الفصل الرابع والعشرون

في البيت ومكتوب بديعة

وفي آخر تلك السنة أحرز فؤاد الشهادة المدرسية ورجع إلى البيت مُكَلَّلَ الرأس بإكليل الفخر والمجد، ومُكَلَّلَ القلب بإكليل الهموم والأحزان التي كانت تستنزف دمه.

جارى والديه رغمًا عنه بإقامة حفلة أعظم من كل حفلة سواها إكرامًا لرجوعه ونجاحه، ولم يظهر عليه شيء من الهم أو الحزن لأنه كان يعرف كيف يقوم بواجبات الضيوف، ولو اضْطُرَّ إلى إزعاج نفسه والضغط على عواطفه.

فجاء هذا العمل دليلًا على وفرة أدبه، ومُبْعِدًا لشك الناس، ومُنْعِشًا لقلبَيْ والديه الحزينين.

كانت تلك الحفلة مجلى الأبهة والجمال؛ لأن كل حفلة كانت تُقام في بيت الخواجة منصور كانت تفوق على ما سواها، فكيف والحفلة هذه كانت إكرامًا لرجوع فؤاد من المدرسة وعلى رأسه إكليل الفخر والفوز، والذي زادها رونقًا وجمالًا هو استعداد البنات التامُّ للظهور بأبهى حلل الزينة والجمال؛ لأن فؤادًا كان قد أتم علومه في تلك السنة … وكان في الحفلة فتاتان على طرفي نقيض: إحداهما جميلة جدًّا حتى إنها حجبت بجمالها الفتان النظر عن كل فتاة موجودة إذ ذاك، وأخرى قبيحة المنظر جدًّا ولكن الذي كان ينقص هذه من ضياء الوجه والعنق والزندين كانت تعوضه عليها الحلي الثمينة التي كانت كالكواكب المتلألئة على صدرها، وفي عنقها ويديها ورأسها، وما كان ينقص تلك من نور هذه الجواهر كان يعوضه عليها وجهُها، وشتان ما بين الطبيعي والاصطناعي من الأشياء … لذلك كانت الفتاة الجميلة مع بساطة ملابسها تستلفت الأنظار أكثر من الفتاة القبيحة مع نفاسة الملابس والحُلِيِّ التي عليها.

وكان مع الأخيرة قريبتها التي كانت تجلس بجانبها دائمًا، والتي كانت ترتاح إليها بإفشاء أسرارها أكثر من والدتها نفسها. فبعد أن رقصت مع أحد الشبان رجعت إلى تلك المربية التي فتحت المروحة وأخذت تهوي لها، وهي متكئة بجانبها، ولما انتهت نظرت إليها قائلة: ما أبلد هذا الشاب! وأومأت برأسها إلى فؤاد.

قالت المربية: إنه ليس بليدًا، ولكنه متكبر على ما أرى. فنظرت إليها الفتاة نظرة الاستخفاف وقالت: متكبر! إن هذا عذر جميل … فهل تعلمين يا آدال ما أخبرني عنه بعض أصدقائه؟

قالت المربية: كلا.

قالت: قال لي بأنه يكره «الدوطة». وأنه قال عنها بأنها جدار عالٍ يُقَامُ فاصلًا دون رغبة الشاب في الأهلية بالفتاة، وأنها ضرر اجتماعي كبير في هذه الأيام بعد أن صار الشاب يطلبها قبل أن يطلب العروس، وبعد أن صارت تهمه هي أكثر مما تهمه العروس، ويرتاح إلى النظر إليها قبل اختبار أهلية العروس، وأنها كثيرًا ما تدوس على الحب الحقيقي الذي هو أساس السعادة، فكأن الشاب الآن يعشقها دون الفتاة؛ ولهذا فإن أكثر الفتيات ييأسن من الراحة في الحياة إذا لم يكن لهُنَّ دوطات. ولكن مهما قال هذا الشاب الجاهل لحقيقة الأمور الآن فسيرى نور منفعتها من بعيد ويسرع إليه؛ لأن الأغنياء يتهافتون على «الدوطة» في هذه الأيام أكثر من الفقراء، فهي الكل في الكل. وأنا أُفَضِّلُ أن يكون والد كل فتاة رحومًا كوالدي، فعوضًا عن أن يبذل ماله لتعليم ابنته وتهذيبها «يصمد» لها هذا المال فيضيفه إلى دوطتها؛ لأن الفتاة متى كان لها دوطة كبيرة فإلى أي شيء آخر تكون حاجتها؟

فقالت تلك المربية بتدليس: لا بد منه للفقراء من الأغنياء، إن فؤادًا لا يكون بهذا المقدار جاهلًا يا سيدتي حتى يترك عشرة آلاف ليرة … رغبة في وجه جميل أو طرف كحيل …

ولما قالت المربية هذا نظرت تلك الفتاة بوجه الفتاة الجميلة وكانت جالسة بجانب والدتها، وتنهدت دلالة على أن كلامها عن الدوطة كان «فشه كربه»، وأنها هي ذاتها تعتقد بصوابيته، وقالت في نفسها: ما أجملها!

وكانت أم تلك الفتاة تقول لها إذ ذاك: إن فؤادًا كان ينظر إليكِ وأنت ترقصين؟

فصبغ احمرار الخجل وجه الفتاة وأطرقت في الأرض من كلام والدتها. وبالحقيقة إن فؤادًا كان ينظر إليها دائمًا، ولكن السبب هو أنها كانت تُشبِه بديعة؛ فهو كان ينظر إلى صورة بديعة وليس إليها.

ولم تحب والدة الفتاة قَطْعَ الحديث عند هذا الحد فقالت: إن الغنيَّ أول ما ينظر إلى الجمال؛ لأن لديه المال الكثير والجاه العريض وكل ما يَشتري المال له. وعنده الخدم تطبخ وتربي الأولاد وتعتني بتدبير المنزل، والذي ينقصه هو شمس تضيء في منزله، وتنير فضاء بيته، وتكون بهجة عينه. وكم أنا سعيدة؛ لأنك أبهى وأنور من الشمس يا عزيزتي مرتا … ماذا تهم الدوطة عند الجمال؟!

فضحكت مرتا — في عبها — من كلام والدتها، ورفعت نظرت إلى فؤاد، وصادف أن هذا الشاب كان ينظر إليها الآن ويفتكر في بديعة، فاحمرَّ وجهُها وامتلأ قلبها سرورًا …

ولكن — وا أسفاه — أن جسم فؤاد كان في تلك القاعة حقيقة، ولكن فكره وقلبه كانا بعيدَيْن ألوف الأميال عنها.

ولم يصدق فؤاد أن انقضت تلك الليلة؛ لأن الأنوار المضيئة ما كانت إلا لتَزيد ظلمة قلبه ظلامًا، وألحان الموسيقى وأصوات المدعوِّين ما كانت إلا لتَزيد شجونه وتذكره بأنه قد خسر ما هو ألذ وأشهى إلى قلبه من كل هذه الأمور، وأنه حزين لأجلهم وهم فرِحون. ومن الطبع أن حزين النفس لا تسره الأفراح؛ لأنها تزيد في حزنه وتؤلمه بتذكاراتها، وأما ما يسره فهو الجلوس مع من هم مصابون بمصابه يُبادِلُهم الشكوى ويحسبهم رفاقه ويمزج دموعه بدموعهم فيغسل بها صدأ الأحزان عن قلبه، وكُلٌّ يميل إلى جنسه؛ ولذلك لم يصدق أن انتهت تلك الحفلة التي كان كل من فيها — حتى والديه العزيزين — غير محبوب إليه.

ولما ذهب إلى غرفته جلس على كرسي ليستريح من العناء والأفكار بعد أن أوصد الباب، وكان جلوسه بجانب النافذة فأَطَلَّ رأسه منها قليلًا يتنشَّق النسيم العليل بكثرة علَّه ينتعش، ولما فعل رأى القمر مضيئًا أمامه فنظر إليه متنهِّدًا وحسده على ضيائه؛ إذ تذكر بأنه في مثل تلك الأيام من السنة الماضية كان قلبُه منارًا بما هو أبهى من نوره.

وبينما هو سابح في فضاء الأفكار، وسائر بنظره مع القمر، سمع طرقًا خفيفًا على باب غرفته، فنهض متعجبًا من هذا الأمر، وفتح الباب، وإذا بخادمهم الأمين يوسف يقول: هل كنت نائمًا يا سيدي؟ قال فؤاد: كلا، فلماذا سؤالك؟ قال: لأنني واقف منذ دقائق على هذا الباب أطرقه ولم يجبني أحد.

فابتسم فؤاد وقال: إنني لم أكُن نائمًا يا يوسف فما هو غرضك؟ فتناول الخادم من جيبه كتابًا ونظر يمينًا وشمالًا ليرى إن كان أحد ينظر إليه، ثم ناوله إياه وقال بصوت منخفض: أتت اليوم فتاة وأعطتني هذا الكتاب، واستحلفتني بشرف أسيادي أن أسلمك إياه في هذه الليلة.

فأخذ فؤاد المكتوب منه، ولما قرأ العنوان كاد يرميه من يده المرتجفة، لكنه تجلد أمام الخادم، وصرفه عنه بعد أن شكَره ورجع فأوصد الباب ثانية وذهب إلى كرسيه.

قرأ فؤاد كتاب بديعة فارتجف كالورقة، وكان وهو يقرؤه يشعر بنار محرقة من الكلام الذي جاء فيه، وباضطراب داخلي عظيم، وبعد أن أتم قراءته تضاربت أفكاره، وتكاثرت فلم يقدر أن يحكم: أكانت والدته صادقة وبديعة خائنة، أم كانت بديعة صادقة وقد ذهبت مرغمة كما دل فحوى كتابها؟ ولكنه على كل حال لم يقدر أن يصدق كلمة «خائنة»؛ لأنها كانت نارًا محرقة تكاد تلتهم قلبه.

وراجع قراءة مكتوب بديعة مرارًا فصدق إذ ذاك بأنه صادق وصادر عن قلبها؛ إذ قد قيل إن الكلام الصادر عن القلب يذهب إلى القلب، وأما الصادر عن اللسان فلا يتعدى الآذان.

وكان يردد في فكره جملة أخيرة جاءت في كتابها وهي:

متى رجعت إلى البيت واستلمت هذا الكتاب فاذكرني واسأل عني قلبك فهو يدلك.

فوضع يده على قلبه وقال: نعم، إنه يدلني بأنك بريئة يا حبيبتي، ولكن آه لو كنت أقدر الآن على معرفة سبب ذهابك. ولما ذكر «سبب ذهابها» ذكر قول والدته فيه، فاضطرب وقال: لا يبعد أن تكون بديعة كاذبة؛ إذ في النساء طبع هو أنهن يظلمن نفوسهن نفوس الغير، وينادين مستغيثات قائلات: «لله يظلم من ظلمنا!» ولهذا ارتاب في كلام بديعة. ولا يلام فؤاد إذا شك بصدق بديعة وهو رجل من الرجال يُبدي رأيه في «امرأة» من النساء، وكل رجل يحسب «كل امرأة» مهما بلغت من الكمال النسائي لا بد لها من إتيان بعض الأمور الذميمة الموصوفة بها بنات جنسها، ولو كانت تخالف مبدأها، وهو يحسب بأن «العادة طبيعة» ولو كان مصدرها الجهل، وأن العقل يدني الإنسان من الكمال سواء كان امرأة أو رجلًا، وأنه حيث وجد العقل مرشدًا وجدت الفضائل الغراء السامية، ولا فرق بين المرأة والرجل بهذا؛ لأنهما من جِبِلَّةٍ واحدة، ولكن ما يجعل المرأة تنقص الرجل في بعض الأمور هو جهلُها، وهو كثير عندها، وقليل عنده وما عدا ذلك فالمرأة كالرجل بكل شيء.

فرُحماكم أيها الرجال بالمرأة، وإذا قلتم عن البعض من هذا الجنس إنه «ماكر أو نمَّام أو ثرثار» قبلنا قولكم بشرط أن لا تقولوا: «كل الجنس»، وبودكم أن تبرهنوا بأن العلم والجهل عند هذا الجنس سِيَّانِ؛ لأنه كما خُلِقَ يموت ولا يؤثر فيه شيء، وما هذا هو الحق؛ لأن المرأة مادة كمادة الرجل قابلة للتعقُّل والتهذيب، فمتى جربناها فيها كالرجل تمامًا يُعرف إذا كان من فرق بينهما، ومتى فعلتم ذلك فلوموا نفوسكم على رذائل المرأة ولا تلوموها هي.

ولو كان فؤاد يقرأ كتابًا من رجل إذ ذاك لصدَّقه وقال: «إن الرجل شجاع وصادق.» أما وهو من امرأة فقد قال عنها وهو حبيبها بأن مكر النساء مشهور …

فهل هو العدل أن نسلم سرنا لأشقى رجل معروف ونكتمه عن أفضل امرأة مثلًا، ونقول: إن الرجل يكتم السر لأنه رجل والمرأة تفشيه لأنها امرأة؟! ما أضل هذا الوهم الذي يماثله اعتقاد بعض الجهلاء من كل طائفة بأن الرجل الذي من طائفتهم يجب أن يعتبر ويحترم ويعترف له بالفضل رغمًا ولو كان من أشقى الأشقياء، كما يجب أن يحتقر رجل آخر ولو كان فاعلًا الخير فاضلًا صالحًا … والسبب هو أن الأول من مذهبهم والآخر من غير مذهبهم! اعتقاد فاسد سداه الغباوة والجهل ولحمته التعصب والمكابرة.

ولما ذهب فؤاد إلى سريره قال: «قبح الله مكر بعض الرجال والنساء!» لأن الشر يكون مشتركًا بين الجنسين دائمًا، ولا يكون نصيب أحدهما منه أقل أو أكثر من نصيب الآخر، وهذه قصة بديعة وما شاكلها أكبر شاهد، إنما قضت الضرورة بأن يستقل الجنس الغالب بالخير وينسب الشر إلى الآخر، وأن ينصت الجنس المغلوب عن عجز وضعف. وما كان الله ظالمًا وجائرًا فهو لم يَخُصَّ النساء بالشر والرجال بالخير، بل خلق الجنسين وخلق الفضائل والرذائل متساوية بينهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤