الفصل العاشر

ويزعجني السفر عن باريس، وعن غرفة أبي العلاء، فتُطْوَى كُتُب الشيخ مَرة أخرى، وتُسَلَّم إلى شياطين السَّفر، فتصاحبني إلى بروكسل حيث أَشْهَد مؤتمر المستشرقين، فأُشْغَل به عن الشيخ، وعن حديثه الحلو المر. ومَن ذا الذي لا يُشْغَل بمؤتمر المستشرقين، وحياة أعضائه حديث في العلم إذا كان النهار، وحديث عن العلم إذا أقبل الليل؟

ولكني أعود إلى باريس فلا أَفْرُغ للشيخ، ولا أخلو إليه على كثرة ما كانت نفسي تنازعني إلى ذلك، وإنما هو الاضطراب العنيف الذي لا بدَّ منه لمن يُرِيد أن يُهَيِّئ العودة إلى مصر.

ثم تكون هذه العودة، فلا أكاد أَبْلُغ القاهرة حتى أُلْقِيَ نفسي في العمل الجامعي إلقاءً، وإذا أنا أُشْغَل عن كل شيء غير هذا العمل الجامعي، وإذا حديثي إلى الشيخ أو حديثي عن الشيخ يَنْقَطِع إلا في تلك اللحظات الحلوة التي كنت أُنْفِقُها مع الطلاب في قراءة أطراف من الفصول والغايات ساعة في كل أسبوع.

ساعة كانت تُكَلِّفني الخلوة إلى الشيخ بين حين وحين لِأُعِدَّ الدرس قَبْل أن ألقى به الطلاب، ولكني لم أكن أَجِد في هذه الخلوة إلى الشيخ من اللذة الفنية والمتاع العقلي ما كُنْت أَجِدُ حين كنت أخلو إليه في غرفة من غرفات هذا الفندق أو ذاك من فنادق فرنسا؛ لسبب يسير؛ وهو أني في فرنسا كنت أخلو إلى الشيخ حبًّا له، وإيثارًا لنفسي بلذة حديثه، فأما في مصر فقد أزوره لألتمس عنده ما أقول للطلاب، كان غايةً في فرنسا، وكان وسيلةً في مصر، وشتان بين الغاية والوسيلة!

ثم أَفْرُغ من شؤون الجامعة وأخلو إلى نفسي، يَشْهَد الله لقد كان سِجْن أبي العلاء أول ما خَطَرَ لي، ولقد كان حديث أبي العلاء أول ما ملأ قلبي ونفسي وعقلي معًا!

وإِذا أنا أُمْلي في أيام هذه الفصول التي أُتِمُّ بها هذا الحديث، كما أَمْلَيْتُ في أيام تلك الفصول التي بدأْتُ بها الحديث.

وكم كنت أودُّ لو طالت تلك الأيام فطال مقامي مع الشيخ في فرنسا، وكم كُنْتُ أودُّ لو طالت هذه الأيام فاتصل مقامي مع الشيخ في مصر! ولكن السفر أزعجني عن الشيخ في العام الماضي، وهو يزعجني عن الشيخ في هذا العام، وإذا أنا أُوَدِّع الشيخ كارهًا في هذه الليلة من ليالي القاهرة، كما وَدَّعْتُ الشيخ كارهًا في تلك الليلة من ليالي مورزين. وإذا أنا أتمثَّل قول الشيخ:

وإِذا أضاعتني الخطوبُ فلن أُرى
لِوِدادِ إِخوان الصفاءِ مُضِيعا
خالَلْتُ توديعَ الأصادقِ للنوى
فمتى أُودِّع خِلِّيَ التوديعا؟

نعم، متى أُوَدِّع خِلِّيَ التوديع، وأَفْرُغ لأبي العلاء عامين أو أعوامًا فأؤدي للزوميَّات، وللفصول، والغايات، ولأدب الشيخ كُلِّه، وعِلْمِهِ كُلِّه ما هي أهْل له من العناية، وما تَسْتَحِقُّه من الدرس والبحث والاستقصاء؟

عِلْم هذا كُلُّه عند الله.

القاهرة في ١١ يونيو سنة ١٩٣٩

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤