الفصل السابع والثلاثون

مرض بديعة

ولم تحتج بديعة أن تكذب على ميخائيل «بتمارضها» لتبقى في نيويورك إلى ما بعد شفاء فؤاد، بل إنها مرضت حقيقة وغابت عن وعيها ثلاثة أيام، وبقيت مريضة زمنًا والأفكار تزعجها.

ولما أبلت من مرضها ذهبت إلى المستشفى وقابلت الممرضة وسألتها عن حالة فؤاد، فقالت لها هذه: إنه يتقدم نحو الصحة بسرعة غريبة، ولكن ما ينقصه الآن هو الطعام الجيد؛ لأنه يجد شهية للأكل ولا يحب أكل المستشفى، ولا مقدرة له على شراء المأكولات التي يرغبها. واستأنفت الممرضة قولها بأنه لو كان لديه مال يشتري به الغذاء الذي يريده، لكان يتقدم للصحة بِأسرع مما يتقدم الآن؛ لأن ثلاثة أرباع مرضه في الوقت الحاضر من ضعف القوى، والاحتياج إلى الغذاء الجيد الذي يفيده أكثر من الأدوية.

فليتصوَّر القارئ تألُّم بديعة لدى سماعها هذا الكلام عن حبيبها الذي قد تربى بالدلال والترف، ثم إنها هي التي احتملت ما احتملت لأجله قريبة منه تقدر على مساعدته وتسليته لو أراد، ولكنه لا يريد لأن مكر نسيب كان مستوليًا على قلبه ومحققًا له خيانتها، ولم يكن لدى بديعة مال إلا بعض دولارات قليلة؛ لأن ميخائيل كان يقوم بالمصروف.

ولم يكن عليها حلي يذكر أيضًا؛ لأن بديعة كانت تعتبر حلي الآداب والفضائل مغنية عن المجوهرات، وكأنها في ذلك الموقف نسيت بأن في يديها خاتمين من الألماس الثمين، ولكن لم يكُن ذلك لأنها نسيتهما، بل لأنها لا تحسبهما حليًّا؛ لأن لبسهما لم يكن لأجل الزينة بل لأجل الذكرى. وبعد هنيهة نظرت في يديها، فرأت في كل منهما خاتمًا، فاحتارت في أيهما تضحي في سبيل هذا الواجب: أخاتم اليد اليمنى الذي ألبسها إياه أديب في ذلك اليوم الرهيب الذي تغيرت بسببه حياتها؟ أم خاتم اليد اليسرى الذي وضعه فيها فؤاد في أول يوم من بزوغ شمس حياتها المظلمة الآن بعد الكسوف! فخاتم اليد اليمنى كان مذكِّرًا لها دائمًا بلطف وحب وإخلاص ذلك الأخ الصادق الذي لو وجد مثله كثيرون لما وجدت قلوب منكسرة، أم خاتم اليد اليسرى الذي أعار قلبها ضياءً من قلبه في أول الأمر، ثم عاد فاسترجعه منه وتركه في ظلام كأن جواهر القلوب ليست مستحقة للنور في أيام غلب فيها الظلام عليه.

وبعد التفكُّر هنيهة قالت: كلاهما عزيز وكلاهما يصعب عليَّ فراقه، فبينما أحدهما يذكرني بحب شريف لا بد من دخوله قلب كل فتاة طاهرة فيسعدها أو يتعسها، أرى الآخر يدل ببهائه على حب عزيز جدًّا، ولذلك فهو نفيس جدًّا على حب لا تكدره الغيرة؛ لأنه أشرف نوع من الحب يشعر به قلب امرأة نحو رجل أو امرأة، هو عاطفة النفس الشريفة يهزأ بالغاية ولا غاية منه سوى غاية عمل الخير مع الغير ومشاطرته السرَّاء والضرَّاء، ويضحك من الزوال لأنه أبديٌّ لا يزول؛ إذ إنه لم يدخل القلب قبل أن ينظفه من صغائر العواطف، فلا يبطره الفرح بل يزيده رزانة وهدوءًا، ولا يوهنه الحزن بل يزيده بشاشة وقوة وثباتًا. ثم قالت: إن هذا الخاتم لا حق لفؤاد به؛ لأن له من يطالب به، وأما هذا — وأشارت إلى خاتم فؤاد — فهو حقه، ومع أنه يصعب عليَّ تضحيته فإنني سأفعل وتكون هذه آخر ضحية مني على مذبح الواجب، ولكن فؤادًا لم يعتبر أو يعرف كل هذه الضحايا … ومن أشد بلايا الإنسان أن يعمل كثيرًا مع من يحبهم، ولا يطلب جزاءً إلا اعتبارهم لأعماله ولا يحصل عليه.

ثم نزعت الخاتم من يدها ودموعها تتساقط كحَبِّ اللؤلؤ وقالت: أنت يا أيها الخاتم العزيز أول هدية منه إليَّ في أيام سعادتي، وستكون الآن آخر هدية مني إليه في أوقات تعاسته، فإذا حُرِمْتُ النظر إلى تَذْكَارِ حُبِّهِ فيك، فلا أحرم الفكر بأنك ستفيده وتعزيه وتغذيه. ثم ناولته الممرضة التي كانت واقفة تنظر إليها مدهوشة وقالت: أرجوك قبول هذا الخاتم كرهن عندك، فهو يساوي ثلاثمئة ريال، فأتيه بكل ما يطلبه من كساء وغذاء، ومتى شفي وعرف بأنني تركت هذه البلاد، أخبريه بقصتي وقصة هذا الخاتم الذي هو لك إلا إذا دفع لك ثمنه.

فأخذت الممرضة الخاتم، وكانت عرَفت من النظر إليها ما كلفها أمر نزعه من يدها من الحسرة، وأقسمت لها بالصلة التي بينهما من الجنس والعمر أنها تعامل فؤادًا معاملة أخٍ لها وتعتني به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤