الفصل الثامن والثلاثون

السفر

وبعد ثلاثة أيام كان موعد سفر الباخرة التي تُقِلُّ ميخائيل وبديعة إلى سورية، وكانت بديعة قد اعتمدت على السفر هذه المرة؛ إذ لم يَعُدْ لها بالبقاء مأرب بعد تحققها شفاء فؤاد.

وفي اليوم المعين لسفرهما طلب منها رفيقها الشيخ أن تذهب معه لزيارة عائلة من أصدقائه، وقال لها: إن في تلك العائلة فتاتين كريمتين أديبتين تَوَدَّان مشاهدتي وقد طلبتا مني ذلك. فسُرَّت بديعة لهذا الأمر، وربما كان هذا ما رغَّبَها بالزيارة؛ لأنها كانت تعشق ذكر كل امرأة أديبة، ولا سيما إذا كانت سورية وتشعر باحتياج السوريات إلى الأدب، فإذا رأته فيهنَّ تُسَرُّ وتفرح فلا تغار ولا تستصغر؛ لأن الفضل يعرفه ذووه، ولأن بديعة لم تكن فتاة جاهلة تبغض كل امرأة أديبة، ويكون عذرها بذلك جهلها. ومن جهل شيئًا عاداه.

ولم يستريحا بعد دخولهما حتى أُحْضِرَتِ المرطبات والحلوى والقهوة، أو بالحريِّ «حضرت الضيافة السورية» عادة؛ إذ لم يَكُنْ لنا غيرها وغير الحشمة، فكفانا بها فخرًا عند الأمريكان الذين يعجبون بهما وإن كنا لا نعتبرهما لأنهما من «عوائدنا».

ولم يطل الجلوس ببديعة أو يتمُّ سرورها بمحادثة الفتاتين، حتى سمعت وقع أقدام في الخارج. ولما دخل الزائران لم يكونا سوى نسيب ولوسيا، فاضطرب قلب بديعة واحمرَّ وجهها، ولكنها تجلدت ولم تظهر شيئًا.

ولحظت من ربة البيت انقباضًا حين دخولهما، وكأن تلك السيدة المعتبرة خجلتْ أن ترى فتاة متأمركة تأمرُكًا معيبًا زائرة مع شاب غريب عنها، ونظرت إلى ابنتيها اللتين كانتا كزنبقتين نضيرتين أو كبرعمتي وردٍ إحداهما أكبر من الأخرى؛ لأن إحداهما كانت في السابعة عشرة، والثانية في الثانية عشرة، وكانت تربيتهما سورية محضة. وكانتا لم تزالَا بِظِلِّ عناية والدتهما، فلا تدخلان مجلسًا أو تذهبان إلى مكان إلا بصحبتها.

وكانتا إذا دخلتا مجلسًا جلستا فيه على جانبي والدتهما، فتظهر هذه بينهما كالقمر بين نجمتين، وهكذا كانتا الآن إلى جانبَيْ بديعة التي أحبتاها كثيرًا.

ومع أن أهل البيت لم يحفلوا بلوسيا كثيرًا «لأنهم كانوا يعرفونها»، فلم يؤثر هذا الأمر فيها شيئًا، وابتدأت تتكلم كلامًا «مبطنًا» أو ذا معنيين، وقصدها أن تقهر بديعة؛ لأن سلاح الجبان القاصر مغامز لسانه، بينما سلاح العاقل الفاضل أدبه ورزانته وصبره على الشرِّ، وهذا ما يخفض الأول ويرفع الثاني.

وكان نصيب لوسيا من تلك العائلة المتهذبة الازدراء، وكانت سيدة البيت تارة تضحك من كلامها، وطورًا تُعرِض عنه، وأحيانًا تزجرها وتنظر بعين ملؤها الاعتبار لبديعة الهادئة، وفي الأمثال العامية: «ما أحد عقل وندم.» وهذا حق لأن الذي «يعقل» لا ينال من صبره وتجلده على الأشرار وزجره وحشية نفسية إلا الصيت الحسن، وهو أعظم شيء على الأرض، والعكس بالعكس.

وخرجت لوسيا من ذلك المجلس وهي تكاد تتميز غيظًا، زاده فيها قول نسيب لها بأن أعمالها تجلب لها الاحتقار؛ لأن هذه الفتاة المغرورة كانت تظن بأن حبيبها يعتبرها، وأن اعتباره وحده كافٍ لسرورها ولحمل الناس على اعتبارها، وقد خاب ظنها؛ لأن نسيبًا كان يعرفها كما هي، وهكذا كل رجل، ولم يكن ثناؤه عليها إلا «ليضحك عليها» ويسلب مالها في بعض الأحيان.

وهَبْ أن نسيبًا كان يعتبرها حقيقة؛ فإن عين الحب عمياء في أغلب الأحيان، وشهادة المحب وحده على الخلال لا تكفي، وأعظم شهادة للمرأة هي شهادة العقلاء من نساء ورجال فيها.

ولو سمعت لوسيا كلام صاحبة المنزل بحقها لازداد غضبها؛ فإنها بعد خروجها قالت أمام أصحابها الذين تَثِقُ بشرفهم: إنني لا أحب أن أرى فتياتنا بهذه الحالة، كما أنني لا أحب أن تنظر بنتاي إلى هذه الفتاة؛ لأنها حَجَرُ عثرة في سبيل نفسها وسبيل سائر الفتيات نظيرها، فالله يهديها.

وجرح هذا الكلام قلب بديعة؛ لأنه بحقٍّ فتاة أحبتها كثيرًا ولم تزل تحبها بالرغم من أعمالها، ولما خرجت من ذلك البيت قالت ربة المنزل: إن هذه الفتاة الأديبة تستحق كل اعتبار وثناء من الأمهات الفاضلات؛ لأنها بأعمالها تكون مَثَلًا صالحًا لبناتهنَّ يؤثِّر في عقولهنَّ أكثر مما تؤثر تربية الأمِّ ذاتها أحيانًا؛ لأن الفتيات شديدات الرغبة بالاقتداء بأترابهنَّ.

وفي عصاري ذلك النهار تركت بديعة نيويورك، ولما صعدت إلى الباخرة نظرت إلى وجه السماء، فرأته مكفهرًّا مكمدًا وهو مثقل بالغيوم، كما أن قلبها مثقل بالهموم، فتنهدت وقالت: إن الفلك مهموم الآن، ولا أدري أمن همي مشتقٌّ همُّه أم من همِّ نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤