المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي

تقديم

كتَبَ ليبنتز المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي في سنة ١٧١٤م؛ أي قبل وفاته بسنتين اثنتين. وتُعدُّ هاتان الرسالتان من أهم ما كتب وأعمقه دلالة على مذهبه الفلسفي وأكثره توفيقًا في صياغته والعبارة عنه.

والرسالتان متَّفقتان في الهدف والقصد، ويحتمل أن يكونا قد كُتبا في وقتٍ واحدٍ أو في فترتين متقاربتَين. ويختلف الشراح في ترتيبهما الزمني، وإن كان المُترجم والشارح الإنجليزي القدير روبرت لاتا يؤكد أن المبادئ وضعت قبل المونادولوجيا.١
ولعلَّ أندريه روبينيه،٢ الذي نشر أعمال ليبنتز وحققها وصدرت في باريس سنة ١٩٥٤م أن يكون محقًّا في قوله في مقدمة هذه النشرة أنها أشبه شيء بالوصية،٣ ولعلَّ أحد مؤرخي الفلسفة الأعلام، وهو كورت هيلد برانت٤ في كتابه عن ليبنتز ومملكة النعمة أو الفضل الإلهي، أن يكون على حق كذلك في إشارته إلى منزلة هذَين الكتابَين الصغيرين من مذهب ليبنتز العام. فهو يقول إنهما يعبران عن أكمل صيغة وصل إليها ليبنتز في ذروة نُضجه الفكري، كما يُتوِّجان هذا الفكر من ناحية المضمون، ولذلك فهما مختلفان عن معظم أعماله التي تتناول مجالات أخرى، وتعبر عن وجهات نظر جزئية.
ولا يقتصر الأمر في شأن هذَين الكتابَين — أو إن شئت الكُتيِّبَين — على زمن التأليف أو شكله، وإنما يتجاوَزُه إلى ما بينهما من صلةٍ عميقةٍ من ناحية المحتوى والمضمون. فالفيلسوف يعرض فيها أفكاره الأساسية، وإن كان قد توخَّى في المبادئ أن تخرج إلى الناس بأسلوبٍ أبسط ولغةٍ أيسر؛ لأنه لم يتوجَّه بها إلى زملائه الفلاسفة كما فعل في المونادولوجيا،٥ ومع ذلك فإن من الخير دائمًا أن تقرأ المبادئ مع المونادولوجيا أو بالأحرى قبلها؛ لتكون تمهيدًا لها أو تعليقًا عليها. ومن الخير أيضًا ألا تُقلِّل من قيمة هذه المبادئ التي يشير صاحبها في رسالته المذكورة إلى أهميتها ومكانتها من مذهبه كله.

ليست المونادولوجيا مجرَّد تمهيد لفلسفة ليبنتز، وإنما هي عرض مركَّز لمبادئها الأساسية التي عبَّر عنها في سائر بحوثه، وبسطها بوجهٍ خاصٍّ بصورةٍ لا تخلُو من الاضطراب والاستطراد في رسالته عن العدل الإلهي (التيوديسية). ولم تَغِب هذه الحقيقة عن بال الفيلسوف؛ إذ نجده يشير بنفسه على هوامش مخطوطة المونادولوجيا إشارات عديدة إلى فصول تلك الرسالة التي توسَّعت في شرح بعض المسائل التي تتناوَلها المخطوطة الصغيرة. وربما جاز لنا أن نقول مع مؤرِّخ الفلسفة المعروف يوحنا أردمان إن المونادولوجيا موسوعة صغيرة الحجم، تضمُّ كل فلسفة ليبنتز. وليس من السهل بطبيعة الحال أن تفهم هذه الموسوعة الصغيرة — غير الميسَّرة — بعد أول قراءة؛ إذ لا غِنى للقارئ عن الإلمام بجوانب عامة من تفكير ليبنتز، ولا غنى له أيضًا عن النظر فيها مرةً بعد مرة!

تَتناول المونادولوجيا فلسفة ليبنتز في الجوهر. ويُمكن القول بأنها تتألَّف من قسمَين، يشرح الفيلسوف في أولهما طبيعة الجواهر عامة، ما خُلق منها وما لم يُخلَق، التي يتكوَّن منها العالم في مجموعه، ويفسر ثانيهما طبيعة العلاقات المتبادَلة بينها على سبيل التأثير والتأثر، بحيث تكون عالَمًا واحدًا بمفردِه، هو — في رأيه — أصلح وأفضل عالم مُمكن. ويُمكن أن تدرج الفقرات من ١ إلى ٤٨ تحت القسم الأول، أما القسم الثاني فيضمُّ الفقرات الباقية (من ٤٩ إلى ٩٠)، ويُمكن أن نذهب إلى أبعد من هذا، فنقسم القسم الأول إلى ثلاثة أجزاء رئيسية يفسر ليبنتز في أولها (من الفقرة ١٠–١٨) طبيعة المونادات المخلوقة، ويُميز في ثانيهما (من ١٩ إلى ٣٠) الأنواع الثلاثة الكبرى من المونادات المخلوقة، كما يشرح في الجزء الثالث (٣١–٤٨) كيف يتم الانتقال من أعلى أنواع المونادات المخلوقة (وهي الوعي أو الفهم) إلى المونادة الوحيدة التي لم تُخلَق (وهي الله) عن طريق المبدأين العقليَّين الأساسيَّين، ونعني بهما مبدأ عدم التناقض، ومبدأ السبب الكافي. وبهذا يقدم لنا رؤيته للكون بوجهٍ عام، ويكشف تدرج الكائنات الفردة التي يتألَّف منها طبقة فوق طبقة.

أما القسم الثاني فيُمكِن بدوره أن يَتفرَّع إلى ثلاثة أجزاء، تبين كما قدمت طبيعة العلاقات بين الجواهر بصورةٍ أوفى وأتم. فالجزء الأول (من ٤٩ إلى ٦٠) يعرض للمبادئ العامة التي تقوم عليها العلاقة بين الجواهر من خلال التجانس المدبر أو الاتِّساق المقدَّر ومذهب ليبنتز المشهور — والمشبوه أيضًا — عن أفضل العوالم المُمكنة! ويشرح الجزء الثاني (من ٦١ إلى ٨٢) العلاقات القائمة بين أنواع معيَّنة من الجواهر شرحًا مُستفيضًا، كما يعالج مسائل متعلِّقة بالكائن الحي وطبيعة العلاقة بين النفس والجسم، بما في ذلك الحياة والموت والخلق والفناء. أما الجزء الثالث (من ٨٣ إلى ٩٠)، فيضمُّ النسق الكامل للعلاقات في وحدة واحدة هي الله، ويَتناول التَّفرقة بين العلل الفاعلة والعِلَل الغائية والتجانُس بينهما في نهاية المطاف — وهو التجانس الذي يقدم عليه التمييز بين النفس والجسم — ثم يُضيف إليه تفرقة أخرى وتجانُسًا آخر بين «المملكة الفيزيائية للطبيعة والمملكة الأخلاقية للفضل الإلهي»؛ أي بين الله بوصفه البنَّاء الأعظم والمهندس المدبر للآلة الكونية الهائلة، وبين الله بوصفِه الحاكم المهيمن على مدينة الأرواح، والراعي الحكيم والأب الرحيم.

ولا بد من القول بأن هذا التحليل — الذي اقتبسناه عن العالم الإنجليزي لاتا — ليس إلا مدخلًا مبسَّطًا لقراءة هذا النص الرائع العسير. وهو لا يخلو بطبيعة الحال من التعسُّف والقسر، ولا يُغني عن بذْل الجهد والصبر.

وقد وضع ليبنتز المونادولوجيا تذكارًا لإقامته في باريس (التي قطعها لفترة امتدَّت من أوائل سنة ١٦٧٢م حتى أوائل ١٦٧٦م) وأهداها في المقام الأول لنيكولا ريمون وطائفة من العلماء والفلاسفة الفرنسيين نذكر من بينهم أرنو، وريمون، ومالبرانش، وهيجنز، وهويه، وفوشيه، وماريوت.٦ ولم يكن ليبنتز هو الذي وضع لها العنوان الذي تُعرف به اليوم؛ فقد وُجدَت المخطوطات التي تركها في مكتبة هانوفر الملَكية، التي قضى فيها الجانب الأكبر من حياته، بغير عنوانٍ محدد، وكانت تَشتمِل على مشروع الكتاب ونسختَين مُعتمدتَين بخطِّ يده، فضلًا عن نسخة رابعة موجودة بالمكتبة الأهلية بفيينا تحت عنوان «مبادئ الفلسفة للسيد ليبنتز». والعنوان الحالي الذي اشتهرت به يرجع إلى عالم القانون الألماني هينريش كولر،٧ الذي ترجم الكتاب للألمانية، ونشره في سنة ١٧٢٠م تحت عنوان مُرهق طويل: «مبادئ السيد جوتفريد فيلهلم ليبنتز عن المونادولوجيا، وكذلك عن الله ووجوده وصفاته والنفس الإنسانية، إلى جانب دفاعه الأخير عن مذهبه في الاتِّساق المدبر في وجه اعتراضات السيد بايل».٨
وقد شاع فترة طويلة من الزمن أن ليبنتز أهدى المونادولوجيا للأمير يوجين أمير سافوي؛ وذلك منذ أن ترجمها ج. كوتن٩ إلى اللاتينية سنة ١٧٣٧م (وقد ضمَّها يوحنا إدوارد أردمان إلى طبعته الكاملة لأعمال ليبنتز في سنة ١٨٤٠م) تحت عنوان «رسائل ميتافيزيقية مهداة لسمو الأمير يوجين».١٠
ومن طريف ما يُحكى في هذا الصدد أن الأمير سمع عن كتاب ليبنتز عن العدل الإلهي (الثيوديسية) الذي ظهر سنة ١٧١٠م، ولعله قد سمع عنه من فم صوفي شارلوته ملكة بروسيا وراعية ليبنتز وصديقته. ويبدو أن الأمير اطَّلع على «الثيوديسية»، ورجا الفيلسوف أن يقدم له موجزًا مبسطًا لمذهبِه الفلسفي. ويبدو أيضًا أن النشوة أخذته بهذا الكتيب، حتى لقد احتفظ به كالجوهرة في صندوقٍ مُقفَل، مما جعل صديقه الدوق دي بونيفال١١ يكتب لليبنتز مُداعبًا: «إنَّ الأمير يحتفظ بكتابك كما يحتفظ الرهبان في مدينة نابولي بدم القديس يانيواريوس. إنه يَسمح لي بتقبيله، ثم يُسارع بإغلاق الصندوق عليه.»
ولكن لم تلبث الأيام أن كشَفَت عن خطأ هذا الرأي؛ إذ بيَّن جرهارت١٢ سنة ١٨٨٥م في الجزء السادس من طبعته الكاملة لأعمال ليبنتز أن ليبنتز لم يُهدِ الأمير غير كتابه عن المبادئ، بعد أن طلب منه هذا الأخير أن يقدم له تعريفًا مبسطًا بمذهبه. تؤيد هذا الرسائل التي تبادلها ليبنتز مع نيقولا ريمون والدوق النمسوي ألكسندر دي بونيفال، الذي كان صديقًا حميمًا للأمير يوجين وتوسط في تقديم ليبنتز له أثناء إقامته في فيينا من خريف سنة ١٧١٢م إلى خريف سنة ١٧١٤م.

وقد ظهرَت المبادئ مطبوعة لأول مرة في شهر نوفمبر سنة ١٧٢٨م في مجلة العلماء التي كانت تصدر في باريس بعنوان «أوروبا العالمة»؛ وذلك اعتمادًا على المخطوطات الأربع المحفوظة في مكتبة هانوفر، وعلى نسختَين منها في المكتبة الأهلية بباريس والمكتبة الأهلية بفيينا.

وتشترك المبادئ مع المونادولوجيا في قضايا كثيرة، وتُوشك بعض فقراتها أن تكون أصداءً لأصواتها أو تنويعات على ألحانها الأساسية. وهي لهذا بمثابة مدخل إليها أو دراسة تمهيدية لها، مما يُرجِّح رأي الشراح عن تأليفهما في وقتٍ واحد أو على الأقل في فترتين زمنيتَين متقاربتين.

وتكشف النظرة العابرة إلى النص عن شيءٍ غير قليلٍ من الغموض والتفكُّك في ترتيب المادة، ولكنَّنا لو تتبَّعنا التقسيم الأصلي الذي وضعه ليبنتز بنفسه لوجدنا أن النص يتحدث ابتداءً من الفقرة الأولى حتى السادسة عن المونادات المخلوقة في ذاتها، وفي علاقاتها ببعضها البعض، بينما تتناول سائر الفقرات طبيعة الله بوصفِه السبب الأول والأخير للكون، والنتائج المترتبة على قدرته وحكمته وكماله وخيريته. ويلاحظ القارئ المتأني أن المبادئ تمرُّ مرورًا عابرًا ببعض المسائل الرئيسية التي تعالجها المونادولوجيا أو تلمسها في خفةٍ وسرعة. فهي على سبيل المثال لا تذكر شيئًا عن المبدأين المنطقيَّين اللذَين تقوم عليهما المعرفة البشرية، ولا تقف وقفة كافية عند فكرة التجانُس المدبَّر أو الاتساق المقدَّر.

ولكن هذا كله لا يُقلِّل من شأن المبادئ ولا يوهن من صلتها الوثيقة بالمونادولوجيا، سواء في طريقة التناول أو التعبير.

وتعتمد هذه الطبعة العربية لكتابي ليبنتز على طبعة روبينيه النقدية التي حققها على المخطوطات المحفوظة في مكتبات هانوفر وفيينا وباريس، وقارن بينها وزودها برسائلَ لم يَسبق نشرُها، وصدرت في باريس عن المطابع الجامعية الفرنسية سنة ١٩٥٤م. وهي طبعة تمتاز على طبعة جرهات الذي لم يلتزم إلا بمخطوطات هانوفر دون الرجوع لنسخها المحفوظة في فيينا وباريس. وقد أضفنا إليها الملاحظات التي دونها ليبنتز بنفسه على المخطوطة الأصلية في مكتبة هانوفر، وأشار فيها إلى المواضع المقابلة للنصوص في كتابه عن العدل الإلهي. كما أفدنا كذلك من الترجمة الألمانية التي قام بها أرتود بوخيناو،١٣ وراجعها وقدم لها الفيلسوف إرنست كاسيرر،١٤ وظهرت سنة ١٩٠٩م في المجلَّد رقم ١٠٨ من سلسلة «المكتبة الفلسفية»، ثم نشر النص الأصلي وترجمته الألمانية ونقحه وقدم له وعلق عليه الأستاذ هربرت هيرنج، وظهر في المجلد ٢٥٣ لسنة ١٩٦٩م من نفس السلسلة التي يُصدرُها الناشر فليكس مينر في مدينة هامبورج.١٥ واهتدَينا أخيرًا في كتابة التمهيد لهذا للكتاب بالكتاب القيِّم الذي وضعه الأستاذ يواخيم فانيبوش عن حياة ليبنتز وفلسفته وأثره على الحضارة العالمية،١٦ وأصدرته هيئة «إنترناسيونيس» في سنة ١٩٦٦م بمناسبة الاحتفال بمرور مائتين وخمسين سنة على وفاة ليبنتز. وديني نحو هذا الكتاب أكبر من أن يَفيَه شكر أو عِرفان.
أما كتاب «روبرت لاتا» الذي أشرت إليه في بداية هذا التقديم،١٧ فقد استفدت منه فائدة لا تُقدَّر، واعتمدت على ترجمته الرائعة وتعليقاته القيمة على المونادولوجيا والمبادئ. وقد استمدَّ «لاتا» أغلب هذه التعليقات المستفيضة من كتابات ليبنتز نفسه، كما أشار في مواضع كثيرة إلى نصوص المُعاصِرين أو السابقين، ومراسلاته مع علماء عصره. ويرجع الفضل في الهوامش التي تجدها بين يديك، وفي عديدٍ من الأفكار والإشارات التي تضمَّنتها المقدمة إلى الطبعة المثالية التي عُنيَ بها هذا العالم الإنجليزي القدير، أما مواضع الخطأ والقصور أو التقصير، فأنا وَحدي المسئول عنها.

هذا وأرجو من ترجمة هذَين العملين والمقدمة التي كُتبت لهما والملاحظات والتعليقات والإشارات المختلفة التي وردَت فيهما أن تعين القارئ العربي على دخول عالم هذا الفيلسوف، وتشجعه على المزيد من الاطِّلاع على تراثه، والإحاطة بجوانب مذهبه والتعاطف مع شخصيته وفكره، وتقدير أثره على تطور الفكر والحضارة الإنسانية.

١  The Monadology & other philosophical writings. Translated with introduction & notes ly Robert Latta, Oxford University Press, 1. Edition 1898. Reparinted 1965. P. 216.
٢  A. Robinet.
٣  Presque un testament.
٤  Kurt Hildebrandt; Leibniz und das Reich der Gnade, Haag. 1953. S. 222.
٥  راجع الرسالة التي بعثها ليبنتز إلى نيقولا ريمون N. Remond في ٢٦ / ٨ / ١٧١٤م.
٦  الأسماء على الترتيب: Foucher – Arnauld – Nicholas Remond – Moriotte – Malebranche – Huygens – Huet.
٧  Heinrich Köhler.
٨  Bayle.
٩  J. Koethen.
١٠  Theses metaphysicae in gratiam serenissimi principis Eugenii.
١١  Claude Alexandre de Bonneval.
١٢  C. J. Gerhardt.
١٣  Artur Buchenau.
١٤  Ernst Cassirer.
١٥  Cr. W. Leibniz; Principes de la Nature et de la Grace fondés en Rasion. Monadologie. Hamburg, Verlag Felix Meiner 1956. Band 253 der Philosophischen Bibliothek (Französisch Deutsch) S.XIV, 73, Hrsg. Von H. Herring.
١٦  Joachim Vannebusch; G. W. Leibniz. Philosopher and Politician in the service of a Universal Culture. Bad Godesberg, Inter-Nationes, 1966, P. 55.
١٧  أودُّ أن أقدم شكري القلبي إلى الصديق الكريم الأستاذ أحمد الحكيم، الذي أعارني هذا الكتاب القيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤