الفصل الرابع والثلاثون

البشارة

ولما رجع أديب من نيويورك وذهب لغرفة بديعة مسلِّمًا، رأت هذه بوجهه سرورًا، ولم يكُن من قبلُ باديًا. أما هو فقال لها: إن في غرفتي رجلًا بانتظارك يحمل إليك بشارة حسنة، فتعالَيْ آخذك إليه وأعود فأحادث جميلة.

وفيما هما سائران نحو الغرفة، نظرت بديعة في وجهه وابتسمت، فقال لها: ليس كما ظننت …

وبالحقيقة إن أديبًا كان صادقًا؛ لأن الرجل لم يكن فؤادًا كما ظنَّت هي، بل كان شيخًا وقورًا لا تعرفه.

فاحتارت بديعة فيمن يكون هذا الرجل، وما هي هذه البشارة التي يحملها إليها؟ أما هو فلم يحتج إلى من يعرفه بها؛ لأنه كان قد رأى تينِك العينين وهذا الوجه من قبلُ. نعم إنه عرفها ذابلة من الهموم، وهو يراها نضيرة وفي ربيع الحياة الآن، ولكن الهيئة هي ذاتها.

فبقي أديب في باب الغرفة وهو يقول: إن السيدة بديعة أقدر من على تقديم نفسها إليك. وخرج، فدخلت بديعة الغرفة بقلب واجف وصافحت الشيخ وهي تتساءل عمَّا يكون غرضه.

ولم تُطِلْ بديعة جلوسها حتى مدَّ ذلك الشيخ يده إلى جيبه وناولها كتابًا، ففضته بيد مرتجفة، وأخذت تقرؤه وقد شعرت بأن نفسها صعدت إلى ما فوق هذا العالم، إلى عالم لم تكُن تحلُم به من قبل؛ لأن الكتاب كان كما يلي:

يا بنيتي المحبوبة

إنني والدة لا أستحق أن ألفظ كلمة «ولدي»؛ لأنني احتقرت هذا الاسم الشريف العزيز كثيرًا، فصرت أستحق خسرانه. وهذا أخف قصاص على ذنبي العظيم، لولا أنني أثِق برحمة الله الغزيرة، وأؤكد صفحك عن والدةٍ هي التي أتت بك إلى هذا العالم، وهي التي تركتك تتحملين برودته وقساوته، وأنت كل أمل لها في الحياة وكل سعادة. ولكن قد يفعل الإنسان أحيانًا يا عزيزتي ما يظنه «واجبه» ويكون بالحقيقة مصدر شقائه. وإنك من أولئك الناس الذين جلبوا على نفوسهم وعلى غيرهم معهم التعاسة إكرامًا لقوم آخرين وقيامًا بالواجب.

أنا يا حبيبتي قد ضحيت سعادة تربيتك وضمك إلى صدري لأجل والديَّ، فهل لك أن تصفحي أنت عني قيامًا بواجب الأمومة عليك أيضًا؟ وذلك رحمة بقلب والدة تعيسة لا ترى سعادة بغير صفحك عنها ورجوعك إليها، واحترامًا لعظام أبٍ شريف كان محبًّا في حياته!

إنك سوف تتعجبين من هذه الكتابة؛ لأنك يا ابنتي لم تفتحي عينك على عين والدة حنونة، ولم تسمعي كلامها الحبي يرنُّ في أذنيك؛ ذلك لأن حب العظمة والكبرياء العالمية قد حال دون الحُنُو الوالِدِيِّ وأماتَه في صدري إلى هذا الوقت، حيث نشر من قبره وأتى صارخًا نحوك يطالبك بالغفران والرجوع إليه بعد زوال العقبات؛ لأنك له وهو لك.

وإن سألتني: من أنت التي تخاطبينني بلغة لم أسمعها فلذلك لا أعرفها؟ أجيبك: إنني أنا هي تلك المرأة التي زارتك في المدرسة مرارًا. ألا تذكرين هذا يا بديعة المحبوبة؟ أذهب عن بالك ذكر تلك السيدة التي كانت تزورك كل سنة بثوب أسود؟ ألا تذكرين الوقت الذي أعطيتك فيه صورتي وأخذت صورتك وقلت لك بأنني صديقة والدتك المرحومة؟!

فإن كنت تذكرين هذا، وإن كنت تثقين بكلامي، وإن كنت ترجعين إليَّ غير طالبة زيادة إيضاح إلا لحين المشاهدة؛ فاسألي الخواجة ميخائيل صديقي الأمين، وهو يخبرك بما يعرفه عني ويسلمك ثلاث صور؛ الأولى: هي رسمك المحبوب، والثانية: هي رسمي من خمس سنوات، والثالثة: هي رسمي بحالتي الحاضرة التي ليس أتعس منها لبعدك عني.

هذا كفاية الآن، فلا تخيبي أملي ولا تجازيني على عملي بالموت الأكيد إذا رفضتِ الرجوع، وألف قبلة قلبية من والدتك الحزينة المحبة.

جميلة
روفيه

فأخذت بديعة الكتاب، وأخذت تنظر إلى الرجل الذي كان بانتظار جوابها، وكانت دموعها تتساقط من عينيها كالوبل؛ لأن كلام والدتها كان مؤثرًا للغاية. ثم إنها تذكرت تلك السيدة التي كانت تزورها في كل سنة كما قالت، وكم كانت لطيفة معها ومُحِبَّة لها، وكيف أنها هي كانت تحبها لأسباب لا تعلمها، وكيف كانت تبكي عند مفارقتها، وكيف أن تلك السيدة كانت تعطيها مالًا لتصرفه هي ولوسيا تلك الفتاة الجحود، وذكرت أيضًا قول الفتيات لها بأن تلك السيدة تشبهها وبأن أمرهما يدعو إلى الريب …

ذكرت كل هذا وراجعت قراءة المكتوب، فشعرت بأن قلبها يكاد يطير إلى تلك اليد التي سطرته، ولكنها بعد هذا السرور من تلك التَّذْكارات الحلوة مرَّ ببالها خاطر أزعجها، وقالت: ما هو الداعي إلى كل هذه الأسرار في حياتي يا ترى؟! فبكت، وكان الرجل ينظر إليها بحنوٍّ، ولم يقدر أن يمنع دموعه عن السقوط. وبعد أن قبلت بديعة الكتاب نظرت إلى الشيخ قائلة: إنني أجهل معنى هذا الكتاب، فهل لك أن تتكرم بالصور لَعَلِّي أعرف منها ما لم أتبينه من الخط؟

فدفع إليها الصور، وناولته هي الكتاب لكي يقرأه.

ولما وقع نظرها على الصور أخذت تقترب من التصديق، وكان أحد تلك الرسوم للسيدة التي كانت تعرفها جيدًا، والآخر رسمها الذي أعطته لتلك السيدة مرة وعليه هذه الجملة:

من بديعة لصديقة والدتها.

فوضعت رسم والدتها على شفتيها، وأخذت تقبله بحب، وتبلله بدموعها، ثم ضمته إلى قلبها، ووضعت يديها فوقه، ونظرت إلى الرجل قائلة: هل انتهيت من قراءة الكتاب يا سيدي؟

أجاب: نعم.

قالت: إنني أقبل هذه الصورة، ليس لأنني صدقت بأنها والدتي، بل لأن لها عليَّ فضلًا لا يُنكر حينما كنت في المدرسة.

قال: وهل أنت في ريب من أنها والدتك؟

قالت: نعم؛ لأنني أجهل هذا قبل الآن.

قال: أؤكد لك بشرفي بأنها والدتك، وهي من شريفات دمشق الشام، وما كان كَتْمُهَا هذا الأمر عنك إلا رغمًا عنها، وإنني صرفت في خدمتها عشر سنوات ولم أعرف قصتها إلا من شهور فقط.

قالت بحزن: وما هو السبب الذي حملها على كتمان حقيقة الخبر عني؟

قال: ألم تقرئي شرطها عليك في الكتاب؟ فهي لا تقدر على إفشاء هذا السرِّ إلا مشافهة، وأنت شريفة يا عزيزتي ويجب أن تثقي بكلام والدتك الشريفة.

فأطرقت بديعة إلى الأرض تفكر، ثم قبَّلت صورة والدتها ثانية وقالت لميخائيل: إنني أثق بكلام والدتي وبكلامك يا سيدي؛ لأنك رسول أمين لا تقول إلا الصدق. ثم تنهدت وقالت: إنني أشكر الله الذي شاء أن يمحو بعض عذاباتي الماضية.

فقال الشيخ ناظرًا إليها: وهل تعذبتِ كثيرًا يا سيدتي؟

أجابت: نعم لأن زوايا الدنيا مشحونة بالمصائب، وقد نلتُ نصيبًا وافرًا منها.

فتنهَّد الشيخ، وقام من مكانه متقدمًا إليها، وقال: إنني خدمت جَدَّكِ يا سيدتي من حين كنت في العاشرة من عمري، ولي عَشْرُ سنين في خدمة والدتك الخاصة، فاسمحي لي أن أُقَبِّلَكِ عنها كما أوصَتْني؛ لأنني سأكون لك والدًا بعد والدك.

فاقتربت بديعة منه وقبَّلَتْ يده باحترام، أما هو فقبَّل جبهتها بحُنُوٍّ وجلس بجانبها، وأخذ يقص عليها ما يعرفه عن والدتها، عن غناها وأخلاقها وعذاباتها الماضية وفضائلها الجمة، فكانت نفس بديعة تنقبض مرة وتنبسط أخرى لسماع كلامه. ولما وصل بحديثه إلى كلام لوسيا عنها بأنها ماتت، تنهَّدت بديعة وقالت: أرجو أن يكون هذا الأمر آخر سعاياتها.

ولكنها لم تحزن؛ لأن سعاية لوسيا بضررها لم تقِف عند ذاك الحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤