الفصل الخامس والثلاثون

الخبر الجديد

وبعد أن صرفت بديعة مع ميخائيل ساعتين تركته ينام ويأخذ قليلًا من الراحة، وذهبت إلى غرفتها فوجدت أديبًا وجميلة واقفَيْن أمام الباب، وهيئة الأول تدل على السرور، بينما الثانية مطرقة إلى الأرض وهيئتها تنبئ عن اضطراب داخلي لكنه سارٌّ أيضًا.

فلحظت بديعة أمرًا، ولكنها لم تصدقه لأنها لم تحلُم به من قبلُ، ولفرط فرحها لم تنتظر زوال اضطراب جميلة، بل ذهبت توًّا إليها، وطوقت عنقها قائلة: إن اسم «جميلة» حلو لذيذ، ولكنه أصبح بعد اليوم خلاصة الحلاوة واللذة والجمال؛ لأنه اسم والدتي المحبوبة. فشهقت جميلة ونسيت موقفها إذ قالت بفرح: اسم والدتك المحبوبة!

قالت بديعة: نعم. بعد أن نظرت إلى أديب، ومدت إليه يدها فصافحها.

وقال: ما هو الخبر السارُّ؟

وكانت بديعة تقصُّ عليهما قصتها، وهي تكاد تطير فرحًا، ولما انتهت منها شدَّ أديب على يد جميلة أيضًا وقال لبديعة: إنك أفرحتنا بقصتك، فيجب أن نكافئك بأن نبشرك بخطبتنا.

فنظرت بديعة في وجه جميلة لعلها تقرأ بعينيها الخبر، فلم تقدر لأن تينك العينين كانت ناظرتين إلى الأرض، فحوَّلت نظرها نحو أديب الذي قرأ من نظرتها مجلدًا.

وكان جوابه عن «سؤالها» بتلك النظرة أن قال أديب: نعم يا بديعة، إن هذا الأمر صحيح؛ لأنني أحب جميلة لأجل نفسي كما أحبها لأجل نفسها؛ لأن نتائج فضائل وآداب المرأة مرجعها إلى خير الرجل أكثر من خير المرأة، فإذا أحب الرجل فتاة لأجلها وتزوجها يكون أحب خير نفسه أكثر مما أحبها، ولا شك أن جميلة تغفر لي هذه الأنانية بعد أن عرفت القصد منها. قال هذا وحوَّل نظره إلى جميلة ليقرأ جوابها في عينيها كما فعلت بديعة، فكان حظه من هذا كحظ بديعة؛ لأن جميلة كانت لم تزل مطرقة، أما هو فقال بحرارة: «إن جمال المرأة حشمتها، وحشمتها جمالها.»

وكانت بديعة بذلك الموقف المفرح تنظر من جميلة إلى أديب ومن أديب إلى جميلة، فليتصوَّر القارئ سرورها بحب أديب لجميلة واقترانه بها وسلوه لها هي التي كانت مزمعة أن تتركه، ثم سعادة جميلة بحب هذا الرجل الفاضل.

وعرفت بديعة بعد أيام من أديب بأنه كان يحب سعادتها أكثر من سعادته، فلذلك لم يزعجها بكلامه الحبي، ولما عرف من ميخائيل عزمه على إرجاعها معه حوَّل مجاري حبه كلها إلى جميلة، التي لم تكن تنقص بديعة في غير جمال الوجه، وهذا كان أمرًا ثانويًّا عنده، فقال: إنني أحببت جميلة لما رأيت بها المرأة التي كنت أنتظرها بشوق في بلاد هجرتي؛ امرأة محتشمة حشمة طبيعية معناها فعل كل شيء شريف أدبي بجرأة، والابتعاد عن كل شيء قبيح، والخوف منه كالخوف من الموت، امرأة تعرف واجباتها نحو زوجِها فتطلب أن تكون شريكته في كل شيء، ولكن بعد إعداد ذاتها لتصير أهلًا لهذه المشاركة، تطيعه لا عن خوف وجبن في الظاهر وبغض ونفور الباطن، بل عن رغبة أكيدة ومحبة واحترام ومعرفة كونه رأس العائلة ويجب له الطاعة، كما أنها هي قلب تلك العائلة ويجب لها الحب والإكرام، امرأة تحب الجمال ولكن المحلل منه الذي مصدره الترتيب والنظافة وليس التصنُّع والتطرِئة، تحب التنزُّه ولكن بوقته وبعد الأشغال البيتية والواجبات العائلية، تحب اللبس ولكنها تلبس دائمًا دون قدرتها لا فوقها حتى لا تستلفت أنظار الناس إلى خفتها وإسرافها.

هذه كانت صفات جميلة كما وصفها أديب الرجل العاقل، اتَّبعت بها آثار بديعة الغراء، فأضاءت في بلاد الهجرة، بينما بديعة كانت تضيء بها في بلاد الآباء ومواطن الأجداد وكل فائدة في واحدة من البلدين مرجعها إلى الاثنين.

فهل «جميلة» جميلة أم قبيحة؟ وهل أديب عاقل أم جاهل؟

ولم تبرح بديعة هذه الولايات قبل أن وقفت مع الشيخ ميخائيل إشبينة لعزيزيها.

وكانت تهنئتها لهما أن جمعت ما لديها من المال الذي أجهدت نفسها في تحصيله، واشترت لهما به هدية كتبت عليها:

هذه هدية مشتراة بمال كدٍّ وجدٍّ تنوب لدى أخلص صديقين عزيزين من أثبت صديقة.

بديعة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤