الفصل الثالث

الوليمة

عند الساعة السابعة إفرنجية — وكل شيء إفرنجي — ابتدأ توارُد العربات البيتية الجميلة، تجرُّها جِيَادُ الخيول العربية إلى دار الخواجة منصور، فمنها ما كان ينتظر في فسحة الدار الخارجية، ومنها ما يتراجع بعد إيصال أصحابها. وكانت تلك الدار الرحيبة مضاءة بأجمل الأنوار الملوَّنة، تضحك وتبشُّ في وجوه الزائرين نائبة عن أصحابها بمقابلة الضيوف.

وعند مدخلها كان يُرى شابٌّ واقفًا يلاحِظ بطرف عينه الداخلين كأنه يدرس أخلاقهم بوجوههم، ولكن قلَّ من اكترث له؛ لأن هؤلاء كانوا يدخلون وهم مُعرِضون عن كل شيء حولهم، ومتشاغلون إما بالكلام مع رفقائهم وإما بالإسراع إلى داخل الدار. وكأن ذلك الشاب ضَجِر وتَعِب من الوقوف فجلس على مقعد قريب؛ لأنه عَرَف بأن مهمته لا تُقضَى بالقليل من الوقت.

وإذ ذاك تفرَّغ لمراقبة الناس المتقاطرة، فرأى ما كاد يضعضع فكره من اختلاف الأشياء، رأى السيدات الشابات بأثوابهنَّ الفاخرة وأزيائهن العجيبة، يجررن وراءهن الأذيال الطويلة ليطابق قول القائل بأن المرأة كالطاوس، وعليهن الحُلِيُّ النفيسة الموضوعة فوق صدور وأذرُع مكشوفة كالبلور، لا يعرف الناظر أكان منها أم من الجواهر انبعاث ذلك النور الباهر. وإلى جوانبهنَّ الشبان بملابسهم الإفرنجية على آخر زيٍّ، وقد بدا للكهولة والشيخوخة أثر ضعيف من النساء والرجال الذين كانوا يُقبِلون بالملابس العربية الفاخرة، حتى يُخَيَّلُ للناظر أن الأولين إفرنج والآخرين سوريون، ولا عجب إذا حكم الإنسان عليهم باختلاف الجنس، وكل فريق منهم يختلف عن الثاني زيًّا ولغة، فبينما الأولون يتكلمون اللغات الفرنساوية والإنكليزية والتركية، كان الآخرون يتكلمون لغتهم العربية فقط. ومن الغرابة أن بعض الشبان والشابات كانوا يشمئِزُّون من الشيوخ والكهول لمحافظتهم على لغتهم وزيهم العربيَّيْن، في حين أن هؤلاء ينظرون إليهم بعيون ملؤها الرضى والسرور برؤية أولادهم وحفدتهم قادرين على تقليد الإفرنج، بينما هم مقصرون عن ذلك لكبر سنهم.

وبقي ذلك الشاب منتظرًا خارجًا حتى دخل جميع المدعوِّين تقريبًا، فقام من مكانه وهمَّ بالدخول أيضًا؛ لأنه كان من جملة المدعوُّين. وكان يقول في نفسه: بعد مُضِيِّ عشر سنين من الآن نسبق الإفرنج. ولربما صرنا في ذلك الوقت ننظر إليهم كما كانوا ينظرون إلينا قبل عشرين سنة. ولكن أهذا ما ندعوه تمدُّنًا مفيدًا أم مضرًّا؟ هذا هو السؤال السهل، ولكن الصعوبة في الجواب. إن التمدن والترتيب مفيدان جدًّا ولا شيء مثلهما، ولكن بشرط أن يكونا في كل شيء. والذي يستدعي الأسف أننا كِدْنَا نسبق الإفرنج بتقليد العوائد المضرَّة فقط كعادة «الموضة» بكل شيء حتى «بلعب القمار»؛ فإن الإفرنج قوم درسوا قواعد تمدُّنهم أجيالًا، أما نحن فلم نعرفه إلَّا من سنين. وقد كدنا نسبقهم بالتقليد. وهذه السرعة الغريبة تجعل الإنسان في ريب من الأصالة، وتحمله على المناداة مع العقلاء القائلين: «إذا أردتم الفضل الحقيقي فجدُّوا في طلبه من بيوت الفلاحين ومن الأكواخ المنفردة؛ لأنه هناك أبقى وأنظف ممَّا هو في شوارع المدن الكبرى وساحاتها العمومية.» فلو نظرنا في أمر واحد، وهو أن نبقي على الجيد الحسن من عوائدنا، ونضيف إليه الجيد الحسن من عوائد الإفرنج عوضًا عن الاندفاع التام وراء العوائد الإفرنجية، مع غض النظر عن المضرِّ والمفيد منها، وترك عوائدنا كلها وإن كان فيها ما هو أفضل من عوائدهم بدعوى أن الأولى «موضة جديدة» وأن الثانية موضة قديمة، كأن الآداب ثوب يطويه البلى؛ لما كنا على ما نحن عليه من سوء الحال والحاجة إلى الإصلاح.

ولما دخل ردهة الاستقبال رآها مضاءة من وجوه الحسان بأبهى ما هي مضاءة من الأنوار، ورأى صاحبة المنزل قد جلست بقرب الباب لتكون منظورة من جميع ضيوفها عند وصولهم، فتوفر عليهم مشقة التفتيش عليها. وقد لبست ثوبًا أسود نفيس القماش بسيط التخريج لا زخرفة فيه، ظهر به قدُّها الأهيف بأجمل مظهر، وتجلى فوقه وجهُها الناصع البياض تحت شعر بلون ذلك الثوب كالقمر المنير في الليلة الحالكة الظلام. فقال في نفسه: يظهر بأن لي من وجه هذه السيدة مجلدات للدرس؛ لأن هيئتها تدل على أنها عارفة واجباتها، وستحسن تمثيل دور ربة بيت فاضلة. فلننظر لنرى إذا كان الظن لا يخيب، وإذا كانت هذه المرأة كما يقولون: «ملكة عارفة بواجبات مملكتها الصغيرة التي هي عائلتها.» وتقدر على القيام بمهام هذه المملكة الداخلية والخارجية خير قيام.

وبالحقيقة أن السيدة مريم هي كما ظنها ذلك الشاب؛ لأنها مع كثرة انشغالها وضيوفها في تلك الليلة الحافلة، ومع سرورها بمجيء ولدها الذكي النجيب من المدرسة، وعلى رأسه أكاليل الفخر والفوز، ومع أنها كانت تتبعه بنظرها كيفما ذهب وانتقل؛ كانت تظهر رزينة هادئة لا تضحك ولا تتكلم بصوت عالٍ ولا تضج ولا تركض، حتى إنها لم تُظهر سرورًا زائدًا لئلا يقال عنها بأنها خفيفة. ولم تظهر عدم اكتراث أو تهامل بالقيام بواجب إرضاء ومسرة ضيوفها، بل إن البساطة الطبيعية كانت على وجهها والحرارة الودادية الإخلاصية كانت تطيب حديثها، وبالإجمال كانت تظهر العظمة الزائدة والهدوء التام؛ مما يجعل الإنسان يظن أنها متكبرة، وهذه هي الحالة الوحيدة التي تُعابُ عليها.

وكأن عيني ذلك الشاب أقسمتا أن لا تفارقا حركاتها فأحدقتا بها طول تلك السهرة، وأول شيء قدر على استنتاجه — مما دل على معرفة تلك السيدة بأصول آداب السلوك — هو أنها نسيت نفسها بالكلية، ولم تفتكر في غير مسرة ضيوفها الذين ضحت بسعادتها لأجل سعادتهم شأن المرأة الفاضلة. ومما كان يزيد وجهها الوسيم جمالًا هو استقبالها وبشاشتها للضيوف، ومخاطبتها كلًّا منهم بالحديث الذي يناسب ذوقه وسِنِّه ليكون مسرورًا. ولم تظهر على وجهها لوائح الانشغال أو القلق على الإطلاق، فكأن كل أفكارها كانت حائمة حول مَسَرَّةِ ضيوفها، ولا فكر يقلقها خارج قاعة الاستقبال، مع أن واجباتها كانت كثيرة، ولكنها بتعقل ودراية رَتَّبت كل الأمور على ما يرام حتى تتفرَّغ للقيام بواجبات الضيوف.

وكانت تلاقي الداخلين إلى الباب إن كنَّ نساء، وتنهض لهم فقط إن كانوا رجالًا. ومما أعجب الشاب المنتقد حذرُها الزائد وملاحظتها الغريبة عند الكلام حتى لا يفرط منها ما تؤاخَذ عليه، ثم صبرها وجلادتها على تقديم وتعريف ضيوفها بعضهم ببعض، إن كان منهم من يجهل الآخر. وكانت تلفظ اسم الشخص بهدوء وضبط وبصوت مسموع حتى لا يصير التباس بفهم الاسم، والذي جعله أن يهزَّ برأسه إعجابًا هو استعدادها التام، حتى إنها لم تغفل عن وضع طاولة عليها كتب وجرائد ومجلات وكتب وصور، حتى إذا ضجر الضيوف من الحديث يتسلَّوْن بسواه مما هو جائز في الاجتماعات.

ولما اكتمل اجتماع المدعوين كانت مع زوجها الخواجة منصور يحدثانهم بأحاديثَ عمومية حتى يكون التفاتُهُما شاملًا الجميع على السواء، وحذرًا من قصور يبدو من جانبهما أو عتب من جانب المدعوِّين مما يجب منعه في الحفلات الكبيرة والصغيرة.

وسمع الشاب صوت السيدة مريم قد ارتفع نوعًا وترحيبها قد زاد عمَّا قبل، فنظر ليرى السبب وإذا بعائلة متأخرة قد دخلت بعد الجميع، فلاقتها تلك السيدة بترحيب زائد أزال خجلها من التأخير عن الحضور، فهزَّ رأسه وقال: لو كان كل رجل وامرأة من بني وطننا يحسنان تقليد الإفرنج والمحافظة على عوائدنا الحميدة كهذه السيدة، والجمع بين الحسنين ودرس فروعهما درسًا مدققًا؛ لكان كل كاتب يستبدل لهجته الانتقادية على تمدننا وتقدمنا الأدبي بالاستحسان لهما.

ولم يكُن هذا الشاب المراقب محبًّا للانتقاد من طبعه لغير سبب، بل كان حاملًا له عليه ما رآه من بعض الضيوف مما لو قابله بصنيع السيدة مريم لظهر الفرق بين الحسن والقبيح جليًّا، وهو أن بعض أولئك المدعوين من نساء ورجال كانوا يدخلون القاعة ويذهبون توًّا إلى المقاعد، فيجلسون بدون أن يصافحوا يَدَ ربة البيت أو أن يتكلموا معها برهة قبل كل شيء؛ لأن هذا من أول الواجبات على الزائرين. وبعضهم كانوا يرجعون فيسلمون عليها بعد جلوسهم بدقائق وبعد أن يكونوا قد سلموا على أصدقاء لهم في المجلس، وكثار من الشابات والشبان الذين كانوا يتكلمون بلغات أجنبية عوضًا عن لغتهم التي يجب أن تكون لغة المجلس؛ لأن الجميع يفهمها، ولأن التكلم بلغة لا يفهمها الجميع محظور إلا في ظروف مخصوصة إذا لم يكن مفرٌّ من التكلم بلغة أجنبية لا يفهم سواها.

وكانت السيدة مريم خبيرة بقواعد الحديث، وكأنها من حين قابلت أول ضيف في هذه الليلة وضعت أمام عينها قول أحد الحكماء: «إن الحديث لذة المحدَّث لا المحدِّثِ.» فكانت تنتقي أكثر الأحاديث ابتعادًا عن الشخصيات أو ما يدنو منها، وتختار أقربها إلى الفائدة واللذة للجميع؛ حتى لا تجرح عواطف أحد وتجلب الضجر عليه بكلامها. وعلى ذلك انقضى جزء من السهرة بدون أن يشعر به الناس؛ لأن لطف وأدب أصحاب المنزل كانا قد أثملاهم فألهياهم عن معرفة الوقت الذي مرَّ بسرعة غريبة.

وآثرت السيدة مريم الطريقة الإفرنجية عند الدخول إلى غرفة المائدة، فأخذت بذراع أحد ضيوفها الأفاضل ودخلت الغرفة التي كانت مُرَتَّبَةً أجمل ترتيب، وأنواع الزهور الجميلة في كل مكان فيها تنبعث منها الروائح الزكية فتنعش القلوب، ولا غرو فإن غرفة المائدة يجب أن يُعْتَنَى بها أكثر من كل غرفة في البيت، حتى ومن ردهة الاستقبال في مثل هذه الحفلات.

جلست السيدة مريم على كرسي في رأس المائدة وجلس إلى يمينها الرجل الذي رافقها إلى المائدة، وكان الأكل عربيًّا وإفرنجيًّا أي «الجيد من النوعين». ولم تدلَّ ضيوفها على كراسيهم، بل تركت لهم الحرية المطلقة في ذلك.

وبالحقيقة أن ذلك الشاب الذي شبع من السرور بلطف وأدب سيدة البيت لم يأكل كثيرًا؛ لأنه عجز عن «حمل بطيختين بيد واحدة»، وكان يفضل الدرس على الأكل، فوجَّه كل اهتمامه إلى الأول ولم يبالِ كثيرًا بالثاني.

واستأنف بتدقيق مراقباته التي كان أكثرها موجَّهًا إلى ربة البيت التي كانت على مائدة الطعام مثلها في ردهة الاستقبال، محافظة أتمَّ المحافظة على آداب السلوك وواجبات التهذيب؛ فإنها لم تتكلم بشأن المائدة والطعام ولم تشبع ضيوفها «أعذارًا» من الغباوة عن تقصيرها؛ إذ أي شيء يمنع المرأة عن القيام بواجباتها إذا كانت تعرف بأنه ينقصها شيء؟ أو أي عذر يقبل لها متى كانت قادرة على عمل الشيء ولم تعمله؟ أو أي ذوق في الاعتذار عن أشياء فوق المقدرة، وليس من الحكمة أن يعمل الإنسان ما هو ضد إرادته وفوق مقدرته؟ فالمرأة لا يجب أن تقصر إذا كانت قادرة، ولا أن تعتذر إذا لم تكن قادرة؛ لأن الأمرين ممقوتان. ولم تكن السيدة مريم تلتفت إلى الخُدَّام ما بين الدقيقة والدقيقة، ولا تنظر إليهم بلهفة كأنها تخاف أن يأتوا عملًا مضرًّا، ولم تتبعهم بعينها أو تظهر القلق من عملهم، وأنهم لا يُحسِنُونه وأشياء كثيرة أخرى تدل على عدم وثوقها بهم؛ لأنها استدراكًا لهذا كله كانت قد أعدَّت من تعتمد عليهم وباتت مرتاحة الفكر بدون أن تضطرب وتجلب على نفسها المؤاخذة وعلى الخدم الخجل. وما جعل الشاب مسرورًا جدًّا هو تجنُّب تلك السيدة للعادة السورية المذمومة التي يأتيها الأغلب، وهي عادة إجبار الضيوف على الشره والأكل من كل نوع، وملاحظة صحون الضيوف، ومعاتبتهم لأنهم لم يأكلوا من لون الطعام هذا ولا من ذاك، وغير هذه أمور تزعج الضيوف لا تريحهم بل تجعلهم «غرباء»، وتجعل عين صاحبة المنزل محدقة بهم كل دقيقة. فإنها عرفت ما عليها، وأكثرت من ألوان الطعام الفاخرة والشهية المأكل ووضعتها أمام المدعوين، وما تبقى من الواجبات يكون على الضيوف الذين يجب أن يستعملوا الحرية التامة؛ لأنهم إنما للانبساط دُعُوا.

وتولت السيدة مريم زعامة الحديث، فكان حديثها المستظرف يزيد الناس شهوة إلى الأكل، وكان «حديثَ مائدة» أي عموميًّا ونقيًّا ومحدثًا به بصوت مسموع حتى يحيط الجميع به فهمًا، وكان هذا الحديث سلسلة متصلة الحلقات بين الآكلين.

ولما انتهى دور ربة البيت حوَّل ذلك الشاب وجهه ونصف فكره إلى الضيوف، فرأى من البعض ما يسره ومن البعض الآخر ما يُسيئه. ومن أقبح ما رأى من بعض السيدات أنهنَّ كنَّ متكئات على مائدة الطعام قبل الابتداء بالأكل كأن المائدة وسادة أمامهنَّ … والبعض الآخر كنَّ بعيدات عنها مسافة قدمين أو ثلاث، وغيرهنَّ لم ينتبهن لوضع الفوط جيدًا فسقطت على الأرض وسقط مكانها الطعام الذي لطخ أثوابهنَّ الجميلة.

وفيما القوم على المائدة وقفت سيدة جميلة بكل استياء وعبوسة وتكلمت بغيظ كلامًا عاليًا، فانقطع الجميع عن أكلهم ونظروا إليها ومنهم من وقف لوقوفها. ولماذا كان كل هذا؟ لأن أحد الخدم — ومسكين هو — أراق بدون قصد ولا انتباه المرق على ثوبها الجميل. فهذه السيدة عوضًا عن أن تبتسم في وجهه بلطفٍ وتنظر إلى اضطرابه مزيلة بأدبها ورفقها بعض خجله؛ وقفت توبخه بعنف وغيظ وتعنفه بكلام قاسٍ حتى أضحكت البعض منها وضاعفت خجل ذلك الخادم المسكين دون أن ينتفع ثوبها بشيء …

ومما استلفت أنظار الشاب قهقهة إحدى النساء، وهمس امرأة أخرى مع جارها على المائدة، ونظرها إلى بعض الجلوس بطرف عينها مبتسمة، كأنها تتكلم عنهم أو تهزأ بهم. وكانت هذه السيدة كلما وُضع أمامها لون من الطعام تجد فيه علة وتنظر إليه باحتقار. والغريب من هذه السيدة «المنتقدة» أنها لم تحسن انتقاد نفسها حينما قدمت الطعام لفمها بالسكين مع أن الشوكة وُجِدَتْ لذلك، ووُجِدَتِ السكين لتقطيع اللحم. وانتبه أيضًا لثقالة سيدة كانت تزيد على رفيقتها «العزيمة» وتلحُّ عليها بالأكل وتقدم لها الصحون، مع أن ذلك ليس من واجباتها بل من واجبات خادمي المائدة. وفيما هو ينظر ويفتكر وينتقد ألف أمر وأمر، كان يجب على كل سيدة استدراكه إن كان في ردهة الاستقبال أو في غرفة المائدة حيث تكون معرضة لانتقاد الجميع، طرق أذنيه صوت سيدة تقول لرجل كان جالسًا بينه وبينها: إنه لم يزل ينظر إلى الباب نظرة من ينتظر أحدًا وهو مشتت الأفكار.

فأجابها الرجل: ربما كان بانتظار أحد الضيوف أو بانتظار رفيق له لم يحضر.

فالتفت الشاب ليرى من هي تلك السيدة فتلاقى نظره بنظرها وهي تنظر إلى جارها نظرة معنوية، وسمعها تقول مازحة: إنك أصبت الغرض؛ لأن رفيقه ينشر على وجهه الاصفرار والكمد إذا لم يحضر ويمنعه عن الأكل إلا تظاهرًا … إنكم أيها الرجال تتظاهرون دائمًا بما ليس فيكم، وتتجاهلون الأمور وما أنتم بجاهلين.

فقال لها مبتسمًا: وما عسى أن يكون أمره يا ترى؟

وكانت لحظت بأن أحد الحضور ينظر إليهما، فأجابته أن ليس هذا مقام إيضاح.

وعرف الشاب بأن كلامهما كان عن فؤاد صاحب الوليمة؛ لأنه كان قد قرأ على وجهه ما جعله أن يصدق قول تلك السيدة التي لما تكلمت أيقظت بكلامها أفكاره، فقال في نفسه: إنها صادقة بقولها، إنه لا ينتظر «رفيقًا» بل «رفيقة»؛ لأن تشتُّت أفكاره في ردهة الاستقبال واضطرابه كلما دخل أحد وتغيُّر لون وجهه من البشاشة للتعبس، دلائل ظاهرة على أن في الأمر ما هو أعظم من الصداقة البسيطة، لا سيما وهو لم يأكل ولا تكلم إلا قليلًا على المائدة.

ولما انتهى الناس من الطعام وأخذوا بالخروج سمع ضجة من السيدات، ورأى الناس يتراجعون ليعرفوا ما صار، وإذا بسيدة مصفرَّة الوجه من الغيظ والاستياء؛ لأن جارتها وضعت كرسيها على طرف ثوبها، فلما أرادت القيام قُدَّ ذلك الثوب النفيس وذهب ضحية الإهمال وقلة التهذيب. فضحك الشاب من هذا الفصل الأخير ومضى إلى الردهة، ولما رجع المدعُوُّون من غرفة المائدة ذهب الشبان والشابات منهم إلى قاعة الرقص، وبقي الشيوخ وبعض الكهول ممن لم يتعلموا الرقص الإفرنجي ولا أرادوا التفرج عليه، فقُدِّمت لهم النراجيل وجلسوا يدخنون ويتحدثون. وكان الشاب لم يَزَلْ واقفًا حتى رسم بمخيلته هذه الصورة العربية القبيحة، ثم ذهب إلى قاعة الرقص فرأى صورة العادة الأخرى القبيحة، فقال في نفسه: ماذا يضرنا يا ترى أن نعدل عن عوائدنا القبيحة دون أن نضيف إليها ما هو مثلها من عوائد الإفرنج؟ أو بالحري ما كان أعدلنا لو رضينا بواحدة فقط من الاثنتين؛ لأن الضرر المتأتي عنها كافٍ لإقناعنا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤