الفصل الرابع

إمبراطورية الفراعنة (١٥٨٠ق.م–٣٣٢ق.م)

الفراعنة العظام

ويعود أحمس إلى مصر ظافرًا منتصرًا، فإذا الأمة تخرج إلى استقباله، وإذا المظاهر الباهرة والاحتفالات الساهرة تملأ ربوع البلاد، ويعلو شأن طيبة التي أنجبت البطل أحمس، ويذيع نفوذ إلهها «آمون»، الذي باسمه طُرِد الهكسوس وفُتِحت الأقاليم الجديدة، ويضرب «أحمس» نظام الإقطاع الفاشل الضربة القاضية، فيركز كل السلطة في يده، ويجعل كل الأراضي ملكًا خاصًّا له، وتشهد مصر إذ ذاك أقوى حكومة مركزية في تاريخها، ثم ينصت العالم وتتكلم مصر ويسجل التاريخ!

هذا هو «أمنوفيس الأول» يفتح بلاد سوريا، ويغزو بلاد لوبية في الغرب، وهذا هو «تحتموس الأول» يعود من حرب النوبة، حاملًا على مقدمة سفينته جثة أحد الزعماء النوبيين، مدلاةً من رجليها، وينصرف بالأسطول إلى فينيقيا، ثم يتوغل في أعالي الفرات، فيدون أخبار انتصاره على لوح هناك.

figure
تمثال الإمبراطور الأعظم «تحتموس الثالث» من الأسرة ١٨، الذي لقبه المؤرخ الأمريكي بريستد بنابليون مصر (عن الطبعة ١٤ من دائرة المعارف البريطانية).

وتلك هي الملكة «حتشبسيوت» — أقوى ملكات مصر — تكسف بحذقها ونفوذ حزب المحافظين المصريين — حرب الوراثة الشرعية — كيان أخويها تحتموس الثاني والثالث، فتتزيَّا بزي الرجال، وتُخَاطَب بلقب صاحب الجلالة، وتبعث بحملة إلى بلاد بنت، تعود سفنها محملةً بالتوابل والعطور والنسانيس والزراف وريش النعام، فتدون أخبارها على معبدها الدير البحري.

وينفرد «تحتموس الثالث» بالحكم، فإذا بالفتى الذي خبأت عبقريته حتشبسيوت يصبح إمبراطور مصر الأعظم، فيدوخ ملك «قادش» وأحلافه في معركة «مجدو»، ويروح ويغدو إلى آسيا سبع عشرة مرةً، تقع فيها آسيا تحت قدميه، ويتزلف إليه ملوك أشور وبابل والحيثيين والميتاني، فيقدمون له الخضوع، ويحملون إليه الجزية، فيوفرون عليه مشقة الحرب، وإذا بأسطوله يجتاح سواحل فينيقيا وآسيا الصغرى وقبرص وكريد ورودس وغيرها من جزائر البحر، وإذا بالإمبراطور الأعظم وهو في السبعين من عمره لا يعرف الراحة، فيقود حملة إلى بلاد النوبة، ويتوغل بها في مجاهل السودان، والمراسلون الحربيون في كل حروبه — كما تفعل أرقى الجيوش الآن — يدونون يومًا بيوم وبالتفصيل، حوادثَ الحرب والفتح.

كذلك كُوِّنت أول إمبراطورية في الأرض.

أول إمبراطورية في العالم

ولقد كان تأسيس هذه الإمبراطورية خلقًا جديدًا لمصر؛ إذ تغيرت الحالة من جميع النواحي، وأصبحت الدولة حربيةً بكل معاني الكلمة، وصارت الجندية هي الطريق الوحيد لكسب المال والشرف، حتى إنَّ أحقر حقير — حتى العبد — كان يأمل بانضمامه إلى الجيش في الوصول إلى أرقى مناصب الدولة.

وكان في مصر طول عهد الإمبراطورية ثلاثة أحزاب قوية: حزب الكهنة، والحزب العسكري، وحزب المحافظين — أو حزب الوراثة الشرعية — وكانت هذه الأحزاب تدفع مرشحيها لا إلى البرلمان، ولكن إلى العرش؛ فحزب المحافظين كان يرى ضرورة أنْ يرث الابن الشرعي أباه في العرش، وكان هذا الحزب يعضد وراثة «حتشبسيوت» لأبيها في العرش، بينما كان يعضد حزب الجيش «تحتموس الثاني»، وحزب الكهنة «تحتموس الثالث»؛ لأنه قضى حياته الأولى في المعبد.

وفي عهد الإمبراطورية، كانت الحكومة متمركزةً في يد الملك أو الإمبراطور، يساعده في تدبير شئون الدولة صاحب الخزائن — وزير المالية — ووزيران آخران، يقيم أحدهما في مدينة هليوبوليس، والآخر في مدينة طيبة.

وكانت مهمة الوزير في طيبة، منحصرةً في إدارة دخل الملك، وفي الإشراف على الضرائب وجزية المستعمرات، والقضاء بين الناس، والاحتفاظ بسجلات الدولة.

figure
الإمبراطورية المصرية في أقصى حدودها أيام الأسرات ١٨، ١٩ و٢٠ (مصغرة عن الجزء الأول من الأطلس الجغرافي التاريخي، للمؤلف والأستاذ الرشيدي).

وكانت المحاكم منتشرةً في أهم مدائن الدولة، يحكم فيها قضاة يعينهم الوزير بأمر الملك، ويستطيع المتقاضون فيها أنْ يستأنفوا الأحكام إلى الوزير في طيبة، الذي كان مكتبه يعتبر محكمة استئناف عليا لكل محاكم القطر. وكانت محكمة الوزير في طيبة تكفل العدالة لكل إنسان، ولم يكن حتى المتآمرون على حياة الملك يُعاقَبون بطريقة تعسفية، بل كانوا يُقَدمون إلى المحاكمة.

وكثيرًا ما كان يجوب الوزير أنحاء القطر، متفقدًا حالة الجيش والأسطول والحصون على الحدود، وحالةَ الري والزراعة والغابات، وشئونَ المعابد وأرصفة المواني.

وكانت طريقة الحكم في عهد الإمبراطورية تشبه الطرق المستعملة في عصرنا هذا؛ فكانت البلاد المجاورة لمصر كفلسطين تخضع للحكومة المركزية، أما في بلاد سوريا وقبرص وكريد، فكان الأمراء الوطنيون يحكمون بلادهم، وكان الإمبراطور يعين مع كل ملك موظفًا ساميًا مصريًّا له الأمر والكلمة العليا، وعلى الأمراء الطاعة والتنفيذ، وكان هؤلاء الموظفون المصريون يشرفون على جباية الضرائب، تعضدهم حامية مصرية، وكان أبناء الأمراء يبعثون إلى مصر؛ ليكونوا رهائن على سلوك آبائهم؛ وليتعلموا على النظم المصرية، حتى إذا ما آل إليهم الملك خدموا الإمبراطورية خدمةً صادقةً. أما البلاد البعيدة فكانت تبعث إلى مصر هدايا بانتظام، ربما فاقت جزية المستعمرات الأخرى.

طيبة المدينة الخالدة

وكانت طيبة المدينة الخالدة مركز ذلك المُلك الشاسع، وكان النيل يفصلها إلى قسمين: طيبة الغربية وطيبة الشرقية؛ فأما الأولى فكانت تسمى مدينة الأموات، يكتنفها من الغرب واديان عظيمان، هما واديا الملوك والملكات، اللذان نحت ملوك وملكات الإمبراطورية قبورهم فيهما على شكل سراديب، تنحدر في باطن الجبل عشرات الأمتار، وتنتهي بردهات وَحُجَر، يوضع في أقصاها وأبعدها غورًا تابوتُ الملك، وبين «بيبان» الملوك والملكات ونهر النيل تقع عدة معابد جنائزية، كان الغرض من بنائها أنْ يُصَلى فيها على أرواح الموتى، وأنْ تُقَدم القرابين للآلهة؛ لكي يسهل على الفراعنة اجتياز العالم السفلي، حتى يصلوا إلى ملكوت «أوزوريس»، حيث يزن الإله «أنوبيس» أعمالهم في الميزان، ويقيد الإله «توت» نتيجة الميزان، ثم يقدم الإله «حوريس» من ثقلت موازينه إلى حظيرة «أوزوريس» — كبير الآلهة — ليدخله جنة الآخرة، وأما من خفت موازينه فَتَتَلَقَّفُه آلهة كالوحوش الكاسرة، تلك هي طيبة الغربية مدينة الأموات.

أما طيبة الشرقية فكانت مدينة الأحياء، وكانت عامرةً بقصور الملوك والأمراء، وغاصَّة بمساكن الطيبيين ومعابد الآلهة، وبخاصة «آمون» إله طيبة وزوجته الإلهة «موت» وابنهما الإله «خنسو».

فلنرجع القهقرى بالخيال إلى عصر «أمنوفيس الثالث» — الأسرة ١٨ — لنرى طيبة في أزهى عصورها.

ها هو ذا قصر فرعون على ضفة النيل، تحيط به الأشجار الجميلة، وتحفه المهابة والوقار، ويملأ ساحته الحرس الأشداء. وها هي ذي قصور الأمراء والوزراء، تكتنفها الحدائق الغناء، وتسبح في بحيراتها الصناعية خفاف القوارب والأسماك. وهذا هو معبد الأقصر قد صُفِّحت أراضيه بألواح الفضة، وزُخْرفت نقوش جدرانه بالذهب وأكرم الأحجار، واكتظت تحت وهج الشمس في ساحته الخارجية آلاف الخلق من رجال ونساء، يقدمون القرابين على مذبح الإله. وهذا كاهن يلبس على كتفه جلد النمر، يخترق صفوف الأمراء والعظماء من أقصى ساحات المعبد المظلمة، حيث قدس الأقداس، ليهيب بالناس أن أنصتوا لتروا معجزة الإله.

وهذا طريق الكباش الرابضة، يؤدي إلى معابد الكرنك، حيث البحيرة المقدسة وحيث يضل السائر في ساحاتها الشاسعة بين آجام الأعمدة الزاهية وشوامخ المسلات.

وهذا رهط من الريفيات يردن المدينة: تلك تحمل على رأسها جرةً فيها نبيذ، وهذه تتأبط حزمةً من غزل الكتان، وتلك تسوق وقيرًا من الغنم، وهذه تبحث عن حانوت الكحال، وتلك ترتاد ناحية النجاد، وبينا المدينة في حركة إذا فجأةً يهرول جماعة من جند القصر الملكي من ناحية المعبد، يهتفون بالناس أنْ أفسحوا الطريق، ثم تمر أميرة من بنات فرعون، يحملها عبيدها السود على محفة غاية في الرواء، فيحيِّيها الناس برفع أيديهم وبالانحناء.

وفي أحد ميادين العاصمة ترى قبيلًا من رجال ونساء وأطفال، يلبسون ثيابًا مختلفة الأزياء، ويتكلمون بعدة لغات، وقد وقف في وسطهم فيَّال، تقفز على ظهر فيله الضخم القردةُ والنسانيس، فيتفكه بمرآها الناس.

ثم ترى حشدًا من الناس يزدحمون بالمناكب عند أرصفة طيبة؛ ليروا السفن الآتية من الجنوب والشمال، تحمل الجزية لفرعون وأسرى المستعمرات، فيُسرُّ الناس لرؤية الغنى يتدفق إلى بلادهم، والأسرى مكبلين بالأغلال والأصفاد يُساقون إلى الخدمة في الحقول وإقامة المعابد «لآمون رع» مصدر الخيرات، وترى الرسامين يصورون أولئك الأسرى التعساء صورًا كاريكاتورية على قطع من الخشب «كالكارت بوستال»، يبتاعها الناس، ويتفكهون بالضحك عليها.

ذلك كان مرأى الحياة في طيبة منذ ثلاثة آلاف وثلاثمائة عام، عندما كان الإمبراطور أمنوفيس الثالث أعظم رجل في العالم.

فلسفة تُضْحي إمبراطورية

فإذا كنا في أعوام «أمنوفيس الرابع» ابن «أمنوفيس الثالث»، إذا بِرَجَّة هائلة، تزلزل عقائد الناس، وتهز دعائم الإمبراطورية المتينة.

ولم تكن إمبراطورية كإمبراطورية «أمنوفيس الثالث» تخلو من أعداء يعيشون في كنفها؛ والدول في عنفوانها تحتاج إلى اليقظة أكثر من أي وقت آخر، وقد كان يتاخم الإمبراطورية من جميع النواحي أعداء في الباطن أصدقاء في الظاهر، يريدون لها الوقيعة، ويتربصون بها الدوائر؛ فدولتا الميتاني والحيثيين كانتا تتاخمان الإمبراطورية من الشمال، وقبائل البدو الخبيري من ناحية فلسطين، واللوبيون من الغرب، والإتيوبيون من الجنوب، ولم يكد «أمنوفيس الرابع» يتولى العرش، حتى أثار حربًا عوانًا على الآلهة، وأخذ يدعو إلى عبادة إلهه الجديد «آتون»، وإذا به يغير اسمه من أمنوفيس الذي يحوي كلمة آمون إلى «أخناتون» ومعناها «روح آتون»، ثم يأمر، فتُغْلق معابد آمون، وتُضْطهد كهنته، وتُمحى لفظة الآلهة بصيغة الجمع من المعابد، ويحمل الناس على عبادة «آتون» الإله الخفي الواحد الصمد الذي لا يُلْمَس والذي لا شكلَ له، والموجود في كل مكان، والمحرك لتلك القوة الهائلة المستقرة في الشمس، التي تُنبت الزرع، وتضيء العالم والرفيق الرحيم، والذي يمنح الخيرات، ويكره الحروب، ويسر لمساعدة الناس.

وأُغْضِب كهنة آمون — ذوو النفوذ العريض والمال العديد — لدعوة التوحيد الجديدة؛ فأثاروا الشعب على «أخناتون». ويرى «أخناتون» أنَّ طيبة — وهي ملأى بمعابد «آمون» — لا تصلح لدعايته الجديدة، فيبني له مدينة جديدة — عند تل العمارنة الحالي — تسمى «أخيتاتون» — ومعناها أفق آتون — وينقل إليها ملكه، ثم يملؤها بالمعابد والقصور لإلهه الجديد، ويحتم على الرسامين والمثَّالين أنْ تكون صورهم وتماثيلهم طبق الأصل من الطبيعة، لا تجميل فيها ولا تزويق.

حقًّا، لقد كان «أخناتون» أول فيلسوف في العالم دعا إلى الحق والهدى، وكانت صيحته أول صيحة بالوحدانية، في وقت كانت الوثنية فيه في حصنها الحصين، ولكن العالم إذ ذاك لم يكن مستعدًّا لإجابة مثل هذه الدعوة، وجاء نبي الفراعنة قبل أوانه بعشرات القرون.

وأدرك أعداء مصر أنَّ فرعون قد انقلب قديسًا نبيَّا، فأغاروا على أملاك الإمبراطورية في الشمال، ويسجل التاريخ إخلاص الموظفين المصريين في هذه الناحية؛ فقد بُحَّت أصواتهم من طلب النجدة وترقب الأوامر من طيبة، ولكن «أخناتون» لم يكترث لعرض الدنيا، وركز جهوده وعبقريته لخدمة دينه الجديد، وبلغ السيل الزبا، فامتنعت المستعمرات عن دفع الجزية، ولكن «أخناتون» لم يتحرك.

وأخيرًا مات «أخناتون»، تاركًا وراءه ظلًّا ضعيفًا لإمبراطورية كانت بالأمس عظيمةً، وخزانةً خاويةً، ولخلفه من بعده كهنةً ثائرين، يرغبون في الانتقام، وجيشًا غاضبًا، وشعبًا حانقًا.

ولم ينجب «أخناتون» ذكورًا؛ فتولى من بعده «سكارع» زوج ابنته، ولم يكن حكمه مهمًّا، ثم تلاه «توت عنخ آتون» زوج ابنته الأخرى؛ فكان في مبدأ حكمه مخلصًا لآتون، ثم لم يلبث أنْ طواه الكهنة، فإذا به يبرح مع بلاطه «أخيتاتون»، ثم يعود إلى طيبة، فيصدر أمرًا بإعادة عبادة آمون، ثم يغير اسمه من «توت عنخ آتون» إلى «توت عنخ آمون»، ويأخذ في إصلاح معابد «آمون» التي خربها حموه، ثم يملؤها بتماثيل الآلهة الذهبية، ثم يبالغ في مرضاة كهنة آمون، فيجزل لهم العطايا، ويعيد النظام القديم بحذافيره.

figure
الملك «أخناتون» الملقب بنبي الفراعنة وزوجته الملكة «نفرتيتي» (عن نقش في جدار بتل العمارنة).

وهكذا يتم فشل «أخناتون»، وبفكرة فلسفية سامية تضيع أولى إمبراطوريات العالم.

مد وجزر

ثم تسقط الأسرة الثامنة عشرة بعد وفاة «توت عنخ آمون» بقليل؛ ويؤسس «حرمحاب» الأسرة التاسعة عشرة، وإذا بسيتي الأول يحاول أنْ يسترد إمبراطورية «تحتموس الثالث»، فلا ينجح إلا في استرداد فلسطين؛ لأن الحيثيين من سكان آسيا الصغرى — الذين بدءوا الغارة على المستعمرات المصرية أيام الفيلسوف «أخناتون» — كانت قد رسخت قدمهم في سوريا.

ويأتي دور «رمسيس الثاني» — أشهر فراعنة مصر — وإذا به يحاول أنْ يسترد من جديد إمبراطورية «تحتموس الثالث»، فيصيب القصد ولكن يخطئه التوفيق، ويرضى — بعد حروب عدة وبعد انتصاره على الحيثيين وحلفائهم في معركة «قادش»، التي أظهر فيها شجاعةً نادرةً خلَّدت اسمه في سجل الشجعان في العالم — أنْ يقنع من انتصاراته العديدة بمعاهدة هجومية دفاعية بينه وبين ملك الحيثيين، يلقب فيها بملك مصر الأكبر، بينما حليفه «ختاسار» يلقب بأمير الحيثيين، ولكن المعاهدة لا ترد لمصر إلا فلسطين. ثم يتزوج «رمسيس» من ابنة ملك الحيثيين، ولا تروي الحروب غلته، فيطفئ غروره بإقامة التماثيل والمعابد، ينقش على جدرانها قصائد شاعره «بنتاءور» في تمجيده ووصف معركة «قادش» أهم معارك رمسيس، ويستبطئ النحاتين والمثَّالِين في صنع تماثيله الهائلة العديدة، فيضحون الفن في سبيل الكثرة ولا يكتفي بهذا، فيمحون أسماء أسلافه من على تماثيلهم ومعابدهم، ويضعون بدلها اسم «رمسيس»، ألا تتفق معي على أنَّ رمسيس كان أعظم غشاش في التاريخ؟!

ثم يموت «رمسيس» وقد نَيَّفَ عمره على قرن، تاركًا وراءه عدة زوجات و١١١ ولدًا و٥١ بنتًا لابنه العجوز «منفتاح».

وتثور فلسطين في عهد «منفتاح» فيخضعها، ويعود ليخضع مَنْ أغاروا على الدلتا من اللوبيين وسكان جزائر البحر الأبيض المتوسط، وربما كان «منفتاح» هذا هو فرعون موسى الذي خرج في عهده بنو إسرائيل من مصر.

ويعود اللوبيون إلى الغارة على مصر ثانيةً، فيهزمهم «رمسيس الثالث» من الأسرة العشرين.

ويقوى نفوذ الكهنة، فيتخذون من الرماسسة — بقية ملوك الأسرة العشرين — ألاعيب يفعلون ما يؤمرون.

ويقفز «حرحور» رئيس الكهنة إلى عرش مصر، فيكوِّن أسرة من الكهنة، هي الأسرة الحادية والعشرون، تفقد مصر في عهدها طورسينا وفلسطين.

ويشاء القدر الساخر أنْ يجلس على عرش مصر «شيشنق» الأول — ملك اللوبيين — فيتخذ من مدينة بوبسطة — تل بسطة عند الزقازيق — عاصمة للأسرة الثانية والعشرين.

وتتحرك دماء الفراعنة في «بعنخى»، فيخرج من بلاد النوبة المتمصرة منذ مئات السنين، فيستولي على منف، ويكوِّن كهنة آمون الأثرياء بسلطانه الأسرة الثالثة والعشرين.

ويستقل بالوجه البحري أميرسايس — صاالحجر — الملك «بخوريس»؛ فيؤسس الأسرة الرابعة والعشرين، بينما يظل الوجه القبلي تحت حكم النوبيين المصريين.

وتتطلع من أقصى الشرق عيون الأشوريين إلى مصر، فيتهمون المصريين بمساعدة أهل الشام الثائرين، فيستولي على الدلتا «أسرحدون» ملك الأشوريين، ويؤسس الأسرة الخامسة والعشرين، ويستجمع الملك «طهراقة» في الجنوب قوته، ويطرد الأشوريين، فيعودون بعد حين، ويدمر ملكهم «أشوربانيبال» طيبة الخالدة مدينة آمون.

وتظل الحرب سجالًا بين النوبيين والأشوريين، كل يريد الاحتفاظ بمصر، فيغتنم الفرصة أمراء الدلتا المصريون، ويقومون بمساعدة المرتزقة من جنود الإغريق؛ فيطردون هؤلاء إلى الشمال، وأولئك إلى الجنوب، ويستقلون بمصر مكونين الأسرة السادسة والعشرين.

ويعيد فراعنة هذه الأسرة العظام — أبسماتيك ونيخاو وأبريس — إلى مصر استقلالها المسلوب وزهاء مجدها القديم.

فيجمع «أبسماتيك» للدفاع عن استقلال البلاد جيشًا من مرتزقة الإغريق.

ويقوي «نيخاو» الجيش والأسطول، فيفتح بهما فلسطين وسوريا، ويتوغل في العراق، ثم يُوصل البحرين الأبيض بالأحمر عن طريق النيل، ويبعث أول بعثة استكشافية في العالم، فتطوف حول أفريقيا، وتتم رحلتها في ثلاث سنين.

ويفتح «أُبريس» سواحل فينيقيا بأسطوله الضخم، وتملأ صفحة مصر بمعابد ضخمة كمعابد العهد القديم، ويشتد ميله إلى الأجانب وبخاصة الإغريق، فيثور عليه المصريون، ويُوَلُّون مكانه قائد جيشه «أحمس» أو «أماسيس».

figure
بهو الأعمدة في عصر زهائه في معبد آمون الكبير بالكرنك (عن عجائب الماضي للأستاذ هامرتن).

ويتبع «أحمس الثاني» سياسة «أبريس»، حتى إنه يقطع الإغريق أرضًا في غرب الدلتا، يؤسسون عليها مدينة نقراطيس.

ثم يرى «أحمس الثاني» من وراء الأفق بزوغ نجم الفرس، فيتحد مع البابليين والليديين؛ ليقيم منهم سدًّا يحمي استقلال مصر. ويخونه التقدير، فيكتسح الفرس البلاد في عهد خلفه، ويدخل مصر الطاغية «قمبيز» محطمًا مخربًا، ويكوِّن لأخلافه الأسرة السابعة والعشرين.

ويثور المصريون على الفرس عدة مرات فيغلبون ويغلبون، ويسجل التاريخ اسم الأمير المصري «أناروس» — الذي ثار بمساعدة الإغريق على الحكم الفارسي، فانتصر أولًا ثم صُلِب أخيرًا — واسم الأمير المصري «أمرتوس» — الذي يجدد الثورة، ويستطيع أنْ يعلن استقلال البلاد — فيزورها المؤرخ اليوناني «هيرودوت» في ذلك العهد المستقل، ويكتب تاريخها المجيد.

ويعود الفرس فيهزمون المصريين، ثم تقوم حماسة الشعب تحت قيادة «أمرتوس» آخر؛ فيطرد الفرس ويؤسس الأسرة الثامنة والعشرين.

وتتمتع مصر بعهد استقلال في ظل هذه الأسرة والأسرة التي تلتها، وهي الأسرة التاسعة والعشرون، ويحسن حالها، وتستعيد شيئًا من رخائها.

فإذا كانت أيام الأسرة الثلاثين عاد الفرس مرةً أخرى لفتح مصر، فيستبسل المصريون في الدفاع عن وطنهم، فيهزمون الفرس، ويردونهم على أعقابهم خاسرين.

ويملأ ملوك الأسرة الثلاثين جو البلاد خيرًا ورغدًا، وترقى الصناعات وتتقدم العلوم، ولكن هذا الرخاء لا يدوم طويلًا؛ إذ يعود الفرس ويهجمون على البلاد في عهد الملك «نقطنبو الثاني» — آخر ملوك الأسرة الثلاثين — فيقابلهم بجيش من المرتزقة الإغريق، الذين يخونون ويُمَكِّنون الفرس من المصريين.

ويقاسي المصريون الآلام بسبب الاعتماد على غيرهم في الدفاع عن استقلالهم، ويحصدون ثمرة هذا الإهمال المشين.

ويقر الفرس بمصر زمنًا عابثين ظالمين، حتى يصرعهم «الإسكندر المقدوني» فيطردهم من مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤