الفصل السادس والعشرون

الالتقاء ببديعة

ولما دخل الغرفة قدَّم فؤاد لابن خالته كرسيًّا وهو متعبس الوجه، فجلس هذا عليه وأخذ يستعد لما يحامي به عن نفسه، أما فؤاد فأخذ يتمشى في الغرفة وهو مضطرب البال قلق الفكر، وبعد هنيهة اقترب من نسيب وقال له بصوت منكسر: إنك شجاع يا نسيب!

فأثرت هذه الكلمة بنسيب وأطرق في الأرض بدون كلام، فاقترب منه فؤاد وقال له متهكمًا: ما بالك أطرقت يا ابن الخالة؟! فإن الذي خاض معركة الخيانة نظيرك لا يهوله مرأى سيف الحق حتى ولا يؤلمه جرحه …

عند ذلك رفع نسيب نظره وقال بصوت خافت تظاهُرًا بالحزن: كفى كفى يا فؤاد، فمن الظلم أن نتعادى ونحن كأخوين لأجل امرأة خائنة لا تستحق كل هذا …

أجاب فؤاد: لا تتهمها بالخيانة يا أيها الأمين! فإنني لا أسمح لك بذلك قط ما لم أتحقق الخبر بنفسي … ولنفرض أنها خائنة فخيانتها لا تعد شيئًا مقابل خيانتك. فتنهد نسيب وقال: نعم، نعم أنا أعرف هذا، ولكنني قد نِلت جزاء خيانتي من خيانتها فأنت وأنا متساويان؛ لأنها قد كالت لي بالكيل الذي كِلت لك أنا به وأزيد … إنها بعد أن أغرتني على الفرار على الفرار معها وسلبت مني مالي أحبت غيري وخانتني أيضًا … وهكذا قد سقتني تلك الخائنة بذات الكأس التي ساعدتني بها على تجريعك الجحود والخيانة منها وأنت أخي وحبيبي … فأواه يا فؤاد إن ظلمي منها هو عذري عندك! وأنت قادر على الصفح لأنك كريم. وانطرح على قدميه وهو يتظاهر بالحزن الحقيقي.

وكان فؤاد واقفًا وقد أحس بأن نارًا محرقة تذيب أحشاءه، وبعد قليل جلس على كرسي كان بجانبه، وقال لنسيب وهو يكاد يقطع آخر خيط أمل من براءة بديعة: أخبرني عن القصة تمامًا.

فقال: إنها كما أخبرتك والدتك.

قال فؤاد: إن والدتي اكتفت بذكر سفركما فقط.

قال نسيب: بعد ذهابك إلى المدرسة كان شغل بديعة الوحيد طرح الشباك لي؛ لأنها فتاة لا تحب لأجل الحب نفسه فإنها كانت تريد أن تكون محبوبة من كل رجل، وبهذا كان افتخارها وسعادتها؛ لأنها امرأة. ولما رمت شباكها لأول مرة لم تكتفِ بذلك العصفور، ولمِّ تلك الشباك، بل أبقتها مرمية وزادت من الحَبِّ حتى وقع هذا العصفور الثاني، وإنك لا تلومني يا فؤاد؛ لأنني رجل وأحب الجمال والحبُّ جنون. وبعد أن صار هذا وظننت أنها تحبني طلبتُ منها الاقتران فلم ترضَ وطلبت مني أن أسافر معها ففعلت، ولما أتينا إلى هذه البلاد أحبَّت شابًّا غيري، وهي تعده بالاقتران الآن، ولا أعلم ما يكون نصيبه معها.

وكان فؤاد يسمع هذا الكلام وهو يرتجف كورقة الشجر في الهواء، ولكنه تجلد وقال: وأين هي الآن؟

قال: هي الآن في مدينة سنسيناتي. وبعد أن صدق فؤاد كلام نسيب مرَّ بخاطره كلام والده فشعر بشيء من الراحة، ومدَّ يده إلى جيبه فأخذ كتاب بديعة وناوله لنسيب قائلًا: هل تصدق بأن اليد التي سطرت هذا الكتاب تخضب عمدًا بدم قلبين نقيِّين …؟

ولما انتهى نسيب من قراءة الكتاب اصفرَّ لون وجهه؛ لأن الرذيلة تخاف الفضيلة في كل وقت، ولكنه ضحك ضحكة عالية اقشعرَّ منها جسم فؤاد وقال: أظنك نسيت قول القائل بأن مكر النساء ودموعهن سلاحان لا يحاربان …

قال فؤاد: لم أنسَ هذا، ولكن في كتاب بديعة ما يدعو إلى الريب.

عند ذلك أخرج نسيب من جيبه رزمة من الرسائل وناولها لفؤاد قائلًا: اقرأ هذا ولا تعد ترتاب فيما بعدُ بمكر النساء.

وكان أول كتاب فتحه فؤاد بخط بديعة إلى نسيب وفيه هذه الجملة التي لم يقرأ سواها ورمى التحرير وهي:

ولا حق لك بمعاتبتي لأنني لم أحب سواك أبدًا الحب الذي أحببتك حتى استهنتُ بكل شيء في سبيله …

وكان فؤاد بعد أن رمى الكتاب يرتجف ويقول: إنني لا أقدر على التصديق بأن اليد التي سطَّرت هذا الكتاب قد سطرت ذاك، وأكاد أكذب نظري وعقلي وفكري.

فقال نسيب: لله دَرُّ ذلك الحكيم العربي إذ قال: «رأيت أفعى تُسقى سمًّا» إذ رأى امرأة تتعلم، فالمرأة أفعى يا عزيزي وسمها يتضاعف بالعلم؛ لأنها بهذا تفتكر بفكرين وتشتغل بيدين وتكون أقوى على الشر وهي مسلَّحة مما هي عليه بدون سلاح.

وكان قد هدأ روع فؤاد نوعًا الآن فأجاب نسيبًا بلهجة تفرق عن لهجته؛ لأنه كان رجلًا يعتبر جنس النساء الذي والدته منه؛ فسلام عليك أيها الحب الشريف الأدبي المنزه الذي يربط قلب الولد بالوالدة ويوجب عليه احترامها والنضج عنها واحترام كل امرأة سواها؛ لأنها من جنسها. سلام عليك أيها الحب السماوي الذي نطقت بلسان فؤاد إذ قال لنسيب: إنك باحتقارك بديعة تحتقر كل النساء ومعهن أمك، فجرِّب أن تلطف حديثك وتنبذ كلام فيلسوفك العربي؛ إذ تعرف بأن المرأة هي نصف الهيئة الاجتماعية، ومن الجهل والخمول والظلم أن يكون نصف هذه الهيئة مظلمًا ونصفها الآخر مضيئًا، وإنه متى حرمت المرأة من التنوُّر والعلم حرم العالم نصف الجمال وفائدة الهيئة، وهو النصف اللطيف فيها، فالعلم الصحيح هو الذي يصغر الشر لا يكبره، ومتى كانت امرأة شريرة وعالمة لا يكون الذنب على علمها بل على غريزتها التي قويت على العلم وغلبته، وفي أكثر الأحيان نجد أن سبب هذا «الجهل» هو الذي يتحدر من أمٍّ جاهلة. وأكبر برهان حِسِّيٍّ على فائدة العلم للمرأة هو تقدُّم الأمم وانحطاطنا، فمن كان ينظر ويتعامى يكون ذا غاية دنيئة، ومن كان أعمى لا ينظر فلا يُلام، فصدقني يا نسيب إنني أندب حالة النساء إذا كان رأيُ كل الرجال كرأيك فيهن، فلو كانت النساء خُلِقْنَ للشر كما قلت، سواء كُنَّ جاهلات أم عالمات لكُنَّا لا نرى في العالم الآن غير الشر والأشرار؛ لأن كل رجل تستلم زمام أموره امرأتُه وهذا ظاهر، ومن المؤكد أن الذي تربيه امرأة وتعاشره امرأة طول حياته يتلقَّن عنها الشر ويصبح العالم كله أشرارًا «بنظرك». ولكنني أشكر الله أن الذين يذهبون مذهبك قلال، وأنت وهم تستحقون أعظم القصاصات من النساء. فتظاهر نسيب بالضحك وقال: أرجو أن تتسلى … ولكنني قلت وأقول بأن النساء أصل كل شر على الأرض وسبب كل تعاسة، وأما قصاصي فقد نلته منهن وهذا ما حملني على مثل قولي لك.

فقال له فؤاد: أنت قلت بأنك «انخدعت» من بديعة وأطعتها بالهرب معها، فإن كنت فعلتَ هذا مختارًا؛ تكون شريكًا في الجرم، وأنت وهي متساويين، وإن كنت أتيتَ الأمر مضطرًّا؛ لأنك لم تقوَ على المدافعة تكون ضعيفًا جبانًا وتستحق أن تقودك امرأةٌ كيف شاءت، ولكن إذا خُدعت من امرأة فلا يحق لك ذَمُّ الجنس كله.

فقال نسيب: إذا كان علم وتهذيب بديعة لم ينتجا غير عملها هذا، فأنا أشك بوجود امرأة فاضلة وبأن العلم مفيد للمرأة.

وإذ ذاك نهض فؤاد عن كرسيه وكان خائر القوى ونظر إلى نسيب شزرًا وقال: أرجو أن لا تلفظ اسمها فيما بعدُ وأن تتركني لأنام قليلًا.

ذهب نسيب ولم يحضر لبعد ثلاثة أيام، لا هو ولا ذلك الدليل الذي ظنه فؤاد من أصدقائه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤