الفصل الخامس والأربعون

العرس

وفي اليوم الثاني كانت بديعة مع والدتها تودع فؤادًا ووالديه على محطة القطار. وبعد هنيهة جرى ذلك القطار مُقِلًّا فؤادًا بدون قلب، إلا إذا جاز أن نسمي قلب بديعة قلبه.

وشاع الخبر بمدينة دمشق الشام بقرب موعد اقتران بديعة الفتاة الجميلة الغنية المهذبة بفؤاد الشاب المناسب لها.

وبهذا الاقتران اسودَّتْ وجوه وابيضت وجوه، وصُرمت حبال آمال كثيرين من الشبان والبنات في المدينتين.

واجتهد والدو العريسين بجعل العرس بهجة ذلك العام. أما العريسان نفساهما فلم يكترثا لهذا الأمر كثيرًا، ويستدلُّ على هذا من قول بديعة لفؤاد مرة: لو لم يكن حبنا العظيم يشدد ربط الزواج المقدس، هل كانت كل هذه الفخفخة تسرُّنا يا ترى؟

فقال لها فؤاد: عرس العريسين بقلبيهما وليس ثيابهما.

وبعد مضي شهرين على تلك الاستعدادات كانت بديعة في بيت فؤاد، ولم ترهب دخول بيت غريب عنها لأنها كانت قد استعدت لهذا من قبل؛ إذ كانت قد خالفت بنفسها تلك القاعدة المصطلح عليها عند بني وطننا، من أنه من الحشمة أن لا يقال شيء عن البيت الجديد المزمعة أن تدخله الفتاة. ولما كانت بديعة «خادمة» كانت تعتبر العمل أشرف شيء على الأرض، فلما أصبحت «سيدة» على بيتين عظيمين لم يقلل هذا من حبها للعمل شيئًا، وكانت تشتغل بيديها وتعمل كل شيء تقدر عليه، وما لا تقدر على عمله تناظر على الخدم الذين يكونون يعملونه.

ولما ولدت بديعة بنتها البكر لم تحتج إلى من يعلمها الاعتناء بها؛ لأنها كانت قد تعلمت كل هذا وهي عزباء، وكانت تقول للخادمة متى طلبت منها أن تلبس وتغسل لها الصغيرة: إنها لا تشعر باللطف والحنو حين مرور يدك على جسمها اللطيف، كما تشعر بهما من يدي فتطلب من الله مجازاتي على ذنبي العظيم.

ومعلوم أن هذه الوالدة التي قضت كل أيامها الماضية تدرس واجبات المرأة الفاضلة، كانت والدة وسيدة وخادمة وزوجة وملكة بجمالها ووجاهتها وآدابها بوقت واحد، وكانت تقوم بكل هذه الواجبات بأمانة وتسعى نحو الكمال النسائي بقدم ثابتة؛ لأنها عَرَفَتْ واجباتها نحو نفسها ونحو الغير: نحو نفسها «بأن تثقفها وتهذبها دائمًا، ونحو غيرها بأن تعمل بذلك الغير كما تريد أن يعمل بها»، وهذه قاعدة كل دين وأدب وفضل.

وبعد ولادة الصغيرة بأيام دخل فؤاد غرفة زوجته فوجدها تلاعبها وتقبلها وهي مسرورة بها، فاقترب منها مظهرًا الغيرة وقال: هل أنتِ سعيدة بها يا بديعة؟

فنظرت إليه وابتسمت تلك الابتسامة التي كان يحسبها كل سعادة وحلاوة في الحياة، وقالت: إن سؤالك معجب يا حبيبي؛ إذ ما هو يا ترى الشيء الذي يسرُّ قلب الأم كالولد؟

قال: ولكن الأب يخسر قسمًا من حب زوجته؛ إذ يُعطَى للولد فيغار منه.

وكان جواب بديعة أن ناولته ذلك الملاك وقالت ضاحكة: ذَكَّرَنِي كلامُك بما كنت أسمعه في أمريكا من أن بعض الناس يقتلون زوجاتهم وأولادهم أحيانًا، أو يهجرونهم من هذه الغيرة الحيوانية.

فقبل فؤاد الطفلة وضحك أيضًا. ولما تأمل فيها قال: إنها تشبهك كثيرًا يا بديعة، ويؤدي أن أتبع خطة الإفرنج وأدعوها باسمك؛ لأنني أحب هذا الاسم كثيرًا وأحب أن أسمي به كل مولودة.

فقالت بديعة ضاحكة: إذن تدعو الهرة والكلبة بديعة كما يفعل الإفرنج؟! لا! فؤاد، أنا أحب كل شيء عربي متى كان جيدًا، كما أحب كل شيء إفرنجي متى كان جيدًا أيضًا، ولذلك أفضل طريقة الأسماء العربية على الإفرنجية، لا سيما وأن في هذه شاعرة حب نحو اللغة والوطن.

قال فؤاد: إذن ماذا نسميها؟

قالت: أحب أن أدعوها «مريم»؛ لأن هذا أشرف وأطهر وأجمل اسم ما بين الأسماء. وهو اسم والدتك الذي هو عزيز عندنا.

ففرح فؤاد في قلبه من محبة امرأته لأمه وتناسيها الإساءة الماضية، وقال: الأمر لك.

ولما نظرها ترضع الطفلة قال: إن المرضعة تأتي بعد ثلاثة أيام، فلا يجب أن ترضعيها بعد حضورها.

فقالت له بلهفة: ماذا تقول؟ لا يجب أن أرضع مريم!

لماذا يا فؤاد؟ هل أنا مذنبة حتى استحققت هذا القصاص منك، أن أحرم بنتي من قوتها الخاص إلا إذا حال ما يمنعه عنها، وأحرم طفلًا آخر من قوته أيضًا! وما هي فائدة من هذا العمل غير حرمان الفتاة من حبي وحنيني الذين يجب أن تتغذاهما مع اللبن، وحرماني أنا من حبها الخالص متى شركت في تغذيتها امرأة أخرى، امرأة لا أعرف عن ماضيها وأخلاقها شيئًا. وعلى كل حال فهي سوف لا تكون متهذبة التهذيب الذي أريده؛ لأنها ليست من الطبقة الأولى أو الثانية، بل هي الطبقة الثالثة التي دُعِيَ عليها بالجهل في بلادنا السورية. إنك لا تجهل هذا كله يا عزيزي، فلا أعرف ما حملك على هذا القول.

فقال زوجها بتفكر: إنني لا أجهل هذا يا عزيزتي، ولكنك مضطرة إلى حضور الحفلات والولائم وإقامة مثلها في هذا الفصل، وإذا أرضعت ابنتك تقصرين بواجبات أصدقائك وبواجبي أنا أيضًا؛ لأنني أريدك معي في كل وقت مُفرِح، فأجابت تلك الوالدة الفاضلة بحب: إنني من حين أفقت لحالي لا أذكر أني ضحيت واجبًا واحدًا لأجل مَسَرَّةٍ ما، فكيف تطلب مني الآن يا عزيزي أن أضحي أعظم الواجبات لأجل المسرات؛ فإن كان لأصدقائي حق علي يا فؤاد، فذلك من بعد حق أولادي، وأنا لا أقدر على ترك فلذة كبدي في حجر امرأة غريبة كما وصفتها، وأذهب لحضور الحفلات والولائم. إنني أفضل خسارة هذه الأمور لمدة وجيزة من عمري على خسارة أدبية ربما سببتها نقطة حليب واحدة في أخلاق طفلتي.

وكان فؤاد يطيع امرأته بكل ما يكون الحق فيه بجانبها. وكانت بديعة كما قال أحد وجهاء لبنان مرة: «للمطبخ وللصالون.» فكانت تلبس لكل حالة لُبوسها وتقوم بواجباتها على الوجاق وبين «الطناجر» والخدم كما تقوم بها في القاعة وعلى البيانو وبين الضيوف.

ولا مشاحَّة بأنها لم تكن محبوبة من كثيرات من النساء اللواتي كنَّ يحسدنها ويبغضنها بقلوبهنَّ، ولا يظهرن لها ذلك لأنها لم تأتِ بحيلتها ما يُغضِب أحدًا. وكانت لطيفة وأديبة مع الجميع. ولكن مداخلاتها كانت مع من هم على مبدئها فقط مع النساء والرجال، أما من لا يكونون على مبدئها فإنها كانت تكرمهم ولا تهتم بهم أو تتداخل معهم بشيء.

وأما بغض بعض النساء الشابات لها فكان لثلاثة أمور؛ أولًا: لأنها كانت جميلة وغنية وذكية. ثانيًا: لأن اعتبار الرجال الأفاضل لها كان عظيمًا، حتى إنهم كانوا يعنونها إذ يقولون: «المرأة الفاضلة.» وثالثًا: لأنها لم تكن تلعب البوكر وأمثاله، ولا تحب اللهو والقصف، وكانت بعيدة عن الكبرياء والخفة. وبهذا لم تكن تجاريهنَّ بأعمالهن؛ لأن عليها واجبات أسمى. وتظهر بفعلها قبح أعمالهنَّ، وقد قيل: «الضدُّ يظهر حسنه الضدُّ.»

وكانت بديعة لا تنكر هذا الميل عليهم، إلا أنها تضحك في سرِّها من إهمال التثقيف الأول غير مُظْهِرَةٍ شيئًا. وهذا ما كان يحوِّلها عن مصادقة ومعاشرة أكثر النساء الشابات، ويوجه كل أفكارها إلى معاشرة الكهلات والشيخات من السيدات بعد أن رأتْ بأنها تستفيد من نصائحهن واختبارهن ما لا تقدر عليه من معاشرة بعض لِدَاتِهَا، وقد صرفهن حب اللهو والأزياء عن اكتساب كل شيء حسن والالتفات إلى كل واجب شريف.

وكانت قاعدة بديعة الرئيسية في الحياة عمل الخير وحب القريب والغريب؛ لأن هذه المبادئ الشريفة كانت غريزية في قلبها، فكانت تأتيها بكل سهولة وبدون عناء. ولم تنسَ قط صديقيها المحبوبين أديبًا وجميلة؛ لأن ذكر حبهما الماضي لها وسعادتهما الحاضرة كانا يساعدانها على السعادة والسرور، كما أن ذكر لوسيا التعيسة كان يلبِّد سماء أفكارها بغيوم الهموم؛ لأنها كانت تُشفِق ولا تَحقِد.

وكانت رسائلها إلى أديب وجميلة متواصلة، وفي كل كتاب يَرِدُ منهما تقرأ هذه الكلمات من جميلة:

إنني مديونة لك بالحياة؛ لأنك خلصتني من الغرق نفسًا وجسدًا، ومديونة لك بما أعرفه من الواجبات النسائية؛ لأنني لا أرى كمالًا وفضلًا وسعادة للمرأة بدونها، ومديونة لك بالحياة السعيدة والحب الصحيح؛ لأنك علمتني كيف يجب أن أعيش وكيف أعامل الناس، فاتبعت نصائحك وعرفت أكثر أسرار الحياة، فعشت براحة، وراحتي الآن مزدوجة بوجود والدي معي.

ثم تختم كتابها بهذه الكلمة:

وأظن أديبًا الذي هو واقف على يدي وأنا أكتب إليك الآن يشركني بما مرَّ، فكيف تظنين أنت؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤