الفصل التاسع والثلاثون

اللقاء السعيد وإفشاء السرِّ

لا غرو إذا تعجبت بديعة من مرأى ذلك البناء الفخيم الذي كانت عتيدة أن تدعوه «بيتها» لأنها لم تسكن في بيت «لها» من حين أفاقت لنفسها، فقالت في سرِّها: إذا كانت هذه مجازاة الله للصالحين الصابرين على الأرض، فكيف هي في السماء يا ترى حيث الجمال والبهجة أتمُّ وأكمل؟!

هذا كان سؤال بديعة لنفسها إذ دخلت تلك الدار معتمدة على ذراع ميخائيل، فوجدت في صدرها تلك السيدة التي كانت تزورها في المدرسة بثوبها الأسود، وهي كما كانت منذ خمس سنوات، كأن الهموم أتتها دفعة واحدة فأوقفتها عند حَدِّ الكِبَر، وكانت الآن واقفة بانتظار ابنتها ودموعها متساقطة كالوبل، وهي فاتحة ذراعيها تترحب بدخول بديعة إلى بيتها وقلبها معًا.

لم تنظر بديعة بدهشة إلى تلك الدار حين وصولها إليها، بل ظهرت عليها علائم عدم الاكتراث؛ لثلاثة أمور الأول: لأنها كانت رأت مثلها من قبلُ؛ وإذ عرفت بوجودها في الدنيا قلَّ اعتبارها لها، وإن تكن تلك التي رأتها لم تكن ملكها. والثاني: لأنها كانت تنظر إلى قلب الدار لا إلى جسمها، إلى داخلها لا إلى خارجها؛ حيث رأت «بناء» أفخر وأجمل وأكمل عندها من ذلك البناء الحجري، بناء جسم والدتها. والثالث: لأن رزانة بديعة كانت عجيبة، واندهاشها من الأشياء كان نادرًا، ولكن إذا رأت ما يدهشها لا تكترث له، وهي بذلك على حد ما قيل:

وتعظم في عين الصغير صغارها
وتحقر في عين العظيم العظائمُ

ولا حاجة إلى وصف الفرح الذي استولى على ذَينِكَ القلبين الحزينين من اللقاء بعد ذاك الفراق؛ لأن كل والدة وابنة من القارئات تعرف وتشعر بهذا، فتكفينا مؤنة الوصف له. وغاية ما نقول أن فرحهما كان مزدوجًا؛ لأنه أتى بعد عذابات أليمة وفراق طويل، وكل شيء بعد الشقاء واليأس والعناء حلو لذيذ.

وبعد أن استراحت بديعة من التعب أخذتها والدتها بيدها، وأدخلتها غرفة خاصة يظهر من منظرها أنها كانت غير مأهولة. ولما استقرَّ بهما المكان وكانت كل واحدة منهما تنظر إلى الأخرى بتفكر، الأمُّ تتصوَّر ذاتها لمَّا كانت بعمر البنت، وكان لها الحب والصبا والجمال، وتسرُّ ولو بالفكر، والبنت تصوِّر نفسها بعد عشرين سنة؛ إذ تصير كوالدتها وتفتكر بما تكون الحالة إذ ذاك — نظرت الوالدة إلى صورة معلقة على حائط تلك الغرفة، وأشارت بيدها إليها قائلة: أتعلمين صورة من هذه يا بديعة؟

أجابت الفتاة بحزن: أظن أنها صورة والدي.

فتنهَّدت الوالدة وقالت: أليس جميلًا؟

قالت البنت: أجمل رجل رأيته بحياتي.

وكان كلام بديعة صادقًا؛ لأنها قبل أن رأت هذه الصورة كانت تقول هذا القول عن صورة فؤاد، ولكنها لم ولن تنظر بالرجال أحسن من صورة والدها، ولا بالنساء أجمل من صورة والدتها؛ لأنها شريفة. وأثر كلامها بقلب والدتها أكثر مما أثر منظر الصورة، فبكت وبكت بديعة معها.

ولما استراحتا قليلًا قالت الوالدة: دعيني أقصُّ عليك تاريخ صاحب هذه الصورة الذي هو أبوك وتاريخي.

إنني يا عزيزتي لما كنت بِسِنِّكِ كنت مثلك في الهيئة تمامًا، أما الأخلاق فلا أقدر أن أقول عنها شيئًا؛ لأنه كثيرًا ما تمحو المعاشرة والتربية ما يكون قد علق بأخلاق الإنسان بالإرث. وإذ كنت في الخامسة عشرة من عمري مرَّت عليَّ العاصفة التي تمرُّ على كل فتاة في هذه الحياة، والتي أرجو أن لا تكون مرَّت عليك بعدُ؛ لأن مرورها وأنتِ بحجر والدتك يكون أصلح وآمن، فهي عاصفة الحب التي تحتمل الفتاة، فإما أن تنزلها في مكان أمين، وإما أن تطرحها في هاوية خطرة.

وكنت يا بنيتي جميلة وغنية وعزيزة عند والديَّ وأصدقائي، أرى أمامي من جهةٍ مالًا كثيرًا يشتري كل ما يُباع بمال، ومن جهة أخرى سعادة وخدمًا ووالدين وأصدقاء يحبونني، وأنا أسكن في دار، فخيمة تحفني فيها كل أنواع العظمة والجمال، وتحسدني عليها أكثر النساء؛ إذ يحسبنها سعادتهن. وأما أنا فلم أكن أحسبها كذلك، بل كنت دائمًا أشعر بفراغ في قلبي ولا أعرف له سببًا، وكنت أنفر من كل هذه الأشياء لأنني أميل إلى المعيشة الرُّوحية، ولذلك أحسب هذه العظمة وهمية، والشيء الذي يسرُّني ويملأ فراغ قلبي لم أكن قد وجدتُه بعدُ.

ومعلوم أن شبان المدينة كانوا يتسابَقُون إلى طلب يدي، فمنهم حبًّا بمالي ومنهم بجمالي وأشياء غير هذه متعددة، ومع ذلك فإن قلبي لم يُحِبَّ أحدًا منهم. ومع أنني كنت أعرف اضطراري للاقتران يومًا ما إتمامًا لرغائب والدي، فلم أحب أن أظهر ميلًا خاصًّا إلى أحد أولئك الطلاب، وكنت أفضل الانتظار.

وكنت مولعة بالرياضة الجسدية كثيرًا، ففي أحد الأيام بينما كنت مع جماعة من الأتراب نتنزه في الخرج مرَّ بنا رجل لابس اللباس الإفرنجي وعلى رأسه قبعة. وبما أن الثياب الإفرنجية لم تكن زيَّ تلك الأيام كما هي اليوم بكثرة، عرفنا بأن الرجل غربي ثم فرنساوي؛ لأنه خاطبَنا باللغة الفرنساوية سائلًا عن الطريق الأقرب إلى المدينة، وإذ لم يكن بين الفتيات من تفهم هذه اللغة غيري دَلَلْتُهُ على الطريق. وبعد أن شكرني ومشى بضع خطوات، رجع إليَّ ثانية وطلب مني جرعة ماء. وكان معنا زاد وماء، فسقيته، فظهر لي من هيئته بأنه تعبان، وكانت ثيابه بالية وحذاؤه مرقعًا، والخلاصة أن هيئته كانت فقرية ولكنها جميلة للغاية. وكان وراء ذلك المنظر الفقري قلب يتحرَّك بالعينين، فشغف به قلبي، وبكل جرأة سألته ما إذا كان يريد طعامًا، والذي حملني على سؤال رجل إفرنجي غريب هو وجود خادم وخادمة كهلين كانا قد خرجا معنا لأجل الخدمة، فنظر إليَّ الشاب عند هذا السؤال نظرةَ شكر لا أنساها قط وجلس حالًا؛ لأنه كان جائعًا فأتيته بطعام، ولما انتهى قام وذهب بعد أن رفع قبعته وقال: شكرًا لك يا سيدتي إنني سوف لا أنسى طعم جميلك وطعامك ما حييت.

ولم أعد أنظر الشاب بعد ذلك، ولكن ذكره لم يفارقني، وكنت دائمًا أؤاخذ نفسي على الافتكار بشاب غريب فقير كهذا، ولكن نزوع هذا الفكر إليه كان فوق مقدرتي.

وذهبنا لقضاء فصل الصيف بعد أيام، ولما رجعنا سمعنا بذكر مصور شهير أتى دمشق، وقد أصبح ذكره بها كذكر روفائيل في العالم.

ورأينا من تصويره ما أدهشنا نحن أيضًا، فقالت لي جدتك: يجب أن تتصوري عنده، فبعثنا نستحضره، ولا تسلي عن خفقان قلبي واضطرابي يا بديعة؛ إذ دخل المصوِّر وعرفته بأنه نفس ذلك الشاب الذي كانت صورَتُه في قلبي، أما هو فبغت أيضًا وخاطبني بلغته التي لا تفهمها والدتي قائلًا: إنني سعيد يا سيدتي لأنني قدرت على أن أشكرك مرة ثانية.

ولما كان يصورني خاطبني قائلًا: إذا كان أحد يقدر على فَهم الجمال الحقيقي وتصوره، فهُم المصورون يا سيدتي. ومن تلك الدقيقة عرف كل منا ما عند الآخر، وتدرجنا في المحبة إلى الوعد بأن كلًّا منا هو للآخر، وعملًا بالعهد فاتحت والدتي بالأمر فحزنت جدًّا، وأخبرت والدي الذي غضب وأخذا يتهدداني، أما أنا فلم يثبِّط كل ذلك عزمي، فهربت مع الشاب من دمشق إلى بيروت حيث اقترنَّا وسكنَّا هناك.

وقد كنت أظن أنني متى اقترنت به أحصل على كل سعادة ويمتلئ فراغ قلبي، ولكن قلبي التعيس امتلأ من جهة وفرغ من أخرى؛ لأنني بعد أن ظننت أن الحب هو كل سعادة في الحياة، اختبرت وعرفت أن الحب الذي يداس به على الواجب المقدس لا تكون سعادته خالصة، بل مشوبة بوخز الضمير الحي.

وكنت يا بنيتي سعيدة مع أبيك وهو سعيد بي، ومع أننا قاسينا مضض الفقر والهم، فإنني لم أكن أبالي بشيء ولا يزعجني غير مثول وجهَيْ والديَّ الغاضبين دائمًا أمامي.

وكان أبوك يذهب إلى القرى يصور مع رفيق له، ولكن مهنته لم تكن تأتي بمال كثير؛ لأنها مع شرفها لم تكن معتبرة في تلك الأيام كما هي الآن، لذلك كنا يومًا في نعيم وآخر في جحيم من جهة الماديات.

وكان أبوك ذا إحساس وشرف غريبين، فكان يقول لي دائمًا بأنه مذنب نحوي؛ لأنه انتزعني من بين ذراعَيْ والدتي ووالدي وجلب عليَّ نقمتهما، وأتى بي من بين العظمة والرفاه إلى حيث لا يقدر أن يعوِّض عليَّ شيئًا منهما.

فكنت أقول له بأنه إذا كان من ذنب فكلانا مشتركان به، وأظهر له سعادتي دائمًا لئلا أزعجه، ولكنه لم يقتنع بمظاهراتي وعرف ما أنا عليه من الهم. وكان يُرى دائمًا مهمومًا ويقول بأن ضميره لا يريحه، ويكد ويجتهد لأجل سعادتي، حتى ضعف جسمه فاعترته حُمى خبيثة لم يقوَ عليها ذلك الجسم الناحل، فمات — وا حسرتاه — إذ كنت في الشهر الأول من عمرك، وذقت أنا بموته أمرَّ وأشدَّ حسرة في حياتي، لم تَزَلْ تعذبني لليوم، وكنت بغاية الفقر إذ ذاك؛ لأن ما كان معنا صرفناه على مرض وموت والدك، فعزمت أن أحصل رزقي بيدي، وفي تلك الأثناء أتت جدتك تزورني؛ لأنها عرفت بموت والدك، وبعد جدال ورجاء طويلين أغرتني — سامحها الله — وأنا إذ ذاك صغيرة السن بوضعك في العازارية وإخفاء المسألة والرجوع معها، وإلا فهي لا تُقِرُّ بي ولا تَقَرُّ بي مع والدي.

وكأن وطأة الهموم كانت قد أضعفت عقلي حتى رضيت معها بهذا الأمر، فنزعتك عن صدري وقلبي، وأرسلتك إلى دير العازارية، ورجعت مع والدتي إلى البيت، وكنا أرضينا رفيق والدك الذي هو أبو لوسيا التي كانت في المدرسة معك لإخفاء الأمر بمال كثير، وقلنا له أن يدعوك ابنة أخته حتى لا ترتابي في نفسك.

وهكذا يا حبيبتي تركتُك ورجعتُ، ولكنَّ ظَنَّ والدي خاب فيَّ؛ لأنني لم أقبَل معهما بالزواج، إذ إن ذكر والدك وذكرك كانا كافيين لأن يمنعاني عن هذا الأمر.

وكنت ظننت وأملت أن والديَّ يرِقان لي ويسمحان باسترجاعك بعد زوال عاصفة غضبهما، فكان قلبهما صخريًّا، والذي كان يساعدني على الصبر هو زيارتك في المدرسة. وفي أوائل هذه السنة مات جَدُّكِ وماتت بعده جدُّتك، فأرسلت صديقي ميخائيل ليفتش عنك، فأتى وأخبرني بأنك في أمريكا، وما بقي فأنت تعلمينه. فهل أنا مستحقة الصفح عندك ابنتي؟

قالت هذا وانطرحت على ركبتَيِ ابنتها، فارتعدت فرائص بديعة، وحاولت أن ترفعها عن الأرض، فلم تقدر فانطرحت بجانبها وهي تبكي وتقول: أمن كانت مثلك تحملت كل هذه العذابات والمشقات لأجل والدي ولأجلي تعدُّ مذنبة يا أمي؟ وهل والدة مثلك قد أعدت لابنتها هذا المستقبل العظيم مخطئة وتطلب الصفح؟! إنني أنا المذنبة يا أمي؛ لأنني لم أقدر أن أشاطرك همومك فيما مضى، ولكنني أعدك بكل ما عندي من الاعتبار لشرفك أنني أعوِّض عليك في المستقبل ما قد خسرته في الماضي، بأن أكون لك بنتًا محبة ومطيعة وفاضلة، وهذا ما يفرح ويسرُّ قلبك الشريف.

وخرجت جميلة وابنتها من تلك المعركة الفكرية منهوكتي قوى النفس والجسد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤