المونادولوجيا

  • (١)
    ليست المونادة، التي سنتحدَّث عنها هنا، سوى جوهر بسيط، يدخل في تكوين المركب، والبسيط معناه ما لا أجزاء له. (قارن التيوديسية ١٠).١
  • (٢)
    ويجب أن تكون هناك جواهر بسيطة، ما دامت هناك جواهر مركَّبة؛ إذ ليس المركب إلا كومة أو مجموعة مؤلَّفة من بسائط.٢
  • (٣)
    وحيث لا تكون أجزاء،٣ لا يُمكن أن يكون ثمة امتداد، ولا شكل، ولا انقسام. وهذه المونادات هي الذرات الحقة (التي تتكوَّن منها) الطبيعة، وهي على الجملة عناصر الأشياء.
  • (٤)

    كذلك ليس هناك ما يدعو للخوف من تحلُّلها، ولا سبيل على الإطلاق لتصور فساد الجوهر البسيط فسادًا طبيعيًّا.

  • (٥)
    ولهذا السبب نفسه لا يُمكِن أن نتصور نشوء الجوهر البسيط على نحوٍ طبيعي؛ إذ إنه لا يُمكِن أن يتكون عن طريق التركيب.٤
  • (٦)
    وهكذا يُمكن القول بأن المونادات لا تنشأ أو تفسد إلا بضربةٍ واحدة؛ أي إنها لا تنشأ إلا بالخلق، ولا تفسد إلا بالإفناء،٥ أما المركب فينشأ من أجزاء ويفسد في أجزاء.٦
  • (٧)
    ولا سبيل كذلك إلى تفسير إمكان تأثُّر المونادة أو تغيرها من داخلها عن طريق أي مخلوقٍ آخر،٧ إذ يستحيل أن ينقل إليها شيء أو أن تتصور فيها أية حركة باطنة، يمكن أن تثار أو توجه أو تزيد أو تنقص؛ وذلك على خلاف الأشياء المركبة،٨ التي نجد فيها تغيرًا في علاقة الأجزاء بعضها ببعض. ليس للمونادات نوافذ يمكن من خلالها أن ينفذ إليها شيء، أو يخرج منها. إن الأعراض لا يُمكنها أن تَنفصِل عن الجواهر، ولا أن تتجوَّل خارجها، كما كانت تفعل الصور الحسية٩ عند المدرسيِّين. وهكذا يستحيل على الجوهر والعرض أن ينفذا إلى المونادة من الخارج.
  • (٨)
    ومع ذلك فيجب أن تَشتمِل المونادات على بعض الخصائص، وبغير هذا لا يتسنَّى لها أن تصبح كائنات على الإطلاق،١٠ وإذا لم تتفاوَت الجواهر البسيطة عن طريق خصائصها المميزة،١١ فلن تكون هناك وسيلة للتحقُّق من أي تغيُّر يلحق الأشياء؛ لأنَّ ما يوجد في المركب لا يُمكن أن يأتي إلا من عناصره البسيطة. فلو كانت المونادات بغير خصائص، وكانت بالتالي غير مُتميِّزة عن بعضها البعض — إذ إنها لا تَختلِف أيضًا عن بعضها من ناحية الكم — لترتَّب على هذا، مع افتراض الملاء١٢ إلا يتقبَّل كل مكان١٣ في أثناء الحركة غير مُحتوى واحد مكافئ للمحتوى الذي كان يشغله من قبل، بهذا يتعذَّر تعذرًا تامًّا تمييز حالة تكون عليها الأشياء عن حالةٍ أخرى (راجع التيوديسية، المقدمة، ٢ب).
  • (٩)
    يتحتَّم أن تكون كل مُونادة مختلفة عن الأخرى. إذ يَستحيل أن يوجد في الطبيعة كائنان مُتشابهان تشابُهًا كاملًا، بحيث يتعذَّر ألا نعثر فيهما على خلافٍ قائمٍ على خاصيةٍ باطنة.١٤
  • (١٠)
    لا نزاع عندي أيضًا١٥ في أن كل كائن مخلوق عرضة للتغير، وبالتالي تكون المونادة المخلوقة كذلك، كما أن هذا التغيُّر يتمُّ باستمرار في كل مونادة.
  • (١١)
    يتبيَّن مما سبق أن التغيُّرات الطبيعية١٦ في المونادات تصدر عن مبدأ داخلي؛ إذ يستحيل على علَّة خارجية أن تؤثر على داخلها (قارن التيوديسية ٣٩٦، ٤٠٠).
  • (١٢)
    بجانب مبدأ التغيُّر يجب أيضًا أن يكون هناك طابع خاص لما يتغيَّر،١٧ بحيث يكون على نوعية الجواهر البسيطة وتنوُّعها.
  • (١٣)
    هذا الطابع الخاص يَنطوي بالضرورة على كثرة في الوحدة أو في البسيط. فلما كان كل تغيُّر طبيعي يتمُّ بالتدريج، كان من الضروري أن تتغيَّر بعض الأشياء، ويَبقى بعضها دون تغيير.١٨ يلزم عن هذا أن توجد في الجوهر البسيط كثرة من الخصائص والعلاقات، على الرغم من أنه لا يتكوَّن من أجزاء.
  • (١٤)
    والحالة العابرة التي تضمُّ كثرة في الوحدة أو في الجوهر البسيط وتمثُّلها ليست إلا ما يُسمَّى بالإدراك. ويجب التفرقة بينه وبين الوعي أو الشعور،١٩ كما سيتَّضح مما يرد فيما بعد. وقد أخطأ الديكارتيُّون في هذه المسألة خطأً كبيرًا؛ إذ أهملوا الإدراكات التي لا يشعر بها الإنسان إهمالًا تامًّا.٢٠ وهذا هو الذي أدَّى بهم أيضًا إلى الاعتقاد بأن العقول وحدها مونادات، وأنه لا وجود لنفوس الحيوانات ولا لغيرها من الأنتليخيات.٢١ وهو الذي جعلهم يخلطون بين الإغماء الطويل وبين الموت بمعناه الدقيق، متفقين في ذلك مع الرأي الشائع لدى العامة، كما جعلهم كذلك يقعون في الدعوة التي ادَّعاها المدرسيُّون على غير أساس من وجود نفوس مجردة كل التجرد من الأجسام. بل إنهم بذلك قد أيدوا رأي أصحاب العقول الضالة فيما زعموه عن فناء النفوس.٢٢
  • (١٥)
    والفعل الذي يصدر عن المبدأ الباطن ويُسبب التغيُّر أو الانتقال من إدراكٍ إلى آخر يُمكن أن يسمى بالنزوع.٢٣ صحيح أن النزوع لا يُمكنه على الدوام أن يبلغ الإدراك الذي يتوق لبلوغه على نحوٍ تام، ولكنه يحصل دائمًا على شيءٍ منه، ويبلغ بذلك إدراكاتٍ جديدة.
  • (١٦)
    ونحن نُجرِّب بأنفسنا الكثرة في الجوهر البسيط عندما نجد أن أقل فكرة نُدركها تنطوي على تنوع في الموضوع (المتصور).٢٤ وعلى هذا ينبغي على كل من يعترف بأن النفس جوهر بسيط أن يُسلم بوجود هذه الكثرة في المونادة، وما كان للسيد بايل أن يجد في هذا أية صعوبة، كما فعل في قاموسه تحت مادة «روراديوس».٢٥
  • (١٧)
    ولا بد أيضًا من الاعتراف بأن الإدراك وما يتوقَّف عليه لا يُمكن تفسيره بأسباب (أو علل) آلية؛ أي عن طريق الأشكال والحركات. ولو تصوَّرنا وجود آلة صنعت، بحيث يُمكنها أن تفكر، وتحسُّ، وتدرك، فإن في الإمكان تصورها مكبرة بنفس النسب، بحيث يكون في وسع الإنسان أن يدخل فيها كما يَدخُل في طاحونة.٢٦ لو افترضنا هذا لما وجدنا فيها عند مشاهدتها من الداخل غير أجزاء تتصادم مع بعضها البعض، ولن نجد فيها شيئًا يُمكن أن يفسر لنا إدراكًا واحدًا. وعلى هذا يَنبغي البحث عن هذا الإدراك في الجوهر البسيط لا في المركب ولا في الآلة.٢٧ كذلك لن نجد في الجوهر البسيط غير الإدراكات وما ينجم عنها من تغيرات. ومن هذه وحدها يمكن أن تتكوَّن كل الأفعال الباطنة (الداخلية) للجواهر البسيطة.٢٨
  • (١٨)
    يُمكن تسمية جميع الجواهر البسيطة، أو المونادات المخلوقة، بالأنتليخيات؛ لأنها تحتوي في ذاتها على كمال معيَّن (έxουσι τό εύτελές).٢٩ إنها تَنطوي على نوعٍ من الاكتفاء الذاتي αύτάρxεια٣٠ يجعلها مصدر أفعالها الداخلية كما يجعل منها، إن جاز هذا التعبير، آليات غير جسمية٣١ (قارن التيوديسية، ٨٧).
  • (١٩)
    إذا أردنا أن نطلق كلمة النفس على كل ما لديه إدراكات ونزوع بالمعنى العام الذي شرحته آنفًا، فمن الممكن عندئذٍ تسمية جميع الجواهر البسيطة أو المونادات المخلوقة نفوسًا، ولكن لما كان الإحساس شيئًا يزيد على الإدراك البسيط، فقد يكفي أن نطلق على الجواهر البسيطة التي لا تحتوي على شيءٍ آخر سواه اسم «المونادات» أو «الأنتيليخات» بوجهٍ عام، أما تسمية «النفس»، فيَصح أن نُقصرها على المونادات التي يكون الإدراك فيها أكثر تميُّزًا كما يكون مصحوبًا بالتذكُّر.٣٢
  • (٢٠)
    ذلك أننا نُجرِّب في أنفسنا حالة لا نتذكر معها أي شيء، ولا يكون لدينا في أثنائها أي إدراكٍ مُتميز، مثلما يحدث لنا في حالة الإغماء أو الاستغراق في نومٍ عميقٍ بلا أحلام. في هذه الحالة لا تختلف النفس اختلافًا محسوسًا عن المونادة البسيطة،٣٣ ولكن لما كانت هذه الحالة لا تدوم ولا تلبث النفس أن تخرج منها؛ فإنها (أي النفس) شيء يزيد عن ذلك (أي عن مجرد كونها مونادة) (راجع التيوديسية، ٦٤).
  • (٢١)
    ولا يترتب على هذا أن الجوهر البسيط يخلو عندئذٍ من كل إدراك. إن ذلك تبعًا للأسباب السابقة أمر غير مُمكن؛ لأنه لا يمكن أن يفسد، ولا يُمكنه أيضًا أن يبقى بغير تأثر من نوعٍ ما، وليس هذا التأثر سوى إدراكه. أما إذا توافر وجود عدد كبير من الإدراكات الصغيرة التي لا يتميَّز شيء منها تميزًا واضحًا، فإن الإنسان يشعر (في هذه الحالة) بالدوار، كما يحدث له لو دار حول نفسه عدة مرات في اتجاهٍ واحد، فيُصاب بإغماء قد يفقده الوعي، ويجعله عاجزًا عن التمييز.٣٤ والموت يُمكن أن يضع الحيوانات في مثل هذه الحالة فترة من الزمن.٣٥
  • (٢٢)
    ولما كانت الحالة الحاضرة للجوهر البسيط هي النتيجة الطبيعية لحالته السابقة؛ بحيث إنَّ الحاضر يحمل المستقبل في رحمه٣٦ (قارن التيوديسية ٣٦٠).
  • (٢٣)
    ولما كان الإنسان يفطن إلى٣٧ إدراكه بمجرد أن يُفيق من الإغماء فلا بد أن مثل هذا الإدراك قد وُجد لديه قبل ذلك مباشرة، وإن لم يكن عندئذٍ على وعي به؛ لأن الإدراك لا يُمكن أن ينشأ نشأة طبيعية إلا عن إدراك آخر، شأنه في هذا شأن الحركة التي لا يُمكن أن تنشأ نشأة طبيعية إلا عن حركة٣٨ (قارن التيوديسية ٤٠١–٤٠٣).
  • (٢٤)
    نتبيَّن من هذا أننا سنكون دائمًا في حالة الإغماء إذا خلت إدراكاتنا من التميز،٣٩ والتطلُّع إلى مرتبة أسمى. والواقع أن هذه هي حالة المونادات المتناهية في البساطة.
  • (٢٥)
    كذلك نرى أن الطبيعة قد أعطت للحيوانات إدراكات متميزة عندما نتبين أنها قد كفلت لها أعضاء تجمع عددًا كبيرًا من الأشعة أو الذبذبات الهوائية؛ لكي تجعلها بهذا التوحيد أكثر فاعلية. وشبيه بهذا ما يحدث عند الشم والذوق واللمس، ولعله أن يكون شبيهًا بما يحدث مع عددٍ آخر من الإحساسات التي نجهلها. وسوف أفسِّر بعد قليل٤٠ كيف تصور الأحداث التي تجري في النفس ما يتم في الأعضاء.
  • (٢٦)
    إنَّ الذاكرة تمد النفوس بنوعٍ من الاستنتاج،٤١ الذي يحاكي العقل وإن وجب تمييزه عنه. فنحن نرى الحيوانات إذا أدركت شيئًا ذا أثر بالغ عليها، وكانت قد أدركته قبل ذلك إدراكًا مشابهًا، نراها بفضل الذاكرة تتوقَّع ما ارتبط من قبل بهذا الإدراك وتحس بمشاعر شبيهة بتلك التي أحست بها. فإذا لوَّحنا مثلًا بالعصا للكلاب تذكرت الألم الذي سبَّبته لها، وأخذت تنبح ولاذت بالفرار (قارن التيوديسية، المقدمة، ٦٥).
  • (٢٧)
    والتصور الحسِّي القوي الذي يثيرها ويُحركها إما أن يأتي من حجم الإدراكات السابقة أو من عددها؛ لأن الانطباع القوي غالبًا ما يؤدي دفعة واحدة إلى نفس الأثر الذي تؤدي إليه عادة طويلة،٤٢ أو إدراكات كثيرة متكرِّرة ومتوسطة القوة.٤٣
  • (٢٨)
    ويسلك الناس سلوك الحيوانات حين لا تتمُّ الاستنتاجات من إدراكاتهم إلا عن طريق مبدأ الذاكرة، وهم في هذا يُشبهون الأطباء التجريبيِّين،٤٤ الذين يَملكُون القدرة على الممارسة العملية البسيطة، ويفتقرون إلى النظرية. ونحن في ثلاثة أرباع تصرفاتنا لا تزيد عن كوننا تجريبيِّين. فإذا توقعنا مثلًا أن يطلع النهار في صباح الغد، كنا في مسلكنا هذا تجريبيين؛ لأن هذا هو الذي حدث حتى الآن. أما عالِم الفلك فهو وحده الذي يحكم العقل في هذا الأمر.٤٥
  • (٢٩)
    بيد أن المعرفة بالحقائق الضرورية والأبدية هي التي تميزنا عن الحيوانات الخالصة، وبها نحصل على العقل ونتزوَّد بالعلوم، وذلك حين ترفعنا إلى المعرفة بأنفسنا وبالله.٤٦ وهذا هو ما يُسمَّى فينا بالنفس العاقلة أو العقل.٤٧
  • (٣٠)
    وعن طريق المعرفة بالحقائق الضرورية، ومن خلال تجريداتها نرتفع كذلك إلى الأفعال المنعكسة٤٨ (التأمُّلية) التي تُوصِّلنا إلى فكرة الأنا،٤٩ وتجعلنا نَعتبر أن هذا أو ذاك موجود فينا. فنحن إذ نُفكِّر على هذا النحو في أنفسنا، نوجه أفكارنا في نفس الوقت إلى الوجود والجوهر، والبسيط والمركب، واللامادي والله نفسه، حيث نتصور أن ما هو محدود فينا يوجد فيه بغير حدود. هذه الأفعال المنعكسة (أو التأمُّلية) تمثل الموضوعات الأساسية لمعرفتنا العقلية (قارن التيوديسية، الافتتاحية ٤أ).٥٠
  • (٣١)

    تقوم معرفتنا العقلية على مبدأين كبيرين؛ مبدأ عدم التناقض، وبفضله نحكم بالكذب على كل ما ينطوي على تناقض، وبالصدق على ما يضاد الكذب أو يناقضه (قارن التيوديسية ٤٤ و١٦٩).

  • (٣٢)
    كما تقوم على مبدأ السبب الكافي، وبه نُسلِّم بأنه لا يُمكن التثبت من صدق واقعة أو وجودها، ولا التثبت من صحة عبارة بغير أن يكون ثمة سبب كافٍ يجعلها على هذا النحو دون غيره،٥١ وإن تعذر علينا في أغلب الأحوال أن نتوصَّل إلى معرفة هذه الأسباب (قارن التيوديسية ٤٤ و١٩٦).
  • (٣٣)
    هناك نوعان من الحقائق؛ حقائق العقل وحقائق الواقع. حقائق العقل ضرورية، وعكسها مستحيل، وحقائق الواقع عرضية، وعكسها مُمكن. فإذا كانت إحدى الحقائق ضرورية، أمكن عن طريق التحليل أن نجد سببها، وذلك بتحليلها إلى أفكار وحقائق أبسط، إلى أن نصل إلى الحقائق الأصلية (قارن التيوديسية ١٧٠ و١٧٤ و١٨٩ و٢٨٠–٢٨٢ و٣٦٧ وكذلك موجز الاعتراضات، الاعتراض الثالث).٥٢
  • (٣٤)

    بهذه الطريقة يردُّ الرياضيون المبادئ النظرية والقواعد العملية بواسطة التحليل إلى تعريفات ومسلَّمات ومصادرات.

  • (٣٥)
    بهذا نصل آخر الأمر إلى أفكار بسيطة لا يُمكن تعريفها،٥٣ كما نصل إلى مسلَّمات ومصادرات أو باختصار إلى مبادئ أولية لا يُمكن البرهنة عليها، ولا تحتاج أيضًا إلى برهان. وهذه هي القضايا الذاتية التي ينطوي عكسها على تناقض صريح.
  • (٣٦)
    ولكن يجب أيضًا أن يُوجَد السبب الكافي في الحقائق العرضية،٥٤ أو حقائق الواقع؛ أي في تسلسل وسياق جميع المخلوقات؛٥٥ حيث يُمكن أن يَمضي التحليل إلى أسباب تفصيلية لا حدَّ لها، نظرًا للتنوع الهائل في الأشياء الطبيعية وقسمة الأجسام إلى ما لا نهاية. إنَّ هناك عددًا لا نهاية له من الأشكال والحركات الحاضرة والماضية، التي تدخل في تكوين العلة الفاعلة لما أكتبه الآن،٥٦ كما أن هناك عددًا لا نهاية له من الدوافع والاستعدادات الصغيرة التي خبرتْها نفسي في الماضي أو في الحاضر، ودخلت في تكوين علتها الغائية٥٧ (قارن التيوديسية ٣٦ و٣٧ و٤٤ و٤٥ و٤٩ و٥٢ و١٢١ و١٢٢ و٣٣٧ و٣٤٠ و٣٤٤).
  • (٣٧)
    ولما كانت كل هذه التفصيلات تحتوي من جانبها على أمور عرضية (حادثة) أخرى أسبق منها وأشد تفصيلًا، وكانت هذه تحتاج بدَورِها إلى تحليل مُشابه لتبريرها، فإننا بهذه الطريقة لن نُحرز تقدمًا، لهذا يتحتَّم أن يوجد السبب الكافي أو السبب الأخير خارج سلسلة أو مجموع سلاسل الأشياء العرضية (الحادثة) كلٌّ على حِدَة، مهما بلغت هذه السلسلة حدًّا لا نهاية له.٥٨
  • (٣٨)
    وهكذا ينبغي أن توجد العلة الأخيرة للأشياء في جوهر ضروري، يحتوي على تفاصيل التغيُّرات على نحوٍ سامٍ٥٩ أشبه بأن يكون مصدرًا لها، وهذا الجوهر هو الذي ندعوه الله (قارن التيوديسية ٧).
  • (٣٩)
    ولما كان هذا الجوهر هو العلَّة الكافية لكل هذه التفاصيل الخاصة، المترابطة من ناحيتها أوثق ارتباط، فليس هناك غير إله واحد،٦٠ وهذا الإله كافٍ.
  • (٤٠)
    ويُمكنُنا أيضًا أن نحكم بأن هذا الجوهر الأسمى، الذي هو فريد وكلي وضروري — إذ ليس هناك شيء مما يقع خارجَه لا يَعتمِد في وجوده عليه، كما أنه نتيجة بسيطة لإمكان وجوده٦١ يستحيل أن تكون له حدود، ولا بد أن يحتوي على أقصى واقع مُمكن.٦٢
  • (٤١)

    يترتَّب على هذا أن الله كامل كمالًا مطلقًا؛ إذ ليس الكمال إلا عظم الواقع الإيجابي من حيث هو كذلك، (وهو الذي نحصل عليه) عندما نضرب صفحًا عن حدود أو قيود الأشياء التي لديها مثل هذه الحدود والقيود. وحيث لا تكون ثمَّة حدود، أعني في الله، يكون الكمال لا مُتناهيًا بإطلاق (قارن التيوديسية ٢٢، والمقدمة ٤أ).

  • (٤٢)
    يترتَّب على هذا أيضًا أن المخلوقات تستمدُّ كمالها من تأثير الله، أما وجوه النقص فيها، فترجع إلى طبيعتها الخاصة التي يعجزها أن تكون بغير حدود؛ لأنَّ هذا هو أساس اختلافها عن الله.٦٣
  • (٤٣)
    من الحق أيضًا أن الله ليس هو مصدر الوجودات٦٤ فحسب، بل هو كذلك مصدر الماهيات، بقدر ما تكون واقعية، أو هو بمعنًى آخر مصدر٦٥ ما يحتوي عليه الإمكان من واقع.٦٦ ذلك أن الذهن الإلهي هو منطقة الحقائق الأبدية، أو الأفكار التي يتوقف عليها وجودها،٦٧ وبغير وجوده لن يكون في الإمكانات واقع، ولن يكون فيها شيء موجود فحسب، بل لن يكون فيها كذلك شيء مُمكن (قارن التيوديسية ٢٠).
  • (٤٤)

    لأنه إن كان ثمة واقع في الماهيات أو الإمكانات، أو حتى في الحقائق الأبدية، فلا بد أن يقوم سبب هذا الواقع على شيءٍ موجود وفِعلي، وبالتالي على وجود الكائن الضروري الذي تتضمن ماهيته وجوده، والذي يكفيه أن يكون ممكنًا لكي يكون واقعيًّا (قارن التيوديسية ١٨٤ و١٨٩ و٣٣٥).

  • (٤٥)
    وهكذا ينفرد الله (أو الكائن الضروري) بهذه الميزة، وهي أنه يتحتَّم بالضرورة أن يوجد إذا كان وجوده ممكنًا. ولما لم يكن هناك شيء يحول دون إمكان (وجود) ما لا يتضمَّن حدودًا ولا نفيًا، ولا يحتوي تبعًا لذلك على أي تناقض، فإن هذا وحده٦٨ يكفي لمعرفة وجود الله معرفة قبلية. وقد أثبتْنا وجوده عن طريق واقعية الحقائق الأبدية، ثم أثبتناه كذلك٦٩ بطريقةٍ بعديةٍ من وجود الكائنات الحادثة التي لا يُمكن أن يقوم سببها الأخير أو سببها الكافي إلا في الكائن الضروري الذي يتضمَّن في ذاته سبب وجوده.
  • (٤٦)
    ولكن لا يصح أن نتوهم — كما فعل البعض — أن الحقائق الأبدية — نظرًا لاعتمادها على الله — حقائق تعسفية أو متوقفة على إرادته، كما سلَّم بذلك ديكارت،٧٠ ومن بعده السيد بواريه،٧١ إذ لا يَصدق هذا إلا على الحقائق الحادثة التي تقوم على مبدأ الملاءمة أو اختيار الأصلح، في حين أن الحقائق الضرورية تعتمد على الذهن الإلهي وحده وهي موضوعة الباطن (قارن التيوديسية ١٥٠–١٨٤، ١٨٥، ٣٣٥، ٣٥١، ٣٨٠).
  • (٤٧)
    هكذا يكون الله وحده هو الوحدة المبدئية أو الجوهر الأصلي البسيط، وكل المونادات المخلوقة أو المشتقة من إبداعه،٧٢ وتنشأ، إن جاز هذا القول، من لحظةٍ لأخرى بفضل ومضات إلهية،٧٣ محدودة بالقدرة على التلقِّي (أو الاستقبال) من جانب المخلوق الذي هو محدود بحسب ماهيته (قارن التيوديسية ٣٨٢–٣٩١ و٣٩٨ و٣٩٥).
  • (٤٨)
    وفي الله تَكمُن القوة التي هي مصدر كل شيء، وفيه كذلك المعرفة التي تحتوي على الأفكار المتنوعة، وأخيرًا فإن فيه الإرادة التي هي علَّة التغيرات أو الإبداعات التي تتمُّ وفقًا لمبدأ الأصلح٧٤ (التيوديسية ٧ و١٤٩ و١٥٠)، وهذا هو الذي يطابق الموضوع أو الأساس، وملكة الإدراك وملكة النزوع لدى المونادات المخلوقة.٧٥ ولكن هذه الصفات تكون في الله لا متناهية أو كاملة بصورةٍ مُطلقة، بينما تكون في المونادات المخلوقة أو الأنتيليخيات (أو الكائنات الحائزة على الكمال Perfectihabien٧٦ كما ترجم هرمولاوس بارباروس٧٧ هذه الكلمة) مجرد تقليدات لهذه الصفات، يختلف حظها من التوفيق باختلاف حظها من الكمال (التيوديسية، ٧ و١٤٩ و١٥٠ و٨٧).
  • (٤٩)
    يقال عن المخلوق إنه يفعل في اتجاه الخارج،٧٨ بقدر ما يكون فيه من الكمال، ويقال عن مخلوقٍ آخر إنه ينفعل بقدر ما يكون غير كامل. ومن ثم ينسب الفعل إلى المونادة بقدر ما تكون إدراكاتها متميزة، والانفعال بقدر ما تكون إدراكاتها مختلطة (أو غير متميزة).٧٩
  • (٥٠)
    ويكون المخلوق أكمل من غيره إذا وجدنا فيه بصورةٍ قبلية علة٨٠ ما يجري في مخلوقٍ آخر، بهذا المعنى يقال إنه يؤثر على المخلوق الآخر.
  • (٥١)
    بيد أنه لا يوجد بالنسبة للجواهر البسيطة سوى تأثير مثالي لإحدى المونادات على الأخرى، وهو تأثير لا يصبح فعالًا إلا بتدخل من الله؛ لأن المونادة تطلب بحق من أفكار الله أن يكون (أي الله) قد وضعها في اعتباره عند قيامه في مبدأ الأمر بتنظيم المونادات الأخرى؛ لأنه لما كان من المتعذر على المونادة المخلوقة أن تؤثر تأثيرًا فيزيائيًّا على داخل المونادة الأخرى، فلا يمكن بغير هذه الوسيلة أن تعتمد إحداها على الأخرى (قارن التيوديسية ٩ و٥٤ و٦٥ و٦٦ و٢٠١، وراجع أيضًا موجز الاعتراضات، الاعتراض الثالث).٨١
  • (٥٢)
    وهكذا يتم تبادل الفعل والانفعال بين المخلوقات. فعندما يوازن٨٢ الله بين جوهرين بسيطين يجد في كل منهما أسبابًا تلزمه بأن يلائم٨٣ بينه وبين الآخر، ويَتبع هذا أن يكون الفعَّال من وجهة نظر معينة، منفعلًا من وجهةٍ نظر أخرى، فهو فعَّال بمقدار ما نعرف فيه معرفة متميزة ما يساعد على تعليل الحدث الذي يتم في «جوهرٍ» آخر معرفة متميزة (التيوديسية ٦٦).
  • (٥٣)
    ولما كانت أفكار الله تحتوي على عددٍ لا حصر له من العوالم الممكنة التي يستحيل أن يوجد منها إلا عالم واحد، فيلزم أن يكون هناك سبب كافٍ لاختيار الله، جعله يُفضِّل عالمًا بعينه على غيره٨٤ (قارن التيوديسية ٨ و١٠ و٤٤ و١٧٣ و١٩٦ وما بعدها و٢٢٥ و٤١٤–٤١٦).
  • (٥٤)
    وهذا السبب لا يمكن أن يوجد إلا في التلاؤم،٨٥ أو في درجات الكمال التي تحتوي عليها هذه العوالم، طالما كان لكل ممكن الحق في التطلع٨٦ إلى الوجود، على قدر الكمال الذي ينطوي عليه (التيوديسية، ٧٤ و١٦٧ و٣٥٠ و٢٠١ و١٣٠ و٣٥٢ و٣٤٥ وما بعدها و٣٥٤).
  • (٥٥)
    هنا تكمن علة وجود الأصلح،٨٧ الذي يعرفه الله بفضل حكمته، ويختاره بفضل رحمته،٨٨ ويخلقه بفضل قوته٨٩ (قارن التيوديسية ٨ و٧٨ و٨٠ و٨٤ و١١٩ و٢٠٤ و٢٠٦ و٢٠٨، وموجز الاعتراضات، الاعتراض الأول والثامن).
  • (٥٦)
    هذا الترابط أو هذا التلاؤم بين جميع المخلوقات وبين كل واحدٍ منها على حدة، ثم بين كل واحدٍ منها والجميع، يترتب عليه أن يحتوي كل جوهر بسيط على علاقاتٍ تعبر عن مجموع الجواهر الأخرى، وأن يكون تبعًا لذلك مرآة حية دائمة للعالم٩٠ (قارن التيوديسية ١٣٠ و٣٦٠).
  • (٥٧)

    وكما أن مدينة واحدة بعينها، إذا تأملها المرء من جوانب مختلفة، تبدو في كل مرة على صورةٍ مختلفة تمام الاختلاف، وكأن لها منظورات متعددة، كذلك توجد أيضًا — تبعًا للكثرة اللانهائية للجواهر البسيطة — عوالم عديدة مختلفة، ليست إلا منظورات من عالمٍ واحد، وفقًا لوجهات النظر المختلفة لكل مونادة على حدة (قارن التيوديسية ١٤٧).

  • (٥٨)
    بهذه الوسيلة نحصل على أكبر قدرٍ ممكنٍ من التنوع، ولكن مع أعظم قدرٍ ممكنٍ من النظام؛ أي إننا نحصل بهذه الوسيلة على أعظم قدرٍ ممكن من الكمال٩١ (قارن التيوديسية ١٢٠ و١٢٤ و٢٤١ وما بعدها و٢١٤ و٢٤٣ و٢٧٥).
  • (٥٩)
    وهذا الفرض وحده (الذي أزعم٩٢ أنه قد تمت البرهنة عليه) يكشف عن عظمة الله ويضعها في الضوء الصحيح. ولقد عرف السيد «بايل» هذا، عندما أثار في قاموسه (مادة روراديوس)٩٣ عدة اعتراضات عليه، انساق فيها إلى الاعتقاد بأنني أنسب إلى الله أكثر مما ينبغي، بل أكثر مما يمكن نسبته إليه. غير أنه قد عجز عن تقديم أي سببٍ يمكن أن يبرر استحالة ذلك الانسجام الكوني الشامل الذي يجعل كل جوهر يعبر تعبيرًا دقيقًا عن سائر الجواهر الأخرى عن طريق العلاقات التي تربطه بها.
  • (٦٠)
    هذا وتتبين مما سبق الأسباب القبلية التي تجعل الأمور تسير على هذا النحو دون غيره؛ لأن الله عندما دبر نظام الكل قد وضع في اعتباره كل جزء على حدة، كما وضع في اعتباره بوجهٍ خاص كل مونادة على حدة، وهي بطبيعتها كائن متصور،٩٤ فليس ثمة ما يقصرها على تصوير جزء واحد من الأشياء، وإن كان من الصحيح مع ذلك أن هذا التصور، فيما يتصل بالأشياء الجزئية٩٥ الموجودة في العالم، تصور مشوش (مختلط)، ولا يمكن أن يتضح إلا في جزءٍ ضئيلٍ من الأشياء، أعني تلك التي تكون أقربها أو أكبرها بالنسبة لكل مونادة،٩٦ وإلا لكانت كل مونادة إلهًا. وإذن فالحدود «التي تقيد» المونادات لا تتمثل في الموضوع، وإنما تتمثل في أسلوب المعرفة المختلف بالموضوع.٩٧ إنها جميعًا تسعى على نحوٍ مختلط (غامض) للوصول إلى اللامتناهي، إلى الكل،٩٨ ولكنها تظل محدودة ومتميزة عن بعضها البعض عن طريق درجات وضوح الإدراكات وتميزها.
  • (٦١)
    وفي هذا يعبر المركب تعبيرًا رمزيًّا عن البسيط.٩٩ فلما كان كل شيء ممتلئًا أو ملاء١٠٠ — وهذا هو الذي يجعل المادة كلها مترابطة — وكانت كل حركة تتم في الملاء تؤثر على الأجسام البعيدة على حسب بعدها، بحيث إن كل جسم لا يتأثر فحسب بالأجسام الملامسة له مباشرة، ويشعر على نحوٍ من الأنحاء بكل ما يحدث لها، بل يشعر عن طريقها كذلك بتأثير تلك الأجسام التي تلامس الأجسام الأولى التي تلامسه مباشرة، فيلزم عن هذا أن هذا السياق يمتد إلى أي مسافة ممكنة. ويترتب على هذا أن يشعر كل جسم بكل ما يجري في العالم؛ بحيث يستطيع ذلك الذي يرى كل شيء أن يقرأ في كل واحدٍ منها ما يحدث في كل مكان، بل يستطيع أن يرى ما حدث في الماضي، وما سوف يحدث في المستقبل، وذلك بأن يلاحظ في الحاضر ما هو بعيد من جهة الزمان والمكان، وهذا هو الذي سماه بقراط: «تلاؤم الكل»،١٠١ بيد أن النفس لا يمكنها أن تقرأ في ذاتها إلا ما هو متمثل فيها تمثلًا واضحًا متميزًا، إنها لا تستطيع أن تنشر كل ثنياتها المطوية دفعة واحدة؛ لأن هذه تمتد إلى ما لا نهاية.
  • (٦٢)
    ومع أن كل مونادة مخلوقة تصور١٠٢ العالم بأكمله، فإنها تصور الجسم المتعلق بها خاصة، والذي تكون هي «أنتليخياه»١٠٣ تصويرًا أشد تميزًا. وكما يعبر١٠٤ هذا الجسم عن العالم كله — نتيجة السياق المتصل للمادة بأجمعها في الملاء — فإن النفس أيضًا تصور الكون كله، بتصويرها للجسم المتعلق بها تعلقًا خاصًّا (قارن التيوديسية ٤٠٩).
  • (٦٣)
    الجسم الذي يتعلق بمونادة هي أنتليخياه أو نفسه يؤلف مع الأنتليخيا ما يمكن تسميته كائنًا حيًّا، ومع النفس ما يمكن تسميته حيوانًا،١٠٥ وهذا الجسم المتعلق بكائن حي أو حيوان يكون على الدوام جسمًا عضويًّا؛ لأنه لما كانت كل مونادة مرآة تعكس العالم على طريقتها، وكان العالم مدبرًا وفق نظام كامل، فيلزم أيضًا أن يكون هناك نظام فيمن يقوم بتصوره؛١٠٦ أي في إدراكات النفس، وبالتالي في الجسم الذي بمقتضاه يتصور العالم في النفس (قارن التيوديسية ٤٠٣).
  • (٦٤)
    وهكذا يكون كل جسم عضوي للكائن الحي نوعًا من الآلة الإلهية، أو من الآلية١٠٧ الطبيعية التي تفوق جميع الآليات الصناعية١٠٨ إلى حد لا نهائي؛ لأن الآلة التي يصنعها الفن البشري،١٠٩ ليست آلة في كل جزء من أجزائها، فسن العجلة النحاسية على سبيل المثال ذات أجزاء أو قطع لا تُعدُّ في نظرنا شيئًا فنيًّا (أو صناعيًّا)،١١٠ وليس فيها كذلك شيء يجعلنا نلاحظ وجود الآلة التي أُعدَّت العجلة لتشغيلها. أما آلات الطبيعة؛ أي الأجسام الحية، فهل تظي آلات في أدق أجزائها وإلى ما لا نهاية. وفي هذا يكمن الفرق بين الطبيعة والفن؛ أي بين الصنعة الإلهية وصنعتنا البشرية١١١ (قارن التيوديسية ١٣٤ و١٤٦ و١٩٤ و٤٨٣).
  • (٦٥)
    وقد تمكن مبدع الطبيعة من خلق١١٢ هذا العمل الفني الإلهي الذي بلغ الغاية من الإعجاز؛ لأن كل قطعة من المادة ليست فحسب قابلة للتجزئة إلى ما لا نهاية، كما عرف ذلك القدماء، بل إنها كذلك مجزأة في الواقع١١٣ إلى ما لا نهاية، وكل جزء ينقسم بدوره إلى أجزاء، لكل منها حركة خاصة به، ولو كان الأمر على خلاف هذا لما أمكن أن تعبر كل قطعة من المادة عن العالم كله (قارن التيوديسية، المبحث التمهيدي، ٧٠، ١٩٥).
  • (٦٦)

    من هذا نتبين أن أقل جزء من المادة يحتوي على عالم من المخلوقات، والكائنات الحية، والحيوانات، والأنتليخيات، والنفوس.

  • (٦٧)

    يمكن تصور كل قطعة من المادة كما لو كانت حديقة حافلة بالنباتات أو بركة غنية بالأسماك، ولكن كل غصن من أغصان النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من قطرات عصارته هي كذلك مثل هذه الحديقة أو هذه البِركة.

  • (٦٨)
    ومع أن الأرض والهواء الساري بين نبات الحديقة أو الماء الجاري بين أسماك البركة ليست هي نفسها نباتًا ولا سمكًا، فإنها مع ذلك تحتوي على أمثالها،١١٤ وإن تكن في أغلب الأحوال من نوعٍ دقيقٍ يتعذر علينا إدراكه.١١٥
  • (٦٩)
    ولهذا فليس في العالم يباب ولا عقم ولا موت، ليس فيه فوضى ولا اضطراب١١٦ إلا في الظاهر، وهذا أشبه بمنظر بركة نتأملها من بعيد فلا نكاد نرى فيها — إن جاز هذا التعبير — إلا حركة مضطربة، وحشدًا مختلطًا من الأسماك، دون أن نميز الأسماك نفسها بوضوح (قارن التيوديسية، المقدمة).
  • (٧٠)
    نرى من هذا أن لكل جسم حي أنتليخيا تتحكم فيه هي النفس لدى الحيوان، ولكن أعضاء هذا الجسم الحي نفسها زاخرة بكائنات حية أخرى، من نباتات وحيوانات لكل منها كذلك أنتليخياه أو نفسه المتحكمة فيه.١١٧
  • (٧١)
    ولكن لا يجوز أن يتوهم أحد — كما فعل البعض نتيجة إساءة فهم مذهبي١١٨ أن كل نفس لها كتلة أو قطعة معينة من المادة، مخصصة لها إلى الأبد،١١٩ وأنها تبعًا لذلك تملك كائنات حية أخرى أدنى درجة، مجعولة لخدمتها على الدوام؛ لأن الأجسام كلها في سيرورة دائمة، كالأنهار،١٢٠ وتدخل فيها وتخرج منها أجزاء باستمرار.
  • (٧٢)
    وهكذا فإن النفس لا تغير جسمها إلا ببطء وبالتدريج، بحيث لا تجرد أبدًا من جميع أعضائها دفعةً واحدة، وكثيرًا ما يتم التحول بين الحيوانات، ولكن تقمص الأرواح أو تناسخها لا مكان له على الإطلاق، كذلك لا توجد نفوس قائمة بنفسها أو مستقلة تمام الاستقلال (عن الأجسام) ولا أرواح١٢١ بغير أجسام. إن الله وحده منزه عن الجسمية كل التنزيه١٢٢ (قارن التيوديسية ٩٠ و١٢٤).١٢٣
  • (٧٣)
    ولهذا السبب لا يوجد أبدًا تولد كامل ولا موت كامل بالمعنى الدقيق، بمعنى انفصال النفس عن الجسد. وما نسميه بالتوالد إنما هو نوع من التطور والنمو، أما ما نسميه بالموت فهو انكماش وتناقص.١٢٤
  • (٧٤)
    ظل الفلاسفة دائمًا في حيرة من أمرهم حول أصل الأشكال والأنتليخيات أو النفوس. أما اليوم، بعد أن عرفنا من الأبحاث الدقيقة التي أجريت على النباتات والحشرات والحيوانات الأخرى أن الأجسام العضوية في الطبيعة لا تنشأ أبدًا من العماء١٢٥ أو التعفن، وإنما تنشأ دائمًا من بذور كانت تحتوي بغير شك على نوعٍ من التشكل السابق،١٢٦ فقد استنتج العلماء من ذلك أن الجسم العضوي لم يكن هو وحده موجودًا فيها قبل الحمل، بل كانت هناك أيضًا نفس في هذا الجسم، وباختصار أن الحيوان نفسه موجودًا فيها. وعن طريق الحمل توصل هذا الحيوان إلى القدرة على التشكل الكبير فحسب؛ لكي يصير حيوانًا من نوعٍ آخر. ونلاحظ شيئًا شبيهًا بهذا خارج نطاق التولد، عندما تتحول الديدان مثلًا إلى ذباب أو اليرقانات إلى فراشات (قارن التيوديسية ٨٦ و٨٩، المقدمة ٥ب وما بعدها من صفحات ٩٠ و١٨٧ و١٨٨ و٤٣ و٨٦ و٣٩٧).
  • (٧٥)
    يمكن تسمية الحيوانات التي يُرفع بعضها عن طريق الحمل إلى مستوى الحيوانات الكبرى باسم الحيوانات البذرية، أما ما يبقى منها داخل نوعه؛ أي معظمها، فإنه ينشأ،١٢٧ ويتكاثر، ويفنى كالحيوانات الكبيرة، والنخبة القليلة منها هي التي تنتقل إلى مسرح أكبر.
  • (٧٦)
    غير أن هذا لم يكن ليعبر إلا عن نصف الحقيقة،١٢٨ لذلك انتهيت إلى الحكم بأنه إذا كان الحيوان لا ينشأ أبدًا نشأةً طبيعية، فإنه لا يفسد كذلك بطريقة طبيعية، وأن الأمر لا يقتصر فحسب على استحالة التولد، بل يتعداه إلى استحالة الفناء الكامل، واستحالة الموت بمعناه الدقيق. وهذه التأملات التي تمت بطريقةٍ بعدية، واستُخلصت من التجربة تتفق تمام الاتفاق مع المبادئ التي استُنتجت فيما سبق بطريقةٍ قبلية١٢٩ (قارن التيوديسية ٩٠).
  • (٧٧)
    يمكن القول إذن بأن النفس (وهي مرآة عالم لا يندثر)١٣٠ ليست هي وحدها التي لا يجوز عليها الفناء، بل كذلك الحيوان نفسه،١٣١ على الرغم من أن آلته تفسد في كثيرٍ من الأحوال فسادًا جزئيًّا وتنزع أو ترتدي أغشية عضوية١٣٢ (قارن التيوديسية، المقدمة ٦ و٣٤٠ و٣٥٢ و٣٥٣ و٣٥٨).
  • (٧٨)
    وقد أتاحت لي هذه المبادئ وسيلة تفسير اتحاد النفس مع الجسم العضوي أو بالأحرى اتساقها معه تفسيرًا طبيعيًّا. إن النفس تتبع قوانينها الخاصة كما يخضع الجسم لقوانينه الخاصة، وهما يتلاقيان١٣٣ بفضل الاتساق المقدر بين جميع الجواهر؛ لأنها جميعًا١٣٤ تمثلات عالم واحد بعينه.١٣٥
  • (٧٩)
    تفعل النفوس وفقًا لقوانين العلل الغائية، عن طريق النزوع، والغايات والوسائل. وتفعل الأجسام وفقًا لقوانين العلل الفعالة أو قوانين الحركات. وهاتان المملكتان، مملكة العلل الفعالة ومملكة العلل الغائية، متجانستان.١٣٦
  • (٨٠)
    عرف ديكارت أن النفوس لا يمكنها أن تمد الأجسام بالقوة؛ لأن كمية القوة التي في المادة ثابتة على الدوام، ومع ذلك فقد تصور أن النفس يمكنها أن تغير اتجاه الأجسام، ولكنه وقع في هذا الظن؛ لأن القانون الطبيعي الذي يقول ببقاء نفس الاتجاه العام في المادة لم يكن قد عُرف في عهده.١٣٧ ولو انتبه إليه لتوصل إلى مذهبي في الاتساق المقدر.

    (قارن التيوديسية، المقدمة ٢٢ و٥٩ و٦٠ و٦١ و٦٣ و٦٦ و٣٤٥ و٣٤٦ وما بعدها، ٣٥٤ و٣٥٥.)

  • (٨١)
    ويقتضي هذا المذهب١٣٨ أن تفعل الأجسام كما لو كانت النفوس غير موجودة (وهو أمر مستحيل)، وأن تفعل النفوس وكأن الأجسام غير موجودة، وأن يفعل الاثنان، وكأن أحدهما يؤثِّر على الآخر.
  • (٨٢)
    أما العقول أو النفوس العاقلة، فإني وإن كنت أجد أن ما ذكرته الآن يصدق على جميع الكائنات الحية والحيوانات (أي أن الحيوان والنفس لا ينشآن إلا مع نشوء العالم، ولا يفسدان إلا بفساده)، فإن الحيوانات العاقلة تتميز مع ذلك بأن حيواناتها البذرية الصغيرة، ما بقيت كذلك ولم تتعده،١٣٩ لا تملك إلا نفوسًا عادية أو نفوسًا حساسة، ولكن بمجرد أن تصل تلك التي يمكن أن نصفها بأنها نخبة مختارة إلى الطبيعة الإنسانية عن طريق الحمل الفعلي، فإن نفوسها الحساسة ترتفع إلى مستوى العقل، وترقى إلى المزية «التي تتمتع» بها العقول (قارن التيوديسية ٩١ و٣٩٧).
  • (٨٣)
    يضاف إلى الفروق الأخرى بين النفوس العادية والعقول، وهي الفروق التي قدمت جزءًا منها فيما سبق،١٤٠ أن النفوس على وجه الإجمال مرايا حية أو صور من عالم المخلوقات، أما العقول فهي بالإضافة إلى ذلك صور من الألوهية أو من مبدع الطبيعة ذاته، إنها تملك القدرة على معرفة نظام العالم،١٤١ ومحاكاة شيء منه في عينات (أو نماذج) معمارية خاصة،١٤٢ إذ إن كل عقل في مجاله أشبه بألوهية صغيرة (قارن التيوديسية ١٤٧).
  • (٨٤)
    وهذا هو الذي يجعل العقول (أو الأرواح)١٤٣ قادرة على الدخول مع الله في نوعٍ من الحياة الجماعية،١٤٤ بحيث لا يكون الله بالنسبة إليها كالمخترع بالنسبة لآلته فحسب (كما هو الحال بالقياس إلى علاقة الله بسائر المخلوقات)، وإنما يكون كذلك كالأمير بالنسبة لرعاياه، بل كالأب بالنسبة لأبنائه.
  • (٨٥)
    من هذا نستنتج بسهولة أن مجموع العقول (أو الأرواح) يؤلف بالضرورة مدينة الله؛١٤٥ أي أكمل مدينة ممكنة في ظل أكمل الحكام (قارن التيوديسية ١٤٦، ومجمل الاعتراضات، الاعتراض الثاني).
  • (٨٦)
    إن مدينة الله هذه، هذه المملكة الكلية الشاملة بحق، هي عالم أخلاقي داخل العالم الطبيعي، وهي أسمى أعمال الله وأكثرها ألوهية. إنها التعبير الصادق عن مجد الله، إذ لن يكون لديه شيء منه إن لم تعرف العقول (الأرواح) عظمته وخيريته،١٤٦ وتحس نحوهما بالإعجاب، وهو كذلك يملك الخيرية (الطيبة) خاصة بالمقياس إلى هذه المدينة الإلهية،١٤٧ في حين أن حكمته وقدرته تتجليان في كل شيء وفي كل مكان.١٤٨
  • (٨٧)
    وكما بينا فيما تقدم أن هناك تجانسًا كاملًا بين مملكتين طبيعيتين، هما مملكة العلل الفاعلة ومملكة العلل الغائية، فينبغي علينا أن نشير هنا أيضًا إلى تجانس١٤٩ آخر يقوم بين مملكة الطبيعة الفيزيائية وبين مملكة الفضل الإلهي الأخلاقية؛١٥٠ أي بين الله بوصفه مهندس الآلة الكونية، وبين الله بوصفه ملكًا على المدينة الإلهية للأرواح (قارن التيوديسية ٦٢ و٧٤ و١١٨ و٢٤٨ و١١٢ و١٣٠ و٢٤٧).
  • (٨٨)
    هذا التجانس يجعل الأشياء تؤدي إلى الفضل الإلهي بالطرق١٥١ الطبيعية نفسها، كما يفرض على هذه الكرة الأرضية مثلًا أن تدمر ويعاد بناؤها بالطرق الطبيعية في وقتٍ معلوم، عندما تطلب ذلك حكومة الأرواح عقابًا للبعض وثوابًا للبعض الآخر.

    (قارن التيوديسية ١٨ وما بعدها ١١٠ و٢٤٤ و٢٤٥ و٣٤٠.)

  • (٨٩)
    يمكن كذلك القول بأن الله بوصفه البناء الأعظم١٥٢ يرضي الله بوصفه المشروع من كل ناحية، وأن الخطايا ينبغي تبعًا لذلك أن تحمل معها العقاب الذي تستوجبه بمقتضى النظام الطبيعي، بل بمقتضى البنية١٥٣ الآلية للأشياء ذاتها، كما تحصل الأفعال الطيبة، بالقياس إلى الأجسام، على جزائها١٥٤ بالطرق الآلية، وإن لم يكن من الممكن ولا من الجائز أن يتم هذا دائمًا على الفور.١٥٥
  • (٩٠)
    وصفوة القول أنه لن يبقى في ظل هذه الحكومة الكاملة فعل خير بغير ثواب، ولا فعل شيء بغير عقاب، وأن كل شيء ينبغي أن يسخَّر لخير الطيبين؛ أي لغير الساخطين في هذه الدولة العظيمة، أولئك الذين يثقون بالعناية الإلهية بعد أداء واجبهم، ويحاكون مصدر كل خير، ويحبونه الحب الذي يليق به، ويبتهجون بالنظر في كمالاته، كما تقضي بذلك طبيعة الحب الصادق المحض، الذي يجعلنا نسعد بسعادة من نحب. وهذا هو الذي يجعل الحكماء١٥٦ والفضلاء من الناس يشاركون بجهدهم في كل ما يبدو متسقًا مع إرادة الله التي وعد بها أو سبقت في علمه، ويقنعون مع هذا بما تقضي به مشيئته الخافية المحكمة الفاصلة. إنهم ليقرون بأننا لو استطعنا أن نفهم نظام الكون فهمًا كافيًا لاكتشفنا أنه يفوق كل ما يتمناه أحكم الحكماء، وأن من المحال أن يكون أفضل مما هو عليه، لا بالقياس إلى الوجود الكلي بوجهٍ عامٍّ فحسب، بل كذلك بالقياس إلينا نحن بنوعٍ خاص، إذا سلمنا التسليم الواجب بمشيئة خالق كل شيء لا بوصفه البناء الأعظم،١٥٧ والعلة الفعالة لوجودنا، بل باعتباره سيدنا ومولانا، والعلة الغائية التي ينبغي أن تكون الهدف الكلي لإرادتنا، وتستطيع وحدها أن تحقق سعادتنا.

    (قارن التيوديسية ١٣٤ الخاتمة، والمقدمة ٤أب، ٢٧٨ وراجع كذلك المقال في الميتافيزيقا، ٣٦ و٣٧.)

١  تتَّصل هذه الإشارة وغيرها من الإشارات الواردة في أواخر الفقرات بمواضع مقابلة لها في كتاب ليبنتز عن العدل الإلهي (التيوديسية). والجدير بالملاحظة أن ليبنتز هو الذي أضافها بنفسه إلى المخطوطة الأصلية. ونجد فرقًا طفيفًا، ولكنه بالغ الأهمية بين هذه الفقرة وبين الفقرة الأولى من «المبادئ»، إذ يتحدَّث ليبنتز هنا عن المركب بوجهٍ عام، بينما يتحدَّث هناك عن الجوهر المركب. ولا بدَّ أنه يعني الجسم في الحالين؛ إذ يقول عنه في موضعٍ آخر إنه ليس جوهرًا بالمعنى الدقيق للكلمة؛ ومن ثمَّ فإن تعبير «الجوهر المركب» المستخدم في المبادئ لا بد أن يكون خاطئًا؛ لأنَّ الجوهر لا يمكن أن يكون مركبًا. ولا بد من الانتباه إلى هذه التفرقة، حتى لا يُساء فهم مذهب ليبنتز الذي لم يراعِ الدقة في استخدام المصطلح.
٢  أو أشياء بسيطة.
٣  أي حيث لا تكون ثمة فروق مكانية.
٤  أو لا يُمكن أن يَتشكَّل بالتدريج عن طريق إضافة جزء إلى جزء؛ إذ إنَّ المونادات بلا أجزاء. ومع هذا فيُمكن القول بأن المونادة لا تولد كاملة تامة، بل تتطوَّر من داخلها تطورًا تدريجيًّا. فلماذا يستحيل عليها إذن أن توجد على نحوٍ طبيعي؟
٥  يلاحظ أن ليبنتز يستخدم كلمتي «تبدأ وتنتهي»، وقد سايره في ذلك المُترجم الإنجليزي «لاتا»، أما الألماني فترجمها بالنشوء والفساد. والمراد بهذه الفقرة هو تأكيد خلق المونادات، مع ملاحظة أن هذا الخلق ليس حدثًا يتم في الزمان؛ لأنَّ الزمان والمكان متعلِّقان بالظواهر وحدها، أما المونادات فلا توجد في مكانٍ ولا زمان، بل هي شروط لوجودهما.
٦  أو على أجزاء؛ أي إنه يتكوَّن ويُفسد جزءًا جزءًا.
٧  أي إن الأشياء الأخرى لا يُمكنها أن تغير من طبيعة المونادة، بحيث تستحيل شيئًا آخر، ولا أن تغيِّر حالتها تغيرًا من ذلك النوع الذي يصيبها دون أن يستلزم بالضرورة تغيُّر طبيعتها.
٨  تتضمَّن هذه العبارة أن كل تغيير يلحق بالأجسام، إنما يرجع إلى تغيُّر الأجزاء، كما يرجع في النهاية إلى التغيُّر في كمية الحركة واتجاهها.
٩  species sensibiles لاتينية ترجمتها الحرفية هي الأنواع الحسية، وتُقابلُها في اليونانية الأيدوس Eidos، وكان المدرسيُّون في العصور الوسطى يَقصدون بها صور الإدراك الحسِّي (في مقابل الصور العقلية Species intelligibilis) متأثِّرين في هذا التعبير بنظرية الصور والانعكاسات التي ترجع إلى ديموقريطس، وتُفسِّر الإدراك الحسي بالصور التي تنبعث من الأشياء، وتُؤثِّر على أعضاء الحس. ويبدو أن ليبنتز كان يُفكِّر عند كتابة هذه العبارة في النظرية التي قال بها القدماء من أصحاب مذهب الذرة من أن هناك جزيئات أو جسيمات تنفصل في عملية الإدراك عن الشيء المدرك، وتَنتقِل إلى المدرك فتتحوَّل إلى صور أو تمثُّلات للكيفيات والخصائص الموجودة في ذلك الشيء. وقد سمَّى ديموقريطس هذه الصور بالأيدولات είδωλα، أما نظرية المدرسيين فتتلخَّص بوجهٍ عامٍّ في أن الأنواع والصور الحسية والعقلية التي لدينا تشترك اشتراكًا ما مع أعراض الأشياء أو ماهيتها الموجودة فيها، وإن كان الخلاف كبيرًا حول طبيعة هذه العلاقة بين الصور والأشياء.
١٠  كتب ليبنتز بعد هذه الجلة عبارة شطبها من الأصل، ويقول فيها: «ولو كانت الجواهر البسيطة لا شيء، لردَّت المركبات أيضًا إلى اللاشيء.» وهذا يُؤكِّد أن الكائن الذي لا كيفية له لا يُمكن تمييزه عن اللا شيء. ويبدو أن ليبنتز يقصد الإشارة ضمنًا إلى أن المونادة لا بدَّ أن تكون لها أكثر من كيفية. هذا ونجد هربارت (١٧٧٠–١٨٤١م)، الذي أشرنا إليه في المقدمة، والذي تأثَّر بليبنتز وأقام مذهبه الميتافيزيقي على أساس فكرة المونادة، يصف المونادات بأنها كيفيات أولية، ويقول: إنَّ الجوهر لا يكون بسيطًا بحقِّ إلا إذا احتوى على كيفية نهائية واحدة.
١١  أو كيفياتها.
١٢  استخدمت الكلمة القديمة المألوفة في كتابات الفلاسفة المسلمين، وهي ترجمة لكلمة Le Plein التي يستخدمها ليبنتز، والمراد بها المكان المُمتلِئ بلا فراغ ولا قفزات.
١٣  أي كل جزء من أجزاء المكان.
١٤  هذا هو المبدأ المعروف «بهوية اللامتميزات»، وهو مترتِّب على طبيعة المونادة نفسها. فكل مونادة جزء أو عنصر من عناصر العالم، بمعنى أنها أشبه بمرآةٍ تَعكسه من زاويةٍ معينةٍ أو منظورٍ مختلف عن أي مونادةٍ أخرى. ولما كانت المونادات مُنفصِلة عن بعضها تمام الانفصال، فلا بدَّ أن تعكس كل منها العالم بطريقةٍ مختلفة. ولهذا فلا يُمكِن أن نجد مونادتين (وبالتالي لا يُمكن أن نجد شيئين؛ إذ الأشياء مركبات مؤتلفة من مونادات) متشابهتين تمام التشابه، ولا يُمكِن أيضًا أن يكون الفرق بين الأشياء مجرَّد فرق في العدد. وتختلف المونادات عن بعضها البعض من حيث الكيفية أو الخاصية وحدها، بحيث يَستحيل أن نجد مونادتَين لا تختلفان من ناحية الكيف. ومعنى هذا كله أن الموجودات أفرادٌ مُتميزة، وأننا لا يُمكِن أن نجد من بينها فردَين غير مُتميِّزَين. وقد روى ليبنتز في رسالته الرابعة إلى كلارك Clarke قصة طريفة جرت له عندما كان يتمشَّى في حديقة «هيرنهاوزن» مع راعيته صوفي أميرة هانوفر ومعهما «سيد ذكي» من معارفه. ويبدو أن ليبنتز كان يشرح مبدأ التفرُّد أو التميُّز الذي نتحدَّث عنه، فزعم هذا السيد الذكي أن من السهل عليه أن يجد ورقتي شجر مُتشابهتَين تمام التشابه لم تُصدقه الأميرة، فراح يبحث عبثًا عن الدليل بين أوراق الشجر، ويُعلِّق ليبنتز على هذه القصة بقوله: «إن من الممكن التمييز بين قطرتي الماء أو اللبن إذا نظرنا إليهما من خلال الميكروسكوب (المِجهَر)، ولو افترضنا وجود شيئَين لا يمكن التمييز بينهما لكان معنى هذا أننا نفترض نفس الشيء تحت اسمين مختلفين.» ولعلَّ الفيلسوف اللاهوتي الألماني نيقولاوس الكوزاني (نسبةً إلى بلدة كوز على نهر الموزل ١٤٠١–١٤٦٤م) هو أول من فطن إلى هذا المبدأ وعبَّر عنه. فهو يقول: إن من المستحيل وجود عدة أشياء مُتشابهة تمام التشابه؛ إذ لن تكون لدينا في هذه الحالة عدة أشياء، بل نفس الشيء. ولذلك فإن جميع الأشياء تتَّفق مع بعضها وتختلف عن بعضها في آنٍ واحد. يقول في كتابه العلم بالجهل أو العلم الجاهل ٣ و١: «لا بدَّ أن تختلف جميع الأشياء بالضرورة عن بعضها البعض. ولا بد أن يكون هناك تنوع في درجات الكمال بين أفرادٍ عديدة من نفس النوع. وما من شيءٍ في العالم لا يتمتَّع بتفردٍ معين لا نجد له نظيرًا في أي شيءٍ آخر.» ولا شكَّ أن هذه كلها أفكار يُمكِن أن تلهم ليبنتز بالكثير من آرائه، ولكن ليس هناك دليل ثابت على ذلك، ولا نجد في كتاباته الفلسفية أيَّة إشارة إلى هذا اللاهوتي العظيم، اللهم إلا في إحدى رسائله إلى مجلة العلماء Acta Eruditorum (١٩٦٧م)، حيث نراه يشير إليه بوصفه عالمًا في الرياضيات. وإن كان هذا لا ينفي أنه اطَّلع على كتابات الكوزاني؛ إذ المعروف عن ليبنتز أنه لم يكن يَميل إلى الاعتراف بمَصادِرِه!
١٥  حرفيًّا: أرى كذلك أن من المسلم به أو المتَّفق عليه. وهناك تغيُّر مُستمر في المونادات المخلوقة، ولو لم يَبدُ عليها أي تغيُّر. وانتفاء التغير الذي يبدو لنا هو في الحقيقة درجة بسيطة جدًّا من التغيُّر. وهذه الفقرة تطبيقٌ لمبدأ الاستمرار أو الاتصال (انظر الفقرة ١٣ والهامش).
١٦  أي التغيُّرات التي لا تتمُّ بمُعجزة أو نتيجة خلق المونادة أو إفنائها.
١٧  في الأصل un detail de ce qui change، وقد أخذنا بالترجمة الألمانية، أما الترجمة الإنجليزية (لاتا، ص٢٢٣، هامش ١٨) فتقول: لا بد أن تكون هناك، بجانب مبدأ التغيُّر، سلسلة خاصَّة من التغيرات.
١٨  هذه إشارة واضحة إلى قانون الاستمرار أو الاتصال. فكلُّ شيء يتغيَّر باستمرار، وفي كل جزء من هذا التغير يوجد عنصر دائم وعنصر مُتغير؛ أي إنَّ كل شيء، في كل لحظة، يكون ولا يكون، وكل شيء يصير شيئًا لا يجعله مع ذلك «شيئًا آخر».
١٩  يقول ليبنتز في رسالته إلى دي بوس Des Bosses (١٧٠٦م): «لما لم يكن الإدراك سوى التعبير عن أشياءٍ كثيرةٍ في شيءٍ واحد، فلا بدَّ بالضرورة أن تكون جميع الأنتليخات أو المونادات موهوبة بالإدراك.» كما يقول كذلك في رسالة إلى أرنو Arnauld (١٦٨٧م): «إنَّ اتصال المادة وانقسامها هو الذي يجعل لأقل حركة أثرها على الأجسام المُجاوِرة، وبالتالي على جسم بعد الآخر إلى ما لا نهاية، بدرجة تقلُّ شيئًا فشيئًا، ولهذا فلا بدَّ أن يتأثر جسمنا بالتغيرات التي تلحق جميع الأجسام الأخرى، ولكن جميع حركات جسمنا تُقابلها إدراكات لنفوسنا على حظٍّ كبيرٍ أو قليلٍ من الاختلاط، وتبعًا لهذا فسوف تكون لدى نفوسنا أيضًا فكرة ما عن جميع الحركات التي تتمُّ في العالم، وفي رأيي إن كل نفس أخرى أو جوهر آخر سيكون لديه شيء من الإدراك لها أو التعبير عنها.»
٢٠  من المعروف أن ديكارت يرى أن الحيوانات والنباتات ليست إلا آلات حية أو تكوينات ميكانيكية خالصة، أو أجزاء من الامتداد بعيدة كل البُعد عن الفكر والشعور. قارن المقال في المنهج، الجزء الخامس، والتأمُّلات ٢ و٦، ومبادئ الفلسفة ١ و٤٨.
٢١  Entelecbie كلمة يونانية مركَّبة من en (في) وtelos (هدف، غاية) وفعل المِلكية echein أي يملك غايته أو هدفه في ذاته، وقد كان أرسطو أول من أرسى هذا المُصطلَح، وأعطاه الصورة الحيوية والغائية التي لا تزال مرتبطة به. والأنتليخيا عند أرسطو هي بوجهٍ عامٍّ الصورة أو الشكل الذي يتحقَّق في المادة، وهي بوجه خاص تلك القوة أو الطاقة الكامنة في الكائن العضوي الحي، والتي تدفعه من الداخل إلى التحقُّق والكمال. ومن ثمَّ يصف أرسطو النفس بأنها كمال أول (أنتليخيا) لجسم عضوي قادر على الحياة (كتاب النفس، ٢ و١ و٤١٢أ). ويظهر هذا التصور الأرسطي في كل تفكير غائي، سواء عند توماس الأكويني أو ليبنتز (المونادولوجيا، والمقالات الجديدة ٢ و٢١) أو جوته الذي تأثَّر بمذهب ليبنتز في المونادة، وبرَّر به خلود الرُّوح (راجع أحاديثه مع إكرمان في الثاني من شهر مارس سنة ١٨٢٨م، واليوم الأول من شهر سبتمبر ١٨٢٩م، والثالث من مارس سنة ١٨٣٠م)، وأخيرًا تظهر نفس الفكرة ونفس المصطلح عند أحد فلاسفة الحياة وهو هانزدريش (١٨٢٧–١٩٤١م)، الذي يصفها بأنها الطاقة التي تجعل من الكائن العضوي الحي كلًّا أكبر من أجزائه (انظر كتابَيه النزعة الحيوية، وفلسفة الكائن العضوي).
٢٢  يرى ديكارت أن خلود النفس يَعتمد اعتمادًا مطلقًا على إرادة الله (راجع موجز التأملات، والترجمة العربية لأستاذنا الدكتور عثمان أمين، ص٣٩–٤٣، القاهرة، ١٩٥٦م، وكذلك رد ديكارت على الاعتراضات الثانية، ٧)، وينتقد ليبنتز رأي ديكارت على هذا النحو: «إن خلود النفس، كما قرَّره ديكارت لا فائدة منه، ولا يُمكنه أن يمنحنا أي نوع من العزاء؛ لأننا إذا سلمنا بأن النفس جوهر، وأن الجواهر لا تفنى، فإن النفس لن تضيع عندئذٍ؛ إذ لا يضيع شيء في الطبيعة، ولكن النفس مثلها مثل المادة، ستتغيَّر من ناحية المظهر، وكما أن المادة التي جعل منها الإنسان كانت في أوقاتٍ أخرى تَنتمي للنباتات والحيوانات، فإنَّ النفس قد تكون خالدة بنفس الطريقة، إلا أنها ستمرُّ بتغيُّرات لا حصر لها، ولن تتذكَّر أحوالها السابقة، ولكن هذا الخلود العاطل من التذكُّر لا جدوى منه على الإطلاق من الناحية الأخلاقية؛ لأنه لا يتَّسق مع الثواب والعقاب. فما الفائدة يا سيدي من أن تُصبح ملكًا للصين، بشرط أن تنسى ما كنته؟ ألن يَتساوى هذا مع القول بأن الله في اللحظة التي أفناك فيها كان على وشك أن يخلق ملكًا في الصين؟!» ومع ذلك فيمكن أن نُنصف ديكارت، ونرد على لسانه بهذه العبارات التي جاءت في موجز التأمُّلات، مهما تتغيَّر جميع أعراضها (أي النفس أو الذهن الإنساني اللذَين لا يفرق ديكارت بينهما)، ومهما تكن مثلًا تتصور أشياء، وتريد، وتحس أشياء أخرى، فإنها هي نفسها لن تتغيَّر مع هذه التغيرات (أو لن تصير شيئًا آخر)، في حين أن الجسم الإنساني يصير شيئًا آخر متى تغيَّر شكل أي جزء فيه. ويلزم عن ذلك أن فناء الجسم الإنساني أمر ممكن ميسور، أما ذهن الإنسان أو نفسه فباقية بطبيعتها (راجع أيضًا الفقرة الرابعة من المبادئ).
٢٣  Appetition وراجع المبادئ، فقرة ٢.
٢٤  كان بيير بايل Pierre Bayle (١٦٤٧–١٧٠٦م)، الذي ظلَّ ليبنتز يراسله منذ سنة ١٦٨٧م، قد نقد كتاب «المذهب الجديد» نقدًا شديدًا، وقسا على فكرة الاتساق المقدر بوجهٍ خاص، وذلك في قاموسه التاريخي النقدي Dictionnaire historique et critique، الذي ظهر سنة ١٦٩٧م. وقد رد ليبنتز على هذا النقد في شهر يوليه سنة ١٦٩٨م في مجلة تاريخ أعمال العلماء Histoire des ouvrages، وجعل رده تحت هذا العنوان: «توضيح الصعوبات التي وجدها السيد بايل في المذهب الجديد خاصةً باتحاد النفس والجسم.» ولكن بايل لم يلبث أن كرَّر نقده في الطبعة الثانية من قاموسه التي ظهرت سنة ١٧٠٢م. وعاد ليبنتز فرد عليها بجواب على تأملات السيد بايل حول مذهب الاتِّساق المدبر، وقد كتب هذا الرد سنة ١٧٠٢م، ولكنه لم ينشر إلا سنة ١٧١٢م في «التاريخ النقدي لجمهورية الآداب» (وهي مجلة شهرية لنقد الكتب أسسها بايل سنة ١٦٨٤م) قارن أيضًا مقدمة التيوديسية التي توشك في معظمها أن تكون ردودًا على اعتراضات بايل وأجوبة على حججه وشكوكه حول إمكان التوفيق بين الإيمان والعقل. ويبدو أن ليبنتز كان يعتقد بإيمان بايل، كما كان يَذكره على الدوام باحترامٍ شديد. يدلُّ على هذا قوله عنه (التيوديسية ١٧٤) إنه إنسان لا يفضله أحد، ونعيه له بهذه العبارات الصادقة: «ينبغي أن نؤمن بأن بايل يَستضيء الآن بذلك النور الذي حرمت الأرض منه؛ إذ كان دائمًا رجلًا خيرًا، طيب السريرة.»
٢٥  إحدى مواد قاموس بايل «نسبة إلى جيروم روراديوس» (١٤٨٥–١٥٦٦م) وهو إيطالي، كان رسولًا بابويًّا في بلاط فرديناند ملك هنغاريا. وقد بلغ إيمانه بالإمبراطور شارل الخامس أنه سمع أحد العلماء يُقلل من شأنه بالقياس إلى أوتو وفردريك بارباروسا، فدفعه ذلك إلى كتابة رسالة يؤكِّد فيها إن البشر أقل عقلًا من أدنى الحيوانات! ولم تنشر هذه الرسالة إلا بعد كتابتها بمائة سنة، عندما احتدم النقاش حول رأي ديكارت عن نفوس الحيوانات. ويتَّخذ بايل من اسم روراديوس مناسبة لمناقشة هذه المسألة، وتوجيه نقده الشديد إلى ليبنتز من وجهة نظر ديكارتية. والملاحظ بوجهٍ عام أن بايل يوجه نقده أساسًا إلى فكرة الاتِّساق المقدَّر.
٢٦  أي إن معرفتنا لن تتجاوَز العلم بالأشكال والحركات، حتى ولو كنا نَملك أجهزة مكبرة (ميكروسكوبات) من القوة، بحيث تكشف لنا بوضوح عن دقائق الخلية العصبية والأنسجة العصبية في المخ. ومعنى هذا أن الكائن الحي لو كان مجرَّد آلة؛ أي مادة خالصة، لا تختلف إلا من حيث المكان والشكل والحجم، لما أمكن أن نستنتج منه أو نُفسِّر به غير الآلية؛ أي هذه الاختلافات التي ذكرناها (راجع رسالة ليبنتز في التعليق على نفوس الحيوانات التي كتبها سنة ١٧١٠م Commentatio de Anima Brutorum).
٢٧  المقصود بالآلية أو الميكانيكية هو وجود أجزاء مع أجزاء. وهذا هو الذي يُميِّز جميع المركبات، لا الجواهر البسيطة؛ ومن ثم فلا يُمكنُنا أبدًا القول بأن المادة تُفكِّر؛ لأن المادة تفترض وجود مبدأ مفكر أو على الأقل مبدأ مدرك.
٢٨  راجع المقال في الميتافيزيقا «١٢»، ورسالة ليبنتز إلى أرنو في ٣٠ / ٤ / ١٦٨٧م.
٢٩  باليونانية في النص الأصلي (أخوزي تو أنتيليس) أي ذات هدف أو غاية أو كمال.
٣٠  في الأصل باليونانية (أوتاركيا، راجع الهامش الملحق بالفقرة «١٤» من المونادولوجيا). ويلاحظ للتَّفرقة بين مفهوم ليبنتز للأنتيليخيا ومفهوم أرسطو لها، أنها عند الأول جوهر فردي أو طاقة أو قوة تَحتوي في ذاتها على مبدأ التغيرات التي تلحق بها. وهو يُسميها أنتليخيا، لا لأنها حالة من الكمال المُتحقِّق، بل لأنها تنطوي — بالقوة على حد تعبير أرسطو — على بذور كمالات لا نهاية لها تنزع إلى تنميتها وتتعهَّدها بالرعاية. فهي إذن ليست بحالة نهائية للشيء، بل تتضمَّن اتجاهه أو ميله أو استعداده، وهو شيء وسط بين الإمكان المحض والفعل الكامل التام عند المدرسيِّين.
٣١  أي إنها ليست مجرد آلات، كتلك التي يصنعها الناس، بل آلات تَتحرَّك حركة ذاتية أو تحتوي على مبدأ كل أحوالها، وسبب كل ما يصيبها من تغير؛ بحيث تكون مستقلَّة بنفسها عن كل ما عداها كأنما لا يوجد في العالم كله سواها هي والله. بهذا المعنى تكون المونادات وحدها آلات ذاتية الحركة Automata، أما الآلات الجسمية فلا يُمكن أن تُوصَف بهذا الاستقلال والاكتفاء الذاتي.
٣٢  أي إنَّ الذاكرة أو التذكر هي العلامة الدالة على الوعي أو الشعور تمييزًا له عن الإدراك غير الواعي أو الإدراك الغامض المختلط. ومن الطريف أن ليبنتز قد استبَقَ هذه الفكرة في سنٍّ مبكِّرة، إذ كتب في «نظرية الحركة (١٦٧١م) Theoria motus Abstracti» أن الجسم ذهن لحظي (أي مقيد باللحظة الراهنة) أي ذهن بلا ذاكرة.
٣٣  أو المونادة العارية أو الخالصة «لاتا».
٣٤  يريد ليبنتز أننا نظلُّ في أمثال هذه الحالات على علاقة من نوعٍ ما بالعالم الخارجي، وإن يكن الوعي أو الشعور قد تضاءل إلى الحد الذي يتعذر إدراكه.
٣٥  راجع الفقرة «١٤» من المونادولوجيا.
٣٦  راجع أيضًا الفقرتين «٧٨ و٧٩».
٣٧  أو يَنتبه إليه ويشعر به.
٣٨  لا بد أن يكون لكل إدراكٍ سبب، وهذا السبب لا يُمكن إلا أن يكون إدراكًا آخر، وذلك وفقًا لمبدأ السبب الكافي (انظر الفقرة ١٧)، وإذا لم يأتِ الإدراك السابق قبل الإدراك اللاحق مباشرة، فلا بد أن يكون ثمة انقطاع في وجود النفس الذي يتميز بالاتصال.
٣٩  التميز في الحالين بمعنى الامتياز والتفوق وعلو المنزلة.
٤٠  انظر الفقرتين «٦١ و٦٢» من المونادولوجيا.
٤١  الكلمة الأصلية هي Consecution أي التتابع أو التعاقب، والمراد بها هو الاستنتاج الذي يصل إليه الحيوان بناءً على سلسلة سابقة من المدركات والحوادث، بحيث إذا عرض له واحد منها استدلَّ منه على حادث آخر ارتبط به من قبل. ويظهر أن ليبنتز يُشير إلى ما يُعرف اليوم بتداعي المعاني، الذي عقد له فصلًا من كتابه «المقالات الجديدة» (الذي خصَّصه للرد على كتاب لوك مقال عن العقل الإنساني) ومن يدري؟ لعله بهذه اللمحة العبقرية أن يكون قد استبَقَ ما يقوله بافلوف وأتباعه عن التشريط أو الفعل المنعكِس الشرطي.
٤٢  هكذا في الأصل، والمراد بالطبع هو العادة الراسخة التي تتمكن من الإنسان على المدى الطويل.
٤٣  أو إدراكات عادية.
٤٤  كلمة الطبيب الممارس من الكلمات المألوفة اليوم في حياتنا، ولكنها تختلف اختلافًا تامًّا عما يقصده ليبنتز بالأطباء التجريبيِّين. فقد كان من المعروف، حتى عهد جالينوس (حوالي ١٥٠ بعد الميلاد) أن هناك طبقات أو طوائف عديدة من الأطباء. وكانت إحداها هي طائفة الأطباء التجريبيِّين، الذين يعتمدون في تشخيصهم للمرض على الخبرة وملاحظة الأسباب «المرئية» والملموسة التي أدَّت للإصابة. ثم ساءت سمعة هذه الطائفة في العصور التالية، فأطلقت على الأطباء الذين يعتمدون على الخبرة الشخصية والتقاليد الموروثة، ويحتقِرُون الدراسة النظرية أو يَجهلونها، وهم أشبه «بحلاقي الصحة» الذين بدءوا ينقرضون حتى من الأرياف!
٤٥  أو يُقيم حكمه على أسباب عقلية، راجع أيضًا مقدمة المقالات الجديدة.
٤٦  الحقائق الضرورية والأبدية هي المبادئ الأولى للمعرفة العقلية، وهي مفطورة فينا، بل تقوم عليها طبيعتنا الإنسانية، كما تقوم عليها طبيعة العالم الذي نتمثَّله بحكم ماهيتنا. ولهذا كانت المعرفة بهذه الحقائق مرادفة للمعرفة بأنفسنا، وبالله الذي هو العلَّة الغائية الأخيرة لجميع الكائنات. راجع المقالات الجديدة، الفصلَين الأول والرابع اللذين يشير فيهما إلى أن هذه الحقائق فطرية فينا، ويستشهد بمحاورة «مينو» المعروفة لأفلاطون، حيث يثبت سقراط أن المعرفة تذكر، ويستخرج بأسئلته وحدها المعرفة الرياضية من نفس العبد الصغير «مينو». راجع كذلك مبادئ الطبيعة والفضل الإلهي، الفقرة الخامسة.
٤٧  الكلمة الأصلية هي esprit، وقد ترجمها المترجم الألماني بالرُّوح Geist (التي تعني جماع القوى العقلية) والإنجليزي بالعقل أو الذهن Mind، ورأيت أن العقل هنا أقرب إلى السياق.
٤٨  أو الأفعال التأملية التي تنعكِس فيها على أنفسنا، ونتأمل ما يجري فيها من أحوال.
٤٩  حرفيًّا: تجعلنا نُفكِّر فيما يُسمى «بالأنا».
٥٠  راجع أيضًا رسالة ليبنتز التي وجهها لأرنو في ٨ / ١٢ / ١٦٨٦م، والملاحظ من هذه الفقرة أن الشعور أو الوعي يصبح شعورًا أو وعيًا بالذات عندما نتحقق من طبيعة الحقائق الأبدية الخالدة، أي عندما نعرف أنها هي المبادئ الفطرية التي يقوم عليها وجودنا ووجود العالم كله. ودائمًا ما يكون الجوهر نوعًا من النفس أو الروح؛ لأنه لا بد أن يكون مماثلًا لما نجده في أنفسنا. يقول ليبنتز في المقالات الجديدة (١ و٢١): «إن المعرفة بطبيعة الأشياء لا تكون في أغلب الأحوال إلا معرفة بطبيعة عقلنا وبتلك الأفكار الفطرية التي لا حاجة بنا للبحث عنها خارجها.» كما يقول أيضًا في نفس الكتاب (٢٣): «إن الأفكار العقلية أو أفكار التأمل مستمدة من عقلنا، وإنه ليشوقُني جدًّا أن أعرف كيف كان يتسنى لنا أن نحصل على فكرة الوجود لو لم تكن بحق موجودات، وبذلك نلمس الوجود في أنفسنا.»
٥١  كان ليبنتز في كتاباته المبكرة يُسمِّي هذا المبدأ باسم مبدأ التحديد أو التعيين، ويقصد به المبدأ الذي يُحدد وجود هذا الشيء أو ذاك من بين عدد من الاحتمالات أو الإمكانات التي لا تنطوي على تناقض. وهو يستخدم أحيانًا «مبدأ التلاؤم» أو التجانس كمرادف لمبدأ السبب الكافي. ومعنى هذا أنه يشير ضمنًا إلى أن السبب الكافي لشيءٍ ما يوجد دائمًا في علاقاته بغيره من الأشياء وفي مكانه من النظام العام. ومن الواضح أن مبدأ السبب الكافي شبيه عنده بمبدأ السبب الغائي أو العلة الغائية. ولعله أن يكون قد تأثر بالرياضيات في استخدام كلمة «الكافي».
٥٢  راجع أيضًا المقال في الميتافيزيقا «١٣».
٥٣  تعريف الفكرة عند ليبنتز هو بيان عناصرها التي يكشف عنها التحليل الكامل، راجع «التأملات عن المعرفة والحقيقة والأفكار» (١٦٨٤م).
٥٤  أي: الحقائق الحادثة أو الحادثات.
٥٥  يوجد السبب الكافي للحقائق العَقلية في الحقائق البديهية أو الحقائق الذاتية التي يُمكن أن ترد إليها بالتحليل. أما حقائق الواقع، فيوجد سببها الكافي في الله وحده.
٥٦  أو لكتابي أو مكتوبي هذا.
٥٧  تُثير هذه الفقرة مشكلة العلاقة بين المبادئ المختلفة عند ليبنتز والصعوبات التي تَكتنفها من جهاتٍ عديدة؛ فهي توضح كيف تتحد العلل الفاعلة والغائية لتؤلف العلَّة الكافية أو السبب الكافي؛ إذ لا يكفي أحدهما لتحقيق هذا الغرض. بَيد أن ليبنتز يُوضِّح أيضًا في مواضع أخرى أن العلل الفاعلة تعتمد على العِلَل الغائية. أضف إلى هذا أنه يُوحِّد عادةً بين العلل الفاعلة والعلل الآلية أو الميكانيكية التي تقوم على مبدأ عدم التناقُض. راجع أيضًا الفقرة «٧٩» من المونادولوجيا.
٥٨  تَسير هذه الحجة في نفس الطريق الذي سار فيه أرسطو لإثبات وجود «مُحرِّك أول»؛ إذ اعتمد على المبدأ القائل «بضرورة التوقُّف» (ἀvἁyχη στñv eωή) في تسلسل الأسباب والشروط (راجع كتابي «الكسي» (٦، و٢٣٧ ب٣) والثيتا (٥ و٢٥٦ أ١٣) من كتاب الطبيعة. وقارن كذلك نقد العقل الخالص لكانت، باب الديكالكتيك الترنسند نتالي، الكتاب الثاني، الفصلين الثاني والثالث).
٥٩  على نحو سامٍ أو رفيع eminemment في مقابل على نحوٍ شكليٍّ أو صوري formelle، والاصطلاحان مدرسيان استخدمهما ديكارت.
٦٠  هذه هي صيغة الدليل الكوني أو الكوزمولوجي عند ليبنتز، فجميع الأشياء الجزئية مُرتبطة ببعضها البعض داخل نظامٍ واحد يتضمَّن مبدأ واحدًا، وجوهرًا واحدًا ضروريًّا، وإلهًا واحدًا. ولا يَسير الدليل من النظام الموجود في العالم إلى العقل المدبر له، بل يستمدُّ قوتَه من أن الكل يكون نظامًا واحدًا يدل على وجود سبب كافٍ أخيرٍ لهذا الكل. ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت هناك أنظمة مختلفة تدخل في صراعٍ مع بعضها البعض؛ إذ يَفترض كلٌّ منها مبدأً أو إلهًا خاصًّا به، وهو مُحال.
٦١  حرفيًّا: نتيجة بسيطة أو مجرَّد نتيجة للوجود المُمكن، ومعظم الترجمات تقول: وهذا الجوهر سلسلة بسيطة للوجود الممكن، ولكن السياق يقتضي الترجمة التي اخترناها، حتى يستقيم الدليل الأنطولوجي.
٦٢  لما كان الله هو السبب الكافي لكل شيء، فليس هناك شيء مُستقلٌّ عنه أو لا يعتمد في وجوده عليه. ولو حددت إمكانيته على أيِّ صورة، فلا بد أن يأتي ذلك من إمكانية أخرى مُستقلة عنه وتقع خارجه. يلزم عن هذا أن إمكانيته لا يُمكن أن يحدها شيء. والإمكانية غير المحدودة تعني الواقع والوجود غير المحدود؛ إذ إنَّ ما هو مُمكن لا بد أن يكون واقعيًّا، إلا إذا كان هناك ممكن آخر يُحدده.
٦٣  يلاحظ أن طبعة إردمان (برلين ١٨٤٠م) لأعمال ليبنتز تسقط عبارة تالية تضيفها طبعة جرهارت (١٨٧٥–١٨٩٠م في الهامش)، بينما تسقطها الطبعات الأخرى التي بين أيدينا باستثناء طبعة «لاتا» الإنجليزية وطبعة بول ليمير (سلسلة الكلاسيكيِّين للجميع، العدد ١٤١، مكتبة آتييه)، ويبدو أن ليبنتز قد أضاف العبارة عند مراجعة النسخة الأولى من المونادولوجيا: «ويلاحظ هذا النقص الأصلي للمخلوقات في القصور الذاتي الطبيعي للأجسام» (التيوديسية ٢٠ و٢٧–٣٠ و١٥٣ و١٦٧ و٣٧٧ وما بعدها).
٦٤  في الأصل بصيغة الجمع eyistences.
٦٥  source ويمكن ترجمتها أيضًا بالأصل.
٦٦  ليس الله هو مصدر كل وجود واقعي أو فعلي فحسب، بل هو كذلك مصدر كل وجود ممكن، أو كل ما ينزع للوجود. وما يحتوي عليه الإمكان من واقع هو نزوعه أو ميله لأن يوجد. ويلاحظ أن «الماهيات» أو «الممكنات» مستقلة بمعنًى من المعاني عن الله. إنه لا يخلقها كماهيات، وإنما هي موضوعات ذهنه، ولا يُحدِّد طبيعتها إلا مبدأ عدم التناقض، ولكنها بمعنًى آخر تعتمد في وجودها على الله؛ إذ تُعبر بصورةٍ أو بأخرى عن طبيعته وحريته. على أن حريته تقتصر على اختيار تلك الماهيات التي سيتحقَّق وجودها بالفعل، كما أن هذا الاختيار الذي تحدده حكمته وخيريته يضع طبيعة الماهيات نفسها في الاعتبار.
وهكذا يُمكن القول مع النص بأنه «بغيره لن يوجد شيء» (لأن وجود الأشياء مُترتِّب على إرادته واختياره)، «وبغيره لن يُمكن وجود شيء» (لأن كل ما هو ممكن إنما هو موضوع ذهنه)، ولما كان الذهن الإلهي كاملًا أي خالصًا من كل غموض أو اختلاط يشوب إدراكه، فلا بد أن يكون موضوعه هو الماهية الأخيرة للأشياء؛ أي هو ماهية الله نفسه، ولهذا نجد ليبنتز يُوحِّد في الفقرة التالية بين الماهيات أو المُمكنات وبين الحقائق الأبدية.
٦٧  يربط ليبنتز هذا الجزء من مذهبه بعالم المُثُل عند أفلاطون. يقول في رسالته إلى هانشيوم (١٧٠٧م) Epistola ad Hanschium إن من أروع ما ذهب إليه أفلاطون القول بأن في الذهن الإلهي عالمًا معقولًا، وأنا أميل إلى تسميتِه منطقة الأفكار.
٦٨  أي: إمكان وجوده.
٦٩  راجع الفقرات السابقة من «٣٦» إلى «٣٩».
٧٠  يقول ديكارت في رسالة له إلى الأب ميرسين Mersenne (طبعة كوزان، المجلد ٦، ص١٠٩): «إن الحقائق الميتافيزيقية التي تصفها بأنها أبدية، إنما هي حقائق قرَّرها الله، وتعتمد عليه اعتمادًا تامًّا، شأنها شأن جميع المخلوقات؛ ذلك لأنك لو قلت بأن هذه الحقائق مُستقلة عن الله لكنت تتكلَّم عنه كما لو كان «جوبيتر» أو «زحل» ولأخضعته لأستكس (نهر في الجحيم أو العالم السُّفلي في أساطير الإغريق) أو ربات القدر … إن الله قد وضع هذه القوانين في الطبيعة كما يضع أحد الملوك قوانين مملكته.» كما يقول في موضعٍ آخر من نفس الرسالة (ص١٠٣): «لا نستطيع أن نزعم، بغير أن نقع في خطيئة التجديف، أن حقيقة أي شيء تسبق علم الله به؛ لأن إرادة الله وعلمه شيء واحد.» ومن المعروف أن ديكارت قد جعل صدق الحقائق الرياضية أمرًا متوقفًا على إرادة الله وحريته، فقد كان الله حرًّا في أن يجعل قضية كهذه «زوايا المثلث الثلاث تساوي قائمتين» قضية كاذبة.
٧١  بيير بواريه Pierre Poiret (١٦٤٦–١٧١٩م) وزير وفيلسوف ومتصوف فرنسي، ولد بمدينة ميتس ومات في رينسبورج بالقرب من مدينة ليدن. عمل في دوقية «تسفاي بروكن» في منطقة الراين، وكانت إحدى المقاطعات الألمانية التابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة. كان في بداية حياته من أنصار ديكارت، ثمَّ ابتعد عن مذهبه العقلاني كل البُعد ومال إلى التصوف، وتعمق فيه متأثرًا بالمتصوف الألماني يعقوب بومه (١٥٧٥–١٦٢٤م)، والمتصوفة الهولندية أنطوانيت بورينيون التي كتب سيرة حياتها ونشر آراءها. وقد صدر كتابه الأساسي الذي وضعه باللاتينية سنة ١٦٧٧م، وعنوانه «تأمُّلات عقلية عن الله والنفس والنشر» (وقد هاجمه بايل هجومًا شديدًا).
٧٢  حرفيًّا: هي منتجاته أو من إنتاجه Productions، وقد فضلت عليها هذا التصرف البسيط.
٧٣  ومضات أو فيوضات مفاجئة، على نحو ما يقول ليبنتز في موضعٍ آخر (ذكره روبرت لاتا، ص٢٤٣، هامش ٧٥ عن طبعة جرهارت، مجلد ٤، ص٥٣): «إن الله هو المركز الأصلي الذي تفيض عنه (أو تَصدُر عنه) سائر الموجودات.» والواقع أن علاقة الله بالمونادات تُمثِّل نقطة أساسية في مذهب ليبنتز، فهو يُحاول دائمًا أن يحافظ على تفرُّد المونادات ووحدتها مع تأكيد اتِّحادها بالله. ولهذا يبدو أنه يستخدم كلمة الومضة كحدٍّ وسط بين الخلق والفيض؛ إذ قد يعني الخلق نوعًا من الانفصال التام بين الله وسائر المونادات، كما يعني الفيض نوعًا من الهوية الكاملة بينهما، ولهذا فإن استخدام كلمة الومضات يعني أن المونادة إمكانية تنزع باستمرار إلى التحقُّق، ولا تَستغني عن معرفة الله وإرادته واختياره لتحريرها من تأثير الإمكانيات المضادة. ولهذا وجب التمييز بين هذه الومضات المستمرة وبين فكرة «الخلق المتصل» عند ديكارت التي تعني عنده تجدُّد الخلق في كل لحظة.
٧٤  يُشير ليبنتز في التيوديسية (١٥٠) إلى العلاقة بين صفات الله وبين مذهب التثليث المسيحي؛ فالقوة تشير إلى الآب، والحكمة للكلمة، والإرادة أو الحب للروح القدس.
٧٥  يؤكد ليبنتز هنا رأيه في أن المونادة في جوهرها قوة أو طاقة أو فاعلية تعبر عن نفسها بالإدراك والنزوع. ولا حاجة بنا لافتراض أن الموضوع أو الأساس الذي يتحدث عنه هنا شيء مستقل بذاته عن هاتين الملَكتين.
٧٦  من الكلمتين اللاتينيتين Perfecte كمال وHaheo فعل الملك، وتقابل الكلمة اليونانية (راجع هامش الفقرة ١٤).
٧٧  هرمولاوس بارباروس Hermolaus Barbarus أو على الأصح Ermolao Bárbaro (١٤٥٤–١٤٩٣م) عالم إيطالي وأحد ممثلي النزعة الإنسانية وحركة بعث النصوص الكلاسيكية. ولد في مدينة البندقية وعمل أستاذًا للفلسفة بجامعة بادوا. عُرف بترجماته لأرسطو وشروح ثامسطيوس عليها، وبذل جهودًا طيبة لعرض مذهب أرسطو الأصيل قبل أن يحرفه المدرسيون. ويروى عنه أنه لجأ للسحر والتعاويذ ليحضر روح إبليس، ويسألها عن معنى كلمة «أنتليخيا» التي يبدو أنها حيرته وأرَّقت لياليه! وقد روى ليبنتز هذه القصة في كتابه عن العدل الإلهي (التيوديسية، ٨٧).
٧٨  ليس للمونادة بطبيعة الحال فعل في اتجاه الخارج، وإنما هو تعبير أراد به ليبنتز أن يفسر ما نقصده عندما نتحدث عن الفعل الخارجي، على نحو ما يفسر الفلكيون ما نقصده عندما نتكلم عن الشروق والغروب، على الرغم من أن الشمس لا تشرق ولا تغرب!
٧٩  Confuses هي الإدراكات غير الواضحة أو الغامضة المختلطة، وقد أثبتُّ المعنى الأصلي، وأضفت إليه المعنى الذي وضعه المترجم الألماني بين قوسين. وإن شئت مزيدًا من التفصيل عن الفرق بين الإدراكات المتميزة والإدراكات الغامضة أو غير المتميزة، فارجع إلى أعمال ليبنتز التالية: مقال في الميتافيزيقا ٢٤، والمقالات الجديدة، المقدمة، وتأملات عن المعرفة الحقيقية والأفكار.
٨٠  أو سببه ومُبرره، وبهذا يكون تغير الحدث أو علته هو سببه الحقيقي. وهذا يرتبط برأي ليبنتز في أن وجود الشيء إنما يأتي من تحرير طاقاته أو فاعليته، وأن المونادات تنزع للوجود بمقدار ما تحوزه من كمال؛ أي بتعبير ليبنتز بمقدار تميز إدراكاتها. هذا والعلة والمعلول أو السبب والمسبب نسبيان، والمونادة المخلوقة تجمع بينهما في آنٍ واحد. والله وحده هو السبب المحض أو الفعل الخالص (Actus Purus)، ويمكن أن نضع هذا في المعادلة التالية: العلة (السبب) = فاعلية نسبية = تميز نسبي للإدراك.
٨١  راجع كذلك المقال عن الميتافيزيقا ٣٢ و٣٣ ورسالة ليبنتز إلى أرنو في شهر يونيو سنة ١٦٨٦م، لاحظ أن هذه الفقرة تشير إلى مبدأ الاتساق المدبر الذي سنعرض له في الفقرتين التاليتين ٨٠ و٨١، وهو اتساق أو تجانس كامن في طبيعة الأشياء، سابق على خلقها؛ أي إنه ليس تجانسًا مخلوقًا على أي صورةٍ من الصور؛ لأن تحققه في عالم الواقع هو سبب اختيار الله لهذا العالم دون غيره.
٨٢  أو يقارن.
٨٣  ليس هناك جوهران بسيطان متشابهان تمامًا، وإن كانت جميع الجواهر تتمثل نفس العالم أو تعكسه وتصوره. ولهذا فإن الإدراك الذي يكون متميزًا نسبيًّا في أحدها، لا بد أن يكون غامضًا أو مختلطًا نسبيًّا في جوهر آخر أو جواهر أخرى، وأي تغير يلحق بأحدها لا بد أن يقابله تغير في سواه، وهكذا يتلاءم مع غيره.
٨٤  ليس الله ملزمًا بفعل ضرورة ميتافيزيقية مطلقة، ولكنه «ميال» بفعل الضرورة الأخلاقية لخلق العالم الذي هو أصلح عالم ممكن وأفضل نظام متجانس. وترجع التفرقة بين الضرورة الأخلاقية والإلزام المطلق إلى أصلٍ مدرسي.
٨٥  أو التوافق والتناسب Convenance، وقد استبعدتهما لما توحيان به من ظلالٍ نفسية ورياضية.
٨٦  هذا التطلع يعبر عن النزوع للوجود والانتقال من الإدراكات المختلطة الغامضة إلى الإدراكات الواضحة المتميزة، وهذا هو الذي يجعل من الأشياء الممكنة ماهيات واقعية متميزة عن القدرات والإمكانات غير المحددة، فالإمكان يحتوي دائمًا على بذرة الواقع، كما أوضحنا في موضعٍ سابق (انظر هامش الفقرتين ٤٠ و٤٣).
٨٧  أو الأفضل والأحسن Le Meilleur.
٨٨  أو خيريته وطيبته bonté.
٨٩  تعبر هذه الفقرة تعبيرًا دقيقًا موجزًا عن المبادئ التي يقوم عليها تفاؤل ليبنتز، وقد شرحها ودافع عنها في رسالته عن العدل الإلهي «التيوديسية»، وحجته هي أن العالم الذي يخلو من الشر خلوًّا تامًّا سيستحيل تمييزه عن الله نفسه. وينشأ الشر الموجود في العالم من القصور والتحدد الكامنين في طبيعة المخلوقات. ولهذا فإن الله لم يخلق الشر، وإنما خلق عالمًا يوجد فيه أقل قدرٍ من الشر يمكن أن يوجد في أي نظامٍ للأشياء.
٩٠  راجع كذلك رسائل ليبنتز إلى أرنو في سبتمبر وأكتوبر سنة ١٦٨٧م ورسالته إلى الأميرة صوفي في السادس من فبراير سنة ١٧٠٦م. ومن الغريب أن نيقولاوس الكوزاني قد عبر عن هذا المعنى في كتابه عن اللعب (أو دوران الأرض ١٤٦٤م) De ludo globi. إذ نقرأ لديه قوله: «إن الكل ينعكس في جميع الأجزاء، وكل الأشياء تحافظ على علاقتها ونسبتها للعالم»، كما يقول في كتابه عن العلم الجاهل De docta ignorantia (١٩٤٠م): «إن الأشياء المرئية صور من غير المرئي، والخالق يمكن أن يرى ويعرف عن طريق المخلوقات (رؤية أو معرفة) مظلمة كما في مرآة.»
٩١  أي إن أقصى كمال ممكن يتجلى في أتم وحدة أو نظام يشتمل على أكبر قدرٍ من التنوع. فالمونادات مؤتلفة في أتم وحدة ممكنة؛ لأن ماهية كل منها في تصوير نفس العالم، كما أنها متنوعة إلى أقصى حدٍّ ممكن؛ لأن وجهات النظر التي تصور منها هذا العالم، أو تعكسه متنوعة تنوعًا لا حد له.
٩٢  حرفيًّا: الذي أجرؤ أو أتجاسر على القول بأنه …
٩٣  انظر التعليق السابق في الفقرة «١٦». وقد شبه بايل نظرية ليبنتز هذه بسفينة صنعت، بحيث يمكنها أن تمخر العباب وحدها بغير قبطان ولا ملاحين، وتبحر من شاطئ إلى آخر، وتتلاءم مع الرياح والعواصف التي تهب عليها، وتتجنب المخاطر والمياه الضحلة، وترسو أو تقلع أو تسعى إلى الميناء كما تفعل أي سفينة عادية. وهو يسلم بأن قدرة الله المطلقة يمكن أن تزود السفينة بمثل هذه القوة، ولكنه يذهب إلى أن طبيعة السفينة نفسها تمنعها من ذلك «ومهما تكن معرفة الله وقدرته غير محدودة، فإنه لا يستطيع بواسطة آلة ينقصها جزء معين أن يعمل ما يتطلب معونة هذا الجزء». وهكذا يجادل بايل في صحة مذهب الاتساق المقدر، ويجرد المونادات من تلقائيتها، ويرى أن ليبنتز قد لجأ إلى ما يُعرف في المسرح ﺑ«الإله الآلة» لينقذ مذهبه من ورطةٍ محققة.
٩٤  أو متمثل representative.
٩٥  أو تفاصيل الأشياء le détail.
٩٦  إذا كانت المونادات غير مكانية، فكيف يمكن الحديث عن شيءٍ أقرب أو أكبر بالنسبة لها؟ لكل مونادة جسم من نوعٍ ما، وهذا الجسم يدرك إدراكًا غامضًا بوصفه يشغل مكانًا في ذاته، وفي علاقته بالأجسام الأخرى، وإن لم يكن هذا الجسم سوى مجموع ينتظم عددًا من المونادات غير المكانية. ومعنى العبارة أن الأشياء قريبة أو كبيرة بالقياس إلى جسم المونادة.
٩٧  أي إن الفكر بمعناه الواسع، سواء أكان فكرًا واعيًا أم غير واعٍ، إنما يتحدد بنفسه، ولا يمكن أن يوجد شيء لا يقبل أن يكون موضوعًا للفكر. قارن موقف «كانت» من هذه المسألة وتفرقته الحاسمة بين عالم الظواهر أو التجربة (الذي يمكننا أن نعرفه معرفة موضوعية)، وعالم الشيء في ذاته أو عالم الحقائق المتعالية الذي نفترض وجوده، ونسلم به دون أن يكون في وسعنا أن نعرفه معرفة ذهنية محددة. (لأنه يتجاوز حدود الفهم المقيد بعالم الظواهر).
٩٨  قارن بهذا عبارة نيقولاس الكوزاني في كتابه عن التكوين De Genesi (١٤٤٧م) ٧٢ب: «كل الأشياء تبحث عن شيءٍ واحد، وهو شيء مطلق.»
٩٩  يترجم «لاتا» هذه العبارة بقوله: والمركبات من هذه الناحية متشابهة (أو مماثلة ﻟ… إلخ) مع الجواهر البسيطة، وقد آثرت الاحتفاظ بالفعل الأصلي «ترمز symbolisent»، لا سيما أن «لاتا» نفسه يفسر العبارة بأن الرمز هنا يوحي بفكرة الحساب التي ظلت تشغل ليبنتز طوال حياته، فكما أن الأعداد رموز للمعدودات، ونحن لا نضطر في كل عملية حسابية للإشارة في كل خطوة منها إلى الأشياء الجزئية التي ترمز لها الأعداد، فإن الأفكار العامة التي لا نقوم بتحليلها يمكن أن ترمز للعناصر البسيطة المكونة لها. بهذا المعنى تكون الأشياء المركبة رموزًا لعناصرها البسيطة. وما ندركه من المركبات بصورةٍ غامضة ليس مجرد وهم، وإنما هو تمثل ناقص أو رمز للخصائص الحقيقية للجواهر البسيطة. وهكذا يكون الملاء plenum المكاني أو المادي (وهو إدراك غامض من جانبنا) رمزًا لسلسلة المونادات اللامتناهية أو الكاملة التي لا تحتوي على أية ثغرات تفصل بينها؛ لأن المونادات تختلف عن بعضها البعض بدرجاتٍ لا متناهية في الصغر. كذلك يمكن القول بأن الأفعال وردود الأفعال المادية التي تتم في العالم، بحيث يؤثر أي تغيير في نقطة معينة على سائر النقاط إنما هي رموز تعبر عن التجانس أو الاتساق المقدر بين المونادات. وأخيرًا فإن ما يذهب إليه ليبنتز من أن كل ما يحدث في العالم أو حدث أو سوف يحدث يمكن أن نقرأه على جسم إنما هو رمز معبر عن طبيعة المونادة التي تتمثل العالم كله وتحتويه كل في داخلها (على الأقل من الناحية المثالية!).
١٠٠  الملاء Le plein-plenum، وقد فضلت الكلمة العربية القديمة.
١٠١  حرفيًّا: تنفس الكل معًا؛ أي توافقه وتلاؤمه. وقد ذُكرت الكلمتان في الأصل بحروفهما اليونانية σύμπνοια πάντα، ولعل ليبنتز أن يكون قد تذكر عند كتابة هذه الفقرة عبارة قرأها في أحد كتب أبقراط (عن التغذية ٤، De Alimento 4) يفهم منها تعاطف الفرد مع الكل.
١٠٢  يستعمل ليبنتز كلمة represente بمعنى يمثل أو يعكس أو يصور، وقد فضلت الكلمة الأخيرة بمعناها المألوف اليوم في اللغة العادية.
١٠٣  راجع هامش الفقرة «١٤».
١٠٤  يستخدم ليبنتز هنا كلمة exprime، ثم يرجع للكلمة السابقة بعد ذلك مباشرة!
١٠٥  راجع الفقرة «١٩» ويستخدم ليبنتز اصطلاح الكائن الحي للإشارة بنوعٍ خاصٍّ إلى كل من كانت المونادة الرئيسية فيه مونادة غير واعية، أما «الحيوان» فيميزه عن الكائن الحي أن المونادة الرئيسية عنده ذات شعور وذاكرة.
١٠٦  حرفيًّا: في المتصور أو المتمثل.
١٠٧  الآلية ترجمة للأوتومات L’Automate؛ أي الجهاز الآلي المتحرك بذاته تمييزًا له عن الآلة Machine.
١٠٨  الصناعية أو المصطنعة artificiel تمييزًا لها عن الطبيعية.
١٠٩  أو البراعة والمهارة البشرية.
١١٠  الكلمة الأصلية هي الفن الإلهي art divin، ولكن المقصود بها هو فن الصنعة، وقد تبعت المترجم الألماني في هذا التصرف.
١١١  قارن عبارة نيقولا الكوزاني في كتابه عن الحمقى Idiotae lipri quatuor (٣ و٢ و٨٢أ): «إن الفنون البشرية صور من الفنون الإلهية.»
١١٢  ح: من استخدامه وممارسته.
١١٣  أو مجزأة بالفعل، وقد سبق لليبنتز أن عبر عن هذه الفكرة في جوابه على رسالة فوشيه (١٦٩٣م) حيث يقول: «ليس هناك جزء من المادة إلا وهو مجزأ بالفعل، ولا أقول يقبل القسمة، ويترتب على هذا أن أصغر جزء من المادة يجب أن ينظر إليه باعتباره عالمًا مليئًا بما لا نهاية له من الكائنات المختلفة.» ومن الواضح أن القسمة اللامتناهية للمادة تثير صعوبات عديدة، لا سيما وأن ليبنتز يؤكد دائمًا أن المادة تتألف من عناصر غير مكانية أو غير كمية، ويعتبرها مجرد مجموع مؤتلف aggregat؛ أي ليست بذاتها جوهرًا واقعيًّا. فهل يمكن أن يتكون هذا المجموع من عدد لا نهاية له من الأجزاء الواقعية؟ ألا يعني الانقسام إلى ما لا نهاية استحالة حصر الأجزاء؟ أليست العلاقة بين الكل والأجزاء علاقة غير محددة، بحيث لا يمكننا أن نعرف بالضبط ما هو المقصود بالجزء؟ وهل يمكن أن نتكلم عن الأشياء على اعتبار أنها تنقسم بالفعل إلى ما لا نهاية بغير أن نقع في التناقض؟ قد يردُّ ليبنتز على هذا بأن المادة التي تنقسم إلى ما لا نهاية ليست إلا ظاهرة نتجت عن لا نهائية المونادات الواقعية، ولكن مشكلة الانقسام اللامتناهي تظل قائمة. وقد أثارها كانت في النقيضتين الأوليين من كتابه نقد العقل الخالص، كما انتقدها العالم الرياضي أويلر Euler، الذي يرى أن وجود وحدات على هيئة المونادات يتضمن انقسام المادة بصورةٍ نهائية.
١١٤  أي على أمثال هذه النباتات والأسماك.
١١٥  تابع ليبنتز الأبحاث الميكروسكوبية التي كانت تجري في حياته باهتمامٍ وشغف جديرين برجلٍ موسوعي مثله. وقد أشار في كتاباته عدة مرات إلى أسماء بعض العلماء مثل العالم الطبيعي الهولندي، فإن لويفنهوك (١٦٣٢–١٧٢٣م) مكتشف الحيوانات المنوية أو الأسبرماتوزوا، وعالم الحشرات الهولندي سوامردام (١٦٣٧–١٦٨٠م)، وعالم التشريح الإيطالي مالبيجي (١٦٢٨–١٦٩٤م) الذي كان أول من استعمل الميكروسكوب في دراسة الأنسجة وفسيولوجيا الحيوان والنبات. وقد شجع ليبنتز هذه الدراسات التي رأى أنها ستكشف عن معجزات عالم جديد، وتزيد معرفتنا أضعافًا مضاعفة، كما تحسر على أن هناك عشرة فقط يعكفون في عصره على أمثال هذه الأبحاث التي تستحق أن يرعاها الملوك والأمراء! (وذلك في «التأمل عن الفكرة الشائعة عن العدالة» ولعل النص السابق أن يكون قد تنبأ بالدراسات الحديثة عن الخلية، وإن كانت لا تقبل القسمة إلى ما لا نهاية كما تصور ليبنتز!)
١١٦  Chaos وهو العماء أو الاختلاط والاضطراب الذي لا حد له. ويكرر ليبنتز نفس الفكرة عن خلو العالم من العقم والموت في رسالته إلى برنوليوم (١٦٩٩م) Epistola ad Bernoullium.
١١٧  تثير هذه الفقرة مشكلة عويصة، ألا يمكن وفقًا لما جاء فيها أن نتصور العالم كله جسمًا واحدًا يكون الله — أو مونادة المونادات — هو النفس المتحكمة فيه على نحو ما عبر الشاعر الإنجليزي بوب في مقاله عن الإنسان، الرسالة الأولى، ٢٦٧:

ما الأشياء جميعًا إلا أجزاء من كل هائلٍ عجيب، الطبيعة جسمه، والله هو الروح.

سيجيب ليبنتز على الفور بأن الله لا جسم له (المونادولوجيا ٧٢)، ولكن المشكلة تظل قائمة. وقد رفض ليبنتز فكرة «النفس الكلية» التي يُفهم منها ضياع استقلال النفوس الفردية، تدل على هذا رسالته إلى أرنو (٢٦٨٧) التي يقول فيها: «مع أن النفس يمكن أن تكون ذات جسم مكون من أجزاء، لكل جزء منها نفسه الخاصة به، فإن نفس الكل أو شكله ليست مؤلفة من نفوس الأجزاء أو أشكالها.»
١١٨  حرفيًّا: تفكيري. ويحتمل أن يكون سوء الفهم الذي يقصده ليبنتز قد نشأ عن الخلط بين «المادة الأولى»، وهي العنصر السلبي أو المنفعل في المونادة المخلوقة الذي لا ينفصل عن العنصر الإيجابي الفعال وهو النفس، وبين «المادة الثانية» وهي الجسم المتغير للجوهر المركب، الذي يتصف بأنه ظاهري وغير واقعي، وإن كان يقوم على أساسٍ من الواقع.
١١٩  أي عينت لها بحيث تنتمي لها وتكون من نصيبها إلى الأبد.
١٢٠  أي في تغير وتحول وصيرورة دائمة. والعبارة قديمة قدم هيراقليطس وشذراته المشهورة في هذا المعنى ونذكر منها: من المستحيل النزول في نفس النهر مرتين، كل شيء يسيل على الدوام، الكل يسيل (أو يتدفق) كما يسيل النهر (راجع طبعة ديلز وكرانس لشذرات الفلاسفة قبل سقراط، الطبعة المختصرة التي نشرها فالتر كرانس، برلين ١٩٥٩م، مكتبة فايدمان، ص٨٣، وراجع كذلك محاورة كراتيلوس لأفلاطون (٤٠٢أ)، حيث تجد هذه العبارة الشهيرة التي يقول فيها أفلاطون إن هيراقليطس قد شبه الأشياء بجريان النهر، وقارن كذلك الميتافيزيقا لأرسطو، كتاب الألفا ٦ و٩٨٧ أو ٢٢، وطبعة بيرنت «الفلسفة اليونانية المبكرة» التي اعتمد عليها أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني في كتابه «فجر الفلسفة اليونانية»).
١٢١  بمعنى Génies أو Spirits.
١٢٢  حرفيًّا: بريء أو خالص منها detaché.
١٢٣  انظر كذلك المقال في الميتافيزيقا «٣٤»، وتفسير هذا أن النفس التي تكون بغير جسد ستكون مقطوعة الصلة بالمونادة الأخرى؛ لأن الجوهر المركب إنما يكون كذلك؛ لأنه مركب من نفس وجسم؛ أي من مونادة مركزية أو أساسية على علاقة بمونادات فرعية. وقد كتب ليبنتز في «نظراته في مبادئ الحياة» (١٧٠٥م) يقول: إن المخلوقات الحرة أو المحررة من المادة ستكون في نفس الوقت مفصولة من السياق الكلي للأشياء، وخارجة عن النظام العام. ومن ناحيةٍ أخرى يمكن القول بأن النفس التي بلا جسم ستكون مونادة لا تنفعل، ولا تدرك الإدراك الذي يتفاوت بين الوضوح والغموض لدى جميع المونادات المخلوقة، ومعنى هذا أن تلك النفس لا بد أن تكون «فعلًا خالصًا» أي لا بد أن تكون إلهًا.
١٢٤  راجع رسالة ليبنتز إلى أرنو في ٣٠ / ٤ / ١٦٨٧م.
١٢٥  ترجمة لكلمة Chaos، وقد ترجمناها من قبل حسب السياق بمعنى الفوضى والاختلاط الشامل.
١٢٦  قارن كذلك المقال في الميتافيزيقا «٣٤»، ورسالة ليبنتز إلى أرنو في الثلاثين من أبريل سنة ١٦٨٧م. ويشير ليبنتز في هذه الفقرة إلى نظرية التشكل السابق التي قال بها فان لويفنهوك (١٦٣٢–١٧٢٣م) انظر كذلك التيوديسية ٩١، ورسالة ليبنتز إلى أرنو في سبتمبر-أكتوبر ١٦٨٧م، ورسالته إلى صوفي شارلوت ملكة بروسيا التي يقول فيها إن البذرة الحية والعضوية قديمة قدم العالم. وقد كان الرأي قبل عصر ليبنتز مباشرة أن الحياة في النبات والحيوان والإنسان تنشأ إما عن طريق «الانتقال» Traduction أو «الاستنباط» eduction، فأصحاب النظرية الأولى يقولون بأن «شكل» المولود يأتي من شكل الأبوين على نحو ما يأتي جسده من جسديهما. أما أصحاب النظرية الثانية، فيذهبون إلى أن الحياة تنشأ عن المادة غير العضوية أو من «العماء والتعفن» على حد تعبير ليبنتز، ولكن نظرية «التشكل السابق» تذهب إلى أن «البذرة» أو «النطفة» تحتوي على صورةٍ مصغرةٍ من النبات أو الحيوان ككل؛ أي إن «شكل» النبات أو الحيوان يوجد في البذرة أو الحيوان المنوي من بدء الزمان والخليقة في حالة كمون أو انكماش. وقد قامت هذه النظرية التي تبناها ليبنتز على أساس الأبحاث الميكروسكوبية التي قام بها مالبيجي ولويفنهوك (انظر هامش الفقرة ٦٨)، وغيَّرها علم الوراثة الحديث تغييرًا تامًّا. وقد رفض ليبنتز النظرية الأولى وإن كان قد وصف نظريته بأنها نوع من الانتقال، ولكن في صورةٍ معدلة أدعى للقبول من الصورة الشائعة (التيوديسية ٣٩٧).
١٢٧  أو يولد.
١٢٨  أي إن العلماء لم يقرروا في رأيه إلا نصف الحقيقة، ولن يعترضوا على نصفها الثاني الذي يقول به ليبنتز من أنه من الطبيعي أن يعتقد الإنسان بأن ما لا يبدأ لا ينتهي (من رسالته إلى أرنو ١٦٨٧م).
١٢٩  راجع الفقرات «٣ و٤ و٥» من المونادولوجيا، والتوفيق بين القبلي والبعدي أمر ملحوظ في تفكير ليبنتز، يعبر عن إيمانه بالتجانس والاتساق بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، وبين الأسباب الميكانيكية والأسباب الديناميكية أو الغائية.
١٣٠  حرفيًّا: لا يتحطم.
١٣١  لأن النفس لا بد أن يكون لها جسم من نوعٍ ما، وهذا الجسم مركب من مونادات لا تفسد ولا تفنى، ولكن الحيوانات ليست خالدة؛ لأن الخلود مقصور على النفوس العاقلة أو المونادات الواعية.
١٣٢  على نحو ما تنسلخ الحية من جلدها القديم (عن رسالة لليبنتز إلى الأميرة صوفي، ١٦٩٦م).
١٣٣  أو يتفقان ويتواءمان se rencontrent.
١٣٤  أي الجواهر.
١٣٥  ومعنى هذا أن مشكلة الارتباط بين النفس والجسم جزء من مشكلة أكبر تتصل بالعلاقة بين المونادة أو الجوهر البسيط وبين سائر الجواهر.
ويلاحظ أن ليبنتز يعبر في هذه الفقرة عن اعتراضه على أصحاب مذهب «المناسبة» occasionalisme الذين حاولوا أن يحلوا مشكلة العلاقة بين النفس والجسم التي تركها ديكارت بغير حل مقنع. ويتلخص هذا المذهب في أن الأشياء لا تؤثر على بعضها البعض في الأحداث التي ترتبط فيها العلة بالمعلول، وإنما الأشياء أدوات أو «مناسبات» للفعل الوحيد وهو الفعل الإلهي. وتفسير ذلك فيما يتصل بالعلاقة بين النفس والجسم (اللذين نفس ديكارت إمكان التأثير المتبادل بينهما لاختلاف طبيعتهما اختلاف الفكر عن الامتداد والوعي عن المادة) أن الله يخلق الإحساسات النفسية «بمناسبة» الحركات البدنية، كما يخلق الحركات العضلية «بمناسبة» الأفعال الإرادية. وقد بدأت هذه الفكرة عند الغزالي (التهافت، المسألة السابعة عشرة)، ولكنها ارتبطت باسم مالبرانش (١٦٣٨–١٧١٥م)، وأرنولد جويلنكس (١٦٢٤–١٦٦٩م)، وقد كان من رأي ليبنتز أن مثل هذا المذهب منافٍ للطبيعة، وأنه ينطوي على سلسلة لا آخر لها من المعجزات.
وقد بعث ليبنتز في شهر فبراير سنة ١٦٩٦م رسالة إلى ناشر «تاريخ أعمال العلماء» Histoire des ouvrages des savants لجأ فيها لأول مرة إلى تشبيه الساعة المعروف. وكان ديكارت قد أشار إليه عندما شبَّه الكائنات أو الآلات الحية بالساعات، ثم استخدمه جويلنكس، واستعان به ليبنتز في تفسير مذهبه عن الاتساق المقدر أو الانسجام والتجانس، الذي دبَّره الله عندما خلق الكائنات ونظَّمها، بحيث يمضي كل منها إلى غايته مستقلًّا عن غيره، وفي اتساق معه، شبه الصانع المبدع الذي نظم الساعات، بحيث تسير كل منها مستقلة عن غيرها ومتسقة معه في نفس الوقت. وقد وصف الناشر هذه الرسالة بأنها التفسير الثاني للمذهب الجديد.
١٣٦  راجع الفقرة «١١» من المبادئ العقلية للطبيعة والعناية.
١٣٧  سبق لليبنتز أن هاجم ديكارت وأتباعه حول هذه المسألة، وذلك سنة ١٦٨٦م في «منشورات العلماء» Acta erudit. Lipsiens التي كانت تصدر في مدينة ليبزج، في بحث له عن الأخطاء «الملحوظة» التي وقع فيها ديكارت وغيره من العلماء حول القانون الطبيعي. كما تعرض لنفس الموضوع في «المقال في الميتافيزيقا ١٧»، وفي المقال الذي هاجم فيه ديكارت، ونشر في يونيو سنة ١٧٠٢م، وفي رسالته إلى أنو في الثلاثين من أبريل سنة ١٦٨٧م.
١٣٨  يريد أن ديكارت كان سيتبين أن النفس والجسم ليس لأحدهما أي تأثير على الآخر، وأنه يلزم عن ذلك أن ينظر إليهما بوصفهما يعملان في تجانس مع بعضهما البعض. وقد كان من رأي ليبنتز (كما شرحه في جوابه على أفكار بايل ١٧٠٢م) أنه استطاع بهذا أن يوفق بين أفضل ما في مذاهب الماديين والمثاليين.
١٣٩  أي طالما بقيت حيوانات بذرية (أو منوية) صغيرة ولم تتعدَّ ذلك.
١٤٠  راجع الفقرات السابقة من «١٩» إلى «٣٠».
١٤١  يقول ليبنتز في أحد بحوثه التي تركها بغير عنوان (١٦٨٦م) إن الفرق بين الجواهر العاقلة وغير العاقلة يشبه في ضخامته الفرق بين المرآة ومن ينظر فيها!
١٤٢  أي ليس الإنسان مجرد آلة صغيرة تعبر عن الآلة الكونية، ولا هو «كون صغير» يعكس «الكون الكبير» كما كان القدماء يقولون، وإنما هو قادر على خلق آلات صغيرة وإبداع تكوينات ونماذج تقوم على نفس المبادئ التي تعتمد عليها الآلة الكبرى، ومعنى هذا أنه «مبدع صغير» أو «صورة» من المبدع الأعظم.
١٤٣  ابتداء من هذه الفقرة تصبح ترجمة كلمة esprits بالأرواح أقرب إلى السياق.
١٤٤  أو حياة مشتركة، كما يترجمها «لاتا» fellowshfip.
١٤٥  إشارة إلى «مدينة الله» Civitas Dei للقديس أوغسطين، مع الفارق الكبير في المعنى. فمدينة الله عند أوغسطين هي الدولة الإلهية أو الكنيسة المسيحية في مقابل الدولة الأرضية أو الوضعية Civitas terrena. أضف إلى هذا أن مدينة الله عند ليبنتز لا تقابل أي نظام أو سلطة أرضية، وإنما هي النظام الأخلاقي الذي يقوم عليه العالم، ويتميز عن نظامه الطبيعي، وأخيرًا فإن مدينة الله في رأي ليبنتز لا تقتصر على المسيحيين، وإنما تضم البشر جميعًا، ولا شك أنه كان في هذا متأثرًا بروح التسامح الديني التي غلبت على عصر التنوير.
١٤٦  أو طيبته ورحمته bonté.
١٤٧  تتجلى خيرية الله في هذه المدينة؛ لأن الصفات والمزايا الأخلاقية تنتمي للنظام الأخلاقي قبل غيره؛ أي للمجتمع الذي تشترك فيه النفوس العاقلة.
١٤٨  راجع المقال في الميتافيزيقا «٣٥».
١٤٩  أو اتساق وانسجام.
١٥٠  انظر الفقرتين التاليتين، والفقرة «٥» من المبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي، وكلمة Grâce من الكلمات العسيرة التي يحسها القلب، ويعجز اللسان عن وصفها في لغته أو في أية لغة أخرى، واللطف والنعمة والفضل الإلهي كلها مرادفات لفظية عاجزة لهذه الكلمة الباهرة.
١٥١  أو الوسائل والأساليب الطبيعية (Voies, Means, Wege).
١٥٢  أو المهندس؛ أي إن العالم قد بُني بمقتضى خطة تتسق اتساقًا كاملًا مع الحكومة الأخلاقية لسكانه.
١٥٣  أو البناء والتكوين Structure.
١٥٤  أو مكافأتها.
١٥٥  يرى ليبنتز أن الإنسان يقع في الخطيئة والذنب عندما يسعى إلى خيره الخاص بطريقةٍ خاطئة غير مستنيرة، دون اعتبار للنظام والقانون الأخلاقي الذي يضمن الخير الأقصى للجميع. ولهذا فإن الخطيئة تجر وراءها العقاب الذي تستحقه لخروجها على النظام الأخلاقي، كما يجر الإهمال والانحراف عن القوانين الطبيعية الألم والمرض. ونظرًا للاتساق الكامل بين النفس والجسم، وبين مملكة الأخلاق ومملكة الطبيعة، فإن جزاء الخطيئة لا يمكن أن يكون جزاءً روحيًّا خالصًا، بل لا بد أن يشارك فيه الجسم والطبيعة. كذلك تحصل الفضيلة على ثوابها الروحي والطبيعي؛ لأنها فعل طيب مستنير يتسق مع القانون الأسمى للكون، وهو مبدأ الخير الأقصى.
١٥٦  أو العقلاء Les Personnes Sages.
١٥٧  حرفيًّا: المهندس المعماري l’Architecte.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤