الفصل الخامس

صعود أول درجة من سُلَّمِ الحبِّ

وكانت بديعة تحب المطالعة كثيرًا؛ لأنها تربَّت تربية حقيقة وكان لها من نفسها مساعد على طلب كل كمال بدون نظر إلى المقام والإمكان، وكانت تشتغل كل أشغالها الكثيرة، ومع ذلك تجد لنفسها فرصة من يومها تطالع بها كُتُبًا أدبية وتاريخية وتهذيبية، وكان لها نصيب كبير من الاستعارة، فالكتاب الذي تعجز عن شرائه تستعيره من سيدتها وسيدها أو من الجيران الذين لا يضنون عليها به؛ نظرًا لاعتنائها بالكتب، وإرجاعها إلى أصحابها نظيفة كما أخذتها منهم.

وكانت تحافظ على قول الحكيم العربي بأنها متى طالعت كتابًا تطالعه بتدقيق، حتى إذا أرجعته تكون قد وعت معناه بفكرها، فيصبح وجوده وعدمه على حدٍّ سواء عندها، ولم تكن تطالع سوى الكتب التي تعرفها مفيدة مغذية للعقل والقلب بغذاء التهذيب والفضيلة لا تلك المزيلة لهما؛ لأنها كانت فتاة تعرف نصائح الأم وتجد في طلب تلك النصائح من كل سيدة فاضلة، ففي أحد أيام ذلك الأسبوع ذهبت إلى جارة فاضلة لها لتستعير كتابًا، فقالت لها السيدة إنه أدبي؛ لأنها هي قرأته قبل أن تسمح لأولادها بقراءته كما تفعل بكل كتاب، حتى لا يَعْلَقَ بقلوب الفتيات الطاهرات أثر لا تعود قادرة على إزالته من كتاب ضارٍّ يقرؤه أولادها بدون علمها.

وكانت تلك الرواية مؤثرة للغاية، فجلست بديعة في غرفتها تقرؤها بتمعن، ولم يكُن عليها شغل في البيت في ذلك النهار؛ لأنها كانت قد قضت شغل الصباح، وكان سيداها ونسيب قد ذهبوا للنزهة وفؤاد ذهب لزيارة أحد أصدقائه خارج المدينة. وفيما هي مخصِّصة كل أفكارها لقراءة تلك الرواية سمعت وقع أقدام قرب الباب، ثم طُرق باب غرفتها، وكان الطارق فؤاد؛ لأنه رجع في وقت لم يكن أحد يستنظره به، وسُرَّ برجوعه إذ رأى الجميع في الخارج وبديعة وحدها في البيت، وإذ رأى الفرصة مناسبة لبثِّ أفكاره لها، وكان يقدِّم قدمًا ويؤخر أخرى بقصد الذهاب إلى غرفتها؛ لأنه لم يَكُنْ له معرفة كافية تكفل له هذه الدالَّة من قبلُ، ومن جهة أخرى كان يخاف أن تعد بديعة عمله وقاحة واحتقارًا، وبعد أن افتكر في الأمر برهة غلب دافع الشوق في قلبه على دافع الخجل، فمشى نحو غرفتها بقدم مرتجفة، ولمَّا أتت لتفتح الباب اضطربت اضطرابًا لم يخفَ على الشاب، وقالت له بصوت متهدج: سيدي! … إننا لم نكُن نفتكر برجوعك هذا الغريب، وهذا ما حمل سيدتي والدتك وسيدي والدك والخواجة نسيب على الذهاب إلى الحرج وتمضية بقية النهار هناك. فابتسم فؤاد ونظر إليها بلطف قائلًا: إنني أنا نفسي لم أحسب بأن رجوعي يكون بهذا المقدار قريبًا، ولكنني لم أجد صديقي في البيت، ففضلت الرجوع على انتظاره.

فقالت بديعة ببساطة: لم يمضِ على خروج أهل البيت أكثر من نصف ساعة، فإن تبعتهم تقدر على اللحاق بهم.

فنظر إليها فؤاد نظرة ملؤها معانٍ وقال بصوت منخفض: هل من ضرر في بقائي في البيت؟

– كلا يا سيدي.

– إذن لماذا تفضلين أن تريني معهم على أن تريني معك؟

فلم تُجِبْ بديعة على هذا الكلام، ولكنها أحنت رأسها خجلًا. أما هو فلحظ خجلها وأعجبه أدبها. فقال: أَوَدُّ أن تسمحي لي بالبقاء هنا؛ لأني أفضله على كل شيء آخر.

فأجابته متظاهرة بجهل معناه تمامًا، وقالت: إن البيت بيتك يا سيدي، وأنت مخير في البقاء وعدمه، ومن أنا حتى تطلب السماح مني؟!

فقال فؤاد مكررًا: إني أعني أن … أن تسمحي لي بالبقاء هنا في هذه الغرفة.

عند ذلك رأت الفتاة بأن وقت المناضلة والوقوف بوجه هجمات التجارب قد أتى، فاستجمعت كل قوى نفسها، ونظرت إليه نظرة من وقف مناضلًا عن النفس وذائدًا عن الشرف والواجب بكل قواه وقالت بصوت رزين: كلا يا سيدي، إن هذا ما لا أقدر عليه؛ لأن مقامي كخادمة في البيت لا يسمح لي باستقبالك في غرفتي وبانفراد وبغياب سيديَّ والديك … لأن هذا ما يحمل سائر الخدام على الشك والظنون، ويدعو إلى تغيظ والديك صاحبَي الفضل عليَّ وخرق حرمة شرفي وخيانتي بواجب إعطاء المثل الصالح لغيري من الخدم.

ولم يخفَ على بديعة ما أحدثه كلامها بقلب الشاب من اليأس والقنوط؛ إذ نظر إليها وقال: إن طلبي لم يظهر لي بالخطارة والعظمة كما ظهر لك، ولو افتكرت بأنني سأزعجك بكلامي وأسبب لك إساءة الظن لما تكلَّمْتُ قط، ولكنني قلت ما قلت بقصد سليم؛ إذ أي بأس على فتاة عزباء مثلك إذا خاطبت شابًّا أعزب مثلي سواء كان على انفراد أم أمام الناس؟!

– لا بأس من هذا يا سيدي مع من كانت في غير مقامي، فهل نَسِيتَ بأنني خادمتك؟

ولم تنته بديعة من كلامها حتى رجع أمل الشاب إليه؛ إذ ظن أن بديعة تتخذ كلامها هذا حيلة للتوصُّل إلى معرفة مقاصد الشاب وامتحانه. أما هي فلم تفتكر في هذا قط، بل إنها تكلمت كما افتكرت، وأكثر البلايا تأتي من الصدق وحرية الضمير وبساطة القلب، فقال: إنني أخاطب شخصك ولم أفتكر أبدًا في مقامك؛ لأن المقام لا يصيِّر الشخص، بل الشخص يصيِّر المقام، وأنت بآدابك وفضيلتك «سيدة» بكل معنى الكلمة، وبالرغم عن هذا المقام الذي لا أحب أن يكون حجر عثرة في سبيل صداقتنا. وكلامك يدل على أنك لا تثِقين بشرفي ولا باعتبار الناس لشرفك، مع أنه من الخطأ أن نحلَّ الحقيقة محل الوهم يا سيدتي.

فحركت هذه الكلمة الأخيرة كامن الألم في قلب الفتاة؛ لأنها لم تكن سمعتها من رجل قبله، وعرفت صدق كلامه من وجهه فأجابته: إن لطفًا كهذا نحو فتاة خاملة مثلي قد يخدعها بنفسها لو كانت غير خبيرة بالأحوال، أما أنا فأقول بأنك إن أجزت هذا وحللته لي فأبواك والناس وأنا ذاتي نحرِّمه، ونحرِّمه بحق.

فعجب الشاب من محافظتها على واجبات الحشمة والأمانة والأدب، وعوضًا عن أن يخفف امتناعُها من حبه أو يغيظه، زاده رغبةً بمحادثتها ولطفًا معها فقال مبتسمًا: إذا كنت لا تسمحين لي بدخول غرفتك فاسمحي لي بمحادثتك على تلك الشرفة؛ لأن لي ما أقوله لك، ولعمري أي بأس من وقوفنا هنا منظورين من كل الخدم؟!

فقالت له: إن هذا الأمر كذلك يا سيدي، فإذا كان لك ما تقوله لي فعليك أن تبلغه لوالدتك وهي تقوله لي؛ لأنني شديدة الحرص على واجب الأمانة بكل شيء، وأنت شريف فلا تظلمني.

فنظر إليها متعجبًا من قولها: «بلغه لوالدتك.» وقال في نفسه: أهي جاهلة أم متجاهلة يا ترى؟! وانثنى راجعًا بدون جواب.

رجعت بديعة إلى غرفتها وأغلقت وراءها الباب وفتحت كتابها ثانية لتقرأ فيه، فلم تقدر على ذلك؛ لأن أفكارها كانت اتخذت لها مجرى آخر، وقد يلحظ القارئ اللبيب عظم التضحية التي ضحتها بديعة حبًّا بواجب الأمانة؛ إذ لا شيء في العالم يمنعها عن محادثة الشاب الذي تحبه وهو أعزب مثلها، غير افتكارها في أن عملها ربما جرَّ عليها غيظ سيدَيْها، وجرح قلبيهما، وهي لا تريد ذلك لهما مكافأة على أفضالهما عليها، فرمت الكتاب من يدها وقالت: سعيد هو القويُّ الذي يقدر على الوقوف بوجه كل شيء من شأنه أن يخرق حرمة الشرف والواجب.

أما فؤاد فإنه لم ييأس كل اليأس من محادثة بديعة في ذلك النهار، فلما ذهب من عندها خطر له خاطر فذهب حالًا إلى الحديقة وهو يقول: لا يجب أن تخضع قوة الرجل لقوة المرأة، فإن خذلت من مخاطبتها يجب أن أستعمل معها الحيلة وأكون بذلك «دفعت لإحدى النساء من عملتهن»، وكان يعرف شدة حرص بديعة ووالدته على زهور الحديقة وأشجارها التي كانتا تعتنيان بها بنفسيهما، ولما عرَف هذا ضحك في سره وذهب مفتشًا عن أكبر غرسة فيها، فوقعت عينه على شجرة من الفل المكبس ومن أكبرها في الحديقة، وللحال اقتلعها ورمى بها إلى الأرض وصاح بصوت عالٍ إلى أحد الخدم وكان غلامًا «مجذوبًا» يصح أن يكون أعمى بصر البصيرة لا ينظر ولا يفهم، ولما أقبل الغلام قال له فؤاد بغضب وهو مقطب حاجبيه: من فعل هذا يا سليم؟ ومن اقتلع شجرة الفلِّ؟

فأجاب الغلام متلجلجًا: لا علم لي بذلك يا سيدي؛ إذ إنني لا أدخل هذه الحديقة مع أغلب الخدم بتنبيه من سيدتي والدتك ومن بديعة.

فقال فؤاد بغضب أيضًا وهو يكاد يضحك من تظاهره الذي أرجف ذلك الخادمَ المسكين: إذن اذهب وأخبر بديعة بأنك وجدت هذه الفلة مقلوعة ومرمية، وإياك أن تذكر لها عن وجودي هنا.

فذهب الغلام وردَّد كلام سيده من أنه رأى شجرة الفل مقلوعة على أذني بديعة، فلم تنتبه لهذه الحيلة، ولشدة أسفها على تلك الفلة أسرعت إلى الحديقة ووقفت فوقها مبهوتة حزينة.

وبينما هي واقفة فوق تلك الفلة تتأمل بها، كان فؤاد مختبئًا وراء شجرة ينظر إليها متأملًا أيضًا، ويقول في نفسه: إن كثيرين من الرجال المجانين قد قتلوا نفوسهم وغيرهم انغلابًا من حبهم، فلا تحزني يا عزيزتي على هذه الفلة وإن كانت عزيزة عليك، فهي ليست أعز من حديثك على قلبي. وبسرعة عجيبة مشى بهدوء إلى أن وصل إليها، وقال بلطف: من يا ترى فعل هذا الفعل بهذه الفلة؟

إذ ذاك عرفت بديعة الحيلة؛ لأنه كان بصوت ووجه فؤاد ما دلَّها على ذلك، فرشقته بنظرة عرف منها بأنها قالت له: «أنت هو الفاعل.» ولما ضحك همَّت بالرجوع فمسك بيدها وقال: أرجو أن لا يغيظك هذا الأمر؛ لأنه وإن يَكُ عظيمًا فالدافع عليه أعظم.

فقالت بديعة بأسف: يا ليتك استعملت غير هذه الحيلة واتخذت غير هذه الفلة الجميلة واسطة للتوصل إلى رغباتك، أما الآن فاسمح لي بالرجوع يا سيدي؛ لأن سبب امتناعي عن محادثتك لم يكن من المكان، بل من الشيء الذي يصير في المكان، وحيث إن الشيء هو ذاته فأنا غير قادرة على إجابة سؤالك.

فقال لها: أرجوك أن تقلعي عن هذا العناد؛ لأن كل قصدي منك هو محادثتك بأمر ذي بال وطلب رأيك فيه، وأنت بعنادك هذا تزيدينني في الأمر رغبة وتزيدين نفسك احتقارًا، فما هو الداعي يا ترى؟!

إذ ذاك افتكرت الفتاة في أمرها مع الشاب، فعرفت بأنه سيتابع هذا العمل إلى النهاية، ولربما حدث من سعيه وراء محادثتها ما لم يحدث من المحادثة نفسها، فقالت: إني أعرف ما سوف يحدثني به وأرى من نفسي قوة على الرفض؛ فلا يجب إذن أن أرفض مخاطبته، بل أسمع حديثه الذي يكون فصل الخطاب لأني أقدر على إقناعه بالبرهان الصادق بأن الأمر الذي يطلبه مستحيل؛ لأن اقتراننا — وهذا ما سيطلب — مجلبة للتعاسة والكدر لجميع العائلة ولنا أيضًا؛ لأنه من العبث أن يعيش الإنسان بين من يكون قد كدَّرهم وقد أصبحوا لأجله تعيسين، ولا سيما متى كان هؤلاء ممن يُسأل عنهم كالوالدين. وعلى أمل أنها «تقنعه» بالعدول عن عزمه نَوَتْ أن تسمح له بقصِّ حديثه عليها، ولا غرو إذا غلطت بديعة هذه الغلطة التي تكون باب الحب الذي متى فتحه الإنسان لا يعود أمر إغلاقه سهلًا كما يظن؛ لأنها كانت فتاة طاهرة القلب لم تَذُق الصعوبات لتعرف طعمها، ولطالما فعلت فعلها كثيراتٌ من النساء الفتيات النقيَّات القلوب؛ إذ يتعرض سبيل معيشتهن شخصٌ فيرين ميلًا منه إليهن، ويعرفن بأن الخطر محدق بهنَّ من هذا الميل، ولكنهن يتساهلن ويَقُلْنَ: لا بأس من هذه الملاطفات، لا بأس من هذه الابتسامات، لا خوف من هذه الكلمات؛ لأننا قديرات على «إقناع» هذا الرجل متى حدثنا بأمر الحب. ولكن وا أسفاه! فإنهن يكن قطعن نصف الطريق تقريبًا وهنَّ لا يدرين، فإذا دنا الوقت الذي يحسبن من نفوسهن المقدرة على محاربة ذلك الميل الذي يبدو صغيرًا تقدر المرأة على ملافاته، ولكنه لا يلبث أن يكبر بتساهلها، فتصبح المقدرة دونه، وتعرف غلطها وتندم عليه ولاتَ ساعةَ مندم. لتحذر الفتياتُ من هذا؛ لأن المرأة التي لا تحب أن ترى ميلًا من شاب أو رجل ما أو التي ترى خطرًا ما عليها أو عليه أو على سواهما من ذلك الميل، يجب أن تقطع أول أملٍ منه لِئَلَّا يكبر وينمو ويمتد ويصبح شجرة بل دوحة عظيمة تُظل كثيرين بأغصان التعاسة المتفرعة منهما، ولا يعود قلعها بالإمكان.

ومن هذا النوع كان فكر بديعة بإقناع فؤاد، ولذلك التفتت إليه وقالت بلطف: أرجوك إذن أن تتكلم إذا كان لا مفر من استماع هذا الكلام. قالت هذا وتقدمت نحو غرسة من الورد، وبدت تنقيها لتشغل نفسها عن النظر إليه، فتبعها هو ووقف بجانبها لينظر إليها بلهفة ويتأمل بيديها الناعمتين اللتين كانتا تشتغلان الأشغال الشاقة في البيت.

وسكت كل منهما يتفكر برهة، ثم تكلَّم فؤاد أولًا فقال: إنني كنت أحفظ مجلدًا لأقوله لك من ساعة، أما الآن وقد وقفت بجانبك ودعيت منك للكلام فلا أقدر عليه، فهل لك بتنشيطي بكلمة رضى واحدة عمَّا أقوله تكون لي مقويًا على الكلام؟

فقالت بديعة: إن سؤالك لغريب، إذ أَنَّى لفتاة مثلي أن تعلم الغيب لترى بكلامك رأيها وعَمَّا إذا كان يستحق الرضى أو الرفض.

فقال فؤاد وقد استبشر من جوابها خيرًا: إنني أعشق جرأتك الأدبية يا بديعة؛ لأننا نحن الرجال نعتبر ما لنا بغيرنا إذا لم نكُن نظن أن ذلك الغير قادر عليه مثلنا، ولكن ألم ينبئك قلبك بما سأقوله لك؟ فقد كنت أظن أن اللبيب من الإشارة يفهمُ.

– إن الفهم من الإشارة شأن اللبيب يا سيدي، أما أنا فلست لبيبة ولا قلبي ينبئني بشيء، وهَبْ أنه فعل فليس من الممكن أن يكون صدى أفكاري؛ لأن القلوب تختلف بأميالها وشواعرها.

– إذن لقد كذبت الأمثال القائلة: «من القلب إلى القلب دليل.»

إذ ذاك سكتت بديعة؛ لأنها لم تقدر أن تكذب، أما فؤاد فإنه بَقِيَ صامتًا ينتظر جوابها، فلما لحظ بأن لا جواب على كلامه خطا نحوها بضع خطوات وقال لها بصوت متهدج: أيمكنك التصديق بشرفي والوثوق بصدقي يا بديعة؟

فنظرت إليه الآن وقالت بجرأةٍ: لا يمكنني الجزم بهذين الأمرين؛ لأنني لم أختبرهما فيك، ولكن يمكنني القول بأني أظنهما فيك إذا اقتفيتَ أثر والديك الكريمين.

فنظر إليها الشاب بإعجاب وقال: سواء كنت تقصدين أم لا، فإنك بكل كلمة تكبلينني بقيود الإعجاب بك والهُيام بأخلاقك، فلله دَرُّكِ ودَرُّ صديقك يا بديعة الشريفة، فاعلمي يا عزيزتي بأنني سوف أجعلكِ على يقين من شرفي وصدقي متى قلت لك الآن بأن حبي لك عظيم وبأنني أتوسل إليك بأن لا ترفضي تضرعاتي الحارَّة وآمالي العظيمة بالاقتران بك، فتعلمي في الاستقبال إن كنت شريفًا وصادقًا أم لا.

ولزيادة دهشته نظرت إليه بديعة بكل رزانة مقابلةً اضطرابه بهدوء وعدم اكتراث، ليس لأنها كانت أقوى منه أو لأنها لم تحبه، كلا، فقد كانت دونه في الأمرين، بل لأنها كانت تنظر إلى الأمر بغير العين التي كان ينظر بها هو. هي كانت تحسبه «ضد الواجب»، وهو كان يحسب حبها «واجبًا»، وهذا ما جعلها تقابله بغير حفول رغمًا عنها وتقول له بهدوء: إن طلبك يا سيدي شرف أكبر لهذه الفتاة الخاملة؛ ولذلك لا أقدر على إجابته لأن الأمر فوق طاقتي.

– فوق طاقتك! إذن أنت مقيدة.

– نعم بواجب الأمانة نحو البيت الذي أنا فيه، وله فضل عليَّ ونحو الشخصين الكريمين اللذين أدعوهما سيديَّ واللذين لا أخونهما، وأكسر قلبيهما ولو اضطررت أن أموت.

– هل هذا هو المانع الوحيد الذي يمنعك عن إجابة طلبي؟ وهل ليس من موانع أخرى سواه؟

– نعم إن هناك مانعًا آخر وهو عدم المناسبة، ووجود التفاوُت بيننا كما سبقت وقلت. فقال فؤاد بابتسام: أما المانع الأول فسهل زواله؛ لأن والديَّ يحبانني، ومتى عرفا أن سعادتي الوحيدة هي أنت فلا يحرمانني منك، ولا سيما بعد أن يتحققا بأن العناد لا يجدي نفعًا وأن الرضا أوفق في أمر لا بد منه. أما الثاني فلا أراه يستحق الجواب عنه، إذن لقد زال المانعان، وليس هذا ما يهمني، بل كل همي هو أن أعرف ما إذا كنت تحبينني، وعمَّا إذا كنت غير مقيدة بعهد ما مع أحد، فهل لك أن تزيلي هذين المانعين من جهتك كما أزلتُ أنا ذينك من جهتي؟

وكان يتكلم والصدق والجِدُّ ظاهران في عينيه، ولهما نغمة في صوته اهتزت لها أوتار قلب بديعة التي خافت من لهجته أكثر ممَّا خافت من أمر آخر، ولم يَعُدْ لها همٌّ بغير التخلص منه، ولو مهما كلفها الأمر. وفيما هي مفكِّرة في ماذا تجيبه سمعت صوت عربة آتية نحو البيت، فقالت لفؤاد بلهفة: إنني أسمع خرير دواليب العربة فأظنهم قد أَتَوْا، فأرجوك أن لا تَدَعَ والدتك تعرف بشيء إلى الغد.

فقال فؤاد: لا أقدر أن أعدك قبل أن أسمع جوابك. فقالت: ستسمعه في الغد، فأتوسل إليك أن لا تطلع والدتك على شيء، وهذا هو أول الأوقات التي أقدر بها على اختبار «صدقك وشرفك»، عدني …

فابتسم فؤاد؛ لأنه لم يكن يحسب رضا بديعة صعبًا، وقال لها: لك ما تريدين، ولكن لا تنسي بأنني اعتدتُ أن آخذ أثمان أعمالي غالية، وثمن وعدي الآن سيكون أغلاها منك، فلا تنسَيْ هذا … قال هذا وبديعة مارة من أمامه مرور العصفور في الهواء، فلم تسمع كل كلامه.

ولم تكد تدخل غرفتها حتى رنَّ في أذنيها صوتُ سيدتها وهي تقول لفؤاد: ما الذي رجع بك بهذه السرعة يا فؤاد؟!

وقبل أن يجيب فؤاد على كلام والدته سمعت صوتًا آخر يقول: أرجعه شوقه إلينا! فتأثرت بديعة من هذه الكلمات لأنها خرجت من فم نسيب، واضطرب قلبها من هذا الشاب الذي لم تحب أن تنظر إليه أو تكلمه من حين رأته لسبب لا تعلمه، وظلَّت واقفة وقلبها يَخْفِقُ وهي منتظرة لترى جواب فؤاد الذي قال: إني لم أجد صديقي، ففضلت الرجوع على انتظاره.

فعجبت بديعة في كيف لم يُجب فؤاد نسيبًا على كلامه «المبطن»، وقالت في نفسها: كأنه لم ينتبه. ولكنها أخطأت؛ لأن فؤادًا كان أدرى بأخلاق ابن خالته منها، كان يعرف كم هو شديد الغيرة منه ولكنه كان يداويه بدواء ناجع، هو أن يسكت ولا يجيب على كلامه حتى لا يفتح له بابًا للتَّشَفِّي، وكان يعمل العمل الذي يريد عمله والذي يقهر نسيبًا ولا يكترث لما يقوله، أو أنه يتهكم عليه به إلى أن يتم ذلك العمل فيدعه يحارب نسيبًا بما لا يقدر هو عليه بالكلام.

اختفى أثر أصوات الجميع من الدار إذ دخلوا الغرفة، ولكنه بقي يرن في أذني بديعة التي انطرحت على كرسيها تحارب أفكارها، ووضعت يديها على قلبها لتهدئ نبضاته المتتابعة عند سماع كلام سيدتها التي حسبتها تعني به شيئًا، وسواء ارتابت السيدة مريم برجوع فؤاد أم لا فإن بديعة حسبتها هكذا؛ لأنَّ المذنب كثيرًا ما يجلب الهم لذاته وكثيرًا ما يُفشي سره بأخذه كلام الناس المنطبق عليه تأنيبًا له وبظهور التأثر عليه منه، وقد قيل: «من تحت إبِطِه مسلة تنخسه.» والحق يقال بأن بديعة لم تكن مذنبة إلا بعين نفسها؛ لأن ما حسبته هي ذنبًا تستحق عليه القصاص الكثير لم يكُن ذنبًا على الإطلاق، بل هو أمر طبيعي يقع بالرغم عن الإرادة.

أي ذنب اقترفته تلك الفتاة الطاهرة باستماعها كلام فؤاد الذي أحبها حبًّا طاهرًا هو ربيع حياة النفوس الشريفة؟! وأي أمر فظيع أتته بالشعور بحبه وهو أمر طبيعي أو بالأحرى ثمرة النفوس الشريفة التي لا بد منها مرة واحدة بالحياة؟ ماذا عَمِلَتْ حتى بكت وتنهدت ووبخت نفسها؟ وبعد أن كفَّرت أو ظنت أنها كفَّرت عن ذنبها عزمت على أن تُتِمَّ التضحية بشجاعة؛ ولذلك صممت على أن تذهب في تلك الساعة إلى والدة فؤاد وتقص عليها قصتها، وتطلب منها أن تسمح لها بالذهاب من بيتها تلافيًا للأخطار من بقائها فيه وهربًا من ويلات مقبلة، ولهذا القصد كانت قد طلبت من فؤاد أن يكتم الأمر عن والدته إلى الغد، أي إلى بعد أن تكون ذهبت هي.

هذا ما خطر لبديعة أن تعمله في تلك الساعة المظلمة؛ قيامًا بواجب الأمانة وتخلُّصًا من اللوم في المستقبل واجتنابًا لتكدير صفاء عائلة كانت تحبها، ولم تفتكر قط لا في نفسها ولا في سعادتها، فهل أشرف من تلك النفس؟ وهل أنقى وأطهر من ذلك القلب؟

وفيما هي تمسَحُ دموعَها وبقصدها الذهاب إلى غرفة سيدتها، طُرق الباب فعرفت بأن الطارق هو سيدتها، وللحال سُقط في يدها لتصورها من ستقابل وكيف يجب أن تقابلها، وتصورت محبَّة تلك السيدة لها وحنوَّها عليها، وكيف قضت في خدمتها أيامًا سعيدة كانت تعاملها في أثنائها معاملة أمٍّ لبنتها، فذمَّت الحبَّ الذي اضطرها إلى مفارقة ذلك البيت السعيد وخسارة حب تلك الوالدة الكريمة. ومجرد افتكارها هذا أَضْعَفَهَا، فذرفت الدموع ثانية ووقفت مكانها وقد سها عن بالها أمر الباب إلى أن طُرق ثانية، فأسرعت إلى فتحه، فرأت واقفة عليه تلك السيدة المتعظمة، ورأت وجهها الذي ظهر باردًا باسرًا وقد كان قبل تلك الساعة مملوءًا من الحنو والحب واللطف. ولم تقوَ بديعة على ذلك المشهد، فاقشعرَّ بدنها، وأحست بحمى داخلية أحرقت قلبها وصعدت إلى أذنيها وخديها.

ومن الغريب أنه لم يكن قد ظهر شيء يدل على حدوث ما من شأنه أن يجعل كل هذا الاضطراب في ذلك البيت، وما أحدثه إلا الوهم فقط؛ لأن السيدة مريم كانت قد ارتابت في رجوع ولدها إلى البيت بدون انتظار، وفي حين غيابهم ظنت أن في الأمر حيلة أو سرًّا وزادها افتكارًا وتصديقًا لظنونها ما رأته على وجه فؤاد من دلائل السرور والفرح، فأرادت أن تتحقق الخبر فأتت إلى غرفة بديعة وهي لا تعرف شيئًا، ولكن هل لولدها علاقة مع غير بديعة؟ كلا. وكان منظرها البارد مسبَّبًا عن انقباض طبيعي في النفس مما مر عليها، فلما لحظته بديعة خافت وظنته نتيجة معرفتها بالأمر، فاضطربت وبكت، فزاد هذا في ارتياب السيدة مريم. ولما رأتها على تلك الصورة دخلت غرفتها وقد تحقق ظنها بأن وراء الأكمة ما وراءها، فأخذتها بيدها ومشت معها إلى مقعد هناك فجلستا. كان منظر تينك السيدتين مؤثرًا للغاية؛ لأن بديعة كانت محمرة العينين مطأطئة الرأس يظهر في عينيها ووجهها انكسار قلبها وموت نفسها، والسيدة مريم تنظر إليها ببرودة وبكره، إن لم يكن «بغضًا» فهو أول درجات البغض، وكُلٌّ منهما تريد أن تتكلم ولا تحب أن تكون البادئة بالكلام، وبعد أن ساد بينهما السكوت عدَّة دقائق رأت بديعة من نفسها ضعفًا على الصبر، فارتمت من مجلسها على قدمي سيدتها وقالت: أشكر الله على مجيئك يا سيدتي، فقد وفرت عليَّ الذهاب إلى غرفتك وعرض همومي الظاهرة بوجهي وتعاستي على الغير.

فقالت سيدتها بهدوء وشيء من عدم الاكتراث: وماذا تريدين مني؟

فاضطربت بديعة، وفي هذه المرة لم تمسك دموعها عن الانصباب، فسالت من عينيها كالوبل، وقالت بصوت أضعفه البكاء: سامحيني يا سيدتي على أمر وقع بالرغم عني.

وكان هذا قصد السيدة مريم أن تعلم «ماذا صار»، فقالت لها متظاهرة باللطف: اجلسي وأخبريني القصة كما هي يا بديعة.

فشعرت بديعة بأن الحين قد حان، ولكنها لم تُبالِ كثيرًا؛ لأنها كانت قد قطعت مسافة من الطريق، وصممتِ النية على شُرب تلك الكأس مهما كانت مُرَّةً، فجلست ثانية وسردت لها حديثها مع فؤاد كما وقع، ولما انتهت من كلامها قالت: يصعب عليَّ يا سيدتي أن أترك من كانت لي كأم حنونٍ، مَن أنا مديونة لها بأيام سعيدة، ولكنه يهون عليَّ هذا الأمر كثيرًا، وكل أمر آخر متى عرفت بأنني سأترك قيامًا بواجب الأمانة وحبًّا بعدم تكدير صفاءِ معيشتك، فاسمحي لي بأن أذهب في هذا الليل إلى حيثُ لا يَعلم بي أحد، ومتى ذهبت يسلوني ولدك وترتاح أفكارك وأكون أنا قمت بواجب نحوك، فأرجوكِ الآن أن … أن تصفحي عن ذنبي الغير مقصود، وأن تعتبري هذه التضحية التي قد ضحيتها لأجلك.

فقالت لها تلك السيدة بغضب خفيٍّ: إذن أنت تحبين فؤادًا كما هو يحبك!

أجابت بديعة: ماذا يهمك من هذا الأمر يا سيدتي متى كان قولي لك بأني سأغادر بيتك إلى مكانٍ لا يعلم به ولدك؟!

لم تكن السيدة مريم خالية من الهموم، بل كانت قد نالت نصيبًا وافرًا منها لأن أختها الوحيدة أم نسيب ماتت في عنفوان صباها، ومات لها ولدان أكبر من فؤاد، ولكن الهم الذي اعتورها من سماع قصة بديعة كان أعظم الهموم التي مرَّت عليها إلى ذلك الحين، فاضطربت لأجله كل حواسها وبقيت صامتة نحوًا من نصف ساعة تفتكر في ما يجب أن تفعله، فقالت في نفسها: إذا سمحت لها بالذهاب بدون علمه ربما يغضب ويتبعها. وما يقدران على فعله وهما بعيدان عني لا يقدران عليه الآن.

وبعد هنيهة نظرت إلى بديعة وقالت: لا يجب أن تذهبي اليوم، بل اصبري إلى أن ننظر في الأمر، ولا تسمحي لفؤاد بمخاطبتك. ثم قامت وخرجت من الغرفة ولم تعد تنظر وراءها لترى تلك الفتاة الطاهرة بديعة، من كيف أنها جثت على ركبتيها وصلَّت بحرارة كلية لله تعالى كي يهبها قوة النفس والجسد ويهديها إلى الصراط المستقيم. ومن البديهي أن بديعة تضرعت إلى الله كي يفرج همها ويخلصها منه، اللهم حتى لا يكون بتكدير أو ضرر الغير؛ لأنها لم تحب أن تبني قلعة سعادتها الخاصة على أنقاض سعادة الغير العامة، وهذا هو الشرف الحقيقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤