الفصل الحادي والثلاثون

السر

نترك بديعة في تصوُّراتِها الجميلة في أمريكا ونرجع إلى الوطن مرة ثانية، حيث نأخذ القارئ بالفكر إلى أحد قصور دمشق الشاهقة، فهناك في ذلك القصر الفخيم غرفة داخلية غطتها ظلمة هي ظلمة الموت الهائلة، وفي إحدى زوايا تلك الغرفة سرير وثير الفرش نظيفه، وعليه شبح امرأة عجوز لم تُبقِ منها الأيام غير العظام، وعند رأسها امرأة متَّشِحة بثياب سوداء بلون شعرها وعينيها، يظهر من بينها وجهها الأبيض بغضونه الكثيرة، وقد كان جميلًا فتَّانًا في الماضي، وكان يُستدل من منظرها أنها في الخامسة والأربعين من عمرها مع أنها لم تتجاوز الثانية والثلاثين.

ولو دقق أحد الذين يحلو لهم التهكم على جنس النساء في نقد تلك السيدة لقال: إن آثار الهم الظاهرة على وجهها قبل أوان ظهورها ومذبلة لجمالها، وهي بهذا العمر هي «لأنها اهتمت بإزالة هذا الجمال قبل الأوان فكان هذا الهم سبب ذلك» لأن المرأة من حين تولد إلى أن تُلحَد تكون في همٍّ مستمرٍّ من الحزن على زوال جمالها، وهذا ما يساعد على ظهورها أكبر من سنها، ولكن مهلًا يا أيها المتهكِّم اللطيف، فإن «هَمَّ» هذه السيدة لم يكن خوفًا من خسارة «جمالها»؛ لأنها لم تكترث لذلك الجمال من حين صباها، بل همومها كانت لأجل سواها، وقد زادت الآن هذه الهموم إذ جلست إلى سرير والدتها حزينة على موتها، وإن تكن مسبِّبة لها الهمَّ وأمرَّت نظرها بتلك الغرفة المظلمة، وتصورت تلك الدار الفخيمة خاوية خالية ولا مسلِّي فيها بعد موت والدتها، ولم يبقَ فكرها عند هذا الحدِّ بل بعد كثيرًا عن تلك الغرفة، وخرج من تلك الدار منفكًّا من قيود الوحدة وسابحًا في فضاء. فاضطربت، ولشدة اضطرابها وقعت من يدها المروحة التي كانت تهوِّي لوالدتها بها.

وكأن المريضة أحسَّت بالحرِّ حتى في نومها، ففتحت عينيها ونادت بصوت ضعيف: جميلة … أين أنتِ؟

فانتبهت السيدة جميلة للأمر، وللحال تناولت مروحتها عن الأرض، وأخذت تهوِّي لوالدتها وهي تقول: إنني بجانبك يا أمي.

قالت المريضة بصوت لا يكاد يسمع: إنني أعرق عرقًا باردًا … فما هو هذا الظلام في هذه الغرفة؟ آه يا جميلة إن الغرفة مظلمة، وثوبك مظلم، وخيال الموت الذي يتمايل فوق رأسي مظلم، وأفكاري أشدُّ ظلامًا من الكل.

قالت ابنتها بيأس وحزن: لا تتصوري الظلمة يا أماه؛ فإن مرضك غير خطر كما يقول الأطباء.

فتنهَّدت الوالدة وقالت: إن مرضي غير خطر …! آه يا عزيزتي إنها أفكار مريحة، ولكن سوف لا تتمُّ؛ لأن كل أطباء العالم لا تقدر أن تُطمْئِنَني وأنا أعرَفُ بنفسي منهم، وإنني سوف لا أنظر شمس الغد، وليس هذا ما يزعجني. ليس هذا ما يؤلِمُني؛ لأن عجوزًا مثلي لا تطلب غير الراحة الأخيرة ولكن …

ولكن ماذا؟ قالت السيدة جميلة: إنك سليمة يا أمي ولا يوجد ما يزعجك قط.

أجابت المريضة: لا يوجد ما يزعجني قط! ما أجمل هذه التعزية لو لم يكن الشعور خلاف الكلام، ولكن هل أنت مصرَّة على عزمك يا جميلة؟ وهل تقدرين على المعيشة المنفردة وعلى البقاء وحيدة بعد موتي إكرامًا لذكرٍ كان يجب أن يُمحى من تصوراتك.

حينئذٍ نظرت السيدة جميلة إلى والدتها برزانة وكلمتها ببرودة قائلة: إنني سوف لا أعيش وحيدة بعون الله يا أماه، فلا تزعجي نفسك لأجلي.

قالت وهي تتنهد وقد ضعف صوتها أكثر من الأول: قلت لك بأنني لا أعيش إلى بزوغ شمس الغد …

أجابت السيدة: وهَبْ أن الأمر كان كذلك لا سمح الله، فسوف لا أعيش وحدي.

وكأن هذا الكلام من الابنة أنسى الوالدة آلامها فأبرقت أَسِرَّتها سرورًا، وأدارت وجهها بضعف وجهد نحو ابنتها، وقالت همسًا: هل أذعنتِ لكلامي وسوف تقترنين بحنا؟

فاشمأزت الابنة من ذكر هذا الاسم، وقالت لها: أرجو ألا تذكري هذا الاسم على مسمعي مرة أخرى.

فأرجعت تلك المريضة الحزينة رأسَها كما كان على الوسادة، وقالت بصوت يخنقه البكاء: إذن كيف تقولين بأنك لا تكونين بعد موتي وحدك؟

فقالت جميلة: إنك تطلبين سعادتي أليس كذلك؟

قالت: نعم يا عزيزتي وأنت تعلمين ذلك؟

فقالت: إن هذه لا تكون باقتراني برجل لا أحبه لا هو ولا سواه من الرجال؛ لأنني قد قطعت مراحل الصبا ولم أفتكر في الزواج، فكيف أتزوج الآن برجل له أولاد أُضْطَرُّ أن أربيهم … بعد … بعد … الخلاصة أرجوك يا والدتي أن تتركيني أشعر بقلبي لا بقلبك هذه المرة. قالت هذا وخرجت من الغرفة لاستنشاق الهواء؛ لأنها خافت أن يُغمى عليها، وكانت تسمع أمها تقول: إنني أتعس الأمهات؛ لأنني جلبت تعاستي وتعاستها بيدي.

وهذا كان آخر كلام سمعته الابنة من والدتها؛ لأنها لما رجعت ثانية إلى غرفتها وجدتها جاحظة العينين، ووجدت جسمها باردًا، فتجسم للابنة ذنبها بالخروج من غرفة أمها وهي في نزع الموت وسجدت أمام سريرها تبكي وتقول: اغفري لي ذنبي يا أماه اغفري لي خطئي العظيم، ولا تذهبي غضبانة عليَّ فإن عذابي يكفيني …

ولكن وا أسفاه أن صوت هذه السيدة كان قد رنَّ صداه في الأبدية، حيث كانت بالروح وجسدها هامد بارد أمامها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤