتى كتب إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم

لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص. سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، أتاك الغوث فلبِّثْ فلبِّثْ، لأبعثن إليك بعيرًا أولها عندك وآخِرها عندي.

ثم نهض عمرو في إرسال هذا الغوث برًّا وبحرًا. وكتب عمر إلى عماله الآخرين في الشام والعراق، فكلهم صنع صنيع عامل مصر، ثم أرسل عمر رسله إلى حدود بلاد العرب مما يلي الشام والعراق ومصر، وأمرهم أن يتلقوا هذه المعونات، فيميلوا بها إلى أهل البادية في أماكنهم وأحيائهم ليطعموهم، ويكسوهم، ويسقوهم، وعزم على رسله هؤلاء ألا يضعفوا ولا يلينوا ولا يفرقوا ما في أيديهم من الطعام دون أن يتبيَّنوا أنه صائر إلى بطون الجائعين، لا إلى خزائن المختزنين. وأشد من هذا روعة وأعظم من هذا إثارة للعبرة، أن عمر رحمه الله كان يقول: «نطعم ما وجدنا أن نطعم، فإن أعوزنا جعلنا مع أهل كل بيت ممَّن يَجِد، عدتهم ممَّن لا يَجِد، إلى أن يأتي الله بالحيا.»

ومعنى ذلك أنه — رحمه الله — قد فتح بيت المال على مصراعيه، وأزمع أن يرزق الناس منه، حتى إذا لم يجد فيه شيئًا كلَّف كل أسرة غنية أن تطعم مثل عددها من الفقراء، يأخذهم بذلك بسلطان القانون والدين، حتى يأتي الله بالفرج.

وما قصصت عليك هذا كله لأرفه عليك بروائع التاريخ، أو لأطرفك بهذه النوادر البارعة من سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فلسنا في وقت ترفيه ولا إطراف ولا ترويح، وإنما نحن نحيا في أيام سود، ليست أقل نكرًا، ولعلها أن تكون أشد نكرًا من عام الرمادة ذاك.

فقد كان المسلمون في أيام عمر، وفي ذلك العام، يجدون الجوع والظمأ والعُرْي، فأما المصريون في هذا العام فإنهم يجدون الموت ويجدون المرض، ويجدون بعد الموت والمرض ما كان يجد العرب في عام الرمادة من الجوع والظمأ والعُرْي، ومن حق المصريين الذين صبَّ عليهم الوباء أن يدفع عنهم هذا الوباء، وأن ترد عنهم آثاره، فلا يكون منهم مَن يشكو الجوع والظمأ والعُرْي، وهذا الحق واجب على الدولة ما وجدت في خزائنها من المال ما يمكنها من ذلك، لا ينبغي أن تفكِّر في شيء حتى تفرغ من هذه المحنة، فإن لم تسعفها خزائنها فمن الحق عليها أن تسلك الطريق التي أراد عمر أن يسلكها، وأن تفرض على القادرين رعاية العاجزين حتى يأتي الله بالفرج.

يجب أن تعلم الدولة، ويجب أن يعلم الموسرون، أن التصدُّق بالمال خير في أوقات الرخاء والدعة واللين، فإذا اشتدت الشدة، وأزمت الأزمة، وألمَّ الوباء، فالتصدُّق واجب يفرضه العدل، فإن لم ينهض به الأفراد من تلقاء أنفسهم، وجب على الدولة أن تأخذهم به أخذًا. يجب على الدولة أن تعلم أن الله قد أمر أئمة المسلمين في أوقات الرخاء والدَّعَة أن يأخذوا من الأغنياء ويردوا على الفقراء، حتى لا يبقى بين الناس جائع أو محروم، فإذا جدَّ الجد وألمَّتِ الكارثة، فحرام على الموسرين أن يطعموا وأن يشربوا وأن يكتسوا حتى يطعم الجائعون ويشرب الظامئون ويكتسي العارون من المعسرين، وعلى الدولة أن تقوم على هذا كله بسلطان القانون، فإن لم تفعل فهي آثمة أشنع الإثم في ذات الله، وفي ذات الوطن، وفي ذات المواطنين!

هذه دروس ألقاها عمر بن الخطاب على الحاكمين والمحكومين في التضامن الاجتماعي الذي لا يقوم على الاشتراكية ولا على الشيوعية، وإنما يقوم على قول الله عز وجل: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

فهل نطمع في أن تسمع الدولة، وفي أن يسمع الموسرون؟ وهل نطمع في أن تتذكر الدولة ويتذكر الموسرون؟ وهل نطمع في أن نُعفَى وتُعفَى الكرامة الإنسانية من طلب الصدقات في الصحف إلى قوم يؤثرون الأموال على الوطن وعلى المواطنين؟

إن من الحق على الدولة أن تعلِّم البخلاء كيف يكون الكرم والجود بسلطان القانون؛ إذ لم يصدر عن يقظة الضمائر وحياة النفوس …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤