الفصل الثاني والعشرون

رجوع الخواجة منصور إلى البيت

نترك الآن بديعة في أمريكا تتقدم إلى الصحة يومًا فيومًا، وجميلة وأديبًا مسرورين من ذلك، بينما الأخير يلاحظها بعين يزيد بها الحب كل يوم. ونرجع إلى الوطن … لما رست الباخرة التي تقل بديعة ولوسيا ونسيبًا في مياه الإسكندرية مخرت من تلك الميناء باخرة تقل رجلًا له عَلاقة كبيرة بالحادثة التي جرت لبديعة وحملتها على السفر، ولكنه كان جاهلًا مجرى الأمور تمامًا ولذلك وصل إلى البيت مطمئنًّا.

ولما رست تلك الباخرة في ميناء بيروت نزل ذلك المسافر منها، وهو الخواجة منصور، ولما دخل بيته وقابل امرأته ارتاب في منظرها الذي كان يدل على تغيُّر كبير، فسألها عما إذا كانت مريضة فأجابته: كلا. وهذا ما زاد قلقه؛ لأن امرأته كانت قلقة البال ومصفرَّة اللون وعلى وجهها وفي حديثها دلائل الانزعاج والاضطراب.

ولم يصدق أن انتهى من أشغاله، فدخل غرفة زوجته فرآها جالسة تفتكر في أمر هام، وكأنها اضطربت من قدومه.

أما هو فوقف بجانبها وألقى إحدى يديه على كتفها ووضع اليد الأخرى في جيبه، وقال: ما بالك مضطربة ومتغيرة يا مريم؟ فإنني منشغل وأظن أنه قد طرأ بغيابي ما ضعضع أحوالك وأحوال البيت والشغل. فقد أخبرني الكاتب بأن نسيبًا لم يذهب إلى المحل من سبعة أيام والأشياء على غير انتظام هناك، كذلك قد أخبروني الخدم بأنك قد طردت بديعة من البيت، فلماذا هذا كله؟! ماذا حدث؟ أخبريني. ولما رآها تبكي من كلامه مسح دموعها بمنديله وقال: لماذا البكاء؟ هل أصاب فؤادًا سوء؟!

قال هذا بلهفة واضطرب فأحوج زوجته إلى سرد القصة له بتمامها، وكان هو يسمعها ولونه يتغير من الاصفرار إلى الاحمرار ومنهما إلى الاخضرار، ولما انتهت نظر إليها نظرة كأنها كانت تنتظرها، فقابلتها بهدوء تام، وقال: جرى كل هذا ولم تعلميني بشيء يا مريم؟!

قالت: نعم؛ لأنني خشيت إزعاجك وغضبك.

فقال وقد ابتسم ابتسامة الغضب: لو كانت أمامي امرأة غيرك لكنتُ قلت لها: «يا خائنة» وأما أنت فلا أدري بماذا أكلمك ولا إلامَ أنسب سلوكك واستقلالك بهذا الأمر.

فبكت وقالت: ارحمني يا منصور؛ لأنني لم أكتم ما كتمتُ عنك إلا خوفًا من غضبك، وظنًّا مِني أن النساء أقدر على احتمال الهموم من الرجال. فقال لها بحدة: ولكنك لم تظني قط أن النساء الفاضلات لا يأتين حتى التافه من الأمور بدون علم رجالهن، فكيف والأمر عائلي محض للرجل كما للمرأة حق الاطِّلاع عليه وإبداء الرأي فيه إذا لم أقُل أكثر؟ وقد نسِيت على ما أظن بأن الزوجين يجب أن يتشاركا في هذا الأمر، ويكون لكل منهما رأي فيه فإن اتفق الرأيان كان الشيء أتم وأنفع وإن اختلفا ينظر بحكمة وعدل في الرأي الأصح، ومتى كان الأمر برأي الاثنين يرتفع الملام عن أحدهما ولا سيما عن الزوجة.

ولما كان هذا الجرح الوحيد الذي جرح قلبها به بحربة الكلام آلم السيدة مريم كثيرًا، فرفعت نظرها الذي كان منخفضًا إليه وكأنها ظنَّتْه يمزح، ولكنها لم تلبث أن رجعت فأطرقت إلى الأرض ثانية؛ لأن سهام عينيه كانت أَحَدَّ من سهام كلامه.

وبعد أن ساد السكوت بينهما عدة دقائق قالت له بصوت أضعفه البكاء: إنني مخطئة يا منصور، وعذري لديك هو ظني أنني أنهي المسألة بدون علمك اتقاءً لغضبك وتوفيرًا عليك.

فقال لها باللهجة الأولى: نعم هذا ما ظننتِ، ولكن الظن فاسد. ولو نظرت إذ ذاك إلى الواجب لا المراعاة لعرَفت بأن واجبك الأول هو الذهاب إلى زوجك في أوقات ضيقك، وليس إلى ابن أختك؛ لأنه إذا حدث أمر على غير علم الزوج فأول من يطَّلع عليه يجب أن يكون ذلك الزوج، وأما إذا كان الأمر مع الزوج فإن أول من يطلع عليه من المرأة الفاضلة الوالدان، فما الذي منعك عن الإتيان إليَّ عوضًا عن الذهاب إلى نسيب وأنت تعلمين حبي وحُنُّوي؟ وما الذي سَوَّلَ لك كتمان الأمر عني وفؤاد ولدي كما هو ولدك؟

قالت: لا كلام لي أقوله إلا الكلام السابق، وما ترى كنتَ تفعل أنتَ لو كنت مكاني غير ما فعلت أنا؟

فقال بأنفة: لو كنت علمت بالأمر قبل ذهاب بديعة لكنت رضيت عن اقترانها بفؤاد. فنظرت إليه امرأته باستطلاع، ولما قرأت الجِدَّ بعينيه ووجهه وجدت حجة عليه فقالت: وهل ترضى بزواج فؤاد بفتاة فقيرة يتيمة … بخادمة؟!

قال بهدوء: إن الخدمة ليست عارًا؛ لأنها عمل محلَّل وكل عمل محلل شريف، فأنت وأنا وكل إنسان في العالم خادم لسواه. وأما اليُتم فهو أمر يدعو إلى الاحترام لأنه مشيئة الله، وأما الفقر فهو أحقر هذه الأمور شأنًا؛ لأن ثروة المرأة جمالها، وبديعة جميلة النفس والجسد، وقد أحبها فؤاد وأحبته والحب يبارك كل شيء، وتحلله في الحياة الزوجية المساواة الأدبية.

فقالت إذ ذاك ببرودة وقد نشفت دموعها: إنني لم أعرف قط بأنك غيرت مبدأك من أن عدم المساواة يجعل الزواج تعيسًا. قال: إنني لم أزل على هذا المبدأ، أقول بأن الزواج بدون مساواة لا يكون قط سعيدًا، ولكنني لم أقل بأن المساواة بالمال؛ لأن السعادة بنت الحب الصادق، وهذا ينتج عن المساواة بالأخلاق والمشارب والأذواق، ولا أظنك تنكرين هذا ولما تزوجتك كنت مع أمك وأختك تشتغلن لمعيشتكن، ولكني لم أُبَالِ بهذا؛ لأنني أحببتك ورأيت بأن ثروة تهذيبك وجمالك تفوق ثروة مالي، فلم تفضليني ولم أفضلك بشيء وكانت حياتنا أسعد من كل حياة بين أصدقائنا كما تعلمين.

ولما سمعت كلامه نسيت موقفها وأنها مذنبة وقالت له بغضب: إنك تحتقرني بتشبيهك إياي ببديعة!

فقال ببرودة: إن بديعة فتاة مهذبة شريفة النفس، فإذا شبهتك بها لا أكون احتقرتك، ولكنني رُمْتُ أن أذكرك بالآية الذهبية التي هي: «اعمل بالناس كما تريد أن يعمل الناس بك.» وأنها ليست معروفة حتى عند سيدة تَدَّعِي التهذيب والفضل نظيرك. قال هذا وخرج من غرفتها غاضبًا، وبقيت هي تنظر إليه ولا تتجرأ على أن تتبعه أم ترجوه الرجوع.

بقيت تلك السيدة المتعظِّمة طول ذلك المساء وحدها بدون عشاء وبعد أن راجعت قصتها وجدت نفسها مخطئة نحو زوجها وولدها ونحو نفسها أيضًا، فمشت بقدم مرتجفة إلى مكتبة زوجها، فوجدته جالسًا على كرسي يقرأ جريدة، ولما دخلت لم يكترث لها قط فجلست على كرسي آخر بدون كلام، وبعد أن انقضت على دخولها دقائق قامت وتقدمت إليه وجثت على ركبتيها طالبة الصفح والمساعدة.

فقال لها: إنك تطلبين مساعدتي الآن لأن نسيبًا غائب، وما كنت تهتمين بالأمر لو كان موجودًا، ولكن الحق أقول لك بأن نسيبًا خائن، وقد حثك على طرد بديعة وإبعادها عن فؤاد؛ لأنه هو يحبها.

فسكتت عندما سمعت هذا الكلام، وفطنت لاجتهاد نسيب في الأمر وأن حبه الزائد لفؤاد لم يكن حبًّا مجردًا، فلامت نفسها كيف أنها لم تتروَّ أكثر، وكتمت عن زوجها خبر إعطاء المال لنسيب وكانت لم تخبره به بعد، وقد قصدت أن تخبره في ذلك الوقت لولا كلامه.

وبعد دموع غزيرة وتوسلات كثيرة استرضت مريم زوجها؛ إذ لا قوة على الأرض تقف في وجه غاية المرأة متى كان سلاحها خضوعَها ودموعَها، ولما وثقت من صفح زوجها ورضاه قالت له: من الضروري أن نزور فؤادًا في المدرسة ونخبره بالمسألة.

فقال: إن هذا الخبر يكسر قلب الغلام، ولا أعلم بأية واسطة تقدرين على إبلاغه إياه.

فابتسمت إذ ذاك ابتسامة الظافر وقالت: أرجو أن تترك الأمر لي يا حبيبي حتى يكون انتهاء المسألة كابتدائها على يدي.

فقال هو مبتسمًا أيضًا: أحب أن تخبريني كيف تقابلين الشاب، وما الذي تقولينه له، وهل تنوين قول الحقيقة أم ترومين خداعه هذه المرة أيضًا.

فاصفرَّ وجه مريم إذ رأت زوجها قد رجع «إلى الجِدِّ» في كلامه وقالت له بحزن: إن الصدق لا يجدي نفعًا الآن؛ لأن ما فات مات، وأما إظهار الحقيقة لفؤاد فإنه يزيد في أشجانه وأشواقه إلى الفتاة وهي بعيدة، ويحدث في قلبه النفور مني وأُصْبِحُ محتقرةً عنده، ولا أظنك يا منصور بهذا المقدار قاسيًا حتى تظهر مكري وخداعي لولدي الوحيد فيبغضني.

فقال زوجها بحنو وقد رَقَّ لكلامها: إنني لا أريد هذا قط، كما لا أريد أن أرى زوجتي المحبوبة الفاضلة موصومة بوصمة الخيانة والمكر، ومكتوبة على وجهها الجميل آيات الغدر.

فلما سمعت كلامه الصادق صاحت قائلة: كفى، كفى يا منصور! فإنني مذنبة ومن أقر بذنبه فلا ذنب عليه، ولو كنت أرى بالإقرار مغنمًا لكنت أقر، لكن الأمر قد صار ماضيًا الآن، وأنا فعلت ما فعلت ليس لأجل نفسي بل لأجل من يُفدَى بالنفس — لأجل ولدي — والوالدة المحبة تشتهي كل شيء وعمل في سبيل سعادة ولدها، أنا ضحيت شرفي وذمَّتي لأجل ولدي، ويجب أن أكمل الضحية الآن وأموت. أنا قد بليت يا منصور، فإذا لم تساعدني على التخلص من هذه الورطة شريفة محبوبة من ولدي، فيمكنك أن تساعد ولدي عليَّ وتلطخ اسمي بالعار عنده، ولكنني سوف لا أتركك ترى نتيجة عملك هذا؛ لأني أنتحر وأتركك ورائي خائنًا قاتلًا! ثم انطرحت على الأرض تبكي بكاءً مرًّا.

أما هو فقام عن كرسيه يتمشى في الغرفة ذهابًا وإيابًا وهو مبلبل الأفكار، لا يريد أن يسلم مع امرأته بأمر يحسب قلة دين وعارًا وكذبًا، ولا يريد أن يرى امرأته محتقرة مبغوضة من ولدها كما قالت، وهو يخاف من أكثر من ذلك من أن تتمم وعيدها فعلًا وتقتل نفسها؛ لأنها كانت ذات كبرياء شديدة تستهون كل شيء عند جَرح كبريائها. وبعد أن تمشى نحوًا من نصف ساعة وهو يطلب من الله المساعدة، خطر له أن يجاري امرأته على أفكارها ولا يخبر فؤادًا بشيء، حتى إذا رجع من المدرسة يسفره إلى أمريكا ليجتمع ببديعة، وبهذا يكون قد قضى الواجبين بوقت واحد. ورجع إلى زوجته فأنهضها عن الأرض ومسح دموعها وطيب خاطرها، ولكنه نسي أن يسألها عن فحوى الكلام الذي ستقوله لفؤاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤