الفصل الخامس والعشرون

سفر فؤاد ووصية أبيه والتقاؤه ببديعة

وفي صباح اليوم الثاني تناول فؤاد القهوة مع والديه حسب العادة، وذهب مع والده إلى المحل، وفيما هما في العربة قال فؤاد لوالده: أنسيت قولك لي في المدرسة يا سيدي من أن تساعدني؟

أجاب الوالد ببشاشة: كلا، وأية مساعدة تريد مني؟

قال: إنني اعتزمت السفر إلى أمريكا بقصد مشاهدة بديعة، فإن وجدتها بريئة أُنصفها، وإن وجدتها مذنبة أشعرها بأنني قد عرفت بخيانتها. ومساعدتك لي تكون رضاك عن ذهابي لا غير. قال والده: إن وعد الحرِّ دَيْنٌ عليه، وأنا لا أمانعك بالذهاب بشرط أن تعرف بأن تساهُلي معك هو من حبي لك، وأن هذا الحب يطلب المكافأة، التي تكون برجوعك إليَّ وإلى والدتك بأقرب فرصة ممكنة.

فقال الولد: إنني أطيع يا سيدي، ولكن هل تفتكر بأن بديعة خائنة كما قالت والدتي؟

فقال الوالد: وكيف أقدر أن أحكم على أمر حدث بغيابي؟! عند ذلك ناوله ولده المكتوب وقال: إن والدتي قد أخبرتك بالقصة، وهذا مكتوب بديعة فاحكم بين الاثنين.

وبعد أن قرأ الوالد الكتاب وعجب من شهامة بديعة أرجعه إلى ولده وهو يقول: وهل أنت في ريب من صدق كلام والدتك يا فؤاد؟

وكان قصد الوالد أن يعرف أفكار ابنه. أما هذا فظن أنه مذنب بكلامه وأن والده يوبِّخه، فقال بلطف: كلا يا سيدي فإنني أصدق كلام والدتي الشريفة، ولكنني افتكرت بحدوث سوء تفاهم فقط.

فقال والده متنهدًا: إن كلامك في موضعه؛ لأن ما استنتجته من كلام الفتاة هو أنها شريفة النفس تعرف الواجب، وقد يكون ذلك الغادر نسيب فعل ما فعل ومَوَّهَ على عقل والدتك بأن بديعة مذنبة أو غير ذلك، فلا تحفل بأمر قبل أن تتحققه بنفسك.

سمع فؤاد هذا الكلام من والده فنسي بأن المتكلَّم عنها هي تلك الفتاة التي كانت مبغوضة منه من ساعة، وبرهانًا على فرحه الزائد من كلامه أخذ يده عن ركبته وقبَّلها قائلًا: إنني أشكر حسن ظنك بالفتاة يا سيدي، فأنت تحبني أكثر من والدتي؛ لأنك لم تجرح قلبي كما فعلت هي.

ولا عجب إذا ارتاح فؤاد إلى كلام والده؛ لأن الإنسان متى كان مرتابًا في أمر أو بشخص ما يكون فرحه شديدًا متى سمع تبرِئته من سواه، وحزنه أشد متى سمع تذنيبه.

وأحدث كلام فؤاد في قلب أبيه تأثيرًا عظيمًا، فقال له وهو يريد رَتْق ما فتقته امرأته بدون أن يشعر الغلام: سِرْ يا عزيزي بحراسة الله، ولا تطل غيابك علينا؛ لأن والدتك المحبوبة تموت من بعادك همًّا، وإذ إن سفرتك بعيدة والمخاطر التي سوف تعترض طريقك كثيرة فأَوَدُّ منك أن تقبل مني وصية واحدة لها أكبر علاقة بأمرك، هي أن تتحذر من أربعة من الناس في سفرك هذا وأن لا تأخذ من أفواههم الشهادة ببديعة، بل اختبر أمرها أنت بنفسك؛ لأنه قد قيل:

ما حَكَّ جلدَكَ مثلُ ظفرِكْ
فتولَّ أنتَ جميعَ أمرِكْ

وهؤلاء الأربعة الذين ذكرت لك عنهم هم حِجارة عثرة في سبيل السعادة والراحة، وهم أولًا: الحسود؛ فإن هذا لا يحارب المحسود منه بغير الاختلاق والذَّمِّ ظانًّا أنهما يُسقطان من قدره ويذلانه أمام الناس، وإن يكن هذا الظن فاسدًا؛ لأن البريء تظهر براءته بعد التهمة بأكثر جلاء ونورها يكون أشد ضياءً، فالحساد يقفون في سبيل المحسودين لوقت أحيانًا ثم يضمحِلُّون. والثاني: هو الرجل الذي خلق ليفتئت الناس ورُبِّيَ على النَّمِّ بهم والتكلُّم بحقهم بكلام رديء، فهذا لا يقدر على الاشتغال بغير الشغل الذي خُلِقَ له، وكأنه لا يقدر على الكلام الحسن بالناس فيعمد إلى الكلام القبيح بهم؛ فكأن لسانه يا ولدي لا يعرف الكلام الجيد، فاحذر من أن تجرِّئه على الثلب في حق أيٍّ كان. وأما الثالث: فإنه لتعاسته يكون ذا سيرة رديئة وأعمال قبيحة، فهذا وإن عَرَفَ أعمال الغير الحسنة واعتبرَهَا في قلبه فإنه لا يقدر على إظهارها بهذا المنظر أمام الناس، بل إنه يفصِّل للناس من ذات النسيج الذي يصنع منه أثواب عمله ويلبسهم مثلها، وقد قيل: من كان بيته خرابًا يدعو على بيوت الناس كلها بالخراب. والرابع: لا يعرف ما هو العدل ولا يسمع باسم الشرف الحقيقي والصدق الشريف، فهو إن صادَق إنسانًا وكانت عيوبه كثيرة نَسِيَهَا أو تناساها، وهذا ما لا يهم كثيرًا؛ لأن ستر عيوب الناس أحسن من إظهارها إذا لم يكُن من هذا الإظهار فائدة لذوي العيوب وغيرهم. ولكنه إذا عادَى إنسانًا لأشياء خصوصية وكان هذا الإنسان من أشرف وأفضل خلق الله يتَّهمه بكل قباحة وشناعة وخيانة. فهؤلاء الأربعة يجب أن تتحذر منهم؛ لأنهم كالمعاول والعتلات الهادمة لبنيان الصداقة والسعادة والظن الحسن بالناس، وليس أسعد من الإنسان الذي يقدر أن يفتكر بكل أحد حسنًا لا قبيحًا.

وإياك إن جُمعت بأحد الأربعة أن تصدق كلامه عن بديعة سواء كان قبيحًا أم حسنًا، والسبب أنه ربما كان صديق بديعة فيتكلم عنها بحسب هواه ومأربه، وربما كان عدوها فيتكلم عنها هكذا أيضًا، وإياك أيضًا أن تصدق كلام أحد عنها قبل أن تختبرها بنفسك؛ لأن الصديق ينظر بعين الصداقة إلى الحسنات فقط، والعدو مثله ينظر إلى السيئات، وقليلون هم الذين يعرفون العدل وينظرون إلى الحسنات والسيئات في حالتَي الصداقة والعداوة فيشكرون ما يجب شكره ويذمُّون ما يجب ذَمُّه.

وهناك يا عزيزي وصايا أخرى أدبية كثيرة هي للمسافر مثلك زادُ النفس، كما أن الطعام زاد الجسد، وأنا أقدر على ذكر كل هذه الأمور لك بجملة واحدة هي «أنه يجب على الغريب أن يكون أديبًا»، واللبيب من الإشارة يفهم. وكان فؤاد يسمع كلام والده وهو يبكي من حُنُوِّهِ ومِن هَمِّ نفسه، ولما انتهى قال له بصوت حزين: أطلب من الله يا سيدي أن يحقق آمالك بي وآمالي ببديعة. وكأنه ذكر أمرًا اصْفَرَّ له وجهه؛ إذ قال لوالده: أتظن يا سيدي أن نسيبًا …

فقاطعه والده قائلًا: لا تذكر اسم هذا الشاب أبدًا؛ فإنني أؤكد لك بأن بديعة لا تحبه ولا تهتم به، ولكنه هو قد سعى بإبعادها وتبعها ووشى لوالدتك بها فصدَّقته والدتك، وإن فكري يدلني بأنك متى رأيت بديعة تنجلِ لك الحقيقة وتتحقق برؤيتها، فاقترِنْ بها وتنزها بأمريكا وتفرجا على عظمتها قبل رجوعكما بالسلامة، ولا تهتم بأمر نسيب متى تحققت خيانته، أو تنتقم منه؛ لأنه إذا كان الانتقام أرضيًّا فالصفح سماوي.

فقال الشاب فرحًا وهو معانق والده: إن كلامك أكبر منشط لي يا سيدي؛ لأن فكري ببراءة بديعة هو غيره بخيانتها فأنا مديون لك بهذا الحب العظيم لي، وبديعة مديونة لك بظنك الحسن بها الذي غيَّر أفكاري فيها فأنت «أمٌّ» يا سيدي؛ لأن لك حنو الأمهات لأولادهن، ووالدتي «أب» لأنها عاملتني بقساوة كثيرًا ما تصدر عن الآباء وليس عن الأمهات، فالله يحفظك لي أبًا مرشدًا وعضدًا في الحياة، ويحفظني لك لكي أقوم بواجب الخدمة نحوك وأسُرَّ قلبك ولكن ألا تظن أن والدتي تمانع جدًّا بذهابي؟

أجاب الوالد: لا بد من إقناعها بذهابك؛ لأن الواجب نحو تلك الفتاة الطاهرة يَضطرك إلى الذهاب.

فابتسم فؤاد إذ ذاك وقال: إنك تذكر بديعة بالطاهرة والشريفة والبريئة، فهل أنت متأكد من هذا؟

أجاب والده: هكذا يدلني فكري، والفكر الصادق أكبر دليل.

وبعد أن رجعت أمُّ فؤاد من وداعه وهي محمرَّة العين وحزينة القلب ندمت على فعلها لما رأت من نتائجه، والبلوى هي بأن البعض لا يتوبون إلا عن فشل وعجز.

سافر فؤاد مسرورًا لأن كلام والده كان رفيقه كما قال، ولما وصل إلى مدينة نيويورك ونظر إليها عند نزوله من البحر أحسَّ بأن مدينته مع عظمتها لا تعادل شارعًا واحدًا من هذه المدينة، وبما أن «الغريب أعمى ولو كان بصيرًا» وقف الشاب مبهوتًا وقد هَمَّ بمناداة أحد سائقي العربات وإذا بصوت من ورائه يقول: هل هذا أنت في أمريكا يا خواجة فؤاد أم أنا في حلم؟ فالتفت فؤاد ليرى من ذا الذي يخاطبه بلغته بين تلك الجماهير الغريبة، وقد ارتاح لسماع الصوت، وإذا بشاب جميل الصورة حسن البزَّة طويل القامة واقفًا أمامه فلم يعرفه فؤاد، وقال للمخاطب: إن اسمي فؤاد يا سيدي، ولكنك لا تعرفني على ما أظن؛ لأنني لم أسعد بمعرفتك من قبل.

فابتسم الشاب إذ مدَّ يده إلى فؤاد مصافحًا وقال: أظنك نسيتني فأنا وديع … وإنني أعرفك وأعرف بيتكم وأباك وأمك، وسرد له أشياء كثيرة عنه وعن والديه كان قد تلقَّنها من نسيب لهذه الغاية.

وكان الفتى لطيفًا جدًّا، «كما هي العادة عند الغاية»، فظن فؤاد أن لطفه كان أدبًا ونعومته تهذيبًا، وسُرَّ به جدًّا؛ لأنه أنس منه صداقة وهو مفتقر إلى صديق ودليل في بلاد هو غريب فيها، وكان فؤاد نقيَّ القلب طيب السريرة، وعهد دخوله بمدرسة العالم حديثًا، وكان يقيس الناس كلهم على نفسه، وهذا الأمر كثيرًا ما يكون آفة الأفاضل، ولكنهم يأتونه انقيادًا بالغريزة.

وبعد أن تصافح الشابان وتعارفا استأجرا عربة أقلتهما إلى نُزُل سوري في شارع واشنطون أو «شارع السوريين»، وفي ذات الساعة التي وصل فيها فؤاد أرسل وديع تلغرافًا إلى نسيب ينبئه فيه بوصوله، فأتى نسيب وتبعته لوسيا التي لم تشأ مفارقته.

ومع أن نسيبًا لم يكن يحب لوسيا ولا مرافقتها؛ «لأن كل شيء يُبتذل يُهان» ولوسيا كانت قد «رخصت» نفسها بعين نسيب؛ لأنها هي خطبته لا هو، وسعت وراءه بخفة، وكل شيء يكون من واجبات الرجل وتُغير عليه المرأة بأمور كهذه يحتقرها لأجله، فكلما ترفَّعت الفتاة عن الشاب كلما أحبَّها وكلما تساهلت معه كلما زاد احتقاره لها.

ولما وصل إلى نيويورك أنزلها في نُزُل وذهب وحده لملاقاة فؤاد، وكان هذا في قهوة مع بعض الرفاق، فلما وصل نسيب إليه انطرح على عنقه يقبله ويبكي، فبهت الحضور لبكائه؛ لأن بكاء الرجال عزيز، لذلك هو يلذ ولا ندري إن كان ذلك البكاء عن حب أو عن شعور بالذنب أو حيلة للجذع، والأصح أنه الأخير؛ لأن نسيبًا عزم على إحكام عمله الشرير لا على فَصْمِ عُراه.

ولم يكُن فؤاد بانتظار هذا الملتقى، فاضطرب وخفق قلبه وتصوَّر نسيبًا أمامه خائنًا ومناظرًا له في حب بديعة، فلعبت نار الحقد في قلبه، ولكنه تذكر كلام والده له، وكان لم يزل يحفظه، فصافح نسيبًا لأجل ذلك وتأدُّبًا أمام الحاضرين.

وبعد برهة من الزمن خرجا من تلك القهوة، وذهبا إلى غرفة فؤاد، وكان نسيب يلاطف فؤادًا في الطريق، وهذا غيرُ مكترث له؛ لأنه إن لم يكُن عليه حاقدًا فلم يكن له محبًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤