الفصل الرابع عشر

أول درجة من سلم الحرية

وفي صباح اليوم الثاني قرعت عليهما الباب عجوزٌ كانت تخدم الخواجة أديب، وابنها كان يشتغل بمحله أيضًا.

ولما اسْتَفَقْنَ قالت لهن تلك العجوز: ما مرادكن أن تفعلن يا عزيزاتي؟

فقالت بديعة: مرادنا نشتغل بما نحصِّل منه معاشنا؛ لأننا لهذه الغاية هاجرنا.

فتنهَّدت العجوز وقالت: وهل عرفتِ ما هو الشغل الذي يشتغل به أكثر المهاجرين؟

قالت بديعة: كلا.

قالت العجوز: إذن دعوني أن أخبركنَّ عنه، هو ما يسمونه «بيع الكشة» يا بناتي، وهو الشغل الوحيد تقريبًا للسوري في أول دخوله إلى هذه البلاد، ثم أشارت بيدها إلى صندوقة من خشب وحقيبة كبيرة فيها أقمشة كانتا موضوعتَيْن في إحدى زوايا تلك الغرفة، وقالت: إن هذه الصندوقة الصغيرة فِعْلُهَا كبير يا عزيزاتي، وهذه بالحقيقة قد ركِبت ظهور أكثر السوريين، وقليلون منهم الذين لم يحملوها، ولا سيما بأول عهد المهاجَرة. ففي هذه الصندوقة يضع البائع من كل أنواع الحلي والمجوهرات الكاذبة البراقة.

وفي هذه الحقيبة يضع من كل أنواع الأقمشة والملبوسات، وهذه يسمونها «كشة» يحملونها ويتجوَّلون في المدن، وأحيانًا كثيرة في الأحراج حيث يُضْطَرُّونَ أن يقطعوا أميالًا كثيرة ولا ينظرون فيها لا دارًا ولا دَيَّارًا، وأحيانًا كثيرة يُضْطَرُّونَ للمبيت في الخارج حيث يفترشون الغبراء ويتلحفون السماء، يكدون ويجتهدون ويتعبون ويشقون ويتصبب عنهم العرق الكثير، ويطوفون أسابيع وشهورًا في الغابات والبراري مُعَرَّضِينَ لخطر القتل والسلب والنهب، ولكنهم يربحون. وثلاثة أرباح المال الذي دخل بلادنا — وقد سمعتن به، وهو الذي ربما جرَّكن إلى هذه البلاد — هو من هذه الصندوقة ومن الحقيبة. هذا هو بيع الكشة أو المهنة السورية الأمريكية باختصار.

فالتفتت بديعة إليها، وقالت بتفكُّر: إن التعب والنَّصَب لا يُهِمَّانِنَا؛ لأننا خُلقنا لنأكل خبزنا بعرق جبيننا، ولكن ما يهمني هو الجولان في الأحراج والبلدان كما قلت.

قالت العجوز: اللواتي يكنَّ مثلكنَّ ذوات وجوه جميلة وثياب نظيفة يقدرن على التجول في المدينة براحة؛ لأن الأمريكية لا تغلق الباب بوجوهكن كما تفعل بوجه بياعة قذِرة الثياب.

ولما نزلن إلى المحل في ذلك النهار لأجل «الاستبضاع» أو شراء البضائع اللازمة وترتيبها والجَوَلان بها لاصقتهن نساء كثيرات كن «يتبضَّعن» أيضًا وسردن لهن حديث العجوز تقريبًا، فعند ذلك احْمَرَّ وجه لوسيا غيظًا، وقالت بنزق: إذا لم يَكُنْ للمرأة شغل غير هذا، فأنا أفضل الموت جوعًا على أن أدور على البيوت وبيدي وعلى ظهري هذه الأحمال كالشحَّاذة، فإن المرأة لم تُخلق لتكون دابَّة …

فابتسمت بديعة وقالت للوسيا: «ما أهون القول عند العمل!» يا عزيزتي لوسيا أفلستِ أنت القائلة بأن هذه الأيام أيام بخار لا يهم المراكب فيها الريحُ بل تجري بالرغم عنها؟ فما بالك يُوهَنُ عزمك عند أقل صعوبة؟!

قالت لوسيا: إنني لم أحلُم بأنني عند وصولي إلى أمريكا أُمسَخ دابة …

وكان أولئك النساء قد اجتمعن هناك ينظرن إلى لوسيا، وقد «احمرَّت عيونهن منها» وأحببن مجاوبتها بكلام أحدَّ من السهام، ولكن قاطعهن صوت أديب الذي التفت إلى بديعة وقال باحترام: وما هو رأيك أنت أيتها الآنسة بديعة؟

فأجابت بديعة باحتشام وصدق: رأيي أن العمل شرف وواجب، ويتضاعف شرفه إن كان لا بد منه، وإذا كان بطريقة أدبية مرتَّبة. فلعمري أي عارٍ ببيع الكشة الذي هو تجارة متى تعاطته المرأة وهي مرتَّبة نظيفة الثياب، وإذا كان معها من يحمل لها تلك الكشة إذا كانت تقدر على ذلك، وإلا فتحمل هي «جزدانًا» صغيرًا جميلًا في يدها؛ لأنه ليس العمل الذي يجلب الإهانة على صاحبه، بل الوسائط التي توصل إليه والتصرُّف الذي يرافقه، ولا أرى ماذا نعمل الآن ونحن غريبات نجهل اللغة وليس لدينا مال نستعين به على المعيشة إذا كنا لا نتعاطى بيع الكشة، فإن أصعب المشقَّات وأثقل الأحمال هو خير للمرأة من أن تكون عالة على سواها، وهي كطير مقصوص الجناحين يعتمد بمعيشته على سواه ممن لا يكون مطالَبًا به وبها.

وكان تأثُّر لوسيا من بديعة؛ الآن أضعاف ما كان من جميلة في تلك الليلة؛ لأن بديعة «أهانتها» — كما اعتقدت — أمام جماعة من نساء شامتات وشبان منتَقِدين، بينما كلام جميلة كان خصوصيًّا. وعوضًا عن أن ترضخ لأحكام الحق وتقبل النصيحة أضمرت للفتاتين الشر وأكثره لبديعة.

حملت بديعة الكشة مختارة؛ لأنها لم تجد شغلًا أنسب ولأنها — كما قالت — كانت تحسب شرف الأعمال بشرف الوسائط، وحملتها لوسيا مُضْطَرَّةً مُرْغَمَةً، وحملتها جميلة غير مكترثة إلا لما يحوِّل أفكارها عن همومها.

مضت شهور على أولئك الفتيات كُنَّ فيها على أتم اتفاق؛ لأن لوسيا كانت لم تُظهر بعدُ عداوتها لرفيقتيها، وكن يذهبن إلى التجوُّل والبيع من الصباح إلى المساء، وفي المساء يمكثن في غرفتهن يقرأن أم يطرزن، وعلى رأي بديعة يشغلن إما عقولهن بالمطالعة وإما أيديهن بالخياطة والتطريز وشغل البيت؛ حتى لا يتركن لألسنتهن وقتًا للاشتغال بالنميمة واغتياب الناس. وعند الساعة التاسعة أو العاشر يذهبن للنوم لعلمهِنَّ بأن ساعة واحدة ينامها الإنسان قبل نصف الليل تهبه قوة لا تحصل له من خمس ساعات ينامها بعده.

وكثيرًا ما كان أديب يراقب بديعة بانتباه زائد؛ إذ تجلس بعد رجوعها من شغلها وبيدها إما إبرة رقيقة تحركها بخفة ولباقة، وإما كتاب مفيد تنظر إليه وتطالعه، وكأن كل فكرها في عينيها حتى تضيع معنى من بين سطوره، وحتى يشرب دماغها فحواه فإذا فقدته لا تعود تأسف عليه؛ لأنها تكون قد وعته بفكرها على رأي أحد حكماء العرب. وكان ذلك الشاب المحب يتعجب من إيجاد بديعة شغلًا لكل دقيقة من دقائق حياتها، وكيف أنها مع اشتغالها الزائد تجد فرصة في كل مساء للتمشِّي مع جميلة وأحيانًا لوسيا أيضًا — ومتى كان لها خاطر — مقدار ساعة أو ساعتين، وهذا مما كان يجعل وجهها نضيرًا وصحتها جيدة دائمًا بالرغم عن مواثبة الهموم لها.

وبعد مرور تلك الشهور الصافية على الفتيات الثلاث ابتدأت أيام كدرهن؛ لأن لوسيا أخذت بإظهار البغض لبديعة ولجميلة، وكان أحب الأشياء إليها يصبح ممقوتًا منها متى تكلمتا عنه أو فعلتاه.

وفي أول ابتداء داء «التأمرك المضر» في لوسيا ظهرت عليها أعراض «المعرفة أو التفلسف»، فكانت تروح بشيء وتجيء بآخر من أطباع وعوائد الأمريكان. وتخبر رفيقتيها عن أزياء وعوائد واصطلاحات تجري عليها الطبقة المنحطة من هذا الشعب العظيم، وهي معجبة بها ومستحسِنة لها، وكانت بديعة تتعجب من كثرة اطِّلاعها على هذه الأمور في حين أنها هي مع جميلة تجهلها، ولم تدرِ بأن كلًّا يذهب مفتِّشًا عما يناسبه …

وكانت لوسيا تتكلم بأول الأمر عن تلك العوائد، وكأنها لما عرفتْها وأحبت اتباعها أخرجت كلامها من حَيِّزِ القول إلى حيز الفعل، فصارت تأتيها مسرورة حتى تبدلت أخلاقها تمام التبدل، وصارت تروح وتجيء أي وقت شاءت، وإذا عاتبتها بديعة تقول لها: «إن أمريكا حرية»، كلمة نقلتها من فتيات جاهلات من الشعب العظيم، وهذه آفَتُه، وهي لا تدري بأن خرق حرمة الآداب وإتيان ضروب الخلاعة ليسا حُرِّيَّةً حَرِيَّةً بالاعتبار؛ لأن من لم يَكُنْ مُقَيَّدًا بقواعد الآداب لا يكون قط إنسانًا نافعًا.

وكانت بديعة تحاذر سوء عاقبة «تأمرك» لوسيا، وهي تحرق الأُرَّمَ غيظًا من بعض أعمالها، ولكنها بحكمة عرَفت بأن الخشونة والغضب والبغض لا تُجدي نفعًا، وبأنه ليس كاللطف والمعاملة الحسنة لردع من ضَلَّ، وكانت كلما زادت لوسيا تمرُّدًا زادت بديعة معها لطفًا وعليها أسفًا.

ولم يكن لها من معين سوى جميلة الفتاة الحلوة التي كانت بسيطة الوجه حقيقة، ولكنها كانت «بارعة الجمال» عند من يفضل الجوهر على العَرَض؛ لأن التي تحصل كجميلة على نفس جميلة، تضيء من وراء ذلك الجسد الزائل وتبعث أشعتها من تينِك العينين الفتَّانتين، لا تكون قَطُّ قبيحة.

ومع أنها لم تَكُنْ بعدُ بسُمُوِّ مدارك وعقل وتهذيب بديعة، فإنها كانت قد اكتسبت منها كثيرًا؛ لأنها عَرَفَتْ كيف تستفيد من نصائح وآداب رفيقة مخلصة.

وما كان يثير غضب وحقد لوسيا بزيادة هو اعتبار العقلاء وثناؤهم على بديعة، وعوضًا عن أن تنافسها كانت تجري على طريقة مناقضة لها وتحسدها وتُضمر لها الشر.

وهذه آفة السوريين؛ فإن الحسد وإن يَكُنْ عاطفة غريزية في النفس، فإن له مجريين أحدهما لخير الحاسد والمحسود معًا، بمنافسة الأول للثاني والكد والجِدِّ بالسير على طريقه … والآخر ضارٌّ بالاثنين بمناقضة الحاسد لأعمال المحسود ثم السعي وراء أَذِيَّتِهِ، فيصطدم الاثنان مرارًا ويسقط الحاسد في أكثر الأحيان، ويكونان بهذا اتَّبعا آيَةَ شمشون الجبار القائلة: «عليَّ وعلى أعدائي يا رب.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤