الفصل الثامن

وقد طَوَيْتُ كتب الشيخ فيما طَوَيْتُ، وأسلَمْتُها فيما أَسْلَمْتُ إلى السَّفر الذي أَسْلَمْتُ إليه نفسي، فكانت قريبة مني بعيدة عني، تلزمني لزوم الظلِّ، وتنأى عني نأي النجوم، لا أنتقل من مرحلة إلى مرحلة إلا سألْتُ عنها، وتَبَيَّنْتُ مكانها، واطمأننْتُ إلى أنْ ليس عليها بأس. ولكني مع ذلك قد تَعْرِض لي الحاجة إليها فلا أَبْلُغُها، ولا أَجِدُ لي عليها سبيلًا، وإنما هي طَوْع أيدي هؤلاء الذين يتصرفون فينا وفي أمتعتنا حين نُسَلِّم أنفسنا وأمتعتنا إلى الأسفار.

وقد كانت رحلتي إلى باريس طويلة جميلة لم تَخْلُ من مشقة وجهد، ولم تَبْرَأ من ثِقَل وعنف، وكانت مع ذلك مختلفة متنوعة لا مستقيمة مضطردة، فقد مَضَيْتُ أَنْحَدِرُ من الجبل وأَصْعَدُ فيه، وأَرْقَى من السهل وأَهْبِطُ إليه، وتدُور بي سفينة في البحيرة تُلِمُّ بهذه القرية من قرى فرنسا، وبتلك المدينة من مدن سويسرا، وتَكْثُر حولي الأحاديث في مظاهر الطبيعة ومناظرها، وفي شئون الناس وأطوارهم، وفي أنباء الحرب التي كانت تتراءى، والسِّلم التي كانت تتناءى، ثم أتهيأ في آخر النهار وأول الليل لركوب القطار من غدٍ إلى باريس، فأشتري لهذه الرحلة كتابًا سخيفًا فيه قصص سخيف أريد أن أستعينه على هذا اليوم الطويل يوم القطار.

ويمضي بنا القطار من الغد، وما أدري أيهما كان أسرع من صاحبه أهو القطار الذي كان ينهب الأرض نهبًا؟ أم هو صاحبي الذي كان ينهب الكتاب نهبًا؟ ولكن الشيء الذي لا شكَّ فيه هو أني منذ ودَّعْتُ الشيخ وطَوَيْتُ كُتُبَهُ، وأَسْلَمْتُ نفسي إلى الرحيل، وخَيَّلْتُ إلى نفسي أني سأفارقه، ومَنَّيْتُ نفسي بلقائه والعودة إليه، لم أفارقه ولم أنصرف عنه، أو قل لم تفارقني ذكراه، ولم تنصرف عني على كثرة ما بَذَلْتُ من الجهد لأخلُص لنفسي وأسرتي أيامًا. وإنما لزمتني ذكرى الشيخ لزومًا متصلًا ملحًّا، صَرَفَنِي عن نفسي وعن أسرتي، واضطرني إلى أن أكون طليقًا سجينًا، وحُرًّا مقيدًا، أَتَنَقَّل في الجبال والسهول، ولكنِّي مع ذلك لا أفارِق هذا السجن الذي أقام فيه أبو العلاء نصف قرن يفكِّر ويقدِّر، ويَنْظِم ويَنْثُر، ويملي ويُعَلِّم.

وأنا أَلْحَظُ نَفْسه وهي تُفَكِّر، وأسمع صَوْته وهو يملي ويُنْشِد، وأسألُ نفسي عما تُحَصِّل من هذا كله فلا أَظْفَر منها إلا بهذا الجواب الغريب، وهو أنها لا تُحَصِّل شيئًا، ولا تريد أن تُحَصِّل شيئًا؛ وإنما قصاراها أنْ تَشْهَدَ وتَسْمَعَ وتَجِدَ اللذة في أن تَشْهَدَ وتَسْمَعَ، ولا عليها أن تعود آخر الأمر، وكأنها لم تَشْهَد شيئًا، ولم تَسْمَع شيئًا، فإن هذه اللذة التي تَجِدُها خليقة أن تُغْنِيها عن كل تحصيل، وأن تَدْفَعَها إلى أن تُلِحَّ في الاستماع للشيخ حين يقول، وفي الاستماع لنفسه حين تجيل في ضميرها ما تجيل من الخواطر والآراء.

وما أدري أكانت المصادفة هي التي تُسْمِعني إنشاد الشيخ قصائد بعينها من اللزوميَّات؛ لأني أحببتها وكَلِفْتُ بها، أم كان هناك تدبير خفِيٌّ لا أعرف كُنْهَه، ولا أَبْلُغُ سِرَّه، أراد أن يُنْصِفَ الشيخ منِّي، وأن يضطرني إلى الوفاء بما قَدَّمْتُ من وعد، وإلى الاعتراف بأن الشيخ إن أذعن للقافية وخضع لسلطانها، وأطاعها في تفكيره وتقديره وتدبيره لشعر اللزوميَّات، فقد يسيطر على القافية أحيانًا ويقهرها، ويرتفع بفنه وفِكْره على ضروراتها وقيودها دون أن يُخْرِجه ذلك عما رَسَمَ لنفسه من خطة، وما فَرَضَ على نفسه من شَرْط، فهو يَلْتَزِم ما لا يُلْزَمُ، ولكنه لا يجد في ذلك شدَّة ولا جهدًا، ولا يُحِسُّ في ذلك قسوة ولا عنفًا، ولا يُضْطَرُّ في ذلك إلى أن ينحرف بلفظه أو معناه عن الطريق الطبيعية الواضحة المستقيمة التي ينبغي أن يسلكها بهما، سواء أفرض على نفسه قيود اللزوميَّات أم لم يَفْرِضْها.

وقد ترددَتْ في نفسي هذه الفكرة التي أُومن بها، وأَتْرُك لغيري أو لنفسي في غير هذا الوقت، وفي غير هذا الموضع تحقيقها وبسط القول فيها. وهي أن الفنَّ الرفيع قَيْدٌ حرٌّ إنْ صح هذا التعبير، فهو يفرض على صاحبه أثقالًا وأغلالًا لا يستطيع أن يَخْلُص منها دون أن يُفْسِد فنَّه إفسادًا، ويَنْحَرِف به عن طريقه المستقيمة المقسومة له. ولكنه مع ذلك لا يكاد ينهض بأثقال هذا الفن وأعبائه، إن كان مُيَسَّرًا له غير مُتَكَلِّف فيه؛ حتى تستقيم له الأمور، وتمتد له الأسباب، وترخى له الأعنة. وإذا هو يمضي بفنه حيث يشاء، أو يمضي في فنه حيث يشاء، لا يُثْقِلُه قَيْد، ولا يُرْهِقه غلٌّ، ولا يَضِيق به سِجن، وإنما هو مُطْلق كأعظم الناس حظًّا من الحرية، سَمِح النفس في كل ما يأتي وما يدع. يخيل إلى من يرقبه، وهو يصطنع فنَّه ويتصرف فيه أنه قد أَرْسَل نفسه على سَجِيَّتها وأمضاها على طبعها، فهو لا يتكلف مشقة، ولا يَلْقَى جهدًا. قُلْ: إن مصدر ذلك هي العادة، وكثرة المران، أو قُلْ: إن مصدر ذلك هي الفطرة، وخصب الطبيعة، واعتدال المزاج. قل ما شئت من ذلك ومن غير ذلك، ولكن ثِقْ بأن أبا العلاء يظفر بحريته المطلقة في اللزوميَّات على ثِقَل ما فَرَضَ على نفسه مِنْ قَيْد وتَعَقُّد ما سَلَكَها فيه من غِلٍّ. يظفر بحريته في اللفظ، ويظفر بحريته في المعنى، ويظفر بحريته في الأسلوب؛ والغريب أنه يُشْرِكُكَ معه في هذه الحرية، ويلغي من نفسك الشعور بالضيق الذي كنت تجده حين تلتزم معه ما التزم من الشروط والقيود.

فأنت ضيق الصدر من غير شك بهذه القيود التي يأخذك الشاعر بها؛ لأنه أَخَذَ بها نفسه، وأيُّ غرابة في ذلك أنه يَصْحَبُكَ ويَهْدِيكَ في هذه الطريق التي يَسْلُكها، والتي فَرَضَ على نفسه ما يكون فيها من عِوَج والتواء، وما يقوم فيها من صعاب وعقاب، فأنت واجد من الجهد مِثْلَ ما يَجِدُ، وأنت لاقٍ من العنف مثل ما يلقى، وأنت مُحْتَمِل من الضيق مثل ما يَحْتَمِل. فإذا نفَّس عن صدره فقد نفَّس عن صدْرِك، وإذا رفَّه على نفسه فقد رفَّه على نفسك، وإذا تخَفَّفَ من قيوده وأغلاله دون أن يَضَعَهَا عن نفسه فقد خَفَّفَ عنك هذه القيود والأغلال دون أن يَضَعَهَا عنك.

أنت إذَنْ شريكه فيما يجدُ من مَشقة، وأنت شريكه فيما يجدُ من لِين، أنت مُقَيَّد إن كان هو مقيَّدًا، وأنت مُطلَق إن كان هو مطلَقًا.

وعلى هذا النحو وحده فيما أظن يُفْهَم الأثر الفني ويُذَاق، فأَعْجَبُ لأبي العلاء الذي يَضِيقُ أحيانًا بنظم اللزوميَّات، فإذا ألفاظه مستعصية، وإذا أساليبه ملتوية، وإذا أنت تشقى معه بهذا الالتواء وذلك الاستعصاء، والذي ينهض أحيانًا أخرى بقيوده وأغلاله، وبأعبائه وأثقاله، فيضطرب في جوِّ الفنِّ رشيقًا خفيفًا كأنه لا يحمل شيئًا، ولا يشقى بشيء، وإذا أنت تنهض معه رشيقًا خفيفًا كأنك لا تحمل شيئًا، ولا تشقى بشيء.

واقرأ معي هذه القصيدة التي حقَّق فيها أبو العلاء هذه الحرية تحقيقًا حسنًا، فلم يَضِقْ بلفظ، ولم يَضِقْ بمعنًى، ولم يَضِقْ بأسلوب؛ وإنما فَرَغَ لفنِّه، وفَرَغَ فنُّه له، وفَرَغَ لفلسفته، وفَرَغَتْ فلسفته له، وفَرَغْتَ أنت له وللفلسفة وللفن، تَسْمع وتَنْظر، وتستمتع وتَذُوق، لا تجد في ذلك عنفًا ولا عسرًا.

اقرأ معي هذه القصيدة فستجد هذه اللذة الفنية الممتازة التي تأتي من هذه الملاءمة الرائعة بين الحرية والتقييد، وبين السجن والإطلاق. فأنت لن تَخْلُص من التزام حرفين بل ثلاثة أحرف، فالقيد ملحوظ دائمًا، ولكنَّه قيدٌ خفيف لا يَعُوقك عن الخطو، بل لا يَعُوقك عن السعي، بل لا يَعُوقك عن العدْو، لا يَعُوقك عن شيء من هذا، ولكنَّه يُشْعِرُك بنفسه، ويُشْعِرك بهذه اللذة التي يجدها مَنْ يجري وهو مُقَيَّد برغم القيد، ومَنْ يَنْهَض وهو مُثْقل برغم العبء الذي يَحْمِله.

اقرأ معي هذه القصيدة فسترى أن الفنَّ قد واتى فيها أبا العلاء مواتاة حسنة حقًّا، لَمْ يشْغَلْه قَيْده عن العناية بما عداه مما يَجْمُل به اللفظ، ويَصِحُّ به المعنى، ويَعْتَدِل به الأسلوب. وإِلامَ أراد أبو العلاء في هذه القصيدة؟ إلى ما تَعَوَّدَ أن يريد إليه في أكثر قصائد اللزوميَّات ومقطوعاتها؟ إلى ما قرأْتُه ألْفَ مرة ومرة منذُ بدأتُ في قراءة اللزوميَّات إلى أن انتهيتُ إلى هذه القصيدة في آخر الديوان؟ فنحن في النون المفتوحة إلى هذه الفلسفة الْمُظلمة المضيئة، القاتمة الباسمة التي يُنْعَى فيها الشباب، وتُقْطَع أسبابه، وتُقْطَع أسباب اللذة والأمل مع أسباب الشباب والقوة، والتي يَأْمُر فيها بالإذعان والاستسلام لحكم الأيام ما دامت الآمال لا تُوَاتَى، وأسباب الأماني لا تتصل، والتي يأمر فيها بالاحتياط للمستقبل الذي يكون بعد الموت، أو الذي لا يكون لأنه مجهول، فالخير أن يَحْتَاط له الرجل العاقل، وأن يدَّخر له ما وَسِعَه الادخار من صالح الأعمال، أو مما يرى أنه من صالح الأعمال.

فأبو العلاء يَنْهى عن طائفةٍ من الآثام، ويأمر بطائفة من الحسنات، حتى إذا فرغ من النهي والأمر عاد إلى ما بدأ به من الشك الذي ينتهي بصاحبه إلى اليأس والقنوط، ولكنه يأس حلو، وقنوط سائغ لا تجد فيه مرارة لاذعة، ولا ينتهي بك إلى جَزَع مُهْلِك، وإنما هو مُنْتَهٍ بك إلى الأناة التي يُمَازِجُها الرضى، وإلى الهدوء الذي يشيع فيه الإذعان، وإلى هذه الحال النفسية الممتازة التي يَنْظُر فيها الفيلسوف إلى الحياة وأحداثها وأهوائها وآمالها نظرة فاترة شاحبة، تصحبها ابتسامة ساخرة، فيها كثير من الازدراء الحلو المريح.

اقرأ معي هذه الأبيات، وحَدِّثني عن هذه الجزالة التي تَشِيع فيها وفي القصيدة كلها، والتي تأتي من التزام ما لا يُلْزَم قبل أن تأتي من أي شيء آخر، فهاء السكت هذه التي الْتَزَمَها أبو العلاء في آخر كل بَيْت بَعْد هذه النون المفتوحة، وبَعْد هذه الضاد الساكنة، تَمْنَح البيت قوة معتدلة، هي الجزالة بنفسها، ضخامة في الضاد، ثم خفَّة في النون، ثم حلاوة في هذه الهاء الساكنة التي قَلَّمَا يلجأ إليها الشعراء، والتي تُشِيع في الشعر وفي النثر حلاوة وظُرفًا حيثما وُجِدَتْ. وما أُبْعِدُ أنَّ أبا العلاء قد ذَكَرَ ظُرْف عُبَيْد الله بن قيس الرقيات في قصيدتيه المشهورتين:

بَكَرَتْ عَلَيَّ عَوَاذِلِي
يَلْحَيْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ

و:

ذَهَبَ الصِّبَا وَتَرَكْتُ غِيَّتَيَهْ
وَرَأَى الْغَوَانِي شَيْبَ لِمَّتَيَهْ

ومعروف أن ابن قيس الرقيات إنما نزع إلى هذه الهاء متأثرًا للقرآن الكريم في مثل قول الله — عزَّ وجلَّ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهَْ وفي مثل قوله: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهَْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ.

قال أبو العلاء:

لَأَمْواهُ الشبيبةِ كيفَ غِضْنَهْ
وَروَضَاتُ الصبا كاليَبْس إِضنَهْ

فانظر إلى هذا التصريع بين غِضْنه وإِضْنه، كيف يَرْتفع بالبيت، أو قُلْ يَثِبُ به إلى هذه الجزالة الشائعة في شطريه. ثم انظر إلى قوله: لأمواه الشبيبة كيف غضنه، وإلى هذا المعنى المُجْمَل المُفَصَّل، والموجز المُطْنَب الذي يذهب الشاعر فيه إلى حسرات لا تنقضي، وإلى تَعَجُّب حزين لا ينتهي، يُشْعِرك بهذا الإيجاز في اللفظ، ويُشْعِرك بهذا الإطناب في المعنى، فأنت واجد ألفاظًا قليلة، وأنت شاعرٌ بالحذف والاختصار.

ولكنَّك في الوقت نفسه واجد معانيَ واسعة لا تكاد تنقضي، وأنت تَلْحَظ الألفاظ التي تَسْتَطِيع أن تُؤَدَّى بها هذه المعاني، لولا أن الشاعر قد حَذَفَها، واجتزأ عنها بالحذف والاستفهام.

ثم انْظُر إلى الشاعر كيف أَشْرَفَ بك على كل هذه الحسرات والغمرات، فأشْعَرَ نفْسك الحزن، وأشاع في قلبك الأسى، وأظْهَرَ عَقْلَك على شيء لا سبيل إلى استدراكه، ثم أَقْبَلَ بك بعد هذا على هذه الحقيقة الناصعة القاطعة التي نؤمن بها جميعًا، ونلهو عنها جميعًا، فإذا لَهَوْنَا عنها تَوَرَّطْنا في الحسرات والغمرات، وإذا ذَكَرْنَا إيماننا بها وَجَدْنا فيها السلوة والعزاء.

وآمالُ النفوس مُعلَّلاتٌ
ولكنَّ الْحَوادثَ يَعْتَرِضْنَهْ

وهل حياة الناس إلا هذا، تَعَلُّل متصل بالأمل، ويأس بيْن حِين وحِين، تَضْطَرُّنا إليه هذه الحوادث الواقعة التي تُكَذِّب الآمال وتُخَيِّب الرجاء.

ثم انظر كيف يفصِّل أبو العلاء هذا المعنى نفسه تفصيلًا، ويعيد عَرْضَه في صورة ليست أَقَلَّ روعة من الصورة التي عَرَضَهَا في البيت السابق. فإذا هو يُصَوِّر الحياة على أنها صراع بين الأيام التي لا تَمَلُّ من إيذاء الناس بحوادثها الواقعة التي لا تلائم أهواءهم وأغراضهم، والنفوسِ التي لا تَمَلُّ من الاستسلام للآمال، والاسترسال مع الأماني.

فلا الأيامُ تَغْرضُ من أَذاةٍ
ولا المهجاتُ من عيشٍ غرضْنَهْ

ثم انظر إليه كيف ينتهي من هذا كله إلى هذا البيت الذي يصوِّر مذهبين من مذاهبه؛ أحدهما مذهبه في الجبر، والآخر مذهبه في الفن، هذا الذي يستعير فيه من علوم العربية اصطلاحاتها؛ ليؤدي بها آراءه الفلسفية العليا.

فهو يُشَبِّه أسباب المنى بأسباب الشِّعر، وهو يُشَبِّه ما يَعْرِض للمنى من الخيبة واليأس والقنوط والحرمان، بما يَعْرِض لأسباب الشِّعر من الكف والقبض اللذين يُنْقِصَانِها، وينحرفان بها عن وجوهها المألوفة.

وأسبابُ المُنى أسبابُ شعرٍ
كُفِفْنَ بعلمِ ربِّكَ أو قُبضْنَهْ

ولكن الشاعر هو الذي يَكُفُّ أسبابه أو يَقْبِضها، تَدْفَعه إلى ذلك صناعته، ويَدْفَعه إلى ذلك فنُّه، وتَدْفَعه إلى ذلك ضرورات الوزن. ونحن نعلم أصول الصناعة وأصول الفن، ودقائق الضرورات التي تدعو الشاعر إلى أن يكفَّ أسبابه أو يَقْبِضها. فأما أسباب المُنى فليس الناس هم الذين يَكُفُّونها أو يقبضونها؛ لأنهم ليسوا هم الذين يَنْظِمون قصيدة الحياة، وإنما تُكَفُّ أسباب المنى، وتُقْبَض بعلم الله الذي خلق الحياة والأحياء، ودَبَّرَ أمور هؤلاء وتلك بحكمة لا يَعْرِفها أبو العلاء، ولا يَعْرِفها غيره، وإذن فلا بدَّ من الإذعان للقضاء، والرضى بالحوادث الواقعة، والاحتياط من القضاء، ومن الحوادث الواقعة، ولا بدَّ من أن يَكُفَّ الإنسان أذاه عن غيره، ويَصْرِفَ شرَّه عمَّا عداه وعمن عداه. وقد فعل أبو العلاء ذلك، فهو لا يُرَوِّع آمنًا، ولا يُثِير ساكنًا.

وما الظبياتُ مني خائفات
وردْنَ على الأصائلِ أو ربَضنَهْ

وهو ينصح لك، ويرأف بك، ويود لو تَذْهَب مَذْهَبه وتَسِير سيرته، فلا تُفْجِع الطير في بيضها، فإنه لها لا لك، وما ينبغي لك أن تعتدي عليها ما دُمْتَ تَكْرَه أن يُعْتَدَى عليك.

فلا تأْخُذْ ودائعَ ذاتِ ريشٍ
فما لَكَ أيها الإنسانُ بضنهْ

ثم هو لا يَكْفِيه من نفسه، ولا يَكْفِيه منك الإعراض عن ترويع الآمن، وإثارة الساكن، وتفجيع الطير في ودائعها، ولكنه يريدك كما أراد نفسه على أكثر من هذا، يريدك على أن تُرَوِّع نفْسَك بحرمانها طائفة من اللذات؛ لِتُجَنِّبها طائفة من الآلام. يريد أن يِصْرِفَك عن الغانيات، وعما تُثِير حياتُهُن وزينتُهُن في نفسك من لهو وشهوة وفتنة؛ لأن هذا كله ينتهي بك إلى آلام لا تُحْصَى، وحسرات لا تُقْضَى، وفيم تُحْمَل الآلام وتُجْشَم الحسرات ما دامت كلها منتهية إلى هذه الآخرة المنكرة التي تَعْرفها، ولكنك تَجْهل ما بَعْدها وهي الموت، إنما يُحْتَمَل الألم حين ينتهي إلى لذة، فيجب أن تَتْرُك اللذة حين تَنْتَهِي إلى أَلَم.

وشاعرنا في تأدية هذا المعنى الذي يُكَلَّف بترديده معتمد دائمًا على حِفْظِه، وعلى ما وَرِثَ من الألفاظ والأخبار والأساطير، يُصَرِّف هذا كله في شِعره تصريفًا جميلًا رائعًا، يُشْعِرك بهذه البداوة الحلوة المرة، ويصوِّر لك حِكْمَته هذا التصوير الجزل الذي لا يَلِين كل اللين، ولا يُعَنِّف كل العنف، وإنما يَتَّخِذ بين ذلك سبيلًا.

فراعِ اللهَ وَالْهَ عن الغواني
يَرُحنَ ليمْتَشِطْن وَيَرْتحضنَهْ
وطئْنَ السابريَّ وخضنَ بحر الـ
ـنعيم وهُنَّ في ذَهَبٍ يخضْنَهْ
وللسَّمُراتِ في الأَشجار عيبٌ
إذا ما قال مخبرُهنَّ حِضْنَه
نجائبُ لامرئ القيسِ بن حُجرٍ
وقَصْنَ أخا البَطالةِ إذ يُرضْنَهْ

وانظر إلى قوله:

نَجائبُ لامرئِ القيسِ بن حُجرٍ
وقَصْنَ أخا البطالةِ إِذ يُرضْنَهْ

كيف يشير فيه إشارة ظريفة إلى عبث امرئ القيس. وإلى قوله: وخَيْلُ اللَّهْو جَامِحَة علينا. كيف يشير فيه إلى أفراس الصبا التي عراها زهير.

ثم انظر إلى قوله:

فيا غضًّا مِن الفتيانِ خيرٌ
من اللحظاتِ أبصارٌ غضِضْنَهْ

كيف أشار فيه إلى قول الله — عزَّ وجلَّ: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وكيف جانَسَ فيه بَيْن وَصْف الغض الذي يكون للفتى وللغصن، وبَيْن فِعْل الغض الذي يقع على الأبصار.

فإذا فَرَغَ أبو العلاء من هذا النهي أو من هذه الفلسفة السلبية، أقْبَل على الأمر أو على فلسفة إيجابية، يَتِمُّ بها ما ينبغي للرجل العاقل الحازم من الاحتياط، وهو يأخذ فلسفته الإيجابية هذه من الدِّين، فهو يأمر بإيتاء الزكاة، وما يَمْنعك من إيتاء الزكاة، ومِنْ أن تُحِلَّ مالَكَ عن نفسك مريدًا لذلك قبل أن يَنْحَلَّ المال عنك برغمك. ويأمر بإقامة الصلاة، وأي شيء أَعْجَزُ من أن تُقَصِّر في إقامتها، ورياضة نفْسك بها، وهي أيسر من أن تَلْقاها بالإعراض، أو أن يَصْرِفك عنها الكسل. وهو يأمر بصوم رمضان، ولا سيما حين يشتد القيظ؛ لأن في ذلك رياضة للنَّفْس على الشدة، وأَخْذًا لها بالعنف، وتهوينًا للمشقة عليها. ولكنَّه يقف عند ذلك من أركان الإسلام، فهو لا يأمر بأداء الحج، وأكبر الظن أن رأيه في الحج سيئ، تُثْبِت ذلك نصوص في اللزوميَّات قد مرَّ بعضها، وقد نَعْرِض لبعضها بعد حين، وهو لا يأمر صراحة بالركن الأول من أركان الإسلام، وهو أن تشهد بأن لا إله إلا الله وبأن محمدًا رسول الله. لا يأمر بذلك صراحة، إما لأن في نفسه من النبوات شيئًا كما قَدَّمْتُ، وإما لأن هذا الأمر مفهوم ضمنًا مِن أَمْرِه بالزكاة والصلاة والصوم، وإن كان شَكُّه في النبوات يُفْهَم أيضًا مِن سكوته عن الحج في هذه القصيدة، ومِنْ تَصْريحه بِرَفْض الحج في مواضع أخرى من اللزوميَّات، فهو يُؤْمن ببعض الكتاب، ويَكْفُر ببعض.

ففُضَّ زكاةَ مالِكَ غيرَ آبٍ
فكلُّ جُموعِ مالِك يَنْفَضِضْنَهْ
وأَعجزُ أهلِ هذِي الأَرضِ غاوٍ
أَبَانَ العجزَ عن خمسٍ فُرِضْنَهْ
وصُمْ رمضانَ مُختارًا مُطِيعًا
إذ الأقدام من قيظٍ رمضْنَهْ

على أن الشيخ لا يَلْبَث بعد هذا النهي والأمر أن يعود إلى بؤسه ويأسه، وأن يُشْرِكنا معه في البؤس واليأس؛ لأنه يؤديهما إلى قلوبنا في لَفْظٍ هيِّن وادع رقيق رفيق، جزل مع ذلك متين، فهو يُنَبِّئنا بأن الفناء مصير كل شيء، إليه يَصِير الناس، وإليه تَصِير النجوم. وإليه يَصِير حتى هذا الذِّكر الذي يعلِّل به الناس أنفسهم إذا عَرَضَ لهم ما يؤذيهم في الحياة، وما يُثَبِّط همهم ويُفِلُّ عزائمهم، ويَصْرِفُهُم إن استجابوا له عما هم مُقْدِمون عليه من جلائل الأعمال، أنهم يُعَزُّون أنفسهم حينئذٍ بأن التاريخ سَيَعْرِف لهم من البلاء ما يُنْكِره عليهم المعاصرون. ولعلهم يُضَلِّلون أنفسهم حين يؤمنون بوفاء التاريخ، وبما سَيُذْكَرُون به من خير إن أَقْدَموا، وبما سَيُذْكَرُون به من خير إن أَحْجَموا، فإذا هم يُقْدِمون أو يُحْجِمون زاهدين في رضى الناس، مُعْرِضين عن سَخَطِهم، راغبين مع ذلك في رضى التاريخ، مشفقين مِن سَخَطِه؛ كأنهم سيذوقون لذَّة ذلك الرضى، ويُحِسُّون لَذَعَ هذا السخط بعد أن يَشْتَمِلَهم الفناء. فَأَبُو العلاء يَرُدُّ من غرورهم هذا، ويَكُفُّ عن غلوائهم، ويُنَبِّئهم بأن هذه الأحاديث نفسها صائرة إلى الفناء، وإن ظنوا بها البقاء. ليس هناك شيء يستطيع أن يَخْلُد، لن يَخْلُد الناس ولن تَخْلُد الكواكب، ولن تَخْلُد أحاديث التاريخ. فالسرور بالسِّيَر والأحاديث غرور، والإيمان بأحكام الأيام لَغْو، والتعزي بإنصاف التاريخ باطل، والأمر كله صائر إلى الفناء. فمن أَقْدَمَ على خير فلْيُقْدِم عليه لأنه الخير، لا لأنه سَيُعْقَب مكافأة من الناس، أو إنصافًا من التاريخ، ومَنْ أَحْجَمَ عن شرٍّ فَلْيُحْجِمْ عنه لأنه الشر، لا لأنه سَيُعْقَب سخطًا من الناس، ولَوْمًا من التاريخ.

وليس من هذا الفناء مَخْرج، وليس عن هذا الفناء مُنْصَرَف، فإن استطعتَ أن تَتَّخِذ سُلَّمًا في السماء، أو نفقًا في الأرض فافعل؛ فإن ذلك لن يُغْنِيَ عنك شيئًا، ولن يَصْرِفَك عن هذا الفناء الذي أنت صائر إليه. وإن استطعتَ أن تَتَّخِذ لنفسك جناحين تطير بهما في الجوِّ، وتُبْعِد بهما في الطيران فافعل، فلن يُغْنِي ذلك عنك شيئًا، فسَيُهَاض جناحاك، رَضِيتَ ذلك أم كَرِهْتَهُ، وسَتَقَعُ مَهْمَا تَصَّعَّد في السماء، وسَتُرَدُّ إلى ذلك الفناء الذي خَرَجْتَ منه، ولسْتَ تدري كيف خَرَجْتَ، والذي تعود إليه، ولسْتَ تدري ماذا ينتظرك فيه.

أهذا اليأس القاتم شر؟ أهذا البؤس الحالك مُثَبِّط للهمم؟ مُفَتِّر للعزائم؟ أمَّا بالقياس إلى ضعاف النفوس الذين لا يعملون إلا لِيَلْقَوْا جزاءَ ما عملوا، ولا يُعْرِضون إلا ليَتَّقُوا شر ما أعْرَضُوا عنه فَنَعَمْ. وأمَّا بالقياس إلى أقوياء النفوس الذين يَعْمَلون ويُعْرِضون لا راغبين ولا راهبين، بل لأن طبائعهم تدفعهم إلى العمل، أو تدفعهم عنه فلا.

ومِنْ هنا أَنْتَجَتْ هذه الفلسفة الحالكة المشرقة، المُثَبِّطَة المنشطة في حياة الناس نَتِيجَتَيْن مختلفتين أشدَّ الاختلاف، دَعَا إليها أبيقور قبل أبي العلاء بقرون طوال، فاستجاب لها فريقان من الناس، كلاهما فَهِمَها على وَجْهِها، ولكن كليهما ذَهَبَ بهذا الفهم في طريق مضادة لطريق صاحِبِه.

فأما أول هذين الفريقين، فَقَد اسْتَيْأَسَ من جزاء الخير والشر، فارتَفَعَ بنَفْسه عن انتظار الجزاء، ونَزَّهَها عن البيع والشراء، وطَهَّرَها من اللذة وآثامها وآثارها، وراضها على الألم حتى ألغى شعورها بالألم، وصَرَفَها عن النعيم حتى ألغى تقديرها للنعيم.

وقد سَلَكَ أبيقور نفْسُه هذه الطريق، ولكن كثيرًا من معاصريه، والذين قرأوا فلسفته سَلَكُوا تلك الطريق. وسَلَك أبو العلاء طريق أبيقور، ولكن كثيرًا من الذين قرأوا فلسفة أبي العلاء سَلَكوا تلك الطريق، فأي الفريقين أخطأَ، وأي الفريقين أصاب؟ كلاهما مخطئ في أكْبَرِ الظن لسببٍ يَسِيرٍ، وهو أن هذه الفلسفة تقوم على الإسراف في الإيمان بالعقل، والاطمئنان المطْلَق إلى أحكامه وأقضيَتِه وقياس الأشياء بمقاييسه القاصرة الضيقة. فمن يدري لعل للأشياء مقاييس أخرى أَبْعَدَ وأَوْسَعَ من هذه المقاييس التي نَقِيس بها الخير والشر، ونُقَدِّر بها الثواب والعقاب.

ومن يدري لعل من الإسراف في الغرور والكبرياء أن نَتَّخِذ أَنْفُسنا وعقولنا مقاييس للأشياء، وألَّا نَلْحَظ حين نُقْدم أو نُحْجم إلا ما يعود علينا مِنْ نَفْع أو ضرٍّ، ومِنْ خير أو شر، ومن مثوبة أو عقوبة. أليس من الممكن — بل أليس من الحق — أن نُخَفِّفَ من هذه الأثرة، وأن نَلْحَظَ ما قد يكون لإقدامنا أو إحجامنا من أثَر في الجماعة التي نعيش فيها، وفي النوع الذي نتأثر به ونؤَثِّر فيه؟ أليس من الممكن بل من الحق علينا أن نتساءل: ألَا يجوز أن تكون لأعمالنا آثار تَتَجَاوَزُنَا وَتَتَجَاوَزُ الجماعة وَتَتَجَاوَزُ النوع نفْسَه إلى كائنات أخرى نَعْرِفُها أو لا نَعْرِفها، ونحن نَجْهَل — على كل حال — آثار أعمالنا فيها وفي مصيرها؟

الأمر كله يرجع إلى ما رَدَدْتُ إليه بؤس أبي العلاء ويأسه، وهو هذه الكبرياء العقلية التي تلغي ما سوى العقل، وتقف الثقة كلها على العقل، فهل من الحق أن العقل جدير بكل هذه الثقة، وأن أحكامه جديرة بهذه الطمأنينة التي تدفعنا إلى اليأس المسرف في الطغيان، أو إلى الأمل المسرف في التهالك على اللذات والآلام؟ ومع ذلك فأبو العلاء نفسه يعترف بقصور العقل وحيرته، وعَجْزه عن القضاء في كبار المشكلات.

فاقرأ قبل كل شيء هذه الأبيات التي يصوِّر فيها الشيخُ بؤسَه ويأسه تصويرًا هادئًا، ولكنه مؤَثِّر لطيف الْمَدخل إلى النفس:

عيونُ العالمينَ إلى اغتماضٍ
وأبصارُ النجومِ سيغتَمِضْنَهْ
وقد سرَّ المعاشرَ باقياتٌ
من الأَنباء سِرْنَ ليَستفِضْنَهْ
أرَى الأزمانَ أوعيةً لذكرٍ
إِذا بُسِطَ الأَوَانُ له نُفضْنَهْ
قد انقرضَتْ ممالِكُ آلِ كِسْرى
سِوَى سِيَرٍ لهنَّ سيَنْقَرِضْنَهْ
فطِرْ إن كُنتَ يومًا ذا جناحٍ
فإِنَّ قوادِمَ البازِي يهضْنَهْ
وكم طيرٍ قُصِصْنَ لغيرِ ذَنْبٍ
وأُلزمْنَ السجونَ فما نهضنَهْ!

ثم انظر إلى هذا البيت الذي يَعْتَرِف فيه أبو العلاء اعترافًا صريحًا قاطعًا بعجز العقل وقصوره فيقول:

متى عَرضَ الحجَا للهِ ضاقَتْ
مذاهبُهُ عليه وإن عرضْنَهْ

فهذا العقل الجبَّار الذي يُقْبِل ويُدْبِر ويَكِرُّ ويَفِرُّ، وتَتَّسع له المذاهب حين يَعْرِض لكثير من المشكلات، فإذا هو يبني ويَهْدم، وإذا هو يَنْقَضُّ ويُبْرِم، لا يكاد يَعْرض لله حتى تَضِيقَ عليه المذاهب، وتُؤْخَذ عليه من أقطارها، فإذا هو عاجز قاصر لا يستطيع أن يَصُول ولا أن يَجُول.

وليس الغريب أن يَعْتَرِف أبو العلاء بقصور العقل، وعَجْزه حين يعرض لله، وإنما الغريب أن يقف أبو العلاء بهذا الاعتراف عند هذا الحد، وألَّا يستقصي نتائجه المنطقية؛ فإن العقل إذا عجز عن فهْم الله، وتعرُّف كُنْهِه كان خليقًا أن يَعْجَز عن فَهْم كثير من الأشياء التي تَصْدر عن الله. وهو إذا اعتَرَفَ بهذا العجز كان خليقًا أن يَتَوَاضَع، فلا يُعَنِّي نفسه، ولا يُمَنِّيها، ولا يُجَشِّمها هذه الأهوال التي تَتَجَشَّمها في سبيل التحليل والتعليل والتأويل. وإنما قصارى العقل أن يجدَّ ما وَسِعَه الجدُّ، وأن يَفْهَمَ ما استقام له الفَهْمُ، وأن يُدَبِّر أموره في هذه الحياة كما تستقيم له الظروف، فإذا انتهى إلى حيث لا يطيق أن يَبْعُدَ في سبيلِهِ وَقَفَ وقفة المتواضع الذي لا يطغى، ولا يتكبر، ولا يتجبر، ولا يتورط في هذا الإنكار العنيف الذي يُثير اليأس والبؤس والقنوط، إنما تُفْهَم الكبرياء الجامحة مِنْ عَقْل الملحد الذي لا يؤمن بالله، ولا يعترف بوجوده ولا بحكمته.

فأما العقل الذي يؤمن بالله، ويُثْبِت له العدل والحكمة فهو ظالم لنفسه إنْ تَمَرَّدَ، وباغٍ عليها إن وَرَّطَها في الإنكار والجحود.

ولكن أبا العلاء معذور بعض العذر فيما تَوَرَّطَ فيه ودَفَعَ إليه، فقد كان مضطرًا إلى أن يعيش في بيئته التي عاش فيها، وإلى أن يُشَارِك هذه البيئة فيما كانت قد دَفَعَتْ إليه من ألوان الجدل في الدين والفلسفة، فهو إذَنْ مضطر إلى أن يُثْبِتَ ويَنْفِي، وإلى أن يَعْرِف ويُنْكِر، وإلى أن يَقْبَل ويَرْفُض. وليس هو الذي ابتكر هذه المشكلات التي عَرَضَتْ له أو عَرَضَ لها، وإنما أَقْبَلَ إلى الحياة وبَلَغَ الشباب، فوَجد هذه المشكلات قد وُضِعَتْ مَوْضِع البحث من أقدم العصور، وكَثُرَ فيها الاختلاف، واشتدَّ فيها الأخذ والرد، ونشأ عن ذلك شر عظيم في حياة الناس، وفساد مُنْكَر في أمورهم، فَلَمْ يكن له بدٌّ من أن يَسْتَعْرِض ما اسْتَعْرَض الناس من قَبْلِه، ويَسْتَقْبِل ما استقبلوا، ويقول فيه مثل ما قالوا أو غير ما قالوا. وقد فَعَلَ، وانتهى به هذا كله إلى هذه الحيرة المؤلمة المهلكة، ومَن يدري إلى أي حالٍ كان يصير أبو العلاء لو أنه نشأ في بيئة بريئة لم تَعْرِض لها هذه المشكلات، ولم تَدْفَع إلى ما دَفَعَتْ إليه بيئة أبي العلاء من ألوان الجدل؟

ولكن هذا سؤال لا يُغْني ولا يفيد، فأنت تستطيع أن تُلْقِيَه بالقياس إلى كل مفكر تَأَثَّر بما وَجَدَ في بيئته من المشكلات القديمة أو الطارئة، وبالقياس إلى كل إنسان من رجال التفكير أو من رجال العمل دَفَعَتْه بيئته إلى أن يفكر أو إلى أن يَعْمَلَ. وهذا السؤال ظريف حَلُّه يُتِيح لمن يُلْقِيه أنْ يَذْهَب في الفرض مَذَاهب لا تُحْصَى، ولكنه لا ينتهي آخر الأمر إلى شيء.

فلنأخذ أبا العلاء كما هو، كما أرادت فِطْرَتُه وبيئته وظروفُه أن يكون، ولنَرْثِ له من هذا البؤس المُلِحِّ، وهذه الحيرة المضنية، ولنستمتع بهذه اللذة الحلوة المرة التي نَجِدُها عندما نسمع صوته المشرق الحزين يَنْشُر هذا الشِّعر، الذي إن صوَّر شيئًا فإنما يُصَوِّر رجولة قوية، ومروءة صادقة، وقلبًا رحيمًا، وعقلًا ذكيًّا نافذًا، وشكًّا مَهْمَا يُعَنِّف فهو لا ينتهي بصاحبه إلى هذا التمرد الوقح الذي نَجِدُه عند كثير من الذين أسرفوا في الثقة بعقولهم، وإنما ينتهي به إلى الخوف والإشفاق، والغلو في الحذر، والاحتياط للنفس، والاجتهاد في الخير، ولا ينتهي به إلى هذه السخرية اللاذعة التي تَقْطَع الأمل على كل آمِل، والقول على كل قائل، وإنما تَنْتَهي به أحيانًا إلى سخرية رفيقة باسمة، لا تَقْطع على مخالفيه أسباب التفكير، بلا لا تَقْطع عليهم أسباب محاورته، والرد عليه.

نعم، يجب أن نَعْذر أبا العلاء، فنلاحِظ ما أَغْرَقَ فيه الفلاسفة والمتكلمون والفقهاء والمتصوفون والمجادلون عن الفِرَق السياسية، باللسان أحيانًا، وبالسيف أحيانًا أخرى، من ألوان التأويل والتعليل والتضليل، وأن نلاحِظ أنه وقد فُطِرَ كما فُطِرَ ذكيَّ القلب، قويَّ العقل، مُرْهَفَ الحس، دقيق الشعور، لم يكن يستطيع أن يَلْقى هذا كله غيرَ حافل به، ولا مُلْتَفِتٍ إليه، أو أن يمرَّ بهذا كله ساخرًا منه، وعابثًا به كما فَعَلَ بشار وأبو نواس. وإنما فَكَّرَ الرجل فشقي بتفكيره. وحسْبه أن شقاءه بالتفكير لم يَدْفَعه إلى أكثر من أن يشتدَّ على نفسه، ويأخُذَها بما أَخَذَهَا به من العنف، ويدْفَعها إلى ما دَفَعَها إليه من النُّسُك، ويَصْرِف شرها عن الناس، ولا يُمْنَح الناس مِن آثارها إلى ما يَدْعُوهم إلى الروية والتفكير، ويثير في نفوسهم اللذة والمتاع.

واقرأ هذه الأبيات التي تُصوِّر يأسه من إِسراف المؤولين فيما أَوَّلوا، ومن إسراف المعلِّلين فيما عَلَّلوا، ومن إسراف الفقهاء وأصحاب الكلام فيما حاولوا من ألوان التوفيق والتفريق، ثم انظر إلى البيت الأخير منها فسترى يأسًا مهلكًا، ولكنه لا يثير في النفس ثورة، ولا يدفعها إلى جُمُوح، وإنما هو مُنْتَهٍ بها إلى الرضا والإذعان:

وقد كذبَ الذي يغدو بعقلٍ
لتصحيحِ الشروع إذا مَرِضْنَهْ
هي الأَشباحُ كالأَسماءِ يجري الـ
ـقَضاءُ فيرتفِعنَ وينخفضْنَهْ
وتِلكَ غمائمُ الدنيا اللواتي
يُسفِّهنَ الحليمَ إذا وَمِضْنَهْ
غدتْ حججُ الكلامِ حِجَا غديرٍ
وشيكًا ينعقدْنَ وينتقِضْنَهْ
لعلَّ الظاعناتِ عن البرايَا
من الأرواح فُزنَ بما استعضْنَهْ
وللأَشياءِ علَّاتٌ ولولا
خُطوبٌ للجسومِ لما رفضْنَهْ
وغَارَتْ لانصرامِ حيًا مياهٌ
وكُنَّ على ترادفِه يفضْنَهْ

أرأيت إلى هذه القصيدة التي لم تُسْرِف في الطول، ولم تُسْرِف في شيء من الأشياء كيف ألمَّت بألوان مختلفة من هذه الفلسفة المظلمة، التي أنفق فيها الشيخ حياته؟ بدأت بالأسف والحزن، وانتهت باليأس والقنوط، وافتنَّ الشيخ بين ذلك في ألوان من التفكير، منها ما يصوِّر الحذر والاحتياط، ويحاول تطهير النفس مما يراه العقل والدين إثمًا، ومنها ما يصوِّر التواضع والاعتراف بالقصور، ومنها ما يصوِّر الثورة على الناس لا على الله؛ وهي على كل حال، وفي كل فنٍّ من الفنون التي ألمَّت بها لا تخلو من هذه الشخصية القوية الضعيفة، الثائرة الهادئة، المتكبرة المتواضعة، شخصية أبي العلاء.

ثم أرأيت إلى فنِّه اللفظي في هذه القصيدة كيف استقام له واستجاب لدعائه، فَلَمْ يَمْتَنِع وَلَمْ يَتَمَنَّع، وَلَمْ يَلْتَوِ وَلَمْ يَعْوَجَّ، وإنما استجاب مسمحًا طيِّعًا، فأشاع في القصيدة هذه الجزالة الحلوة، وأَشْعَرَك مع ذلك بنفسه، وأَنْبَأَك بأنه ليس من الطاعة والاستسلام، بحيث تظن أو بحيث يظن الشيخ نفسُهُ، وإنما هو على كل حال فن عزيز منيع لا يُبْلَغ إلا بعد الجهد، وكل ما في الأمر أن هذا الجهد قد يكون عنيفًا شاقًّا أحيانًا، وقد يكون رفيقًا هيِّنًا أحيانًا أخرى.

أما أنا فقد استعذَبْتُ نغمة هذه القصيدة، واسترَحْتُ إلى صوت الشيخ وهو ينشدها، وأردْتُ أن أستزيد من هذه المتعة، فأقمْتُ مع الشيخ وصحبْتُهُ ذات مساء، حتى إذا تَقَدَّمَ الليل خَلَوْتُ إلى نفسي، فخلوْتُ إلى ذكرى الشيخ، وسمعْتُه ينشد قصيدة أخرى ليست أقَلَّ جمالًا وروعة من هذه القصيدة، ولكنها أَطْوَل منها، وأَسْرَع سعيًا إلى النفس، وأَعْذَب مَوْقعًا فيها، ولا بدَّ من أنْ أَحْمِلَ إليك صدَى إنشاد الشيخ لهذه القصيدة الرائعة.

وأَيْسَر ما أَحْمِله إليك من هذا الصدى ترديد لمقطوعات من هذه القصيدة، وتصوير لبعض الآراء التي نثرها الشيخ في هذه الأبيات.

وقد الْتَزَمَ الشيخ في القصيدة هاء السكت، والتَزَمَ معها النون والسين، وظَهَرَ لالتزامه هذا أثرٌ واضح في الفنِّ اللفظي؛ فقد تَحَكَّمَت القافية أحيانًا، ولكنها تَحَكَّمَتْ في سماحة وعذوبة، وفي شيء من الدِّل والتيه، واستجابت بعد هذا التحكم، فكانت استجابتها حلوة شائقة مُرْضية لحاجات النفس، ونزعات العقل جميعًا، ومَطْلَع هذه القصيدة قول أبي العلاء:

تهاوَنْ بالظنونِ وما حَدسْنَهْ
ولا تخشَ الظباءَ متى كنسْنَهْ

ولكن لنمرَّ مسرعين بهذا البيت وبالأبيات التي تأتي بعده، والتي يصور فيها أبو العلاء عبثَ الزمان بالناس والأحداث على نحوِ ما يَفْعَل في كثير من شِعره ونثره، ويَنْهَى فيها عن الكلف بالغانيات، ويَفْتَنُّ في وصْفهن وصفًا يصدُّ عنهن، ولنَقِف عند هذه الأبيات:

تشابَهتِ الخلائقُ والبرايَا
وإن مازَتْهُمُ صُوَرٌ رُكِسْنَهْ
وجَرمٌ في الحقيقةِ مثلُ جمرٍ
ولكنَّ الحروفَ به عُكِسْنَهْ
غِنى زيْدٍ يكونُ لفقرِ عَمْرٍو
وأَحكامُ الحوادثِ لا يُقَسْنَهْ

وما أريدُ أن أَقِفَ عند فنِّها اللفظي؛ فهو أَظْهَر وأدنى مِنْ أن يُحْتَاجَ إلى الحديث عنه، أو إلى تقريبه إلى القارئ. ما أريد أنْ أَقِفَ عند القيمة الفلسفية لمعاني هذه الأبيات؛ فقد يدفعني ذلك إلى ألوان من القول، وإلى فنون من الإطالة لست في حاجة إليها. وإنما أريد أنْ أَقِفَ عند شيئين اثنين تُصَوِّرهما هذه الأبيات تصويرًا قويًّا واضحًا، ويحتاجان إلى كثير من التعمُّق والاستقصاء:

الأول: أن هذه الفكرة التي يصورها الشيخ في البيت الأول، ويقيم الدليل عليها في البيت الثاني مشترِكة بينه وبين أصحاب أبيقور، لا في جوهرها فحسب، بل في طريقة عَرْضها أيضًا. فأيُّ الناس قرأ ديوان الشاعر اللاتيني لوكريس الذي يُعَرِّف بطبيعة الأشياء يَعْلَم أن هذه الفكرة شائعة في هذا الديوان كله، وأن الشاعر اللاتيني يَعْرِضها غير مرة على نفْس النحو الذي يَعْرِضها عليه أبو العلاء.

فهو يتحدث عن تَشَابُه الأشياء وإن اختلَفَتْ صورها الظاهرة، وهو يُمَثِّل لذلك بألفاظ لاتينية يعبث بها نفْسَ العبث الذي يَعْبَثه أبو العلاء ﺑ «جرم»، و«جمر» في البيت الثاني.

ومن المحقق أن أبا العلاء لم يقرأ لوكريس، ولم يَظْهَر عليه، وأكبر الظنِّ أنه لم يَسْمَع بديوانه، بل لم يَسْمَع باسم الشاعر نفسه، ولو قد قرأه لقرأه بالعربية، وليس من سبيلٍ إلى ترجمة هذا العبث اللفظي من اللاتينية إلى اللغة العربية، وقد ظَهَرَ عجْز التراجمة الفرنسيين عن نَقْلِه من اللاتينية إلى الفرنسية.

ليس من شكٍّ إذَنْ في أن أبا العلاء لم يَتَأَثَّر بالشاعر اللاتيني من قريب ولا من بعيد، وكل ما يمكن أن يُفْتَرَض هو أنَّ فلسفة أبيقور قد عُرِفَتْ عند المسلمين على نحوٍ ما، واتصلَتْ أصولها بأبي العلاء، فصادَفَتْ من مزاجه استعدادًا وقبولًا، ففكر فيها واستقصى مذاهبها مجتهدًا مستنبطًا من نفسه، وانتهى إلى مثل ما انتهى إليه القدماء من أصحاب أبيقور، وإلى مثل ما انتهى إليه الشاعر اللاتيني من مذاهب التفكير، والتعبير ومن مذاهبهم في السيرة أيضًا.

والشيء الثاني هذا البيت:

غِنى زيْدٍ يكونُ لفقرِ عَمْرٍو
وأَحكامُ الحوادثِ لا يُقَسْنَهْ

فإِلى أي فكرة ذَهَبَ أبو العلاء في هذا البيت إذا لم يكن قد ذَهَبَ إلى تصوير عَجْز العقل عن فَهْم الحوادث التي تَعْرِض للناس والأشياء، وتعليلها وتحليلها من جهة، وإلى إثبات أن هذه الحوادث التي لا تُعَلَّل ولا تُحَلَّل ولا تُؤَوَّل تُنْتِج في حياة الناس أشياء يراها العقل ظلمًا وجورًا، فينكرها وينبو عنها؟ فالخيرات التي تُنْتِجها الأرض، وتُنْتِجها الحضارة كلها محصورة لا يمكن أن تتفاوت حظوظ الناس منها، إلا إذا كان الظلم مصدر هذا التفاوت، فإذا ظفر زيد بالغِنى فلا بدَّ من أن يُضْطَر عمرو إلى الفقر. وليس من الميسور، ولا من المعقول أن يكون الناس كلهم أغنياء. وإذَنْ فلمَ يُسْتَأْثَر زيد بالغنى، ويُضْطَرُّ عمرو إلى الفقر؟ وكيف السبيل إلى رَفْع هذا الظلم، ووَضْع العدل مكانه، وتحقيق الإنصاف بين هذين الرجلين اللذين يَظْفَر أحدهما بأكثر من حاجاته، ويُحْرَم أحدهما أيسر هذه الحاجات؟

سبيل ذلك تحقيق المساواة من غير شك، سبيل ذلك أن يُؤْخذ من الغني، وأن يُرَدَّ على الفقير، حتى لا تكون بينهما هذه الفروق التي تُبِيحُ لأحدهما أن يَظْلِم الآخر، ويستعلي عليه، وتُكْرِه أحدهما الآخر على أن يَبْغَضَ صاحبه، ويُضْمِر له الضغينة والموجدة. ولكن أبا العلاء ليس صاحِبَ إصلاحٍ عمليٍّ، وإنما هو مفكر شاعر ناقد، يرى الشرَّ فيَدُل عليه، وما أكثر ما يرى الشر! ويرى الخير فيدعو إليه، وما أندر ما يرى الخير! وهو في الوقت نفسه لا يقطع بأن الشرَّ الذي يراه شر مطْلَق، وبأن الخير الذي يراه خير مطْلَق، هو لا يقطع، وهو من أجل ذلك، ومن أجل أشياء أخرى لا يَعْمَل، وإنما يَعْتَزل الناس، ويَنْفَرد عنهم، ويؤْثر نفسه بالعافية، يَرْفض الثروة، فيبرأ مِنْ ظُلْم المُعْدَمين، والاستعلاء عليهم، ويبرأ في الوقت نَفْسِه منْ حِقْدِهم عليه، وبُغْضِهِم له، ويطمئن إلى الفقر، وتستريح نفسه إليه، فلا يَشْعُر بألم الحرمان، ولا يتعرض لهذه العواطف المؤلمة التي يثيرها الحرمان في النفوس، فهو قانع مطمئن إلى قناعته، لا يَظْلِم الناس، ولا يرى أن الناس يَظْلِمونه، أو هو عافٍ لهم عمَّا قد يُنْزِلُون به من الظلم.

هو اشتراكي لولا أنه صاحب قناعة وزهد واعتزال للناس، وإعراض عن الحياة العاملة، وما يكون فيها من جهاد. هو اشتراكي الرأي، فلسفي السيرة، ولنَقْتَصِد مع ذلك في اللفظ وفي الحُكْم أيضًا، فلا ينبغي أن يُفْهَم من اشتراكية أبي العلاء ما يُفْهَم من اشتراكية كارل ماركس، وإنما ينبغي أن يُفْهَم من اشتراكية أبي العلاء ما يُفْهَم من اشتراكية العصور القديمة، ومن اشتراكية الثائرين والساخطين، في القرن الثالث والرابع للهجرة بنوع خاص.

فأبو العلاء قد عَرَفَ ثورة صاحب الزنج، وعَرَفَ ثورة القرامطة، ولام صاحب الزنج كما لام زعماء القرامطة، ونعى عليهم آمالهم، ونعى عليهم فلسفَتَهُم، ولكنه استبقى من هذه الفلسفة شيئًا واحدًا؛ لعله أن يكون هو الذي أنشأ هذه الفلسفة: وهو الشعور بالظلم في توزيع الثروة، والإنكار لما يكون من انقسام الناس إلى طبقات؛ الأغنياء والفقراء.

وتستطيع أن تَنْظُر إلى هذه الأبيات التي رَدَّ فيها أبو العلاء على الشيعة، وعلى صاحب الزنج، وعلى القرامطة، فسترى أنه أَنْكَر عليهم جميعًا ما كانوا يطلبون أو يحاوِلون، أو ينتظرون من تحقيق العدل في الأرض. أَنْكَر عليهم الإمام الذي كانوا ينتظرونه، ولكنَّه اعْتَرَفَ بأن الجور شيء واقع، ولا سبيل إلى الإفلات منه، وصرَّح بأنْ ليس للناس إمام يستطيعون أن يثقوا به ويطمئنوا إليه إلا العقل. ولكن العقل يستطيع أن يَكْشِف الظلمة، وأن يَجْلِب الرحمة بشرط أن يُطاع وليس إلى طاعته سبيل؛ لأن في طبيعة الناس، وفي طبيعة الحياة ما يَجْعَل طاعة العقل عسيرة إلا على أمثال أبي العلاء. وهذه الأبيات هي قوله:

يرتجي الناسُ أن يقوم إِمامٌ
ناطقٌ في الكتيبةِ الخرْساءِ
كَذَبَ الظنُّ لا إِمامَ سوى العقـ
ـلِ مشيرًا في صُبْحِه والمساءِ
فإذا ما أطعتَهُ جلب الرحـ
ـمةَ عند المسير والإرساءِ
إنما هذه المذاهبُ أسبا
بٌ لِجذْبِ الدنيا إلى الرؤَساءِ
غرضُ القومِ مُتْعَةٌ لا يرِقُّو
نَ لدمع الشَّماءِ والخنساءِ
كالذي قام يجمعُ الزنجَ بالبصـ
ـرة والقرمطيَّ بالأَحساءِ
فانفردْ ما استطعتَ فالقائلُ الصا
دِقُ يُضحى ثِقْلًا على الْجُلساءِ

أترى إلى اشتراكية أبي العلاء؟ إنه يستمدها من الحياة المادية والعقلية لعصره، يستمدها من الثورات التي اضطرب لها النظام الاجتماعي والسياسي أيام العباسيين، ولكنَّه لا يُحَكِّم فيها شهوته، فليست له شهوة، ولا يُحَكِّم فيها هواه؛ فليس له هوًى، وإنما يُحَكِّم فيها عَقْله، فينتهي به العقل إلى هذا اليأس المريح المؤلم الذي يكون للفلاسفة والشعراء.

ينتهي به العقل إلى أن الجور واقع لا شك فيه، وإلى أن العدل أمَل لا سبيل إليه، وإلى أن اليأس المريح على ما يُثِير من الآلام المحضة خير من الجهاد الذي لا يُغْني، والمغامرة التي لا تُجْدِي. هو يلتقي مع المتنبي في الشعور بالجور، وفي أَخْذِ هذا الشعور من المذاهب الاقتصادية والسياسية التي كانت شائعة في ذلك العصر، ولكنَّهما لا يكادان يلتقيان حتى يفترقا. فأما المتنبي فيُغَامِر، ويُخَاطِر حتى ينتهي إلى ما ينتهي إليه المغامرون المخاطرون، وأما أبو العلاء فيَشْرَب كأس اليأس هذه التي تريحه وتُرِيح منه.

وهنا نَبْلُغ المسألة التي أثارها الأستاذ ماسينيون، والتي أشَرْتُ إليها في أول هذا الحديث، والتي قرَأْتُ اللزوميَّات من أجْلها: وهي تأَثُّر أبي العلاء بالإسماعيلية. وأظن أن الجواب على هذه المسألة يسير جدًّا، فأبو العلاء قد عَرَفَ كل ما أثاره المسلمون من خصومة عقلية أو سياسية أو اقتصادية، وأبو العلاء قد روَّى في هذا كله تروية الرجل الذي يصطنع الجد، ولا يُحِبُّ الهزل، وأبو العلاء قد تَأَثَّر من غير شك بهذه المذاهب المختلفة تأثرًا عقليًّا، فدَرَسَهَا، وجَادَلَ فيها، ولكنَّه لم يَسْتَبْقِ منها لنفسه إلا خلاصتها، وأدناها إلى مزاجه. فمن قال: إن أبا العلاء قد تَأَثَّرَ بالشيعة وبصاحب الزنج، وبالقرامطة خاصةً، فشَعُرَ بأن الأرض قد مُلِئَتْ جورًا، وصوَّر هذا الجور وردَّه إلى مصادره الاقتصادية والسياسية المختلفة، فقد قال حقًّا، ومَن قال: إن أبا العلاء قد تجاوَز هذا الحدَّ في تأثره بأصحاب المذاهب الثائرة الساخطة، فرَسَمَ خطة عملية لرَفْع الجَور، وانتَظَرَ إمامًا سيأتي، أو استجاب لإمام قائم، فقد أخطأ.

فليس أبو العلاء إسماعيليًّا، ولا قرمطيًّا، ولا شيعة بوجه عام، هو يؤمن بأن الأرض قد مُلِئت جورًا، ولكنه يائس من أن يَرْفَع هذا الجور صاحب الزنج في البصرة، وزعيم القرامطة في الأحساء، والأئمة القائمون من الفاطميين في القاهرة، والإمام الذي ينتظره أولئك أو هؤلاء من الذين كانوا ينتظرون الأئمة المغيَّبين.

إمامُه مستقِر في نفسه، يهديه حينًا، ويَجُور به حينًا آخر، ويسلك به هذه الطرق المعوجة الملتوية التي نراها في اللزوميَّات، ويحمِّله ألوان الجهد، ويُكَلِّفه ضروب العناء، ولكن أبا العلاء يُحِبُّه ويأنس إليه، ولا يرضى به بديلًا.

وامض بعد ذلك في قراءة ما يأتي بعد هذه الأبيات، فسترى أبا العلاء يعرض عليك تشاؤمه مطمئنًا له مستريحًا إليه، حتى يقول:

وليتَ نُفوسنَا والحقُّ آتٍ
ذَهَبْنَ كما أَتَيْنَ وَمَا أَحَسْنَهْ
قدِمْنَا والقوابلُ ضاحكاتٌ
وسِرْنَا والمدامعُ ينبجِسْنَهْ

فهو يكره الحياة كما ترى، ويودُّ لو أننا لم نُدْفَع إليها. والغريب أنه يُعَلِّل هذا بنفس التعليل، أو قُلْ يُصَوِّر هذا نفس التصوير الذي ذَهَبَ إليه لوكريس من استبشار الناس حين يتلقون المولود، وابتئاسهم حين يُشَيِّعون الموتى. فأبو العلاء أبيقوريٌّ في تشاؤمه هذا؛ ثم هو يَذْهَبُ مَذْهَبَ أبيقور ولوكريس فيُثْبِت للعناصر التي ائتَلَفَتْ منها أجسامُنا طُهرًا ونقاءً في حالها الأولى، ويُثْبِت لها دنسًا وكدرًا طرأ عليها بعد أن تَأَلَّفَتْ منها الأجسام.

وامض بعد ذلك في القراءة حتى تبلغ إلى حيث ينبئنا أبو العلاء بتكتمه وتَحَفُّظِه، واحتياطه في إعلان ما يَضْطَرِبُ في نفسه من الخواطر، وما يثور فيها من العواطف، وما يَعْرِض لها من الآراء، وذلك حيث يقول:

أَلم ترنِي حميتُ بناتِ صدرِي
فما زوَّجتُهنَّ وقد عنسْنَهْ؟
ولا أَبرزتُهنَّ إلى أنيسٍ
إِذا نُورُ الوحوشِ بِه أَنِسْنَهْ؟

ففي نفس أبي العلاء إذن أسرارٌ مكتومة قد طال ضنُّه بها، وكِتْمَانُهُ لها. فما عسى أن تكون هذه الأسرار؟ ما أظن إلا أنها هذه المذاهب التي يَنْثُرُها أبو العلاء في اللزوميَّات، مصرِّحًا مرة، ومُلَمِّحًا مرة، ومحتاطًا دائمًا. وهو على كل حال يصطنع فيها التقيَّة، فقل: إنه يذهب في هذا مذهب الشيعة، أو قل إِنه يذهب في ذلك مذاهب كثير من الفلاسفة القدماء الذين كانوا يَرَوْنَ من العلم ما يباح للناس جميعًا، ويَرَوْنَ منه ما لا يجوز الإفضاء به إلا إلى الأكفاء القادرين على تَلَقِّيه وتَحَمُّلِه.

وانظر بعد ذلك إلى تصريح أبي العلاء باصطناعه لمذهب أبيقور، وتصويره لهذا الزهد الذي اضطر إليه لا راغبًا فيه، بل مُكْرَهًا عليه إكراهًا، وذلك قوله:

وقال الفارسونَ: حليفُ زهدٍ
وأَخطأَتِ الظنونُ بما فرسْنَهْ
ورُضْتُ صِعابَ آمالِي فكانَتْ
خيولًا في مراتِعِها شمسْنَهْ
ولم أُعرضْ عن اللذاتِ إلا
لأنَّ خيارَها عني خَنسْنَهْ
ولم أَرَ في جلاسِ الناس خيرًا
فَمنْ لي بالنوافر إن كنسْنَهْ؟

فالذين يظنون به الزهد مخطئون، فليس هو زاهدًا، ولكنَّه رجلٌ عاجز عن تحقيق آماله، قد رَاضَ هذه الآمال فامْتَنَعَتْ عليه، ولم تُذْعِن له، وأَدْرَكَهُ اليأس من انقيادها، فخلَّى بينها وبين الشموس، وأعرض عن لَذَّاته لا رغبةً عنها، بل قصورًا وعجزًا، هي التي أُفْلِتَتْ منه، فلم يستطع أن يَلْحَقَ بها؛ فآثر القعود على سعيٍ لا غَناء فيه!

وهو حين آثر القعود لم يُطِق أن يَقْعُد مع الناس، ولا أن يرى في مجالستهم خيرًا، فهم يَرْضَوْن بما لا يَرْضى به، ويطمحون إلى ما لا يطمح إليه، ويَقْنَعُون بما لا يرى فيه مَقْنَعًا، ويختصمون فيا لا يرى فيه موضعًا للخصام. فلْيُعْرِض عنهم كما أَعْرَضَ عن آمالهم ولذَّاتهم، ولْيَنْفُرْ نفُور الظباء حين يَلْزَمْنَ الكناس.

فهو إذن ساخط على الدنيا؛ لأنها أَعْجَزَتْهُ، لا لأنه زَهِدَ فيها. وفلسفته إذن — كما قلتُ في أول هذا الحديث — فلسفةُ المُحْنَق المَغِيظ لا فلسفة المرتفع عن نعيم الحياة ولذَّاتها. أو قل: إنها فلسفة المرتفع عن نعيم الحياة ولذاتها، لا لأنه أراد أن يرتفع، بل لأنه أَكْرَهَ نَفْسه على هذا الارتفاع. طَمَعُه أكثر من طاقته، فهو يُؤْثر أن يَفْقد كل شيء على أن يَقْنَع ببعض الشيء.

أتَرْحَم هذا الرجل وتَرْثي له، أم تَضِيق به وتَسْخط عليه؟ أمَّا أنا فأخْتَصُّهُ بالرحمة والعطف؛ لأنه أحبَّ الدنيا، وأَعْرَضَ عنها، ورَغِبَ في اللذات ثم صَدَفَ عنها؛ ولأنه حين أعرض عن الدنيا وصَدَفَ عن اللذات لم يُضْمِر لأحدٍ شرًّا، ولم يَحْسُد الناس على ما أصابوا منها، وإنما رضي عن الحرمان، واطمأنت نفسه إليه، وعاش وادعًا هادئًا لا يؤذي أحدًا، ولا كاد أحدٌ يؤذيه.

وامض بعد ذلك في القراءة حتى تَصِلَ إلى حيث يعود أبو العلاء إلى نوع من إنكار هذه المصادفات التي تسيطر على الأحياء والأشياء، فتَقْسِم الحظوظ في غير حكمة ظاهرة، ولا عَدْل بيِّن للعقل حين يريد العقل أن يُعَلِّل أو يُؤَوِّل. فالمساواة ليست ملغاة بالقياس إلى الناس وحْدهم فيما يكون من تقسيم الثروة بينهم، ولكنَّها ملغاة أيضًا بالقياس إلى الأشياء التي لا تُعْقَل ولا تُحَسُّ. فما بال بعض الأماكن يؤْثَر بالتَّجِلَّة والتَّكْرِمَة، وبعضها الآخر يُهْمَل إهمالًا دون أن يكون هناك فرْق ظاهر يلحظه العقل بين هذه وتلك؟ أمَصْدَر هذا مصادفةٌ لا نستطيع لها تأويلًا؟ وإذَنْ فليس على أبي العلاء بأس، وإنما الأمر في هذا كالأمر في غيره من الأشياء التي يَعْجز العقل عن فَهْمِها، أم مصدر هذا ما يكون من حمق الناس، وخَرَقِهِم واندفاعهم إلى ما يُدْعَوْن إليه في غير روية ولا تَبَصُّرٍ ولا تفكير؟ وإذَنْ فهو الانحراف عن الإسلام، والازورار عن الدين، فالأماكن التي يذكرها أبو العلاء في هذه الأبيات — كما سترى — هي صخرة بيت المقدس، ورُكْنَا قريش، ومقام إبراهيم.

وقد قَدَّمْتُ أن أبا العلاء لا يطمئن إلى الحج، يُنْكِره صراحةً بالقياس إلى النساء في قوله:

أقيمي، لا أعدُّ الحجَّ فرضًا
على عجز النساءِ ولا العذارَى

ويُهْمِلُه إهمالًا حين يذكر أركان الإسلام في القصيدة السابقة، فيأمر بالصلاة والصوم والزكاة، ولا يذكر الحج.

وهو هنا يقول هذه الأبيات:

وقد غابتْ نجومُ الْهَدْي عنَّا
فماج الناسُ في ظُلَمٍ دَمَسْنَهْ
وقد تَغْشَى السعادةُ غيرَ نَدْبٍ
فيشرقُ بالسعود إذا ودسْنَهْ
وتُقسمُ حُظوةٌ حتى صخورٌ
يُزرْنَ فيُستَلمْنَ ويُلتمسْنَهْ
كذات القُدْسِ أو ركنا قريشٍ
وأُسرتُهُنَّ أَحجارٌ لُطِسْنَهْ
يحجُّ مقامَ إبراهيمَ وفدٌ
وكم أَمثالِ موقفِه وُطِسْنَهْ!

وأكبر الظن أن أبا العلاء هنا إنما يَذْهَبُ مذهب أبيقور في إنكاره حمق الناس وخَرَقَهُمْ، واستجابتهم للأوهام. وآية ذلك ما قدَّمت من إِعراض أبي العلاء عن الحج، وإنكاره له في غير موضع من اللزوميَّات. وآية ذلك هذا البيت الذي يأتي مباشرة بعد هذه الأبيات، وهو قوله:

تَشَاءَمَ بالعواطس أَهلُ جهلٍ
وأهْوِنْ إن خفتْنَ وإن عَطَسْنَهْ!

فذِكْرُه بما يكون من تشاؤم الناس وتفاؤلهم في هذه السخرية اللاذعة بَعْدَ ذِكْر ركني قريش ومقام إبراهيم، وإقبال الناس عليها دون غيرها من الأماكن، مصوِّر لمذهبه أوضح تصوير وأجلاه، هو مذهب يخالف جوهر الإِسلام، وطبيعته مخالفةً لا تحتمل شكًّا ولا تأويلًا.

على أنه يمضي في هذه السخرية بأوهام الناس، واستجابتهم لما يكون من دعوة الداعين، وتصديقهم لما يقال لهم من الأقوال، وما يُقَصُّ عليهم من الحديث، فيقول:

وأَعمارُ الذين مَضْوا صغارًا
كأثواب بَلِينَ وما لُبسْنَهْ

فالأطفال الذين يدركهم الموت قبل أن يرشدوا لا يُنْشَرون ولا يُحْشَرون، ولا يَلْقَوْن عقابًا، ولا ثوابًا. أقبلوا على الحياة ولم يُرِيدوها، وأُخرجوا من الحياة ولم يستمتعوا بها. أقبلوا من العدم وصاروا إلى العدم، وليس لذلك حكمة معروفة أو علة ظاهرة، هم كالثياب التي تبلى دون أن تُلْبَسَ، ففيم وُجِدَتْ، وفيم بَلِيَتْ؟

ثم يقول:

وهانَ على الفراقِدِ والثريَّا
شخوصٌ في مضاجعها دَرَسْنَهْ
وما حفَلتْ حضارُ ولا سُهيلٌ
بأبشارٍ يمانِيةٍ يَدَسْنَهْ

سَخَّفَ إذن كل ما يذاع في الناس فيصدقونه، ويطمئنون إليه من أخبار الكواكب والنجوم فيما بينها، ومن عناية الكواكب والنجوم بالناس، ورعايتها لهم، وتأثيرها فيهم بالخير مرة وبالشر مرة أخرى. فالكواكب والنجوم لا تَحْفِل بنا، ولا بما يعرض لنا من الحوادث والخطوب. ومن يدري لعلها لا تَحْفِل بنفسها، أو لعلها لا تَشْعُر بنفسها! وإذن فالناس يستجيبون للأوهام، ويؤمنون بالسخف حين يُصَدِّقون ما يُقَصُّ عليهم، ويذاع فيهم من أمر الكواكب والنجوم. مَصْدر ذلك ضَعْف عقولهم من جهة، وتَعَلُّقُهم بالكبرياء والغرور من جهة أخرى. يرون أنفسهم شيئًا، وليسوا في حقيقة الأمر شيئًا.

وكذلك صوَّر أبو العلاء في هذه القصيدة الرائعة تشاؤمه المظْلِم القاتم في ألفاظ رقيقة شفَّافة، ولكنها تشف عن هذا الحزن المؤلم المظلم.

والغريب أني شُغِلْت بهاتين القصيدتين، وبقصائد أخرى تشبههما في اللزوميَّات، وتركْتُ صاحبي يمضي في قراءة ذلك الكتاب السخيف الذي اشتريناه لنستعينه على القطار، يظن أني أَسْمَعُ له، وأُصْغِي إليه، والله يَشْهَد أني ما كنت أَسْمَعُ إلا للشيخ يُنْشِدُ شعره هذا الرائع الحزين!

والقطار ينْهَبُ الأرض بنا نهبًا، يُجَنُّ حينًا، ويَعْقِل حينًا آخر، وأنا عن هذا كُلِّه لاهٍ، ولهذا كله ناسٍ، لا أحْفِلُ إلا بهذا السجن المظلم الذي أقام فيه الشيخ، واقْتَحَمْتُهُ أنا على الشيخ. وما أزالُ كذلك حتى نَبْلُغَ باريس. والمقبلون على باريس حين يَبْلُغُونَهَا يَعْنُون بأشياء كثيرة مختلفة، ولكن أقلَّ ما يَعْنُون به لأول قدومهم الكتب والنظر فيها.

والله يَشْهَدُ ما بلغت الفندق حتى طَلَبْتُ إلى صاحِبِه أن يُضِيفَ إلى الغرفات التي نحتاج إليها غرفةً أخلو فيها إلى أبي العلاء. وما كان الغد حتى كانت كُتُبُ أبي العلاء قد خَرَجَتْ من مكامنها، وحتى كُنْتُ مقْبلًا على الشيخ في سِجْنه أسمع منه، وأتحدث إليه، ولكن لا من طريق اللزوميَّات، بل من طريق الفصول والغايات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤