الفصل التاسع

بعد أن أكملت بديعة معدات سفرها خطر لها أمر، هو أن تكتب إلى فؤاد قبل مفارقتها البيت، فجلست على منضدة صغيرة كانت في غرفتها، ولما مسكت القلم لتكتب تواردت عليها الأفكار، فصار من الصعب انتقاء الأفضل منها، وكان كل قصد بديعة من الكتابة إلى فؤاد أن تجعله في ثقة من أمانتها، وتشير إليه بطرف خفي بأنها ذهبت مضطرة، ولم تحب قول الحقيقة له في هذا الظرف الوحيد؛ لأنها عرفت الضرر الذي يتأتى من ذلك. وأي ضرر أعظم من بغض الشاب لوالديه والمعيشة التعيسة من بعد ذهابها! فقالت: إنني برِضًى واختيار قد قدمت سعادتي على مذبح الواجب بشجاعة، فلا يصح أن أضعف وأوهن عزمي الآن. وكانت بديعة ذات تهذيب كافٍ، تحافظ كل المحافظة على قواعد المراسلة، فأخذت ورقة بيضاء كقلبها، نظيفة كأفكارها؛ لعلمها بأن نظافة الورق من أول قواعد المكاتبة، وبعد أن أرخت كتابها واستهلته وضعت أمامها هاتين الآيتين: «إذا كتبت فاكتب ما يقضي به واجب الكتاب، وليس كل ما ترغب نفسك بثه، واكتب ما لا تخجل أن تراجع قراءته أو قراءة غيرك له.» وابتدأت بما يأتي، بخط واضح جميل:

سيدي العزيز

بعدما رجعتَ إلى المدرسة نظرتُ نظرة مدققة في ما جرى بيننا، فوجدت أن لحمة حبنا كانت الطياشة وسداه الغرور، وأننا وإن نَكُنْ خُلِقْنَا لبعضنا، بنظرنا الخاص، فلسنا كذلك بالنظر العام الذي له أكبر تأثير سيئ على السعادة في مستقبل الأيام.

ولهذا فبعد أن حدث لي ما حقق عندي هذا الظن، وبعد أن رأيت ذاتي مضطرة إلى المحافظة على حقوق وسعادة غيري أكثر من سعادتي، رأيتُ من أول واجباتي تركَ بيتكم العزيز مع البقاء على محبتك إلى الأبد. وها أنا الآن على أُهْبَةِ السفر الذي يكون بعد إتمام هذا الكتاب. أقول لك بأن محبتك لوالديك هي أوجب من محبتك لي؛ لأنهما أحباك قبل أن عرفتك أنا بعشرين سنة، ولعمري إن هذا العمل العظيم لا يكافأ بغير الطاعة والوداد.

فلا تزعج نفسك لجهتي يا عزيزي، واعلم بأنني أخرج من بيتكم وأنا أسعد من اليوم الذي دخلت إليه فيه، ليس لأنني أخرج منه مختارة، بل لأنني أوثر سعادتك على سعادتي، وهذا لا يكون بغير خروجي منه.

إن ذكرك سيكون عندي مقدسًا في الحياة، فأرجو أن لا تنساني متى كنت سعيدًا مع من تحب ومن هي مناسبة لك.

لا أعلم إلى أين يكون ذهابي ولكنه لَمكان بعيد، فلا تطمع باللحاق بي لأنك سوف لا تجدني.

إنني أكتب الآن بيد ثابتة مع أن موقفي يقلقل الجبال، فأرجو أن تكون أنت عند قراءة هذا الكتاب ثابتًا أيضًا، وأن تكون قادرًا على تصوُّر الواجب بعين مجردة، وتعرف بأنني بقوة غير اعتيادية قد فضلته على ما هو أعظم من الحياة نفسها، وإنما لا أعظم منه على حبك.

ولما كان وراء كل شيء غاية، فغايتي من إرسال هذا الكتاب إليك هي لأمرين مهمين؛ الأول: وهو لِكَي تتأكد بأنني كما أنا أناجيك في آخر دقيقة في بيتكم، هكذا سأناجيك إلى وفي آخر دقيقة من حياتي. وأما الأمر الثاني: فهو أن تعتبر جميلك عليَّ وتعرف بأن حبك هو الذي يقويني، وهو الذي سيجعل مني فتاة نافعة في الحياة؛ لأن للحب تأثيرين عظيمين: أحدهما جيد، والآخر سيئ. فمن الأول ينتج حب عمل الخير الذي تتجلى وتنبسط به صورة الحب الشريف الطاهر، التي تمثل الفضائل وتوجد في حبها تعزيزًا للحب. وعن الثاني ينتج حب الانتقام، والميل إلى الشرور والمعاصي، والانحياز إلى جانب كل رذيلة، كالبغض والانتقام والغيرة والحسد وسواها. وإذ إنني لا أستطيع أن أكون إلا من النوع الأول الذي يظهر بأنني خلقت لأجله، فالفضل بقوتي راجع إليك.

متى رجعت من المدرسة مضفورة على رأسك أكاليلُ الفخر ولم أكن أنا في البيت من أول المهنئين، فاذكرني واسأل قلبك عني، وهو يدلك بأن في العالم قلبًا كان وكائن وسيكون مخلصًا لك، والله يحفظك.

للمخلصة بديعة …

طوت بديعة الكتاب وهي ثابتة كما قالت لفؤاد؛ لأن الهدوء عند مساورة المصائب أعظم مساعد على إزالتها بحكمة وتدبير، وخرجت من بيت سيدها إلى أحد بيوت الجيران حيث سلمته لفتاة كانت لها صديقة ورفيقة، وأوصتها أن تسلمه لفؤاد عند رجوعه من المدرسة. ولم ترجع بديعة إلى تلك الدار الفخيمة التي كانت تحسبها في الأمس ملكها، وقد خرجت منها اليوم، وبعد أن تأملت في كل ما مَرَّ بها ظَنَّتْ نفسها كأنها كانت بحلم وقد استيقظت وذهب كل شيء إلى عالم الغيب، ثم استحضرت عربة وركبتها.

وكانت وهي جالسة وحدها في زاوية العربة تحارب الهموم والأكدار بقدر استطاعتها؛ حتى لا تجعل للمراقبين سبيلًا إلى التأويل. وكانت الخيل تجري بسرعة كلية ولكنها وقفت بغتة، وسمعت بديعة السائق: تفضل ادخل يا سيدي نسيب. ولما سمعت بديعة هذا الاسم اختلج قلبها وأطلَّت من العربة لترى إن كان المخاطب هو نسيب ابن خالة فؤاد، فلما وقع عليه نظرها أرجعته مضطربة. أما هو فلما دخل العربة أحسن التظاهر بأن التقاءهما كان صدفة، وهو لم يكن كذلك؛ لأن هذا الشاب كان عارفًا بما حل ببديعة وإن يكن غائبًا عن البيت بحيلة منه.

ولما استوى جالسًا ووضع رِجلًا على رجلٍ، التفت إلى بديعة مبتسمًا، وقال: إلى أين بالسلامة؟

فقالت الفتاة، وقد اجتهدت في أن تظهر هادئة غير مضطربة: إلى القرية الفلانية …

أجابها هازلًا: إذن ليس ذهابك إلى عينطورة كما ظننت؟

فقالت بديعة، وقد عبس وجهها من كلامه حتى حسبها نسيب غير تلك الخادمة الحقيرة التي كان يقول لخالته عنها بأنها خالية من الشرف والمروءة: إنني لم أجعل لك سبيلًا بكلامي إلى المزاح، فأرجوك أن تعدل عما أنت عليه.

– أرجو المغفرة منك على مزاحي، فهل لك أن تقولي لي الجدَّ من أمر ذهابك وإلى أين هو؟

– هو إلى القرية التي قلت لك عنها، حيث لي صديقة ودودة من أيام المدرسة وبودي أن أسافر برفقتها إلى أمريكا.

فملق الشاب فيها بعينيه وقال: إذن أنتِ ذاهبة من بيت خالتي ولا تعودين إليه، فهل اطلعت …

– يظهر بأنك عالم بكل شيء. نعم لقد اطلعت على مكتوب سيدي، وتركت بيته مختارة قيامًا بواجب الشرف.

فسُر نسيب في قلبه إذ عرف بأن حيلته كادت تتم، وقال: لا أعني مكتوب العم منصور، بل …

– بل ماذا؟

– بل كتاب فؤاد نفسه.

– كتاب فؤاد! لا علم لي به، وبأي معنى هو إذا كنت قد اطلعتُ عليه.

إذ ذاك ناولها الشاب من جيبه كتابًا، فلم تكد تنتهي من قراءته حتى ظهرت على وجهها الجميل علائم البأس والحنق؛ إذ نظرت خط فؤاد وقرأت كلامه، وهو الشخص الوحيد الذي ضحت لأجل سعادته ما ضحَّت، وهي تحسبه لذلك الوقت محبًّا لها، وأهمه ما يأتي: «ولم أعرف مقدار نصائح الوالدة يا سيدتي الحنونة إلا بعد أن بعدت عن البيت، وتحققت بأن أتعس الناس من لا ينظر إلى المساواة في أمر زواجه، فالآن قد ألقيت عليك اتكالي فخلصيني من تلك الفتاة بتدبيرك ورأيك.» وكانت بديعة تقرأ هذه الكلمات وكل كلمة منها تحدث في وجهها لونًا مختلفًا عما قبله، ونسيب ينظر إليها نظرة الفائز وهو يعلل النفس بالظفر.

وقد انشغل بأفكاره عنها فلم يكترث لها إذ كاد يُغمى عليها، واتقاءً لذلك اتكأت على زاوية العربة وسترت عينيها بيديها كأنها تغطيهما، حتى لا تنظر إلى صورة ذلك الحزن المخيف الذي تمثل أمامها، وقد نسيت بأن مصدره قلبها.

وكان نسيب جالسًا في الجهة الثانية من العربة مقابل الفتاة، فلما انتبه لها ورآها على هذه الحالة قام من مكانه وجلس بجانبها وأراد أن يمسك يدها ليعزيها. ولما فعل أحسَّت بديعة أن قوة جديدة قد ملأت قلبها، وبعد أن كانت قريبة من الإغماء استوت جالسة وأفلتت يدها من يد الشاب، وجوابًا على كلامه «اللطيف» قالت: إنه كان بإمكانك إخفاء هذا الكتاب عني يا خواجة نسيب؛ لأنك ولا شك عرفت بأنه قد كفاني ما لاقيت، وأنا قد تركت ذلك البيت غير آسفة على ما يحل به بغيابي مما يتعلق بي.

فقال الشاب متظاهرًا بالكآبة الزائدة: لقد كان أحب إليَّ أن أخسر حياتي يا بديعة ولا أزعجك لو لم أحسب الأمر لمصلحتك؛ لأن الحقيقة وإن جرحت فإنها تقي من جراحات كثيرة بجراحة واحدة.

وكان نسيب جالسًا في تلك العربة بجانب بديعة، وهو ذو جمال بارع قَلَّ في الرجال وجوده؛ لأنه كان أكبر من فؤاد سنًّا وأجمل منه وجهًا وأذلق لسانًا، لكن الفرق كان بين الاثنين في جمال القلب فقط.

ولو كانت بديعة من الفتيات اللواتي يخدعهن الجمال الجسدي ويفرحهن اللطف في أي وقت ومن أي شخص، لكان جمال نسيب ولطفه الكثير لها خلبَا لبَّها وأنسياها حبَّ فؤاد، ولو لوقت، ولا سيما بعد أن قرأت مكتوب خطيبها وحسبته محتقرًا حبها الشريف بعد أن قرع بتذلل باب قلبها وتوسل بكل وسيلة للحصول عليه. ولكن لطف نسيب وإظهار الغيرة على سعادتها لم يزيداها إلا حزنًا على حزنها؛ لأنها كانت أغزر عقلًا وأشرف نفسًا من أن تسلو رجلًا أحبته حبًّا شريفًا طاهرًا وتستبدله بآخر لا تعرف عنه شيئًا. فأين عمل بديعة هذا من أعمال بعض النساء اللواتي يَبُحن بأسرار رجالهن ويتكلمن عنهم وعن أَعَزِّ الناس إليهن لأيٍّ كان وقت الغيظ. ومتى رجعت المياه إلى مجاريها يعرِفن بأن ذلك السر المقدس — الذي كان يجب أن يكون مصونًا بين الزوجين حتى عن الوالدين أنفسهم — قد أصبح معروفًا من الناس، ولرُبَّمَا مدوسًا بأقدامهم فيندمن ولاتَ ساعة مندم، ولكنهن قد يعدن إلى الأمر نفسه متى غضِبن وحقدن ولا يذكرن ما جرى في الأمس.

وشعرت بديعة كأن حربة طعنت قلبها من كلام نسيب إذ ناداها: «يا بديعة» باسمها مجردًا، وكانت بديعة شديدة التأثُّر من أقل إهانة تلحقها؛ لأن مناداة المرأة باسمها مجردًا ليست من الآداب والتهذيب، إلا إذا كان المنادي زوجها أم شقيقها أم والدها. وكل رجل ينادي امرأة باسمها مجردًا ولا يكون من الثلاثة المارِّ ذكرهم يكون إما جاهلًا غبيًّا يستحق النبذ والاحتقار، وإما محتقِرًا لتلك المرأة مع أن أمه وأخته وبنته نساء، وهو يستحق الاحتقار والمقابلة بالمثل. وخطر في فكر بديعة خاطر، فقالت: لا هذا ولا ذاك ما دعاه إلى مناداتي باسمي مجردًا، بل هو أمر آخر، هو لأن من كان مثله من الناس لا يحسب ما أحسبه أنا شرفًا واجبة رعايته، بل يعده عارًا وهو «أمر الخدمة»، فيحتقر الخدام، ولو كانوا يفوقون أسيادهم أحيانًا علمًا وشرفًا وتهذيبًا وفضلًا؛ لأنهم خدام … وهل للخدام لقب؟! ولم يكن لبديعة مآرب بكل هذه الأفكار الآن، فصممت النية على مجاوبة نسيب، ولكن بحذر كلي حتى لا يصدر منها ما تندم عليه، ولا شيء ليستدعي الندم مثل الكلام الفارط متى كان منه ضرر ما.

ولما أجابته على كلامه الأخير قالت: إني أشكرك كثيرًا على غيرتك، ولكن ماذا يهم فتاة مثلي قد تركت ذلك البيت على غير قصد الرجوع إليه غير الافتكار بأنها معتبرة من أصحابه كما هي تعتبرهم.

ووجد هو للحديث الذي يريده مجالًا، فقال: إنني لم أعد أصدق بأن السماء خالية من النساء الجميلات كما يقولون.

– ولكن ما الذي حملك على تكذيب القول؟

– هو نقاوة ضميرك وحسن ظنك اللذين ستدخلين لأجلهما السماء وتخرقين نظامها …

– إذا كان الأمر كذلك كان الله يكافئ الخَيِّر خيرًا ويجازي الشرير شرًّا وهو فاعل، فمن صميم فؤادي أطلب أن يعكس هذين الأمرين لأكون سعيدة بتحمُّلي كل مشقة عمَّن أحب. قالت بديعة هذا بقصد مجازاة الشاب على تهكُّمه.

فأثار كلامها في قلبه كامن الغيرة والحقد، ولكنه عَرَف من هي التي يخاطبها، فلم يتظاهر بشيء بل تَبَسَّمَ متصنِّعًا، وقال: «هذه حالة الدنيا»، فإنها شاءت وتشاء أن تهَب بعض أبنائها ما لا يستحقون، بينما …

ثم غَيَّرَ موضوع الحديث وقال: لا أكتمك يا بديعة أنني أشبه السعادة بجوهرة ثمينة، قد توجد عند من لا يعرف لها قيمة، إما لحصوله على كثير مثلها، وإما لجهله نفاستها، بينما يكون سواه متحسرًا عليها وهي لكل غني في الدنيا، فيا سبحان الله!

فعرفت بديعة معناه، وقالت برزانة: وهب أن الأمر كما قلت حضرتك، فهل عدم معرفة صاحبها بقيمتها تذهب من هذه القيمة شيئًا؟ وهل يبخسها الناس قدرها لأجل ذلك؟

فأجاب هو مسرورًا برضاها عن الحديث قائلًا: كلا، كلا، إنَّ الجوهرة جوهرة أينما كانت، ولكن أليس الفرق بين وجودها في التراب أو وجودها على الجسم عظيمًا؟ إنها في المكان الأول جوهرة غير معروفة، وفي المكان الثاني معروفة من الناظرين. وهل من العدل أن يذهب نورها البهي الذي ربما خفي في حياة شخص قد لا يحتاج إليها وله من غيرها أضواء؟ وهل مكانها على الصدر مثل مكانها في الصندوق؟ كلا!

– إن المعنى من كلامك معروف، وكلامك عنه مصيب، ولكن بعد التحقيق عمَّا إذا كان الأمر كما قلت.

– وهل من شك في ذلك وقد ظهرت لك الحقيقة التي لا ريب فيها؟!

فعرَفت بديعة عند هذا الحد أنها قد تَطَرَّفَتْ بالحديث الذي ربما لا تكون عاقبته حميدة، وقالت: اعذرني يا خواجة نسيب على تطرُّفي بالحديث؛ فإنه ليس من شأني أن أتكلم عن أمر تركته ورائي وبعد شهر أكون بعيدة عنه ألوفًا من الأميال.

فنظر إليها الشاب بلهفة وكآبة حقيقيتين وقال: هل صحيح ما تقولين؟ وهل ذهابك إلى أمريكا مقرَّر أم هو نتيجة الغيظ؟

– إنه نتيجة الغيظ ومقرر أيضًا.

– آه يا بديعة! أرجو أن لا تفعلي؛ لأنه إذا لم يكُن فؤاد — لسوء حظه — قدرك، ففي هذا العالم من يفعل ومن يحبك حبًّا لم يمنعه عن إظهاره لك قبل الآن غير الشرف؛ إذ لم يكن له حق بذلك، وأنت مقيدة. فهل تحتقرين حبي يا عزيزتي ولا تضيعين حياتك سُدًى بذكر من خانك! إن حياتك ثمينة، ومن الجهالة أن لا تنتشليها من وهدة الشقاء مع حياة أخرى لا تكوني شيئًا بدونها.

ومن العجب أن هذا الكلام لم يؤثِّرْ في قلب بديعة شيئًا؛ لأنه كان قد مات عن كل عاطفة حب نحو أحد بعد أن كلَّمها فؤاد لأول مرة، فأجابته عنه بكل هدوء قائلة: لا لزوم لِأَنْ تغتاب ابن خالتك بالكلام يا سيدي. أما كلامك فهو صادق وشرف عظيم لي، ويا حبذا لو كنتُ قادرة على مجاوبتك عليه بغير القول بأني مقيدة لا حرة.

– ولكن أليس من التشبُّث المُضِر أن تقولي عن ذاتك هذا القول بعد أن فعل معك فؤاد ووالدته ما فعلا؟ إن هذا من الجنون!

– ربما حسبته أنت هكذا أما أنا فإني أحسبه «عقلًا»؛ لأن موقفي موقف تحذُّر لا تهوُّر الآن إلى أن أتحقق الأمر من فؤاد نفسه.

لا أعلم كيف أجيبك على حديثك الذي يناقض بعضُه بعضًا، ألم تقولي الآن بأنك مسافرة إلى أمريكا وسوف لا ترين فؤادًا فيما بعدُ، أم أنك تنوين زيارته بالمدرسة؟

– كلا، إن هذا لا يكون أبدًا، وأما مشاهدته فقد تكون بعد رجوعي من أمريكا إذا حييت «وإن غدًا لناظره قريب». فعرف الشاب بأنها تكتم عنه حقيقة أفكارها، وأنها تهزل، وأراد زيادة امتحانها فقال: لا غرو أن تبعث جولة جنسك؛ فإن المرأة يعميها الحب فلا تعود تنظر الحقيقة من الوهم فيه، وتصم أذنيها عن نصيحة كل مخلص؛ لأنها تضم بما تحب ثقة عمياء، فلا تعود تصدق فيه كلام أحد، ومن قال بأن «عين الحب عمياء» فهو صادق.

فاغتاظت بديعة من كلامه ونظرت إليه نظرة ملؤها التوبيخ قائلة: لا يحلو للرجل شيء مثل التهكُّم على المرأة حتى في وسط كلامه الحبي لها، ولو كانت أقرب الناس إليه، فقد أصابنا بكم أيها الرجال كما جاء في ذلك المثل من أنه إذا أكلت الفأرة الجبنة يقولون: أكلتها الفئران؛ كأن النساء بعقل ومبدأ وطبع واحد، وما هكذا هم الرجال. وأنا مع أنني لا أنكر قولك عن ثقة المرأة بمن تحب، فكواحدة من هذا الجنس أفتخر بهذا القول وأقسِّمه إلى ثلاثة أقسام:
  • القسم الأول: هو أولئك النساء اللواتي إذا أحببن رجلًا شريفًا طاهرًا يسلمنه قلوبهنَّ بكل عواطفها لحسن طَوِيَّتِهِنَّ، ويحسبن بأن الرجال لا يجهلون المثل القائل: «كما تعطي أطلب.» ولذلك فلثقتهن بمبادلة الرجال فهن هذا الأمر لا يصدقه فيهم قول قائل، وهذا نوع من ثقة المرأة.
  • والقسم الثاني: هو أولئك النساء اللواتي تتخذن كل واسطة من التحذر والاختبار لاختيار من يصادقن سواء كان رجلًا أم امرأة، ومتى فعلن هذا عن اختيار ورَوِيَّة يعرفن من يحببن أكثر من الغير، فيضحكن من قول ذلك الغير فيه لعلمهن بأن مصدر القول إما فساد وإما جهل.
  • والقسم الثالث: هو النساء اللواتي إذا سمعن قول أحد في من يحببن لا يكترثن له إلا بعد تحقُّقه، فإن كان صادقًا لا يعلمن غير نفوسهن به خوف الشماتة، وإن كان كاذبًا نبذنه. ففي المظهر الأول تتجلى المرأة على سور البساطة الطبيعية طاهرة القلب نقيته، ذات ثقة شريفة وإن خدعت أحيانًا جزاء نقاوة قلبها. وفي النوع الثاني تظهر بمظهر التعقُّل والرزانة والنشاط والاستقلال. وفي النوع الثالث تتجلى المرأة بأجمل الفضائل، وهي المعرفة والأمانة والشجاعة، فتسمع وِشَاية الوشاة، ومتى اختبرته فإن رأته صادقًا عَرَفَتْ كيف تتحذَّر بدون أن تعلم أحدًا، وإن وجدته كاذبًا احتقرته وبَقِيَتْ على حالها. وعلى الحالين يجب حفظ عهد الصداقة؛ لأنه شريف في حَالَيِ الرضى والسخط.

فقال نسيب معجبًا بقوة عارضة وشجاعة تلك الفتاة: ومن أي قسم أنت؟

– من القسم الأخير بدون شك. إنني، وإن يكن كلامك كحراب من الاحتقار والتهكم تطعن قلبي، فأنا أصفح عنه راضية مختارة؛ لأنه صوابيٌّ وطلي وحلو.

ولما وصل إلى هذا الحد صرخ الحوذي: الضبية، يا سيدي نسيب.

فقال له: «حاسب» إذن. والتفت إلى بديعة وقال: لا أتجرأ على سؤالك للنزول والاستراحة قليلًا. ولكنني أتجرأ على القول بأنه إذا تَبَيَّنَ لك كل شيء واختبرت صدق كلامي، فهل أكون سعيدًا بالأمل بأنك … بأنك تحبينني …

فأجابته بديعة بهدوء: لكل مقام مقال يا خواجة نسيب، فأستودعك الله الآن. ثم جرت العربة ببديعة التي جلست براحة وحدها، وتنهدت كأن عبئًا ثقيلًا قد أُنْزِلَ عن قلبها، ولم تكترث لكلام نسيب الحبِّي أبدًا؛ لأنه لم يؤثر بها، وما لا يؤثر بالنفس لا يعيره الإنسان التفاتًا. ولكنها كانت تشعر بكره داخلي لذلك الشاب، وكانت صورته مرافقة لصورة فؤاد التي كانت أمام نظرها دائمًا وهي لم تعرف للأمر سببًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤