الفصل السابع عشر

الإخلاص الحقيقي

وبعد ذهاب الشاب سقطت من عينيها دمعتان ربما كانتا شكرًا لله على ذهاب ذلك الشاب عنها، أكثر مما كانتا حزنًا على حالتها، ومع وفرة عقلها وصبرها قالت منقادة بغريزة الإنسان الذي يمل من التشكي: يا رب هل أنا مستحقة كل هذا؟ أعيش يتيمة فقيرة لا أحظى بحب الوالدين، ولا أعرف حنوهما، ولا يدفأ قلبي من حرارة تعزيتهما، ثم أسعد بحب شاب كنت أظنه محبًّا فأُحرَمه، وإذا بشاب وقح كهذا يتوعدني أو يعذبني وأنا في بلاد غريبة. أواه! إنني لا آمن من الذهاب للبيع وحدي فيما بعدُ، ولا أحب أن يَطَّلِعَ أحد على أسراري. وهذا الرجل سوف يلازمني ملازمة ظلي لي، وأي مكان رآني فيه سوف يردد على مسامعي جمله الحبيَّة الباردة فكيف العمل؟

ثم تذكرت قولها لجميلة على ظهر تلك الباخرة من أن الإنسان خُلِقَ ليكون تعيسًا إن كان فهيمًا عاقلًا وسعيدًا إن كان غبيًّا جاهلًا.

ولم تحسَّ بديعة بوجود شخص ثالث بالقرب منها يحجبه عن نظرها جذع دوحة عظيمة، وهو قد كان في ذلك المكان من مدة وقد سمع معظم حديثها مع نسيب، ومع أنه عرف بأن التنصُّت في غير محله من قلة الأدب فإنه فعل ما فعل متعمدًا؛ غيرة على من يفديها بالرُّوح واندفاعًا بوحي خفي كان يدله على الحاجة إليه في ذلك الوقت. ومع أنه سمع تهديد الشاب للفتاة فلم يظهر نفسه له لئلا يجعل له سبيلًا للغَيْرة الممقوتة. ولكنه بعد أن سمع تأوُّه بديعة ونظر إلى ارتباكها لم تطاوعه نفسه على ملازمة الحياد كما فعل في المرة الأولى بل مشى نحوها وقلبه يختلج في صدره، ولما وصل إليها قال بصوت ضعيف: لا تخافي يا بديعة فإنك لست وحدك.

فاضطرب قلب الفتاة وأجفلت كثيرًا من كلامه؛ لأنها لم تكن بانتظاره، وهذه المباغتة كثيرًا ما تؤلم الإنسان ولا سيما متى كان متحوِّلَ الفكر إلى أمر مهم. ولم تقدر بديعة على المجاوبة حالًا؛ لأن قلبها كان يختلج في صدرها اختلاج الطائر المذبوح، ولأنها كانت حزينة جدًّا لِئَلَّا يكون أديب قد سمع كلامها وكلام الشاب واطلع على سرها. وبعد أن هدأ رُوعُها قليلًا قالت لأديب بصوت مضطرب: وهل مضى على وجودك في هذه الحديقة وقت طويل؟

فعرف الشاب ما خامر قلبها حالًا وقال، وهو لا يقدر على الكذب: من نحو نصف ساعة.

فاصْفَرَّ وجه بديعة، واستأنف الشاب حديثه مُطَمْئِنًا لها فقال: لما ذهبت ضيوفي أتيت إلى غرفتكن لأقضي الشطر السعيد من الوقت، فرأيت جميلة وحدها، وكنت نظرتُ لوسيا ذهبت مع سليم إلى النزهة … فسألتُ جميلة عنك فقالت لي بأنك خرجتِ على غير عادتك ولم تُعْلِمِيهَا بشيء، فلبست ثيابي واندفعت بعامل خفي للِّحاق بك، وسألت أحد الجيران الأمريكان عنك فقال لي بأنك أخذت الترامواي الفلاني، ولما وصلت إلى هنا وجدتك مع الشاب فهممت بأن أبعد كي لا أسمع الحديث لكنني لم أقدر؛ لشعوري بما يَضطرني إلى البقاء، وبعد ذهاب الشاب سمعت تأوُّهك فكاد ينفطر قلبي، وأتيت لمساعدتك فعسى أن لا تحسبيني متطفلًا.

فقالت بديعة بصوت مضطرب، وقد أثر بها كلام ذلك الشاب الأديب: إذن قد سمعت ما دار بيننا من الكلام!

فشعر أديب بأنها توبِّخه لإتيانه أمرًا مُحَرَّمًا في شريعة الأدب، ولكنه لم يقدر على غير ما فعل لما وجد بديعة في خطر، لا سيما وأنه رأى على وجه بديعة عند أول وصوله علائم الاضطراب والقلق وعلى وجه الشاب دلائل المكر والشر، فخاف عليها منه. وكان أديب قد شك بخروج بديعة وحدها على غير سابق عادة، فلما وجدها مع ذلك الشاب ظن أن خروجها كان لسبب، ولكنه لم يسئ الظن بفضيلتها قط، بل أحسنه، وقال: ربما كان هذا اللقاء لفصم عرى ودادية قديمة أو ما أشبه. وما يهم أن يكون لفتاة عاقلة شريفة كبديعة سر تكتمه وذلك السر خير لا شر.

ولكنه بعد أن جلس وسمع أكثر الحديث عرف سبب انقباض بديعة، ورأى له «باب فرج» من كلامها لنسيب بأنها لا تحبه وقد تحب سواه.

وقال أديب بصدق: نعم إنني سمعت أكثره فاصفحي عن ذنبي؛ لأن القصد كان حسنًا.

فاضطربت بديعة من جهة لافتضاح سرها، وسُرَّت من أخرى؛ لأن أديبًا أتى في وقت مصائبها، وهي تشعر بحاجة إلى مساعدته، وكانت قد عزمت على طلب مساعدة جميلة وإفشاء سرها لها. ولكنها فطنت أن جميلة مع إخلاصها الذي لا شك فيه ليست سوى امرأة مثلها لا تقدر على غير التعزية والتسلية بالكلام. وذلك الموقف كان موقف عمل لا كلام. فاحتارت وشعرت بأنها بحاجة إلى مساعدة شخص أقوى من جميلة، أو إلى مساعدة رجل ضد رجل آخر؛ إذ لا يفل الحديد إلا الحديد. وكما أن جميلة كانت بإخلاصها وحبها بلسمًا لجراحات قلبها وقت التعزية، كذلك كان لا غنى لها عن مساعد يحارب معها ويذود عنها وقت الظلم والتجارب.

ولكن من يكون ذلكم الرجل؟ إن المهمة التي تطلب منه القيام بها عظيمة، فما هي مكافأتها له؟ وللحال تمثلت له تلك المكافأة بوجه أديب الذي كان أمامها يطفح حبًّا وعيناه تبرقان بأشعة الأمل. فعرفت بأنها واحدة وهي طلب يدها للاقتران؛ إذ لا يعقل بأن الشاب الذي يجرد سيفه للمحاماة عن فتاة ويوقف كل قواه لصيانتها يكون يحامي ويصون من لا تكون له، ومع شدة احتياج بديعة إلى هذا الشخص، ومع معرفتها بأنه لا يكون غير أديب؛ لأنها لم تر غيره أهلًا لهذا الأمر، اضطربت وفضَّلت أن تموت موتًا ولا تطلب مساعدة إنسان لا تقدر أن تكافئه المكافأة التي يريد، وهذه المكافأة مستحيلة بالوقت الحاضر؛ لأنها كانت تَثِقُ بشرف أديب وتُعجب بآدابه وتحترم إخلاصه كثيرًا وترتاح إليه كما ترتاح إلى جميلة، ولكنها كانت تميز بين الاعتبار والحب، فعرفت أن صداقتها له صداقة أخوية شريفة ولكنها ليست حبًّا على الإطلاق.

ثم تصورت أمرًا فقالت لنفسها: إنني أكون جبانة لئيمة إذا اقترنت بأديب وأنا لا أحبه؛ احتماءً به من نسيب، فإن هذه متاجرة بالقلوب وخيانة عظيمة.

وكان أديب ينظر إليها باحترام، وبقي واقفًا وهي جالسة لزيادة في احترامها، ومع أنه لم يعرف ما هي أفكارها تمامًا فإنه عرف بأنها مضنكة للغاية تستدعيها الظروف الحاضرة، ولو عرفت بديعة كم هي شريفةٌ نفس ذلك الشاب وكم هي مخلصة عواطفه لما تأخَّرت قط عن طلب حمايته التي كان يبذلها لها بدون مكافأة؛ قيامًا بواجب مروءة الرجل نحو المرأة.

ولما انتهت بديعة من أفكارها نظرت إلى أديب وقالت: إنك قد سمعت معظم القصة، فأرجو أن تجلس لأسردها لك.

ولما سمع الشاب قصتها حزِن حزنًا شديدًا؛ لأنها كانت موضوع آماله الحاضرة ونجمة حياته المقبلة، وكان يوَد أن تكون له معها فرصة ليبوح بما في ضميره من حبها، ولم يستطع ذلك لتباعدها عنه وهربها من مخاطبته على حدة مخافة من هذا الأمر.

ولم يكن أديب يظهر حبه للفتاة في حركاته وكلامه ونظراته أمام الناس؛ لأنه أديب كاسمه ويعتقد بأن الحب مقدس لا يجوز عَرْضُهُ للنواظر في كل ساعة ووقت، بل يجب أن يصان في القلب ليبقى على بهائه، وبهذا يكون الحب صادقًا لا كاذبًا، ويكون كقطعة نفيسة يخاف الناس عليها فيحتفظون بها، ولا يُظهِرونها إلا وقت اللزوم، وكان أديب دائمًا يقول: على الشاب العاقل كتم سر حبه في قلبه وامتلاك عواطفه متى كان مع من يحبه في مجلس ما، ويجب أن ينسى ذلك الحب قطعيًّا، فلا يظهره في عينيه وحديثه وأحيانًا «تنهُّداته».

قال: هذه الأمور من الخفة والطيش وهي شائنة إن صدرت عن محبين سواء كان بعد الزواج أم قبله؛ لأن الزوج أو المحب الذي يعامل خطيبته أم زوجته معاملة متطرفة في خصوصيتها أمام الناس يكون يحتقرها، وهو مطالب باحترامها سواء كان بالنظر أم القول أم الفعل.

ولذلك لم يظهر عليه ميل إلى بديعة أمام الناس قط؛ لأنه كان يعاملها كما يعامل غيرها ولكن بأفضلية هي لها، من حيث أدبها وعقلها وإعطاء كل ذي حق حقه من التعقُّل، مع أن أديبًا كان يحفظ لبديعة حبًّا ساميًا عظيمًا قدَّرتْه هي قَدرَه، وإن لم تُشعره به. وكان لم يزل لأديب بارقة أمل فلما هدأ روعها قليلًا قال لها بلطف: سمعتك تقولين لنسيب بأنك متى أحببت رجلًا كما أحببت فؤادًا تقترنين به، وأظن أن هذا ما حرك فيه ساكن الغضب.

فاضطرب قلب بديعة لإدراكها ما وراء كلامه من المعاني وقالت إذ عجزت عن السكوت: إنني قلت ذلك.

قال أديب: كم يكون سعيدًا من بين رفقائه ذلك الذي يحظى بجوهرة يتيمة بين النساء. ورمقها بنظره ليقرأ أفكارها، أما هي فلم تدرِ بما تجيب، وللحال سقطت دموعها، وقالت بزفير: كفى كفى يا خواجة أديب؛ فإن ما بي يكفيني ولا أقدر على تصوُّر الصديق الوحيد فالشرف في العالم يغلق بوجهي آخر أبواب الفرج …

قال أديب: كأنك ترَيْن بحب الناس لك ظلمًا؟ فإن كان هذا فلِمَ لا تعاتبين ربك يا بديعة إذ جعلك بهذه الصورة النفسية والجسدية؛ حتى أصبح حب الناس لك أمرًا مقررًا؟! ولكن الحب الصادق والشريف منه ليس ظلمًا. قالت: نعم هو ظلم؛ لأني تعيسة جدًّا في الساعة الحاضرة وأرى بأن كل معروف لا أقدر على مكافأته لا يزيدني إلا تعاسة.

إذ ذاك قال أديب بلطف: إن كلامك يشف عن اعتقاد تام بصداقتي وثقة بشرفي، فدعينا نترك أمر الحب جانبًا يا بديعة واسمحي لي بإلقاء خدماتي ومساعداتي على قدميك؛ فإن الصديق لوقت الضيق وأنت في أشد الأوقات ضيقًا الآن، وتحتاجين إلى مساعدة، أنا لا أزعجك، أنا أحبك حبًّا عظيمًا صادقًا وهذا الحب يدفعني إلى مناصرتك بما في الطاقة، فإن بدا لي وميض أمل كما أرجو فتكون سعادتي تامة، وإلا فحسبي أن أكون خادمك المخلص وأن تكون خدمتي لمنفعة من أحب، وأنا أرضى بالقليل إذا لم أحصل على الكثير يا بديعة، أنا أخدمك وأساعدك بكل أمانة ولا أقول بأن حبك ليس غايتي الوحيدة. كلا، بل أقول بأنني إذا لم أحصل عليه في المستقبل فلا أتهدد ولا أتوعد بل أرضى أن أكون خادمك المطيع وأخاك الصادق المحب.

وكانت بديعة تسمع كلامه الشريف وتبكي فلما انتهى لم تقدر إلا على الوثوق به، وقالت: إن اللسان أحقر من الجَنان بكل شيء؛ فهو لا يقدر على بث عواطف الشكر عنه. فالله وحده يُقدِّرني على مكافأتك.

قال أديب بفرح: آمين، لأن بمكافأتك حياتي …

وكان الوقت إذ ذاك أصيلًا فلحظ أديب تلبُّك وقلق بديعة الظاهرَيْن، وقال: إنك لا تحبين الرجوع برفقتي خوفًا من لغط الألسنة، ولكنني لا أتركك تذهبين وحدك ولو مهما حدث.

فقالت بديعة: إنك تقدر على قراءة أفكاري بسهولة؛ لأن فينا عادة — نحن السوريين — هي أن نحمل كل ما نراه على محمل سيئ، وذلك لعدم الفرق بين الناس ومعرفة عقولهم لنعرف منها أعمالهم ونحكم عليها. وكما أخاف من الذهاب معك أخاف من الذهاب وحدي؛ لأنهم سيشكون على كل حال وهذا ما يؤلمني؛ إذ إني أكره أن أكون مسببةً للناس الشكوك.

فأجاب: إنهم بدون ريب سيعرفون بأمرنا وأننا التقينا مع بعضنا بسبب خروجنا من البيت كل بمفرده. فدعينا نذهب سوية وذلك ينجينا من خطر الطريق وخطر المكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤