الفصل السابع

السعادة الوهمية أو معيشة الأحلام

بزغت شمس النهار، فاستقبلها الثلاثة أو بالحريِّ الأربعة بقلوب تخفق اضطرابًا، وبعد الفطور ونزول الخواجة منصور ونسيب إلى السوق كما هي العادة، وبقاء فؤاد عند والدته؛ فاتحها بأمر نفسه فلم يظهر عليها القلق الذي كان يتوقع ظهوره لو كان كاشفها بالأمر مباشرة، ولما سمعت كلامه جاوبته بما كانت تحلم به وتدرسه طول ليلها من أنها لا تجد أعظم سرورًا من اقترانه ببديعة إذا كان يحبها حقيقة؛ لأن الفتاة متهذبة وهي تستحقه … ولكن يجب أن يبقى الأمر سرًّا مكتومًا عن والده اتقاءً لغضبه، ومن بعد أن يرجع فؤاد من المدرسة تكون هي بتلك الفرصة قد سعت لديه بالأمر واستعطفت خاطره.

ولجهل فؤاد ما مرَّ على والدته في ذلك اليوم، ولنقاوة قلبه، لم يَرْتَبْ قط في صدقها، فرضي ولكن بعد أن تذهب معه بنفسها إلى بديعة وتطمئنها، فمانعت والدته بادئ بدء؛ لأنها اضطربت من مقابلة الفتاة بهذه النية، ولكن ولدها أصرَّ على عزمه وقال: إن بديعة لا تصدق ما لم تذهبي أنت بنفسك إليها. فذهبت معه إتمامًا لحيلتها وتقيُّدًا بقولها، ولما دخلا غرفة الفتاة وجداها متهيئة ولابسة ثياب السفر ومنتظرة جواب سيدتها وهي ذابلة العينين منهوكة القوى، يظهر عليها أنها كانت في عراك قوي طَوال ليلها، ولما فتحت الباب لهما كادت تقع من الاضطراب عند دخولهما مع أنها رأت على وجه فؤاد ما يدلُّ على سرور.

ولم يخفَ على فؤاد منظر بديعة واستعدادها، فترك يد والدته واقترب منها مستغربًا وقال: ما لي أراك بهذه الحالة يا بديعة؟ وماذا جرى؟ فها هي والدتي، قد أتت معي لتبرهن لك عن عزمها على الرضى باقتراننا وعن احتقارها لما حسبته «سببًا» لعدم الاقتران، وهو «المقام» الذي هو مقام العقل فقط، وستكونين منذ الآن «ابنة» لا «خادمة» لها.

فاحمرَّ وجه بديعة خجلًا، وجوابًا عن كلامه نظرت إلى سيدتها نظرةَ استفهام، فابتسمت هذه قائلة: إن فؤاد صادق في ما يقوله؛ لأن إرادته هكذا تقضي، ثم اقتربت من الفتاة، وإذ ألقت شفتيها الباردتين على جبهة الفتاة لتقبلها اضطرمت بقلب الفتاة نار لم تكن نار السرور ولا السعادة، فخافت ورجعت إلى الوراء بضع خطوات.

وشكَّت بديعة في إخلاص سيدتها؛ لأن منظرها والرضى العاجل في مسألة كهذه دلَّا الفتاة على أن في الأمر رِيبة، ولكنها لم تحسب قط أن القصد هو الإيقاع بها؛ لأنها وثقت بشرف سيدتها، وزين لها قلبها النقي أن ترضخ غير مترددة وتسلم أمرها لله.

وكان فؤاد قد ارتاب من نظر المرأتين المعنويِّ الواحدة إلى الأخرى، فدنا من بديعة وقال: ما بالك صامتة لا تجيبين؟

أما هي فبقيت على سكوتها ولم تجب، فقال ثانية: هل من مانع عن الجواب وقد كان عذرك الوحيد رضى والديَّ، وهل والدتي الآن تنوب عن والدي وعن نفسها بهذا الأمر؟

إذ ذاك سقطت من عيني بديعة دمعتان كحبتي لؤلؤ أثر منظرهما في قلب سيدتها أكثر ممَّا أثَّر في قلب ابنها، فلم يعد بإمكانها الوقوف ولا تصوُّر قلبين طاهرين محبين يحومان كفراشتين حول نور تلك السعادة المزعومة، ولا يعلمان بأنهما قريبًا يسقطان على نار مُحْرِقَةٍ لا على نور مضيء من قصدها الشرير، وخوفًا من افتضاح أمرها وحبًّا بالتخلُّص من ذلك الموقف المزعج قالت: يظهر أن بديعة تخجل من الكلام في حضوري فسأذهب عنكما.

وظنت مريم أن ذهابها من أمامها ينسيها مقاصدها، ولكنها نسيت بأنه ولو احتجب النظر عن مرأى نتيجة الأعمال فإن الضمير لا يموت عن الشعور ولو مهما كان مصابًا.

فسُرَّ فؤاد لذهاب والدته التي أخلت له الجوَّ لمخاطبة بديعة؛ الأمر الذي حقق له صدق رضاها عنه، وكان الأمر بالعكس مع بديعة التي مع خوفها من وجود سيدتها، فضَّلَتْ بقاءها على تركها إياها مع فؤاد بوقت هذا الاضطراب، ولم تكُن بعدُ على استعداد لمقابلته.

وكان الشاب والفتاة لا يزالان واقفَيْن، فلما أقفل الباب وراء الذاهبة تقدم هو إليها، وقال بصوت مرتجف: بديعة ارفعي نظرك إليَّ.

عند ذلك نظرت إليه الفتاة قائلة: ماذا تريد يا سيدي؟

فقال متنهدًا: ماذا أريد؟ آه … ما أحلى هذا السؤال وما أمرَّه! وما ألطفه وما أقساه! فكأنك لم تفهمي للآن مرادي.

عند ذلك شعرت الفتاة بوجود التصريح، وعرَفت أن السكوت لا يعدُّ في ذلك الوقت حشمة بل جبانة؛ لأن للكلام أوقاتًا لا ينفع فيها السكوت، كما أن للسكوت أوقاتًا يعزُّ فيه الكلام. وقالت بصوت مرتجف: آه يا سيدي إن قلبي قد اضطرب لصوت والدتك وهيئة وجهها؛ لأني لا أقدر أن أتصور أنها تحبني الآن كما كانت تحبني قبلًا.

فقال الشاب بفرح: إنك مخطئة يا حبيبتي؛ لأن والدتي تحبك الآن أكثر من قبلُ.

– هذا ما تظنه أنت ولا أُصَدِّقُهُ أنا؛ لأنني قد ذُقْتُ طعم حبِّها على الحالين، وأقدر على معرفة الحقيقي من الوهمي منه.

فقال فؤاد بشيء من الحزن: وماذا يهمك إذا كانت محبتها قد تناقصت قليلًا الآن؟ أليس رضاها وحده الذي يهمنا ومحبتها تأتي تدريجيًّا مع الأيَّام؟ فأرجوك يا بديعة أن لا تكدري سماء أفكاري الصافية بأوهامك هذه؛ فإنني أحسَب نفسي أسعد الناس الآن، فدعيني أبقى هكذا.

فأصاب هذا الكلام مكان الجرح من قلب الفتاة، ولكنها أظهرت عدم الاكتراث؛ اندفاعًا بعوامل الحِشمة وحب الاعتدال، إذ إنها كانت تعلم بأن الحشمة وُجدت لترافق المرأة في أعمالها وأقوالها وأفكارها، وأنه متى وُجد الاعتدال في الحالتين لا تكون قط أسيرة الكبرياء والقنوط، بل هما يُصبحان أسيرين لها. وبعد أن سكتت برهة أرادت أن تحول مجرى حديثه إلى موضوع تقدر على التكلُّم فيه، فقالت: لم تذكر شيئًا عن سيدي والدك.

فأجاب الشاب: إن والدي مسافر إلى مصر في الأسبوع المقبل، ومن رأي والدتي أن نكتم الأمر عنه الآن؛ لأنه حادُّ الطبع، ويجب أن نحصل على رضاه بالتأني.

وكانت أقل كلمة أو إشارة تدل على التفاوُت الذي بينهما تؤلم بديعة وتجرح نفسها، فلما سمعت كلامه تنهدت وافتكرت في كيف أنها مضطرة إلى أن تحصل عليه بهوان وتذلُّل.

وأدرك الشاب موضوع أفكارها فقال: إن أمر والدي لا يهمك شيئًا يا بديعة، فكما أنه لا يهمني أنا سوى رضاك والحصول على قولك بأنك «تحبينني»، فكلميني وقولي إن نعم فنعم، وإن لا فلا؛ لأني أريد الجواب وأريده الآن.

قالت بديعة بخضوع: وهل مثلي من تقابل الفضل بالنكران، والنعمة بالغموط، والسعادة برفضها؟!

– هذه هي النقطة التي اتخذتِها محورًا تدور عليه أقوالُك. فما هذا الكلام يا عزيزتي الذي تشتم منه رائحة العبودية وعدم الاستحقاق؟ ما هذه الأوهام التي لم أقدر إلى الآن على نزعها من أفكارك، فهل أنتِ عبدة وقد تحرر العبيد؟! أو أنت حرة وكل رُوح من الله حرَّة؟! كيف جاز لك أن تحسبي حبي «فضلًا» عليك مع أنه واجب مقدس؟! ومن يا تُرى ينظر إلى هذا الوجه الجميل ولا يحبه؟! ومن يسمع هذه الألفاظ العذبة ويقدر على الاستغناء عن سماعها؟! أو من يعرف حقيقة هذه النفس المضيئة بالفضائل وراء هذا الوجه الجميل ويرى السعادة بدونهما؟! فمن هو مِنَّا بعد هذا التصريح ممنون للآخر، ومن هو منا عبد للآخر، إذا كانت العبودية جائزة وهي محرمة بكل شيء؟! أأنا لأنني أقدم لك قلبًا لم يخامره الحب قبل أن رآكِ وعقلًا لم يقدر فضل النساء الحقيقي حق قدره قبل أن أختبرك، ومالًا زائلًا مقابل ما هو أبديٌّ من فضائلك؟! أم أنت من تبادلني هذه الأمور الحقيرة بأطهر وأشرف وأذكى قلب اختلج في صدر امرأة في العالم؟!

فلم يسع بديعة إلا الابتسام من كلامه هذا، وتطرُّفه في الوصف، فقالت: أشكر الله أني ثقيلة الجسم «والدم أيضًا»، ولولا هذا لكنت أنت واقفًا مدهوشًا الآن إذ تراني طائرة في الجو من كلامك، ألا تعرف بأن هذه مغالاة كثيرة وبأنني لا أستحق هذا الوصف؟

فقال لها الشاب: أرجو أن تعرفيني أكثر وأن لا تَخفى عليك عواطف قلبي؛ لأن أعظم سعادة للمحبين أن يفهم كل منهما حقيقة الآخر وجوهره، فأنا يا بديعة لم أَقُلْ مثل هذا الكلام لامرأة في العالم، كما أنني سوف لا أقوله فيما بعدُ، ولو أنني عَرَفْتُكِ جاهلة لما قلته لك ولو كنت أعتقده، ولكن ثقتي بعقل وشرف نفسك حملتني على التلفُّظ به وهو لا يزيدك إلا رزانة وكمالًا؛ لأنه من خصائص المرأة العاقلة أن تزين ذاتها بميزان الحكمة والعدل، فإن قيل ما هو فيها فلا يدهشها الأمر؛ لأنها تكون تنتظره، وإن وُصِفَتْ بأكثر مما فيها تحتقر الفضول من القول وتبقي على ثقتها بنفسها، بعكس المرأة الجاهلة التي لا تعرف نفسها، وأقل ثناء من الرجل سواء كان جدًّا أم هزلًا يجعل لها جناحين فتطير، ولكنها لا تلبث أن تسقط بعد طيرانها؛ لأن جناح الوهم مكسور لا محالة.

وكان قد سكن رُوع بديعة قليلًا وارتاحت إلى مخاطبة الشاب بعد جلوسها، فقالت له: يظهر لي أنك خبير بأحوال النساء، فيا للعجب من شاب مثلك لم يختبرهن ويعرف كثيرًا عن طباعهن!

– لا تعجبي من هذا أيتها العزيزة؛ فإن الله سبحانه قد جعل في الرجل خاصة هي الحب لمعرفة أخلاق النساء بأسهل طريقة طبيعية، فلا تظنِّي أن الرجل مهما يكُن عاجزًا وجاهلًا يعجز عن درس أخلاق المرأة بعد معاشرتها، وأما الذكي فإنه يقرؤها بعينيها من أول وقوع نظره عليها، وأنا ذو استعداد كافٍ للدرس الذي تسنى لي من أول نظرة إلى وجهك الجميل. ثم اقترب منها وأراد أن يدني إليه وجهها ليقبلها، فأجفلت منه وأفلتت بنزق ثم رمته بسهم من نظرها الحاد تأكد منه بأن للمرأة قدرة كافية متى استعملتها عند شعورها بالواجب تُنْسِهَا ذلك الظُّرف والدلال والنعومة، ولظنه أنه لم يأتِ منكرًا لأن هذا أمر شائع «ودارج» بين الشبان والشابات الخاطبين حسب بأن الفتاة لا تحبه، وإلا لما كانت مانعته فيه.

كأن بديعة لحظت ما يخامر قلبه، فأرادت أن تمنع الالتباس من أفكاره فقالت: أرجو أن لا يكون قد أغاظك نفوري يا فؤاد، فأنا أعرف ما هو الحب الطاهر وأُجِلُّهُ وأُقَدِّسُهُ، وقد كان ظني أن تحسبه لغة الملائكة وأن شرفه وكماله لا يكونان بغير صيانته. وأما القُبلة التي يحسبها بعض الشبان والشابات اليوم موضة، فأنا لا أعتبرها كما أنني لا أعتبر أكثر الأزياء المضرة بالآداب، بل إنني أحسبها للحشمة احتقارًا وعلى الحب عارًا.

فقال الشاب بحزن: إن طباعك تحيِّرني يا بديعة؛ فإنك بالأمس منعتني من محادثتك بدعوى أني غريب عنك، فما هو عذرك الآن وقد خطبتك وصرتُ لك وأنت لي؟!

فقالت: صحيح أننا قد تعاهدنا على الحب وصرنا خطيبين، ولكنا لا نزال غريبين الواحد عن الآخر، ومن حقي أنا أن أحافظ على شيء هو خاصتي، وأرى سلبه مني عارًا لا يُمحى، كما أنه من حقك أنت إن كنت شريفًا أن تعتبر هذه المحافظة وتُجِلَّهَا.

فنظر إليها خطيبها ورآها واقفة بعزم ثابت وهيئتها تدل على أنها تعني ما تقول، ولا أثر للتصنُّع على وجهها وفي كلامها، فقال: وهل أنت في شَكٍّ من صدق حبي؟!

– كلا، غير أنني أكرر القول بأنك غريب عني إلى أن يتم اقتراننا، وأنني بعد الآن لا أحب أن أحدثك إلا على مرأًى من والديك أو أحد غيرهما، كما وأنني لا أوافقك إلى مكان ما؛ لأن هذا من شروط الحب الطاهر التي يجب أن تحافظ عليها الفتاة وهي في بيت أبيها.

فابتسم الشاب وقد تعجب من محافظتها على قواعد الحشمة النسائية، وقال: قد رضيتُ بكل شيء تريدينه. وقد حسب أن بديعة تكون أكثر تساهُلًا في المستقبل مما هي الآن، غير أنها لم تَزِدْ إلا تعصُّبًا، بل كانت اجتماعاتهما مقتصرة على الحديث الطاهر بحضور والدتهما أو على مرأى منها كما أحبَّت بديعة. أما فؤاد فإن غيظه تحوَّل إلى سرور، وصار أشد محافظة على هذه الأمور من بديعة؛ لأن الرجل متى رأى من المرأة ميلًا إلى شيء وتحقق صوابيَّتَه، يميل معها إليه مهما يكن يبغضه في أول الأمر.

وكان حبهما ينمو مع الأيام، وهما كملاكين يرتعان في رياض الطُّهر والسَّعادة غير مباليين بشيء، حتى وبمراقبة نسيب والسيدة مريم لهما، وفي أحد الأيام كان الأربعة يتمشَّوْن في الحديقة بعد ذهاب الخواجة منصور إلى مصر، وبأثناء التَّمَشِّي انحاز فؤاد إلى جانب بديعة ونسيب إلى جانب خالته، ومشى كل اثنين معًا، فقال فؤاد لبديعة: لمَّا وقفت معك أول مرة في هذه الحديقة ظننت أن الحب يأتي دفعة واحدة كما يعتقد البعض، ولكني الآن عرفت غير هذا، عرفت أن ذلك البعض مخطئ لأن الحب أول ما يكون دخوله إلى القلب، فهو وإن يكن عظيمًا فلا يتخذ له مسكنًا إلا قرنة واحدة من ذلك القلب، وبعد المعاشرة إما أن يملأ ذلك القلب فلا يعود من سبيل إلى الزيادة أو النقصان، وإما يتناقص فيزول أثره من القلب بعد حينٍ قصير.

وكانت والدة فؤاد تنظر إليه وهو يحدث بديعة، وترى دلائل السرور واللهفة بادية على وجهه المحوَّل إلى حبيبته، بينما وجه هذه مبرقع ببرقع من الحشمة الحقيقية، وهي مطرقة بعينيها إلى الأرض. فقالت لنسيب: انظر إلى وجهيهما. وإذ نظر هذا أحس بحربةٍ طعنت أحشاءه، فأرجع نظره إلى خالته متظاهرًا بالتجاهل وقال: لأي سبب كان هذا السؤال يا سيدتي؟

فقالت له خالته: لترى الفرق بين نقاوة النية وفسادها، وليتبين لك ولي عظم عملنا الشرير.

فضحك ذلك الشاب وقال: المرأة ضعيفة ولو افتتحت الممالك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤