الفصل العاشر

جرَت تلك العربة تقطع الوديان والسهول، وبديعة جالسة فيها تتنازعها الأفكار، حتى إنها لعظم هَمِّهَا نَسِيَتْ ما هو ذلك الهم، ولم تَعُدْ تشعر إلا بثقل وطأته عليها. ولم تسمع — لشدة استغراقها في الهم — خرير دواليب عربة أخرى كانت تتبع عربتها وفيها نسيب الذي لم يكن نزوله إلى الضبية إلا مكرًا؛ إذ لم يلبث أكثر من دقائق معدودة فيها. وركب عربة وتبع بديعة وبقصده مراقبتها واللحاق بها إلى أي جهة كانت من العالم؛ ليسرد على سماعها حديث حبه الممقوت منها، وليحول بينها وبين فؤاد.

كان ذلك الشاب يحب بديعة حبًّا مفرطًا، حبًّا يجعل العاقل مجنونًا، وهذا ما يغفر له تثقيله عليها. ولكن ما هو العذر عن خيانته لخالته التي ربَّته طفلًا وعلَّمته ولم تفرقه بشيء عن ولدها. وتسبيبه العذابات لفؤاد الذي عرفه كأخٍ له؟ وأي شيء في العالم يغفر له إساءاته نحو ذلك البيت الذي كان مأوًى صالحًا عاش فيه بسعادة ورغد؟

وعرف الشاب أمر خيانته، لكنه قال: وأي بأس من هذا وعلى الإنسان واجب نحو نفسه وقلبه ويقوم به ولو أضر بكثيرين غيره، حتى ولو أضر بالعالم أجمع؟ ولا غرو، فالأنانية موجودة عند كل إنسان، وكل آدمي يحب نفسه قبل غيره.

ولكن الفرق هو في نوع المحبة وفي مطالبة تلك النفس ذاتها. فالشريف النفس يرى أنه بطلبه كل شرف وفضل، وبفعله كل خير يحب نفسه ويقوم بواجبه نحوها؛ لأن حياته هي الشرف. وهذا يفعل نحو غيره من الخير ويضحي لأجلهم من المصالح أكثر ممَّا يفعل نحو نفسه ذاتها، ولكن النفس تسر بهذا؛ لأنه مطلبها. وذاك يحب نفسه وتكون هذه «وحشية» كل مطالبها سرورها الخاص ولو بالوقوف دون سرور الناس والإضرار بمصلحتهم. وهذا يحب نفسه ويطلب سرورها دائمًا ولو من وسط الشرور وهضم حقوق الغير المقدسة. كلا الحبين حب ذاتي أو ما ندعوه أنانية، ولكن الفرق هو أن أحدهما يحب نفسه، ولكن يحبها أن تكون شريفة. والآخر يحب نفسه ولا فرق عنده إن كانت شريرة أو صالحة، بشرط أن تكون مسرورة. وهذان النوعان من الحب يمثلان لنا بأعمال بديعة التي ضَحَّتْ سعادتها لأجل غيرها، وبأعمال نسيب الذي ضحى شرفه لأجل سروره، والفرق بين الاثنين عظيم جدًّا.

لا يشعر الإنسان عادة بعاقِبة عمله إلا بعد مُضِيِّ مدة عليه. ويتضاعف هذا الشعور متى اختلى بنفسه وتجسمت له صورة ذلك العمل بمنظرها الهائل. وهذا ما كان للسيدة مريم في اليوم الثاني من طردها بديعة من بيتها.

فإنها بقيت في تلك الدار الكبيرة وحدها، وابتدأت الأفكار تقلِّبها على أَحَرِّ من جمر الغضا، فلم تَدْرِ كيف تعمل؛ لأنها لم تحب أن تزور أحدًا ولا أن تُزار من أحد في وسط أحزانها، لئلا تكون معرضة للسؤال عن سبب همومها. ومُجانَبَةُ الناس أحسن واسطة لاجتناب فضح سر الإنسان متى شاء كتمانه. وفي أصل ذلك النهار نزلت إلى الحديقة لتسلي أفكارها بين زهورها ورياضها. وفيما هي غارقة في أوقيانوس الافتكار بمصيبتها سمعت صوتًا يناديها قائلًا: مساء الخير يا خالتي.

فنظرت إليه بعينين خائرتين من الأرق وصاحت: نسيب! لماذا تأخرت؟ فقد انتظرت رجوعك الليلة البارحة.

أجاب الشاب: إنني كنت آيبًا إلى البيت كما وعدت، فالتقيت ببديعة ذاهبة إلى القرية الفلانية … فتبعتها إلى هناك ثم رجعت معها إلى هذه المدينة.

فنظرت إليه خالته وقالت مضطربة: إلى هذه المدينة؟

– نعم لأنها مُزْمِعَةٌ على السفر مع رفيقة لها إلى أمريكا في الباخرة التي تترك الثغر غدًا مساءً. ولكن هل علمت يا سيدتي بأنني سأسافر في ذات الباخرة معها؟ اصبري اصبري. دعيني أتم الحديث، أجل إلى أمريكا حيث أقدر على مساعدتك هناك أكثر مما أقدر هنا.

فصرخت خالته فيه قائلة: كفى تعذيبًا لخالتك المسكينة يا نسيب، فكلامك مهم ولا أفهم لذهابك سببًا، وهب أن الأمر كان كذلك، فهل تراني قادرة على احتمال كل هذه المصائب؟ إنك عندي مثل ولدي فؤاد، وأنا لا أنسى وصية أمك المرحومة لي بك عند ساعة موتها. فهل تراني أسمح لك بالبعاد عني؟ أمريكا؟ كلا. كلا.

قال الشاب: إن معنى سفر بديعة إلى أمريكا هو هلاك ابنك لا محالة؛ لأن الفتاة الماكرة تعرف بأن فؤادًا يحبها وأنه متى عَرَفَ بذهابها يتبعها لا محالة، وبهذا تكون سعادتها به مزدوجة وظفرها عليك باهرًا، فواللهِ إنني لا أسمح لها بهذا أبدًا؛ لأني سوف أتبعها وأجعل لك سببًا للعذر لدى فؤاد لتحويل أفكاره عن اللحاق بها بقولك: إنني أنا أحببتها وسافرتُ معها …

فمحت خالته المسكينة دموعها وهي تقول: يا حبيبي يا نسيب، ما أشرف عواطفك وأكثر مروءتك! فأنت تريد أن تحتمل كل هذه المشاق وتقاسي هذه العذابات لأجل راحة خالتك التعيسة.

وكانت تتكلم وهي تشعر بسرور لبعد بديعة عنها، ولأن ابن أختها سوف «يفدي» ولدها وهذا أمر طبيعي في الأمهات؛ يفرحن ولو تظاهرن بالغم متى رأين الغير يتحمل العذاب عن أولادهن. أما نسيب فإنه سُر بانطلاء حيلته الأولى وتأمَّل نجاح الثانية فقال بلطف: كل شيء ممكن تحت السماء لا أجد عمله صعبًا لأجل سعادتك وسعادة الحبيب فؤاد يا خالتي.

فقالت: «تقبر خالتك» ما أرق قلبك وأشرف نفسك!

ولكن يا نسيب، هل تظن أن حيلتك هذه تنجح؟ وأن فؤادًا يعدل عن السفر وراءها متى صدق؟

– لا شك في ذلك؛ لأن فؤادًا أبيُّ النفس عزيزها، لا يلحق بفتاة يعتقد فيها الخيانة، ولكن فلنفرض أنه يذهب، فما هو أفضل أن أكون أنا هناك أقيه أخطار الغربة والهوى من أن يكون وحده؟

فأثر هذا الكلام في قلب تلك السيدة المتعظمة، وللحال وقعت إلى الأرض تبكي بكاءً شديدًا؛ ذلك لما تصورت المستقبل بتعاسته ورأت فيه ولدها الحبيب الوحيد راجعًا من المدرسة يعاتبها على خيانتها ويطالبها بوعودها، وهو يريد أن يلحق ببديعة وهي عاجزة عن ردعه؛ لأن سلاحها صدئ ولا قدرة لها على محاربة مقاصده بالحق. ثم تصورت بديعة واقفة وهي كالزنبقة الذابلة تقول لها: انظري الفرق بين عملك معي وعملي معك الذي أطلب من الله ألا يجازيك عنه. ثم نظرت على قدميها قلبين قد مزَّقَهما النَّوَى بسببها؛ لأنها هي علمتهما الانضمام بالمحبة، ثم أجبرتهما على الافتراق فأماتتهما بعملها هذا البربري. وآخر ما كان من تصوراتها وداعها لابنها وهو مسافر لبلاد غريبة تبعد عنها ألوف الأميال لأجل فتاة خادمة حقيرة. فودَّت لو أنها قادرة على رتق ذلك الخرق، ولكن كيف يتم هذا وهي لا تريد أن تكون كاذبة وذليلة ولو خسرت ابنها وكل مقتناها.

ولو نظرها الآن صاحبنا ذلك الشاب الذي كان معجبًا بآدابها ويراقبها ليلة الوليمة، لقال: يا للعجب! هل هذه هي تلك السيدة؟ هل هذه تلك المرأة التي كانت تحافظ أتم المحافظة على آداب السلوك وقواعد التهذيب؟ فإن كان هذه هي فكيف توفق بين أعمالها الماضية والحاضرة؟ هل أن من كانت مثال الأدب والشرف أصبحت إناء الشر والكبرياء؟ فما هو السبب يا ترى؟ أهو لأن حبها لولدها الوحيد هَوَّنَ عليها خنق صوت الضمير الحي؟ أو أن تلك الآداب والأخلاق لم تَكُنْ طبيعية بل كانت تأتيها بدون أن تعرف لها معنى كالببغاء، تعتبرها واجبًا يتم في العموميات ويُنبذ في الخصوصيات؟ أو أن عواطف النفس ونقاوتها وأعمالها لا علاقة لها قط ببعض عادات اصطلاحية مكتَسَبة لا غريزية ومدفوعًا إليها لا مرغوبًا فيها؟

وبعد أن همرت دموعًا كثيرة غسلت بها قليلًا من هَمِّهَا؛ إذ لا شيء يفرج القلب من الهم كالدموع التي كأنها هي ذلك الهم ذاته، يعصر فيصير ماءً وتقذفه العينان من القلب، قامت كاللبؤة وجلست بجانب ابن أختها تصغي إلى تَعْزِيَتِهِ. وبعد أن مسحت دموعها قالت: لقد نفذ المقدور، فليس عليَّ غير الصبر والتدرُّع بدرع القوة لأنهي أعمالي بشجاعة. وأما أنت فإنك تحتاج إلى مال يعينك في السفر والغربة، فتعال معي إلى غرفتي فأعطيك ما هو متيسر الآن وإذا احتجت إلى أكثر فاكتب إليَّ.

وبعد ساعات كان نسيب مكبًّا على عُنُقِ خالته يقبِّلها بحرارة كأن الدافع عليها سروره بالمال، وهو الأربعمائة وثمانون ليرة التي رفضتها بديعة. وكانت خالته تُقَبِّلُهُ بشوق وحب وتشكر له مساعدته لها كأنه أتى نحوها خدمةً عظيمةً.

فلنذهب بالقارئ إلى ظهر باخرة من بواخر مساجري ماريتيم، حيث كانت بديعة ولوسيا واقفتين مع جمهور من الركاب تودعان بيروت على ظهر أول شيء من «عجائب أمريكا». ولما توارت المدينة عن النظر وأسدل الليل برقعه الكثيف من الظلام، رجع كُلٌّ إلى مكانه، ولحظت لوسيا ما رابها من أمر رفيقتها بديعة التي كانت مضطربة مُصْفَرَّة الوجه تتكلم بدون فِكر. ولما كانت تجهل كل شيء من أمرها، ظنت أن هذا مسبَّب من دوار البحر. ولم تَدْرِ لوسيا بأن دوار بديعة كان اضطرابًا فكريًّا لا جسديًّا، سببه تركُها تلك المدينة المحبوبة «جوليت» وليس وجودها على تلك الباخرة.

وباتت الفتاتان تلك الليلة على طرفي نقيض من الأفكار؛ لوسيا تحلم مسرورة بأنها تركت بيت أبيها وتركت الفقر والتعب وراءها فيه، وتخلَّصت من مرأى وجه خالتها العبوس وحديثها الخشن.

وبديعة تحارب أفكارها وترى بأن كل أمل لها في السعادة قد غاب عنها منذ غابت بيروت، وهي أرِقة لا تقدِر على النوم بعد أن دفنت كل مطامعها بالسعادة في تلك المدينة السورية العظيمة.

وكان الليل قد حَجَبَ عن نظر بديعة الناقد كل مناظر المكان الذي كانت فيه، فلما أفاقت صباحًا ذُهِلَتْ مما رأته حولها من أشكال الناس المختَلِفِي اللغة والجنس ولكن أكثرهم من بني وطنها. ثيابهم رَثَّةٌ بالية، ومضاجعهم قذِرة، والمكان الذي ينامون فيه مُحاط بالأوساخ التي تنبعث منها رائحة كريهة لا تُحتمل، وتجلب الأمراض من جهة ودوار البحر من أخرى، وتورثهم أمراضًا تزيد تعاستهم تعاسة، ولا يعودون قادرين على تنشُّق الهواء النقي والخروج من تلك الجهنم الأرضية. ونظرت بديعة فرأت لوسيا تتأمَّل في تلك المناظر المؤلِمَة، فسألتها قائلة: ما بالك يا لوسيا حزينة؟

قالت لوسيا: آه يا بديعة إذا كان السوريون يتعذَّبون في أمريكا ويعيشون كهذه المعيشة بسفرهم؛ فإنني لا أكون كسبت شيئًا، وأكون انتقلت من «المقلى إلى النار»، بل أفضل البقاء في وطني على هذه الحالة من أن أكون فيها في بلاد الغربة.

– إنها حالة مضنكة يا عزيزتي، ولكن ما هو ذنب أمريكا يا ترى؟ أليس الذنب كله علينا نحن السوريين؛ لأننا نمشي كالنمل على طريق واحدة؟ انظري بين هؤلاء المسافرين يا لوسيا تَرَيْ ثلثهم قد هاجر إلى أمريكا من قَبْلُ، وأتى بمال كثير فذهب إلى الوطن واشترى ببعضه أرزاقًا وبنى بالبعض الآخر بيوتًا للسكن جميلة، وأدان قسمًا بالفائض وهو راجع اليوم إلى أمريكا، إما مع عائلته وإما وحده طمعًا بالزيادة من الربح. والثلث الثاني هو من الناس الذين يسمُّونهم «مستورين» في وطننا، وغيره من إخوانهم سافروا لأمريكا طمعًا بالربح الكثير أيضًا. والثلث الباقي هو من أولئك الفقراء مثلنا الذين ليس لهم إلا مال قليل يكاد يكفي للقيام بِأَوْدِهِم ولنفقات سفرهم إلى أمريكا، ومنهم من ليس لهم كفاية لهذا الأمر. فالثلث الأول من هؤلاء مجرم يا لوسيا؛ لأنه قد هاجر وعرَف ما هي المعيشة، ومعه مال كثير، وتَرَيْنَهُ لا يزال على مثل ما كان من الجهل، يسافر هذه المرة إلى أمريكا على «ظهر البابور» كما سافر في المرة الأولى عندما كان فقيرًا، وهو الآن قادر على اجتناب كل هذه القذارة والأمراض ببذل القليل من المال زيادة. والثلث الثاني مجرم في الدرجة الثانية؛ لأنه قادر على الاستراحة ولا يستريح، ولكنه يعذر أكثر من الثلث الأول الذي هو مجرم في الدرجة الأولى؛ لأنه أكثر اختبارًا ومعرفة. وأما الثلث الأخير فهو معذور ويستحق الرحمة لأنه يمد رجليه على قدر بساطه.

ومن هنا يتضح لك بأن ليس لأمريكا يد «ببهدلتنا»؛ بل نحن نسعى بضرر نفسنا بنفسنا.

ولم تنتهِ بديعة من كلامها حتى أمسكت لوسيا بذراعها وقالت: انظري انظري، فهل هذا ذنبنا أيضًا؟

فالتفتت بديعة، وإذا بأحد النوتية يُهِينُ رجلًا سوريًّا بالكلام، والسوري ساكت لا يبدي حراكًا. فتأسفت بديعة لهذا الأمر وقالت: إن هذا الرجل يُهان إما لأنه سبَّب الإهانة لنفسه، وإما لأن غيره سبَّبها له بأعماله المغايرة حتى صار الجميع عند الإفرنج سواء. وفيما هما بالكلام حانت من بديعة التفاتة، فرأت نوتيًّا آخر وهو مار بجانب إحدى الفتيات ضربها بيده على خدها ضربة لطيفة تدل على المداعبة، فضحكت الفتاة ومر النوتي ضاحكًا أيضًا. وعند هذا المنظر تحرَّكت عوامل الشرف في قلب بديعة وتمزق فؤادُها الطاهر لهذا الأمر، ولشدة غيرتها على شرف جنسها لم تَقِفْ لتفتكر فيما إذا كان تداخلها بالأمر واجبًا أم لا. وللحال قامت من مكانها وذهبت توًّا إلى تلك الفتاة التي كانت لا تزال واقفة مكانها. وكانت بديعة تشعر بأن الرجل لئيم، وقد أهان فتاة من جنسها. وبأن تلك الإهانة موجَّهة إليها نفسها؛ لأن المرأة الشريفة متى أُهِينَتِ امرأةٌ غيرُها تتحمس لمعرفتها بأن الإهانة لحقت بكل امرأة على السواء وليس بامرأة واحدة فقط.

وكانت الفتاة قد عَرَفَتِ الغرض من قدومها إليها فقالت: اعذريني يا أختي؛ فإنني لم أتجرأ على ردع هذا النوتي؛ لأنني أخافه، فاستري ما رأيت مني.

فقالت بديعة: إن السترة واجبة عليَّ، وأنا لا أنكر لؤم ووقاحة كل رجل خالٍ من الشهامة، ولكن كان يجب عليك يا أختي أن تقابلي تلك القوة الشريرة بالمقاومة؛ لأن ما لا يأتي باللطف يأتي بالعنف.

فقالت: وأَنَّى لي ذلك وأنا امرأة ضعيفة، وهو رجل قوي، وقد التقيت به بهذا المكان المنفرد ولا قدرة لي على ردعه؟!

فأجابتها بديعة: إن الموت عند فتاة عذراء طاهرة نظيرك خير لها ألف مرة من أطماع رجل لئيم ساقطٍ فيها واحتقاره لشرفها، فلو كنت أنا مكانك لكنت تناولت حذاءً وضربت به ذلك الرجل وشتمته على مسمع من الناس حتى يعرف بأن للنساء قوةً للمحاماة عن شرفهن، وحتى يرتدع عن معاملتك ومعاملة فتاة غيرك بمثل هذا فيما بعدُ.

فقالت تلك الفتاة المسكينة وهي تبكي تأثُّرًا وخجلًا: شكرًا لك على نصيحتك يا أختي، وسأعمل بنصيحتك فيما بعدُ.

ولما رجعت بديعة مسرورة من قبول الفتاة لنصيحتها، قالت لها لوسيا: وهل هذا سببه ضعفنا كما قلتِ أو وقاحة هؤلاء النوتية القليلي الشرف.

قالت: إن هذا سببُه ضعفُنا وجهلُنا وحُبُّنَا للمال الذي نطلبه بإغضاء الطرف عن أي الطرق يأتي منها. فإني سمعت بأذني والدةً تقول لابنتها نهار أمس: «لا بأس إذا كلمك ذلك البحري وضحك معك؛ فإن مالنا قليل ونحن نحتاج إلى طعام.» وهكذا يا أختي يقول بعض الرجال لنسائهم كلامًا يحرق شفتي لفظه، ولكنني مُضْطَرَّةٌ إلى قوله لأبين لكِ إلى أي درجة يصل الطمع بصاحبه … آه يا أختي، إن بعض الناس يحسبون أن كل القصد من المهاجرة هو الكسب والكسب وحده، وبأي طريقة أتى لا يهمهم فيبتدئون بالتساهُل وعدم الاكتراث من «ظهر الوابور»، فما بعد إنما نشكر الله أن هذا البعض قليل جدًّا ولكن ضرره كثير؛ لأنه يحقرنا في عيون الأجانب، ولأنه يكون مثلًا قبيحًا للمغفلين والجهلاء مِنَّا من نساء ورجال، ولأنه يجعل من يجهل أحوال المهاجرة أن يسبها ويذمها وهو لا يعرف عنها سوى أعمال هذا البعض. كما أنه يدعو الناس الذين نخالطهم إلى ذَمِّنَا وسَبِّنَا متى رَأَوْا هذه الأعمال من بعضِنا ولم يَرَوْا سواها. وكل قبح مُنْتَهٍ إليه … إنني لا أعرف بعدُ شيئًا عن أحوال أمريكا، ولكنني سمعتُ عنها كثيرًا من بني وطني بأنها معدن الشرور ومعمل الرذائل وقلة الأدب. ولكنني لا أصدق هذا وأقول بأن نفس كل إنسان معمل أخلاقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤