الفصل الثاني عشر

في مدينة سنسيناتي — من أمهات مدن هذه البلاد — محل فيه من جميع الأقمشة والقواطع وكل ما يتَّجر به السوري المهاجر من البضائع والسلع، جلس شاب عند الساعة العاشرة صباحًا على إحدى الطاولات الموضوعة بذلك المحل لعرض البضائع، واتَّكَأ على رِزمة من طقومة الرجال الموضوعة إلى جانبه، ورمى من يده جريدة عربية كان قد أتم قراءتها، ثم رفع نظره إلى سقف المحل وغاب في فضاء الأفكار؛ لأنه كان وحده، وكان المتعاطون معه من النساء والرجال قد ذهبوا ولا يرجعون إلا عند المساء.

وكان يظهر من عُبوس ذلك الشاب بأن أفكاره تستدعي الاهتمام، وهي كانت هكذا صحيحة؛ لأنه كان قد مضى عليه العشر سنوات مُتَغَرِّبًا، وهو الآن في الخامسة والثلاثين من عمره، ولم يزل أعزب، ولماذا؟ ألأنه كان يعتقد كما يعتقد بعض الشبان العصريين بأن الزواج يخرب البيوت ويهدم أساس السعادة، وأنه مهما بلغ الأعزب من الشقاء لا يبلغ مبلغ المتزوج الذي يشقى بامرأته؟

كلا! إن هذا لم يَكُنْ ظَنُّهُ؛ لأنه كان لا يحسب على الأرض سعادة أتم وأكمل من السعادة الزوجية. وكان يعتقد بأن العائلة أشرف شيء على الأرض، وأنها أكمل وأفضل وأجمل ما يوجد في الجنس البشري، وأنها إرادة الله الأولى على الأرض؛ إذ إنه جل جلاله لم يرضَ بأن يعيش جَدُّنَا آدمُ وحده، فخلق له امرأة وإنها أقدم وأعظم المدارس المعروفة للإنسان. بل هي تلك الكلية الكبرى التي تكون علمته القراءة فيها ركبة الأم وجعلت كتاب دروسه عينيها.

وكيف يكره شاب مهذب عالم فاضل كذلك الشاب، الذي عرفه القارئ جالسًا في محله وهو يفتكر بأن البيت هو أحلى الأمور، وبأنه لا يكون قَطُّ حلوًا بلا رَبَّةٍ هي ملِكته، ورعية صغيرة فيه هي الأولاد. كان يعرف بأن البيت مهد أعظم الفضائل، وهو مكتشف الحب، وأساس الكنيسة. وهو ممثل لبيت أبينا السماوي على الأرض. وأن حب الوالدة الذي لا يعرف إلا به هو السلك الوحيد الذي يصل قلب الأولاد بالفضيلة والشرف وحسن الذكرى، بل هو الشيء العذب الحلو الذي يتسلسل معنا وينمو بقلوبنا بنمو الأيام، وهو الذي يجعل الوطنيين ويولِّد الشرف ويُقَوِّي على الفضيلة إذا كان شريفًا جيدًا، والعكس بالعكس.

وإذ عرَف كل هذا وتشوَّق إليه، فلأي سبب كان بقاؤه أَعْزَبَ إلى اليوم الذي كثرت عليه الأفكار فيه، وهو لا يعلم لها سببًا؟ ذلك لأنه لا يعجبه فتاة في أمريكا كلها ولا في الوطن أيضًا. ولماذا؟ لأنه كان يطلب الكمال النسائيَّ التام فلا يجده، فتنقبض نفسه لذلك، ويحول نظره عن طلب يد أية فتاة كانت ومهما كانت صفاتُها.

وكان هو يلوم نفسه كثيرًا على تشديده بمطالبه، ويقول: إن هذا من الجنون، هل أنتظر أنا لآخر عمري ما أنتظره في امرأةٍ ما وأنا أعرف بأنني عاجز عن الحصول عليه؟ إنني أطلب امرأة كاملة نفسًا وجسمًا، وهذا محال على الأرض.

فإذن يجب أن أخفف مطالبي وأرى بما هو غير محال.

ثم حول نظر فكره إلى فتاتين كانتا أكثر مناسبة من الجميع له، فقال: إن حنة جميلة الصورة ذات قَدٍّ أهيف وخصر نحيل وحديث ظريف، تتكلم الإنكليزية وتقرؤها وتكتبها جيدًا، وهي ذكية لطيفة تحسن الضرب على البيانو، وتقدر على دخول الجمعيات العالية ومخالطة الأمريكان وتكون مثلهم بينهم، وهم مسرورون منها ولكن … إنها تطلب تغيير موضة ثوبها وحُلِيِّهَا في رأس كل شهر، وإذا لم تفعل هذا إما أنها تغضب وإما تحزن. ولا تشتغل في البيت؛ لأن يديها الناعمتين لم تُخْلَقَا لهذه الأشغال البيتية الشاقة، وثوبها الناعم القشيب لم يُعتنَ بخياطته ليقابل الوجاق ويجر ذيله الطويل على أرض المطبخ.

ولأنها لا تقدر على ذلك وهي لابسة المشد، ولا تقدر أن تنزعه عنها حتى في البيت، ولا تخيط بيدها؛ لأن خمسة وعشرة ريالات للخَيَّاطة لا تساوي «تعب فكرها ساعة»، ولا تساعد زوجها في الشغل؛ لأنها لم تُخْلَقْ للتعب بل للراحة. ولا تنظر لمقدرته أو رضاه عندما تروم مشترى بعض قطع من الحلي أو بعض أثواب نفيسة تكون زوجها أقدامًا إلى الوراء. ولا تتنازل عن الزيارات حتى ولو كان أحد أعضاء العائلة مريضًا. ولأن الزوج متى سَعِدَ بتسميتها زوجة أصبح غريبًا عن بيته، بل أكثر بكثير من ذلك أصبح «أسيرًا فيه»، حيث يجب أن يكون مطلق الحرية. فالباب مغلق بوجه أصحابه إذا لم يكونوا مقبولين عند سيدته، بينما هو مفتوح بوجه أصدقائها سواء رضي أم لم يرضَ، حتى ولو كان بعضهم من أعدائه. أُمُّهُ مطرودة ومُساء إليها في المعاملة ولو لم تَكُنْ تستحق. وأمها مقبولة مُكَرَّمَةٌ وهي وإياها على «رأس وقلب» ذلك المسكين. وإذ افتكر بكل هذه الأمور وكثير سواها، قال: أفٍّ لهذه المعيشة؛ فإن حلاوة بعض أخلاق هذه الفتاة لا تُقاس بمرارتها، وعلى رأي المثل العامي: هي كالخرنوب «درهم حلو على قنطار خشب».

ثم قال: فلنر منة. إنها فتاة تختلف عن حنة تمام الاختلاف لأنها ليست «متأمركة» قط، بل هي لم تزل على أطباعها وأخلاقها السورية المحضة. هي جميلة الوجه جمالًا طبيعيًّا، قامتها لم تَزَلْ كقامة أُمِّنَا حواء لم يضغط عليها المشد، ولم يرفعها ويغلظها اللبس بحسب تفصيله. هي متعصِّبة في الدنيا، حتى إنها تكره كل شيء غريب، ولا تنظر إلى شيء غريب، ولا تفعل شيئًا غريبًا، وتحسب بأن كل شيء غير سوري هو نَجِسٌ مُنْتِنٌ قبيح. ومتعصبة في الدين، فإذا ذُكِرَ أحد من غير دينها تقول بأنه «كافر» وتُجِلُّ الناس عن ذكر اسمه. وتعتقد كما علَّمتها أمها بأن كل إنسان خارج عن دينها لا مكان له بغير جهنم، ولو مهما عمِل من الأعمال الشريفة الصالحة. هي محتشمة، نعم، ولكن إلى حَدِّ أن لا تنظر إلى أحد ولا تكلم أحدًا ولا تلجُ مجلسًا، وإذا دخلته ترتجف من اضطرابها كورقة الشجر في الهواء. وأحيانًا تبكي من الخجل. تصلي كثيرًا، ولكن بدون أدنى معرفة بما تقول. لا ترتب شعرها ولا تنظف ثوبها لِئَلَّا تقول عنها العجائز بأنها «خفيفة»، تشتغل في البيت كثيرًا ولكنها لا تحسن الطبخ جيدًا؛ لأنها لم تتعلمه وليس لها به ذوق. ولا تحسن الاقتصاد المنزلي؛ لأنها لم تقرأ عنه شيئًا، ولم تعاشر من يعرف هذا الأمر؛ لأن معاشرتها مقتصرة على النساء اللواتي مثلها. تضحي سعادتها لأجل سعادة أولادها وتخدمهم وتسهر عليهم بحُنُوٍّ عجيب، مما لا يوجد بقلوب ذوات الدلال مثله. ولكنه لا يأتي بالفوائد المطلوبة؛ لأن الحب من الوالدة وحده لا يكفي لحياة الولد الأدبية والمادية حياة مفيدة نافعة له وللوطن. تحب زوجها، تطيعه، تثق به، تعترف سرًّا وجهرًا بأنه رأسها كما كان المسيح رأس كنيسته، وتضحي راحتها وسرورها لأجل راحته وسروره، وتقف منتظرة أوامره «ككلب الشمعة» مهما عمل يكون جائزًا عندها لأنه «الرجل»، ولا يجوز في عرفها أن تعمل شيئًا هي؛ لأنها «المرأة». ولكنها لا تكون قط له رفيقة وصديقة كما هي له زوجة ولأولاده أم. لا تقدر أن تشاطره أفكاره إذا كان لبيبًا أديبًا. ولا يقدر أن يستشيرها أشغاله إذا كان تاجرًا أو صانعًا. ولا يجد لذة بمعاشرتها إن كان ذكيًّا حاذقًا. هي مُحبة لكنها عبدة، وزوجة ولكنها أسيرة، تشتغل آناء الليل وأطراف النهار في بيتها، ولكنه لا يكون قَطُّ مضيئًا كما تضيء بأهلها وفرشها وكل ما فيها بيوت الغير. ولما افتكر بهذا أيضًا وقابل هذه الفتاة بتلك، زاد كُلُوحُ وجهه ونزل عن تلك الطاولة وابتدأ يروح ويجيء بالمحل ويقول: إننا انتقلنا من «الدلفة لتحت الميزاب»، فإحداهما لينة تُعصَر والأخرى صلبة تُكسَر. الاثنتان متطرفتان. للاثنتين فضائل ونقائص، ولكن النقائص أضر وأزيد. فما تراه كان يصير لو وقفت المرأة «المتأمركة» عند حد الاعتدال، ولو تقدمت المحافِظة نحو المعرفة والتمدُّن والعلم والذكاء خطوات؟ ماذا كان يضر لو كانت تخفض قليلًا من كبريائها وتزيل شيئًا من جهلها، مستعمِلة معرفتنا لإتقان واجباتها النسائية والزوجية والعائلية بمعرفة وإدراك كما تتقن ذاتها وثوبها ووجهها؟! وما كان أسعدني لو كانت منة تبقى على الفضائل الطبيعية التي لها وتحسنها بالعلم والتهذيب، وتنزع عنها رداء بعض العوائد السخيفة والاصطلاحات الذميمة الفاسدة المتلفِّحة بها من أمِّ رأسها إلى أخمَص قدميها، فتحجب بذلك جمالها الطبيعي وبعض فضائلها الغراء.

ولما وصل بتَمَشِّيه إلى الباب نظر موزِّعَ البريد آتيًا فخرج لملاقاته لاستلام بريد الصباح، وبعد أن فض كتابًا وأخذ يقرؤه ظهرت على شفتيه ابتسامة عدم الاكتراث والضجر؛ ذلك لأن عميله النيويوركي كان سائله في كتابه أن يذهب إلى المحطة في ذلك المساء ويلاقي ثلاث فتيات قد أرسلهن إليه ليُقِمْنَ عنده ويشترين من محله بضائع ويبعنها.

ولما جاءت الساعة المُعَيَّنَة خرج أديب لملاقاة الفتيات متضجرًا؛ لأنه كثيرًا ما كان يخرج لملاقاة الكثيرين من السوريين القادمين من الوطن، ولا علاقة غير العلاقة التجارية له معهم.

وكان وهو ذاهب يحسب بأن أولئك الفتيات مثل كثيرات منهن يأتين في كل سنة، وهن بدون شك سوف لا يحصل له منهن نتيجة سوى النتيجة التجارية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤