الفصل الخامس

الشيطانُ لا يخربُ وَكرَه

– يا أمي، قرياقوس رجع.

– بلا كذب يا بنت، سدِّي بوزك.

– صدقيني، قلت لك. وحياة الله فقعت من الضحك، خوري مسرح يهاهي١ في الحارة، وينط مثل الأولاد الصغار، وقرياقوس يعرُّ٢ مثل الوحش، بذمتي ضحكته رطل.

– أنت زنتيها يا مضروبة؟!

فزفر الأب زفرة، كأنها خرجت من كير حدَّاد، وتمتم في كلمات فهمتها الأم، وقالت: على مَن الحق يا طنوس؟ مَن استهزأ بالرجال، برأس اللفت يقتل.

ليس أقدر من المرأة على إثارة الرجل، فكلمة منها تقيمه وتقعده؛ أطلَّ طنوس من الباب فرأى قرياقوس عند بيته، يفتقد المفتاح في موضعه فلا يجده، فتسلَّق السلَّم ونادى زوجته من على السطح، فكان ذاك الخوار٣ صفَّارة إنذار للقرية؛ فجاءه بعضهم مُهنِّئِين بالعود الأحمد، أما طنوس فظلَّ واقفًا على عتبة بابه كأنه مسمَّر هناك، ابتسم ابتسامة صفراء ذابلة، وقال كأنه لا يعي ما يقول: يظهر أنه موفق، نبضه قوي.

وكركر قرياقوس من الضحك، وقال لطليعة زواره: أعطوني البشارة، استرحنا من فارس آغا، ظن الآغا قرياقوس لعقة عسل، ما درى أني حية برأسين، ضَرْبَتُها ما لها دواء؛ مسكين الآغا، دعسنا رقبته.

فتناظر الحاضرون وكَبُر قرياقوس في عيونهم، صار في تلك الساعة يُكَنَّى ولا يسمَّى. هذا يقول: بو يوسف، وذاك عمي قرياقوس، ولولا الحياء ما بخلوا عليه بلقب الخواجه والشيخ، إن لم نقل بيك.

إن مناجاة قرياقوس مناداة، فكيف به وهو يريد أن يقع كلامه في أذن جاره، فهزَّ طنوس برأسه وقال: أخبار غريبة عجيبة، فارس آغا صار في جونيه، وقرياقوس رجع! الحق مع المرأة، نحن تراخينا وقرياقوس اشتدَّ.

وتمادى قرياقوس في الابتهار،٤ وتعالى الضحك، فانزوى طنوس في قرنة بيته، وهو يقول في نفسه: الدنيا مع الواقف، وأحسَّ أن شيئًا داخليًّا يحثُّه على الخروج، فتعشَّى وانصرف.

كان في تلك الليلة مجلسان عامران في القرية: مجلس في دار قرياقوس يخبر فيه بطلنا أخبارًا أحلى من العسل، ويقصُّ على مريديه كيف تحدَّث مع المدير بكل حرية، وكيف قلع الآغا مثل الفجلة، والناس يصغون إليه، كأنه يخبرهم عن أرخص الأسعار. ومجلس في بيت آخر، كان فيه خصوم قرياقوس، يفكرون كيف يرغمون أنف خصمهم بعد هذا الظَّفَر، ظنوا أنه ساق نفسه إلى السجن فإذا به قد غلبهم، وفيما هم يقلِّبون القضية على جميع وجوهها؛ ليدركوا كنهها إذا بأحد مَن كانوا في بيت قرياقوس، يشرب نبيذه ويأكل تينه، يدخل عليهم فيضيء ظلمتهم بقوله: كل البلا والشر من خوري مسرح. عزلوا الآغا، ورجع قرياقوس مثل النمر.

فهمهموا جميعًا، وكان صمت، وغيَّر رسول الخير جلسته، فاقترب من قيدوم٥ الجماعة يوشوشه، فأخذ يومئ برأسه إيماءات متتابعة كالحرذون في يوم قيظ، وأخيرًا صاح: مفهوم. وجرَّ واو مفهوم جرًّا عنيفًا، ثم قال محاولًا الابتسام: لا يتعنتر قرياقوس إلا إذا كان كيسه ملآن.
فقال طنوس: صرَّحوا، المطمورة تكسر السكة.٦

فأجابه: صاحبك قرياقوس تديَّن من ملحم المنصف أربعين ليرة إنكليزية، فانتخى طنوس وقال: وأنا أتديَّن ثمانين، لا أسف على ملكي كله. قرياقوس يغلبني؟ وقام إلى المكاتيب الموجَّهة إلى مراجع عديدة يتوسطها في قضيته.

كان مع الصبح في «الكرسي»٧ ينتظر خروج المطران من قداسه، وعاد من لدنه برسالة إلى المدير ضد الأولى، يطلب فيها بإلحاح قصاص قرياقوس وتأديبه، فزعم المدير أنه رفع «الجرنال» إلى سعادة القائمقام، فقرعوا بأيد أخرى باب سعادته، فأحالهم على المستنطق الذي منَّاهم،٨ وجعل موعد الجلسة قريبًا جدًّا. لم تفتر همتهم عن استعداء ذوي النفوذ على قرياقوس، وظلَّ قرياقوس يتفرَّس٩ ويبتهر؛ فيحثهم بذلك على طبخ أحمض ما عندهم ليضربوه ضربة تكسر شوكته.

لم يشغل حريق موسكو بال نابليون، ولا معركة ستالينغراد بال هتلر، كما شغلت القرية هذه الحادثة، وظلوا كذلك أيامًا حتى أطلَّ على القرية وجه جديد، أونباشي غير فارس آغا، يحمل «مذكرات جلب» بالعشرات، فوجم الناس.

المدعوون لزيارة جونيه ثلاثون نفسًا، كل مَنْ سمع وحضر دُعِيَ إلى الشهادة، ومَنْ لم يُلَبِّ دعوة مذكرات الجلب أجاب غصبًا عنه دعوة مذكرات الإحضار … ينفق ممَّا رزقه الله، إن لم يتكرَّم عليه مَنْ سماه شاهدًا بغداء أو أجرة مركوب. كذلك كانت شريعة ذلك الزمان، فصارت الشهادة وسيلة للتشفِّي … وأخفتت هذه الدعوة جدال الأهلين فسبُّوا١٠ المتخاصمين، وانتظروا الموعد عازمين على القول: «لا علم ولا خبر.» ليخلصوا من ضرِّ هذه الدعوى بداية واستئنافًا.

•••

كان قرياقوس مع الفجر ينطق بلسان المهدَّة والمخل والعتلة، يفلق هام الصخور حاسبًا أنه يقتل أعداءه، فكلما ضرب ضربة أتبعها بهذا الصوت: حِهْ. لم تحطَّ الدعوى من همته، فهو يجدِّد ويحسِّن ملكه كل ساعة؛ فارقه شيء من ذلك المرح وملاقاة الدهر بلا اكتراث. كان يضحك ولكن ضحكة غير فاقعة، ينقضُّ على الأرض فيجعل عاليها سافلها، ولكن مَن عرفه قديمًا يعلم أن هناك شيئًا يشغل باله، وإن كان قرياقوس لا يعلم بتغيُّر حاله.

ليس الفلاح كالتاجر؛ الفلاح يخاف من الدَّيْن خَوْفَهُ من الطاعون، والمثل عنده: الدَّيْن جَرَب، ومَنْ تزوج بالدَّيْن باع أولاده بالفائدة. ولا عجب إن خاف، فهو أسير الأنواء؛ ولذلك يسمي المطر رحمة وغيثًا. إذا جاءه الري في حينه تباشَر، وقال: شتوة كلها ذهب. يعتمد على الطبيعة التي يسميها الله، وإذا انحبس المطر أمسى كل بيت كنيسة. صلوات تتصاعد من كل نافذة ذاهبة إلى العَلِيِّ عملًا بالآية: «إذا كان فيكم إيمان قدر حبة خردل …» علامَّ يعتمد الفلاح اللبناني؟ إذا برد الربيع ازرقَّت دودة القز الذهبية وقيَّحت، وضاعت آماله. إن موسم الحرير خليق بأن يسمى عنده «ممزق الدفاتر» يستلف ويقترض والموعد حزيران، فإذا محَل موسمه ركبه الدين وبات مكثورًا عليه.

كان قرياقوس يشتغل ويفكر بأشياء شتى: يفكر بأول سند أمضاه، أيستطيع أن يمزق الكمبيالة، أم يُتبِع الدَّيْنَ بالدَّيْنِ؟ تلك أول مرة استدان بها، فهو يحدِّثك وخوف الدين مستولٍ عليه، يعمل وشبح الفائدة يرعبه. وعلى خلو باله كان هذا السند يزعجه من حيث لا يدري، فخفَّت أغانيه بعد إمضاء السند، وقلَّ تهديده للثعالب وتلذُّذه برجع صدى صوته، ولكن ما الحيلة؟ وقع الرجل في شِرَاكٍ لا يخلصه منها إلا إقبال موسم القز والعسل؛ فهو يسهر على التوتة لينمو ورقها، وعلى خليَّة النحل يكش عنها الزنابير، ينظر إلى السماء ويقول كأنه يحدِّث رجلًا آخر: سنة خير إن شاء الله، السما زرقا مثل النيل. وكثيرًا ما كان يحسب ما عليه فيرى المواسم كفيلة بالتسديد، فيقول بلا وعي: ما أحلى ما يدبر الله! ربك كريم. ثم ينهض آخذًا المعول مرددًا: اطعمها تطعمك، حتى إذا أعيا تمشَّى بين خلايا النحل المنتشرة.

إذا طارت نحلة ضحك لها قائلًا: روحي، طيري يا مباركة، كل الدنيا لك. وإذا تذكَّر أنه اقترض من جناديوس بضع ليرات وريالات قطب وجهه؛ لأن موسمه لا يفي الدين كله وينفق عليه. ويتذكَّر أن دَيْنَ جناديوس بلا فائدة؛ فتنقشع تلك الغمامة، ويقول بابتسام: دَيْنُ صاحبنا اجناديوس لا يرعى، صائم مثل النصارى اليوم. ويرى خلية تبشر بخير جزيل، فبيشُّ لها، ويخاطبها بلهجة عذبة ما ظفر بها منه ابنه الوحيد، ولا زوجته ليلة الإكليل. يربَّت على ظهر الجرة ويناديها: الهمة همتك يا مباركة، خلصيني من ملحم ودينه. ويقف قليلًا مرحِّبًا بالعائدات ومتمنيًا الرجوع بالسلامة للصادرات، حتى إذا رأى زنبورًا سبَّ دينه واستقبله بالمنشة، وما منشته إلا مكنسة عتيقة من سعف النخل، لا يدعها حين يزور النحل زيارة رعائية …

ساورت قرياقوس فكرة الدين بادي بدء، ثم أخذ يتناساها شيئًا فشيئًا. كان يزحزحها «موعد الجلسة» ليحل محلها، وقبل ثلاثة أربعة أيام نسي أنه مديون، وجعل وُكْدَهُ كله في اليوم الثاني والعشرين من آذار.

وفي ضحى اليوم العشرين شقَّ قرياقوس صدر صخر عنيد بالسفين، فسرَّه النصر المبين. وراح يتفرَّج بين خلايا النحل، ويا لهول ما رأى! رأى الخلية التي يسميها «الأميرة» خاوية خالية. لم يبقَ في قصر الأميرة إلا عشرات لا تدنُّ ولا تتحرَّك إلا بالجهد الجهيد؛ فاستولت عليه كآبة سوداء. الخسارة محدودة، بضعة أرطال من العسل، ولكن غاظ قرياقوس ذلك المنظر، فانثنى عنه بقلب يشعر بانقباض عظيم ما شعر بمثله قط في حياته. تساءل عن السبب فلم يدركه … إلَّا أن رؤية قصر الأميرة خاليًا من السكان، هاجت في أعماق نفسه شجونًا، فقال: تُف! ما أبشع خراب البيوت!

وكان في تلك الدقيقة أمام بيته راهب شيخ ج. ر. يوصوص١١ من ثقب الباب، فلا تقع عينه إلا على ظلمة. هزهز قفله الخشبي فلم ينفتح، والتفت فإذا بابنة مراهقة تراقبه من علٍ، فسألها: هذا بيت قرياقوس؟

– وصلت.

– وأين أصحاب البيت؟

فأومأت بيدها، فاتجه القس إلى حيث أشارت، وهو يقول في سرِّه: هذي من حزب أفلو …١٢ ومشى نحو قرياقوس، وهو يأمل خيرًا كبيرًا. أليست النوايا حسنة؟ إذن فليجرِّب. إن إرشاد قرياقوس إلى طرق الحق أمر لازم، وتقويم اعوجاج فلسفته الخاصة شيء ضروري، والمصالحة لا بدَّ منها.
واستيقظ قرياقوس من حلم اليقظة المزعج؛ إذ رأى الراهب واقفًا حدَّه، فصاح وقد نسي هول الخراب: بارخ مور آبون.١٣ أهلًا وسهلًا. ودقَّ كفًّا بكف، وصفَّق براحتيه مرارًا على فخذيه، ليزيل الغبار عن شرواله، ثم تقدَّم فقبَّل يد الزائر قائلًا: كيف حال قدسك١٤ يا محترم؟ تفضَّل.

ومشيا، فلم يتمالك الراهب من إظهار إعجابه بكد قرياقوس، فقال: بعرق جبينك تأكل خبزك. الله يهنيك يا قرياقوس، ويكون معك.

– أنا مرباكم يا محترم، تعلَّمت الشغل عندكم، عند الرهبان في حنوش.

فتنهد القس، وقال: يا حسرتي عالرهبان، الذين علموك راحوا يا قرياقوس، راحوا ما بقي منهم أحد. خربت الديورة. الريس العام أبونا مرقص ابن ضيعتكم، كان يفلح ويزرع ويلبس المداس١٥ هو اقتنى ونحن بعنا يا ابني. الرهبان قعدوا على الطرَّاحة. آه، الله يعافيك يا ابني ويكون معك.

– بدعاك يا محترم، بدعاك.

– بدعا الصالحين.

وفتح قرياقوس باب بيته وتنحَّى ليدخل القس، وبسط له طرَّاحة خلفها مسند من قش على بلاس ورثه من أبيه، وقرفص قرياقوس قبالته، فقال الراهب: تزوَّجت ثاني مرة يا قرياقوس؟!

– نعم يا محترم، ترمَّلت شهرين حسبتهم دهرين، البيت بلا مرة مثل جرة نحل بلا ملكة.

– النحل فيه ملوك؟

– معلوم يا محترم وفيه بابا … ملكة النحل لا تعمل شيئًا، عندها عمَّال تشتغل.

– يا سبحان الله!

– أيوه، النحل غريب عجيب يا معلمي، جرة النحل مثل الدير تمامًا: فيه ريِّس وأقنوم،١٦ ووكيل، وريِّس حقلة،١٧ وإخوة تفلح وتزرع. عمال رائحة، وعمال تجي، والملكة قاعدة على سكين ظهرها.١٨

– سبحان الله في ملكه!

– لها سلطة مثل الملكة، إذا تركت الجرأة لحقها النحل كله «بالقايم يا دايم».١٩

فصاح الراهب: يا سبحان الله، صحيح أنه لا سلطة إلا من الله!

أما قرياقوس فقال: والمرأة في البيت مثل ملكة النحل، الفرق بين الثنتين أن المرة تشتغل ولا تتكل على أحد. والبيت من دون مرة مثل جرة النحل المهجورة، تدخل الزنابير وتخرج ومعها العسل وما من يردُّها …

فقال الراهب: قالوا بنت عمك صارت مثل الغنمة القرعاء.٢٠
– نعم وأكثر … قشَّرت لها العصا من أول يوم، العصا علَّمت الدب يرقص، لا تتشفع للمرة إلَّا بمار سنديان.٢١ فهمت؟ يعني العصا، ودلَّ الراهب عليها، ثم قال: الفرس من ورا خيَّالها.

فقال القسيس: قالوا لي …

فقاطعه قرياقوس قائلًا: لا قالوا لك ولا قلت لهم. اسمع، يجيئك الخبر، وقعت عيني عليها على «عين فرعيا»٢٢ فأعجبتني. خوَّفوني منها، فقلت لهم: أنا أدبرها. بعد الإكليل بيومين قعدنا حول الموقدة — وضرب بيده على حرفها — سألتني عن البكرة والمرسة المعلقة بها — وأشار إليها — وبعد قليل كانت معلقة فوق؛ صرخت، فقلت لها: اسمعي يا مرين، أنا قرياقوس. إياك أن تكبِّري رأسك، هكذا كنت أعمل ببديلتك٢٣ … يا محترم الضربة لمن سبق.

وبعد أن أثنى قرياقوس على زوجته الأولى، وامتدح الثانية التي ثقفها بشفاعة البكرة ومار سنديان، قال للراهب متذمرًا: ولكني غير موفق بأولادي؛ ابني رخو، رخو. تعلم خمس سنين وما عرف الألف من المئذنة، ولكنه فيلسوف في الحكي يا محترم.

واستراح قرياقوس هنيهة، ثم تطلع واستضحك، وقال: سمعت أن الصعتر٢٤ يفتح الذهن، فقلت له: كُلْ منه وكثِّر يا يوسف. عرفت كيف كان جوابه؟ اسمع واضحك:

قال: لو كان الصعتر يفتِّح الذهن كانت دابتنا صارت — ملفانة — أي دكتورة في اللاهوت.

وتفرَّس قرياقوس بوجه محدثه ليرى تأثير كلامه فرآه يضحك، فقال: نكتة ثانية. لا يقوم من فراشه حتى يحمى النهار، فقلت له: اغدُ يا ابني تلاقِ الخير. غدا فلان فلقي صرة فيها أكثر من عشرين ليرة. احزر ماذا كان جوابه؟

ضحك المنحوس، وتمغَّط، وقال من تحت اللحاف: الذي ضيَّعها بكَّر أكثر منه.

وهمَّ الراهب بالاستيلاء على «المبادرة»، فإذا بأم يوسف تدخل حاملة جرَّتها، فقال قرياقوس متابعًا حديثه الأول: لا بنتك ولا أختك ولا كنتك، حرمتك وحدها. البيت بلا مرة مثل جرة نحل بلا ملكة، لا عسل ولا شمع ولا بطيخ أصفر.

وقطع الحديث سلام أم يوسف على المحترم، فقال قرياقوس: يه، يه، يه. كيف نسينا؟ لا تؤاخذني يا معلمي، غرقنا في الحديث. تفضَّل اعمل سيكارة، تتنات عال. يا أم يوسف، هاتي قدح نبيذ، هاتي صحن تين مطبَّع وزبيب، هاتي الموجود.

فقال الراهب: اليوم صيام يا قرياقوس.

– عمرك طويل، أنا ناسٍ، أقول لك الحقيقة ما صمت أبدًا في حياتي، أبصر الأكل في نومي. وإذا تأخَّر عليَّ ربع ساعة أخوِّر٢٥ وأقع. أحبك يا رب قوتي.
وتذكر الراهب قول بعضهم له إن قرياقوس لا يصلي ولا يصوم ولا «يقطع»٢٦ ولا يسمع القداس؛ فانتهز الفرصة وقال: والصلاة يا قرياقوس؟

– وكثرة الصلاة ضد عقلي، تصوَّر أنك تقول لإنسان مائة صباح الخير في اليوم، وتطلب منه كل ساعة غداك وفطورك وعشاك، هذا ثقل دم؛ أعتقد أنه يضيق خلقه مهما كان طويل البال …

– أنت غلطان يا ابني، الإنجيل الطاهر يقول: «صلوا ولا تملوا. وما تطلبوه بالصلاة تنالوه.» الله أصدق مني ومنك. ما قولك في ولد لا يصبِّح والده ولا يمسِّيه! هذه حالة من لا يصلي. صلِّ يا ابني صلِّ …

– أنا ما قلت لا أصلي أبدًا.

ورفع الراهب بصره، فرأى صورة معلقة في الحائط فسأل: صورة مَن هذه؟

فضحك قرياقوس، وقال: صورة الزناتي خليفة! هذه صورة مار جرجس. هذا قديس عظيم. بطل صنديد، ولو ما كان أعظم قديس الإنكليز ما صوروه على ليرتهم. الخضر راعي الحصان … فليحيى. خلصني من ألف تهلكة.

وكان في ظاهر يد قرياقوس وشم على صورة خيَّال، يقول إنه مار جرجس، فأراه إياه؛ فتبسَّم ذلك الشيخ اليابس فبانت أسنانه، كأنها تبدو من خلال فروة بيضاء مشقوقة. ثم تنهد إذ علم أنه يحدِّث رجلًا يتحدَّث عن قديس الله كما يتحدث عن النمر والأسد، ويحترم سيف مار جرجس وحصانه ورمحه وسيفه وخوذته، لا فضائله.

قال قرياقوس: يا ويل الإنسان إذا خلا عبه من عشرين مار جرجس …

وغالت يوسفية — بنت قرياقوس — في الضجيج والخشخشة فزجرها أبوها، وهشَّ لها الراهب وبشَّ، ولكن بشاشته ضاعت في غابة لحيته الغبياء،٢٧ فاستغربته الصغيرة؛ لأنها لم ترَ من قبل لحية في كثافة تلك اللحية. ودعاها أبوها لتقبيل يده، فمشت القهقرى وبكت، فنادى أمها لتسترضيها، وأمرها بإعداد الغداء، بقوله: المحترم يفطر عندنا.

– متشكر يا ابني، ما جئت لعين كفاع حتى آكل وأشرب، المهم فض المشكلة، وحفظ البيوت من الخراب. فأجاب قرياقوس بكل بساطة: تفض المشكلة وتأكل وتشرب، فاعل النحس يستحق مؤنته، وأنت يا محترم نسمة خير.

– أستغفر الله يا ابني. نحن لا يهون علينا خراب بيوت أقاربنا وجيراننا. أتأمل …

فقاطعه قرياقوس قائلًا: يا محترم، أنا في يدك مثل الخاتم في الخنصر، ولكن لا تعذِّب نفسك؛ التفاحة البالغة تسقط من تلقاء نفسها، وإن كانت فجة لا تسقط ولو ضربتها بالجسر. هز المشمشة الفجة تعب بلا فائدة.

– لا تخيبني يا قرياقوس.

– هيهي يا معلمي! ما فهمت قصدي، أنت مفوض مطلق، اعمل مثلما تريد.

– الحادثة بسيطة يا قرياقوس، لا دم ولا قتلى ولا مجاريح، حلُّها هيِّن.

– في نظرك أنت حادثة طفيفة، وفي نظرهم انكسر مخ الباشا. دعوى زور بزور يا محترم، خف ربك. لنفرض أنها أرنبة، الأرنبة لا تحبل وتطرِّح وعمر ابنها أربعة أشهر. قلة دين يا محترم، ما لها حد ولا طرف، وحياة قدسك، وحق نور الشمس — ثم انفتل ومد يده صوب صورة مار جرجس — وقال: وحياة رأس حصانك يا مار جرجس، إن كنت أنا طرَّحتها يبِّسني واحرق دين جدي.

وامتعض الراهب، فقال قرياقوس بعد أن جلس: لا تؤاخذني يا معلمي، زلق٢٨ لساني قدامك، كفرت يا محترم، كفرت. والله، ثم والله، ثم والله، ما نظرتها عيني أبدًا، لا أولًا ولا آخرًا. كان قرياقوس نزيل في عين كفاع، وبعد هذا كله، إذا قلت لي: اطلع من بيتك، أقول لك: تفضل هذا المفتاح.
ودخل رجل يستعير حبل قرياقوس ومنجله فدلَّه عليهما، وقال الراهب: ما هو مطلوبك يا قرياقوس؟ فقهقه قرياقوس، وقال: أنا؟ مطلوبي مطلوب البقر! قالوا للبقر: متى مُتَّم نكفنكم بحرير. قالوا: خلوا جلودنا علينا. اعمل الموافق وأنا طوع إرادتك. لا يحاولوا كَعْم٢٩ قرياقوس. ما دام فيَّ عرق ينبض، لا أرجع إلى الوراء. أكون خارجًا عن دين المسيح إن كنت أكذب عليك. أخذوا خنزيرة البير،٣٠ فتشنا الدنيا وطفنا الأرض، وأخيرًا لقيناها مرمية بالبير. ما قولك؟ هذا عمل يا محترم؟ لو خبرتك كل فصولهم معي، شاب شعر رأسك.

فضحك الراهب وفطن قرياقوس، فقال: كلمة تقال. يا أم يوسف أين صرتِ؟

فأجابت: حط الطبلية،٣١ فنهض قرياقوس يعاون زوجته على إعداد الغداء، ودقَّ جرس الظهر فركع الراهب يبشِّر،٣٢ وقد يكون أول رجل ركع للصلاة في ذاك البيت.

•••

وبعد الغداء قال الراهب لقرياقوس وهو يتحلحل: إذن أنت راضٍ؟

– وفوق الرضا رضا.

وقبل أن يخرج الراهب جاءت أم يوسف بالإبريق فصلى الراهب عليه، ثم نفخ فيه وصبَّ منه على كفِّه ورشَّ في البيت يمينًا وشمالًا، وشيَّعه قرياقوس حتى الطريق العام مستمدًّا بركته داعيًا له بالتوفيق.

وعاد قرياقوس إلى مصارعة الصخور، وعند الغروب فكَّ كمره، وعدَّ الذهبات التي فيه؛ فتمتع برؤية مار جرجس أكثر من ثلاثين مرة، فاطمأنَّ.

استيقظ في الغد مزعجًا. أبصر في نومه أنه رجع شرخًا،٣٣ يتصيَّد السراطين في حنوش، وبينما كان ينتقل على الصخور البحرية المنخرِبة٣٤ إذا بالبحر قد كبر وعلت أمامه موجة، ثم ارتفعت وارتفعت حتى وازت صدر جبل المسيلحة.٣٥ جرف تيارها قرياقوس فضاع في مطاويه، وهاجمه في ثناياها حوت همَّ بابتلاعه فجذبه المد عنه، وجرف الجزر قرياقوس فتعلَّق بالصخرة التي كان عليها أولًا ونجا، ولكنه ضيَّع ثيابه ولم يجدها.

قصَّ هذا الحلم على القس إلياس في دير معاد، فسأله هذا عن ساعة الحلم وعن عشائه تلك الليلة، وعن معدته وبماذا كان يهجس في اليوم السابق، وإذا كان نام بلا صلاة ولا صليب … إلخ، ولما رأى أن الحلم جدير بالتعبير قال له: تقع في مصيبة كبيرة، وتخلص منها بإذن الله.

فخال قرياقوس أنه يقصد جلسة الغد، فضرب بيده على الكمر، وقال: بشفاعة مار جرجس، نخلص. أمش على ما قدَّر الله.

قال هذا وودَّع ومشى إلى جونيه٣٦ في ذلك الجو المتعكر، فما أن اقترب من كنيسة «الأربعين شهيدًا»٣٧ حتى انصبَّت شآبيب٣٨ آذار تارة بردًا، وطورًا مطرًا، ورأى معَّازًا يعرفه كان يتذرَّى٣٩ بصخرة، فحياه مسرعًا إلى الكنيسة المهجورة ولطا فيها. وبعد قليل أبرقت السماء وأرعدت، ثم تتالت البروق والرعود، واشتدَّ غضب السماء؛ فهرع المعَّاز إلى الكنيسة، وقبل أن يبلغها خطف البرق بصره وانقضت الصاعقة، وما انتهى المعاز من رسم الصليب والتلفظ بالدعاء المألوف: قدوس، قدوس، قدوس،٤٠ حتى رأى قرياقوس مبطوحًا في صحن الكنيسة لا حراك فيه، فهرع إلى رأس الجبل المطل على عين كفاع، يدعو أهاليها إلى أخذ ميتهم المأسوف عليه … فجاءوا جميعًا وتلك عادتهم في الملمات. المصيبة تمحو الأحقاد والضغائن مهما كانت جسيمة، وكان خصمه في طليعة السائرين به. مشوا وهيبة تلك الفاجعة تعقد ألسنتهم، لا ينطق إلَّا ذووه الأقربون ببعض عبارات مألوفة، وزوجته تناديه بكلام العاجز الذي فقد سنده … وما من مجيب.
ولمَّا بلغوا سنديانة كنيسة مار روحانا٤١ وضعوا المحمل تحتها ليستريحوا هنيهة، فإذا بقرياقوس يتحرَّك ويقعد؛ فبهت من بهت، وارفضَّ٤٢ عنه من ارفضَّ، وهرب من هرب.
وكان كاهن شيخ قادمًا للمشاركة في العزاء والدعاء للفقيد برحلة ميمونة وسفر سعيد … فقال له أحد القافلين٤٣ من الموكب: قرياقوس عاش.

فأجاب الخوري بملء فيه: الشيطان لا يخرب وكره. وقفل راجعًا.

١  هأهأ: قهقه.
٢  يزمجر، يصيح.
٣  صوت الثور.
٤  الادعاء الكاذب.
٥  السائر في طليعة القوم.
٦  عدم المصارحة في الكلام كصخر مطمور بالتراب أمام السكة.
٧  مقرُّ البطريرك.
٨  علَّلهم ومنَّ عليهم.
٩  يتفاخر.
١٠  شتموا.
١١  يُصَغِّرُ عينيه ليثبت نظره.
١٢  تلميذ القديس بولس.
١٣  بارك يا سيد «سريانية».
١٤  لقب تكريم للكهنة.
١٥  حذاء ضخم ينتعله الفلاح.
١٦  قفير النحل.
١٧  سريانية معناها شخص، وهنا معاون الرئيس ونائبه.
١٨  تعبير قروي معناه: مستريحة.
١٩  الجميع بلا استثناء.
٢٠  ليس لها قرنان كالغنمة؛ أي لا تخاصم ولا تشاكس.
٢١  اسم لقضيب سنديان يحفظ بالبيت لضرب الأولاد متى تمادَوْا في فجورهم.
٢٢  اسم مكان وفيه ماء لسقيا القرية.
٢٣  التي حلت محلك.
٢٤  عشبة عطرة تسميها العامة زعتر.
٢٥  يرهقني الجوع.
٢٦  الانقطاع عن أكل اللحم زمن الصوم.
٢٧  كثيفة ومتشابكة.
٢٨  زل وتسرَّع.
٢٩  قهره، إرغامه.
٣٠  أكرة رفع الماء.
٣١  طاولة واطئة.
٣٢  صلاة الظهر، وهي كناية عن بشارة جبريل للعذراء مريم.
٣٣  شابًّا.
٣٤  الكثيرة الثقوب.
٣٥  جبل في لبنان شمالي البترون.
٣٦  بلدة لبنانية.
٣٧  كنيسة في لبنان.
٣٨  جمع شؤبوب، وهو الدفعة من المطر.
٣٩  يحتمي من المطر.
٤٠  نعت لله تعالى، وهو أيضًا بدء نشيد كنسي.
٤١  اسم كنيسة قرية المؤلف.
٤٢  تفرَّق الجمع.
٤٣  العائدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤