السيد والعبد

(قاعة فسيحة، تتوسطها منضدة كبيرة يجلس إليها رجلٌ على مشارف الكهولة. أمامَه ومِن حوله ألواح مسمارية كثيرة، ولوحات معلَّقة على الجدران تُطِل منها نقوش بابلية بارزة لملوكٍ وآلهةٍ ومناظرَ من الحياة اليومية والاجتماعية. نافذة كبيرة تبدو من ورائها خرائبُ مدينةٍ قديمة. يتململ الرجل في جِلسته، يُحاول أن يبدأ عمله ثم ينفض يدَيه من المحاولة وينهض على قدمَيه صائحًا):

السيد : أيها العبد، أيها العبد! (يتأخَّر عليه العبد فيقول لنفسه) ما هذا؟ ماذا جرى لي؟ أنا الذي فكرت وكتبتُ أكثر من عشرين سنةً لم أعد قادرًا على تفكير ولا كتابة. حتى المخطوطات القديمة التي كنتُ أجد متعتي وسلواي في نَسخها أصبحتُ لا أُطيق النظر إليها. وتمر الأيام والليالي وأنا أُحاول بيتًا واحدًا من الشعر فلا يستجيب، مع أني كتبتُ للملك عشراتِ الحكايات والحكم والأمثال والأشعار، حتى أطلقوا عليَّ اسم شاعر القصر. نعم، نعم. يا عبدي! أنت أيها العبد!

(يظهر العبد داخلًا مسرعَ الخُطى. وهو شابٌّ لا تفارق الابتسامة شفتَيه.)

العبد : ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد : أسرِع، أسرع، نفِّذ ما أقوله لك.
العبد : أمرَك يا سيدي أمرك!
السيد : هيا أحضِر المركبة وأعِدَّها لأمضيَ إلى القصر.
العبد : امضِ يا سيدي، امضِ، سأكون تحت تصرفك.

(يتلكَّأ قليلًا. السيد يكتشف أنه لم يتحرَّك من مكانه. يرفع حاجبَيه ويفتح فمه دهشةً ويهمُّ بالكلام فيسأله العبد.)

العبد : معذرةً يا سيدي، هل قلتَ القصر؟
السيد : ألم تسمع ما قلتُه؟ لماذا لا تتحرك؟
العبد : أيَّ قصر تقصدُ يا سيدي؟ قصر الملك، أم الحاكم، أم الوزير، أم كبير الكهنة؟
السيد : ما أغربَ أسئلتَك في هذا الصباح الغريب!
العبد : اعذرني يا سيدي؛ فلا بد أن أعرف لأيِّ قصر ستتَّجه. إن الزينة التي أضعُها على المركبةِ والخيل ستختلفُ في كل حال.
السيد : تقول أي قصر؟! الذي تعودتُ أن أذهب إليه.
العبد : اعذرني مرةً أخرى إذا ذكَّرت سيدي بأن هذه العادة قد توقفت منذ شهور (ينظر إليه مشفقًا، ثم يسير خطواتٍ نحو الباب ويقف عنده. السيد يُحوِّل وجهه عنه وينظر من النافذة وهو يُكلم نفسه):
السيد : نعم، نعم؛ كيف غاب هذا عني؟ لقد تنافَسوا على طعني وتسديد حِرابهم إلى صدري وظهري، أولئك الشعراء الصغار والكتَبة الأوغاد! حتى الملك الذي كان يُجلِسني بجواره ويستعذب سماع شعري لم يستطع أن يفعل شيئًا. وعندما أسرعتُ إليه غاضبًا ثائرًا قال وهو يتحاشى النظر في عيني: لقد أحكَموا المؤامرة عليك، أعَدُّوا القوس والسهم ووضَعوه في يدي لأُصوِّبه إلى قلبك! اذهب، اذهب، لكن لا تنسَ أبدًا أنني أُحب شعرك.
العبد (مقاطعًا) : سيدي!
السيد : لا أيها العبد، لن أذهب للقصر، لن أذهب أبدًا!
العبد : لا تذهب يا سيدي، لا تذهب؛ ربما يُوقعونك في حفرة جديدة، أو يلفُّون حبلًا آخر حول رقبتك، ستسير في طريقٍ لا تعرفه، وستندم على ذلك ليلَ نهار!
السيد (لنفسه) : أندم؟ وهل سأكون حيًّا لكي أندم؟ ما زلتَ طيبًا أيها العبد، وربما جعلَتك الأيامُ والمحن المتوالية حكيمًا. (للعبد بعد فترة صمت) أنصِت إليَّ أيها العبد، أنصِت إليَّ.
العبد : ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا (يقفز مقتربًا منه في خشوع).
السيد : أسرِع، أسرع، سنتجه وِجهةً أخرى.
العبد : وإلى أين يا سيدي؟
السيد : إلى الخلاء؛ إلى الريف الواسع المفتوح، أريد أن أشَمَّ رائحة الخضرة، أريد أن أتنفس هواءً نقيًّا.
العبد : هل أُجهز أدوات الصيد؟
السيد : وكلابَ الصيد أيضًا، هل كنا نفعل غير هذا في الخلاء؟
العبد :
اذهبْ يا سيدي، اذهب؛
فالصياد يملأ جوفَه،
وكلاب الصيد ستكسر عظامَ الفريسة،
والصقر سينقضُّ عليها،
والحمار الوحشي سيَعْدو مسرعًا!
الحِراب ذات العيون النافذة ستتعقَّبه وتخترق لحمه!
السيد (بعد قليل يُكلم نفسه متأففًا، لا يلحظ أنَّ العبد يسمعه) : لا يا عبدي، لا، لن أذهب للخلاء، لن أمضيَ في رحلة الصيد. (ملتفتًا إلى النافذة) في كل مرة اصطدتُ فريسة كنتُ أقول لنفسي: إنني أنا الفريسة، أنظر في عيونها الميتة التي تُحدق فيَّ وأقول: عبثٌ وباطل ما فعلت، عبث وباطل! وهل أنسى العيونَ الجائعة التي كانت تلتهم أجساد الفرائس الذبيحة على طريق العودة؟ عجائزُ وصِبية وأطفالٌ تجرحني نظراتُهم الخرساءُ وتتَّهِمني: لعنتك الآلهة ولعنَت كلَّ الصيادين! وتظل العيون المحرومة تُتابعني حتى أصل إلى عتبة داري وأتخفَّى في فراشي (ملتفتًا إلى العبد وهو يصيح) لا يا عبدي، لن أذهب أبدًا!
العبد :
لا تفعل يا سيدي، لا تفعل؛
إن حظ الصياد متقلِّب،
وكلب الصيد ستتكسَّر أسنانه،
وصقر الصياد سيرجع إلى عُشه،
والحمار الوحشي سيهجع في حظيرته،
حظيرته الآمنة ببطن الجبل العالي.
لا تذهب يا سيدي، لا تذهب!
السيد : معك الحق، سأبقى، سأبقى. ولكن أنصِت إليَّ أيها العبد.
العبد : ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد : أحضِر الماء لأغسل يدي.
العبد : على الفور يا سيدي، على الفور، هل تريد …
السيد (بغضب) : أريد أن أتناول طعامي.
العبد : أجل يا سيدي، أجَل، تناوَل طعامك مرةً ومرة؛ لقد أعددتُ كل شيء؛ الإفطار الذي نسيته، والغداء الذي لم تطلبه. إن الطعام الشهيَّ يُريح الذهن من متاعبه، و«شمس»١ نفسُه يرعى من يُطهِّر يدَيه (يذهب ليُحضر الماء).
السيد : إفطاري وغدائي معًا! يا لك من عبدٍ طيب القلب! أم أن الحكمة قد فاضت منك فأغرقَتك في بحار السذاجة؟ ألم تُلاحظ إنني أغَصُّ باللقمة والشَّربة التي تُحضرها إليَّ؟ إفطاري وغدائي؟! في كل يوم أسأل نفسي: لماذا كُتِب عليَّ أن آكل وأشرب وحدي؟ كانت الكلمة هي خبزي، كان الشعر هو إكْسيرَ حياتي، وها أنا لم أشبع ولم أرتوِ! كلما وضَعتُ اللقمة في فمي رأيتُ العيون الجائعة تُلاحقني كأنها تمدُّ مخالبها لتسحبها من حلقي، وأبصرتُ عيون الأطفال الذين لم أُنجِبهم وهي تصرخ باكية: لماذا لا يكون لنا نصيبٌ في هذه اللقمة؟ لا يا عبدي، لا، لن آكُلَ ولن أشرب!
العبد (يرجع وينحني أمامه ويريد أن يصبَّ الماء على يدَيه) : ولكنك ستغسل يدَيك يا سيدي!
السيد (مفاجئًا) : ولا هذا أيضًا، لن أغسل يدَي، ولن آكل ولن أشرب!
العبد :
لا تأكُل يا سيدي، لا تأكل.
الجوع والأكل، العطش والشرب،
ماذا أفاد الإنسانُ منها؟
(يتطلع من النافذة إلى الأفق البعيد حيث تَلوح أكوامُ الخرائب القديمة.)
اسأل هؤلاء؛
ماذا أفاد الإنسانُ؟
ماذا أفاد الإنسان؟
السيد (الذي لم ينتبِهْ لما قصَد إليه العبد) : اسمع يا عبدي، اسمع!
العبد : ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد : قرَّرت أن أُكوِّن أُسرة!
العبد : مَرْحى! مرحى! تُكوِّن أسرة؟!
السيد : نعم، وأُنجب أطفالًا.
العبد :
خيرًا تفعل يا سيدي، لتكُنْ لك أسرةٌ وأطفال!
فالرجل الذي يبني بيتًا ويُربي أطفالًا،
يجعل من نفسه ملكًا،
على عرشِ مملكة صغيرة،
يسكنها شعبٌ صغير.
يُصبح راعيًا مسئولًا،
عن مصيرِ قطيع محبوب،
يعتمد عليه في زاده ومائه،
وصحته ومرضه، ونومه ويقظته،
افعل يا سيدي! افعل!
ستجدُ طعامًا ينتظرك، وسراجًا يُضيء بيتك، وفِراشًا يُدفئ جسدَك!
كوِّن أسرةً وأنجب أطفالًا؛
فما أحلى أن يَجْروا حولك في هذه القاعة!
وهم يقفزون ويتصايحون:
علِّمْنا أن نقرأَ هذي الألواح،
أسمعنا شِعرك يا أبتاه!
السيد (لنفسه) : أقرأُ لهم الألواح التي لا يقرؤُها أحد؟ أُسمِعهم شعري الذي لا أُطيق سماعه؟ أوَّاه! ما أشدَّ سَذاجتَك أو حكمتك!
العبد : ماذا تقول يا سيدي؟
السيد : أقول لا، لا يا عبدي!
العبد : لن تُكوِّن أسرة؟
السيد : ولن أُنجِب أطفالًا!
العبد :
لا تفعل يا سيدي، لا تفعل!
تفتح بابك لعروسك،
فيصير الباب هو الفخَّ المطبِقَ بالفكَّين عليك،
تحملها يومًا لفراشك،
وإذا بك في اليوم التالي،
تحمل جبلًا يُرهق كتفَيك،
ويمر الزمنُ على العذراءِ الضاحكة العين،
الباسمةِ الفم،
فيخرج من شفتَيها النصلُ المسنون الحدِّ،
أو الأفعى النافثةُ السُّم!
لا، لا تفعل! لا تبنِ بيتًا، لا تستسلم!
لا تُغرق نفسك في بحر الدَّيْن!
السيد : لا، لن أفعل، لن أستسلم! هل تعرف ماذا أنوي الآن؟
العبد : أمرَك يا سيدي، أمرك!
السيد : سأعشق امرأة!
العبد :
اعشَق يا سيدي، اعشق؛
العاشق ينسى الحزن ويطرد خوفه،
يحيا في حلمٍ وردي يصحو منه،
على حلم آخرَ وردي،
يخطو العاشقُ للمعشوق وتُسكِره الخفَّة،
يَحْدوه الأمل وتَعْروه الرجفة!
يُضنيه اليأس وتتجدد في الصدرِ اللَّهفة.
اعشَق؛ ما أحلى العشقَ إذا حاولَ،
أن يفتحَ أسوار العفَّة!
ويعودَ ومعه الصيدُ الرائع،
إنْ ساعَدَتِ الصُّدفة!
السيد : هل هذا رأيُك يا عبدي؟
العبد : رأيي؟ ألم تقُله لك هذه الألواح؟ ألم تسمعه من هذه الأشعار؟ أين أغانيك يا عِشْتار الجميلة؟ أين ذهبَت ألحانُكِ التي عزفتِها للراعي البريء فخلَبَت لُبَّه؟

(يتجول بين الألواح والتماثيل ويبتعد قليلًا.)

السيد (لنفسه) : وأين لعناتُها الرهيبة على رأس جلجاميش وفوق أطلال أوروك؟ أيها العبد المسكين! إنك لا تعرف هذا. ويعود ومعه الصيد الرائع إن ساعدَت الصدفة! لكن الصدفة لم تُساعد، وعشتار الجميلة لم تُغنِّ لي لحنًا ولم تصبَّ على رأسي لعنة. كم ذهبتُ إليها أحمل أثقالَ الألواح التي دوَّنتُ عليها شعري! كانت تضحك في طيش وهي تردُّها بيدها قائلة: شعرك صعب جدًّا؛ يبدو أنك ضليعٌ في اللغة! وليلةَ وقفت معها تحت بوابة المدينة، كانت عين الإله الأكبر مردوخ تُطِل غاضبة علينا، وسَيل المطر ينهمر بلا رحمة فوق رءوسنا، ويُحيل أشعاري إلى طينٍ عكر يتساقط على الأرض. مددت يدي لأُدفِئ يدَها فأبعدَتها. حاولتُ أن أُدفئها بثوبي وأنفاسي فأدارت وجهها وظهرها. عرَفتُ ليلتها أنها ليست لي. وفي ضحى اليوم التالي لمحتُها تدخل معبد الإله «شمس» وذراع الكاهن الأكبر القوية تلتفُّ حول خصرها كما تلتفُّ شبكة الصياد حول حمامة بيضاء، وما هي إلا ليلة حتى تركها الكاهن الأكبر لتنهشها الأنياب! وعندما دفعتُ المبلغ المحدد ودخلتُ عليها حجرتها رفعَت رأسها ببطء ونظرت إليَّ طويلًا، ثم خفَضَته وجرَت الدموع على وجنتَيها! لملمتُ ثوبي واستدرتُ خارجًا في صمت، هذا هو الصيد الرائع أيها العبد الخبيث! لا، لا، لم تُساعد الصدفةُ ولم أُساعدها؛ ولذلك امتلأت داري بهذه الألواح.
العبد (يرجع وهو يمد يده بأحد الألواح) : وجدتها يا سيد.
السيد : وأنا لم أجدها ولن أبحثَ عنها، أعِد هذا اللوح إلى مكانه.
العبد : ألا تريد؟
السيد : قلتُ أعِدْه إلى مكانه؛ لا أريد أن أقرأ، ولا أريد أن أعشق!
العبد :
كما تشاء يا سيدي، لا تعشق، لا تعشق!
(يضع اللوح جانبًا وينظر إلى النافذة.)
فالمرأة جُحرٌ أو حفرة،
فخ، مصيدة، هاويةٌ خَطِرة!
المرأة خنجرٌ حديدي مسنون يقطع رقبة الرجل! المرأة …
السيد : أرجوك، الزَمِ الصمت!
العبد : أمرك يا سيدي؛ ما دمتَ تريد هذا.
السيد : أريدك أن تُطيع صمتي كما تُطيع كلامي.
العبد : هل أتركك لصمتك يا سيدي؟
السيد : نعم، أريد أن أكون وحدي (يصمت. يتحرك العبد للخروج فيُناديه فجأة): أنت!
العبد : أمرك يا سيدي.
السيد : لا، لن أصمت، لن ألزم الصمت!
العبد : عليَّ أن أُطيع كلامَك كما أُطيع صمتك.
السيد : أسمع يا عبدي.
العبد : ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا!
السيد : سأقود ثورة!
العبد : ماذا يا سيدي؟!
السيد : قلتُ لك: سأقود ثورة!
العبد : ثورة؟!
السيد : نعم، نعم. لا يُمكن أن أبقى هكذا كمؤشِّر الميزان الذي تميل به كِفة وتَخفِضُه أخرى! قلتُ لك لقد صمَّمت.
العبد : على أن تقود ثورة؟
السيد : لا بد، لا يُمكن أن أنظر وأسكت.
العبد :
قُدْ ثورةً يا سيدي، قُد ثورةً؛
لأنك إن لم تفعل،
فمن يثأرُ لك؟
من يُخلِّص حقوقك؟
من يفضح الكذابين والمزيَّفين؟
من يفتح عينَ الشعب عليهم؟

(يتقدم نحو النافذة مشيرًا إلى مدينة الموتى.)

السيد : الشعب؟ هل قلتَ الشعب؟
العبد (مستطردًا في حماس، بينما السيد غارقٌ في رُؤاه) : نعم، نعم؛ هؤلاء، كلُّهم منسيٌّ في مدنٍ منسيَّة! لو وجَد الأموات مَن يثور لأجلهم ما ماتوا تُعساء إلى هذا الحد، ولو وجد الأحياء من يُنصفهم وينتقم لهم ما عاشوا كالأموات!
السيد (لنفسه، في نفس الوقت تقريبًا مع العبد) : الشعب؟ أين هي عينه التي تتكلَّم عنها؟ هل رأتني أو شعَرَت بي؟ لو ذهبتُ إليه فلن أنجوَ منه. سيُسلمني أو يسخر بي! (ثمَّ بصوت مرتفع) لا يا عبدي، لا!
العبد (كأنه يستيقظ من حلم، يُسرع إليه) : ماذا يا سيدي؟ بماذا تأمر؟
السيد : لن أقودَ ثورةً، لن أقودَ ثورة.
العبد :
كما تشاء يا سيدي؛
فالثائر إمَّا أن يُقتَل،
أو يُسلَخ جلدُه،
تُسمَلُ عيناه،
ويُلقى القبض عليه،
ويُنسَى — كالكلب الميت —
في السجن!
لا تفعل يا سيدي، لا تفعل!
السيد : لن أفعل؛ معك الحق (بعد قليل) ولكن (لنفسه) كيف أنظر في وجوه أهلي؟ كيف أُلاقي المساكينَ عندما أزور قريتي وأتجوَّل في ضيعتي؟ لا، لا. اسمع يا عبدي.
العبد : ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد :
سأُعطي المساكين يا عبدي،
سأُقرِض الفقراء في قريتي،
وأتصدَّق بالطعام على أهل ضيعتي.
العبد :
تَصدَّقْ يا سيدي تصدَّق،
أعطِ المساكين وأقرِض الفقراء؛
من يتصدَّقْ تزدَدْ غَلته،
ويكثر مكسبه.
ومَن يُحسن للفقراء،
يبقَ قمحُه هو قمحَه!
السيد : لا يا عبدي، لن أُقرِض أحدًا، لن أتصدقَ على أحد!
العبد :
أمرك يا سيدي، أمرك!
لا تتصدَّق ولا تُحسِن إلى أحد؛
فالإحسان كالعشق،
واسترداد القرض مثل إنجاب الأطفال؛
سيأتون على قمحك،
ثم يصبُّون اللعنات على رأسك،
ويسلبونك الفوائد التي جنيتَها.
السيد (لنفسه) :
معك الحق!
فعَلوا هذا دائمًا،
فعلوه دائمًا! (يسرح ببصره خلال النافذة.)
العبد (لنفسه) :
نسي سيدي أنه لا يملك ما يُقرِضه،
وأنهم أخَذوا منه ضيعته!
السيد : أنصِت إليَّ يا عبدي، أنصت إليَّ.
العبد : ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد : لا يصحُّ أن أُفكر في قريتي وضَيعتي، وأنسى بلدي.
العبد : ماذا تنوي أن تفعلَ يا سيدي؟
السيد : سأُقدِّم خدمة عامة إلى بلدي!
العبد :
قدِّم يا سيدي، قدم؛
من يفعل ذلك يبارِكْ «مردوخ» عمله.
السيد (لنفسه) :
بلدي وشعبي؟
ما أغربَ هاتين الكلمتَين،
حين تخرجان من فمي!
العبد (الذي سمعه بصوت خفيض) :
حقًّا حقًّا!
ما أغرب هاتين الكلمتين،
حين تخرجان من فمك!
السيد : هل قلتَ شيئًا؟
العبد : لا يا سيدي، لا.
السيد :
لن أُقدِّم خدمة إلى بلدي،
لن أفعل شيئًا ولن أتبرَّع بشيء.
العبد :
لا تفعل يا سيدي، لا تفعل! (مشيرًا إلى النافذة.)
اصعَد فوق أكوام الخرائب وتمشَّ هناك،
وانظُر لجماجم الأعلَين والأدْنَين؛
من كان الظالمَ منهم ومَن المظلوم؟
من كان الشرير ومَن كان الطيب؟
كلهم منسيٌّ في مدن منسية.
السيد :
كلهم منسيٌّ في مدنٍ منسية!
ألم تقل هذا من قبل؟
العبد :
ربما يا سيدي، ربما …
(لنفسه):
من ذا الذي طالت قامته،
حتى صعد إلى السماء؟
ومن ذا الذي أتسع منكباه،
حتى احتضنَ العالم السُّفلي،
وأحتوى العالم بذراعَيه؟
السيد : هل قلتَ شيئًا؟
العبد : لا شيء يا سيدي، لا شيء!
السيد : إذن فأنصِت إليَّ!
العبد : ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
السيد : أحضِرْ ماءً لأغسل يدي!
العبد : هل أُعِد الطعام لسيدي؟
السيد : لا، لا، أُريد أن أضحِّيَ لإلهي!
العبد :
ضحِّ يا سيدي، ضح.
قدِّم القُربان لإلهك؛
فمن يقدِّمِ الأضاحي لإلهه
يسر للصفقة التي يقوم بها،
أنه يُبادل قرضًا بقرض،
ويردُّ دَينًا بدَين!
السيد : حقًّا يا عبدي! ما أصدق قولَك!
العبد :
خُلق الإنسان ليكون عبدًا للآلهة،
هو خادمهم، يطلب منهم الحماية،
ويتوقع الجزاء،
الذي يتوقعه الخادمُ من سيده؛
فطريق الطاعة والعبادة،
هو طريق النجاح والتمتع بالحياة.
السيد (لنفسه) :
كم ضحَّيتُ لإلهي الخاص!
كم خاطبتُه قائلًا:
لِمَ أهملتَني؟
لم غادرتَ معبدك في بيتي؟
من ذا الذي يُعوضك عني؟
بواحد يُطيعك ويعبدك مثلي؟
كم تضرَّعت إليه وقبَّلت قدمَيه!
كم توسلتُ إليه،
أن يذكرني عند الإله «مردوخ»؛
لعل مردوخ يتوسط لي عند «شمس»، وشمس يسترحم «إنليل» من أجلي، وإنليل يستعطف سيد الإلهة «إيا»!
لكن عونه تأخَّر عني،
وها أنا ذا كما يقول عبدي،
منسيٌّ في مدينة منسية!
قبر بلا شاهد منصوبٍ فوقه،
ولا زائرٍ يطوف عليه.
اسمع يا عبدي، اسمع.
العبد :
نعم يا سيدي، نعم!
لك الأمر وعليَّ الطاعة.
السيد : لن أُضحِّي لإلهي! لن أفعل أبدًا.
العبد :
لا تُضحِّ يا سيدي، لا تُضحِّ!
علِّمْ إلهك الخاصَّ أن يركض وراءك،
سواءٌ سألك أن تُقدِّم له الطقوس،
أو طلب منك أن تُؤدي له فريضة،
أو توسل إليك لأي شيء آخر!
السيد : صدقتَ يا عبدي، سأُعلمه أن يسعى ورائي، سأُهمله كما أهملني، وعليه أن يعلم أنه محتاجٌ لعبادتي كما أنا محتاج لطاعته، لكن يا عبدي، لكن.
العبد : أمرك يا سيدي، أمرك!
السيد : لا يُمكن أن تكونَ صادقًا وكاذبًا في وقت واحد. لا يمكن أن تكون خيِّرًا وشريرًا، عاقلًا وأبلهَ، حكيمًا ومخادعًا في نفَسٍ واحد؛ ماذا أفعل إذن؟
العبد : أمرك يا سيدي، أمرك!
السيد : هل أذهب للقصر أو لا أذهب؟ أرحل للصيد أو لا أرحل؟ هل آكلُ أو لا آكل؟ أُكوِّن أسرةً أو أبقى وحيدًا؟ أعشق أو لا أعشق؟ أتصدَّق أو لا أتصدق؟ أُقدم خدمة عامة أو لا أُقدم؟ أُضحي لإلهي أو لا أضحي؟ هل يُمكن أن يستويَ الفعل وعدمُ الفعل؟! أن يتكافأ الخير والشرُّ والظلم والعدل؟!
العبد : أنت الذي تسأل يا سيدي!
السيد : وأُريدك أن تُجيبني بلا مواربة.
العبد : تفضل يا سيدي، تفضل.
السيد : ما الخير إذن؟
العبد : الخير؟!
السيد : نعم، الخير. إذا كان كلُّ شيء يتساوى مع كل شيء: الصدق والكذب، الإحسان والإساءة، العشق والكره، الزواج وعدم الزواج، الوفاء والجحود، العبادة والتجديف. أين الخير إذن؟
العبد : في مدنٍ منسية كهذه المدينة؟
السيد : ما شأنُنا بهذا؟ لقد قلتَ هذا من قبل.
العبد (رافعًا صوته بالتدريج) :
أنا الذي يُسأَل الآن.
في حضارة مُحتضَرة كهذه الحضارة؟ وسط خرائبِ القيم التي تُشبه هذه الخرائب؟
السيد : ليكن، ليكن، المهم أين الخير؟
العبد (رافعًا صوته) : الخير أن أدقَّ عنقك!
السيد (مقاطعًا) : كيف تجرؤ على هذا القول؟
العبد (مستمرًّا) :
أو تدقَّ عنقي!
أن أُلقِيَك في البحر،
أو تُلقِيَني فيه!
السيد : ما هذا؟ ماذا أسمع؟
العبد : ما لا بد أن أقولَه ولا بد أن تسمعَه؛ لقد استمعتُ حتى الآن يا سيد، عِشرون عامًا وأنا أسمع وأُطيع، وعليك من اليوم أن تستمع!
السيد : عبدي، إنني أُحذرك؛ سأقتلك قبل أن تقتلني، سأُرسلك إلى هناك قبل أن تُرسلني!
العبد : لا بأس؛ أنا راضٍ بهذا، المهم أن تفعل شيئًا، أيَّ سلاح تختار؟ بأي شيء ستقتلني؟

(يقلب أدوات مختلفة ينتقل بينها بسرعة.)

بهذه الفأس؟ هذا الإزميل الذي طالما نحَتَّ به كلماتك؟ هذه المطرقة وهذا المخراز وهذه المسامير التي لم تُستخدَم حتى الآن في عملٍ مفيد؟ المهم أن تفعل يا سيد. حتى لو كان هذا الفعل هو قتلي، تكلَّم، تكلم.
السيد (يُرتج عليه) : لا أُصدق، لا أُصدق!
العبد : بل صدِّق كل شيء، لا بد أن تتكلم!
السيد : وماذا تُريدني أن أقول؟
العبد : تقول كيف تفعل هذا وأين!
السيد : أفعل، ماذا أفعل؟
العبد : هذا السؤال الأوحد؛ تفعل، تفعل، تفعل … حتى ولو كان هذا الفعلُ هو قتلي؛ هل اخترت هذا الإزميل؟ هذه المطرقة؟ هذه الفأس؟ أتُفضِّل واحدًا من هذه التماثيل لتُهشِّمه فوق رأسي أم لوحًا من الألواح المزدحمة بأشعارك؟
السيد : فظيع، فظيع!
العبد : أم تختار مكانًا آخرَ تتنفَّس فيه للمرة الأخيرة هواءً نقيًّا؛ على شاطئ النهر مثلًا، أو بعيدًا في الخلاء، وسط الأحراش التي تعودتَ أن تذهب إليها في رحلة الصيد؟
السيد : ما هذا الذي تطلبه مني؟ كيف تتصور أن أفعل هذا؟
العبد : المهمُّ أن تفعل شيئًا، هل تُؤْثِر أن أقتلك أنا؟
السيد : تقتلُني؟!
العبد : نعم نعم، إما أن تفعل أو لا تفعل؛ بهذا الإزميل؟ هذه الفأس؟ هذه المسامير؟ هذه التماثيل؟ هذه الألواح …
السيد (مذعورًا) : أيتها الآلهة! أين أنت يا إلهي الخاص؟ إليَّ يا مردوخ!
العبد : تعلمُ أنك استجرتَ بهم فلم يكترث بك أحد، تعلم أنك رفضتَ أن تُقدم لهم الأضاحيَّ أو تمتنع عن تقديمها!
السيد : حقًّا، حقًّا، لكن ماذا أفعل؟
العبد : أنت وحدك تُجيب على هذا السؤال!
السيد : تكلَّم أنت؛ فلم أعُد أقوى على التفكير!
العبد : اسمَعْني إذن للمرة الأولى والأخيرة؛ فلتكن شاهدًا على هذه المدينة الميتة؛ ما دمتَ لا تستطيع أن تُنقذها، فلتكن على الأقل شاهدًا عليها!
السيد (كأنه يُكلم نفسه) : شاهدًا عليها؟
العبد : وتخرج من سأمِك وملَلِك، تفعل شيئًا بدلًا من أن لا تفعل.
السيد : وأنت يا عبدي، ماذا ستفعل؟
العبد : لم أعُد عبدَك، ولا أسأل هذا السؤال!
السيد (مستعطفًا) : تعلمُ أنني لا أحتمل العيش بعدَك ثلاثة أيام، تعلم أنني لا أستغني عنك!
العبد : أنا أيضًا كنتُ كذلك.
السيد : كنتَ كذلك؟! والآن؟
العبد : الآن لم أعُد عبدًا لك، ولم تَعُد سيدًا لي!
السيد : ماذا أسمع؟!
العبد : لقد سمعتَ بالفعل.
السيد : ولكنه فظيع، فظيع!
العبد : المهم الآن أن تبدأ؛ أن تكون شاهدًا.
السيد (مقاطعًا) : فهمتُ، وأنت؟
العبد : ماذا ستفعل؟ حسبتُك في غِنًى عن هذا السؤال، سأخرج إلى هذه المدينة، وإذا لم تكترث بي فسوف أمضي إلى القرى والحقول، هنا أو هناك، ينتظرني الكثير، ينتظرني الكثير.
السيد : وتتركُني وحدي؟ ألن تعودَ لسيدك أبدًا؟
العبد (متهيِّئًا للخروج) : نعم نعم، عندما لا يقول أحدٌ يا سيدي ولا يقول أحدٌ يا عبدي!
السيد : لك هذا، المهم أن تعود.
العبد : عندما تبدأ شهادتك.
السيد : سأبدؤُها من الآن؛ ها أنا ذا أُدوِّن أُولى كلماتي.

(يُمسك الإزميل، يبدأ الكتابة.)

العبد : الآن بدأتَ تفعل! الآن يُمكنني أن أذهب.
السيد : قبل أن تعِدَني بأنك ستعود؟
العبد : أعِدُك بهذا، وأُودِّعك أيضًا!

(يتجه العبد إلى سيده، يمدُّ يده إليه فيُعانقه السيد. يغيبان في عناق طويل قبل أن يتجه العبدُ نحو الباب.)

السيد : الوداع، لا تنسَ وعدك!
العبد : الوداع، ولا تنسَ أن تفعل ما اتفقنا عليه!
السيد : لقد بدأتُ بالفعل.
العبد : وأنا بدأتُ قبل أن أبدأ.

(يضع الفأس في كيس فيه ملابسُه.)

السيد : الوداع يا …
العبد : الوداع يا … سيد!
١  هو إله الشمس كما هو إله العدل عند البابليين، ويُقال إنه كان يتمتع بشعبيةٍ قرَّبَته من قلوب البسطاء من عامة الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤