مقدمة

لا يمكن للخيار الفردي، مهما تزيَّن بقشرة رقيقة من النزعة المجتمعية، أن يوفِّر روابط التقدير والمعاملة بالمثل والتواصل التي تعطي حياتنا معنى باعتبارنا كائنات اجتماعية. وعلى صعيد آخر لا يجوز لنا إطلاق حق الثقافات المجتمعية في فرض معاييرها على الأفراد دون أن نوسِّع في الوقت ذاته — من الناحية العملية وليس المثالية فحسب — نطاق حق الأفراد كحاملين لحق الانشقاق عن مجتمعاتهم الأصلية والخروج عنها ومعارضتها إذا لزم الأمر.

(ستيوارت هول، ۲۰۰۰)

لا بد من أن تنال الثقافات المختلفة التقدير، لكن لا يصح أبدًا أن تنال الأسبقية على حقوق الإنسان الأساسية.

(ياسمين علي بهائي براون، ۲۰۰۰)

نشرتُ في أوائل تسعينيات القرن العشرين — في كتاب «العِرْق والثقافة والاختلاف» — نقدًا لكل من التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية كما كانتا تمارسان آنذاك في المملكة المتحدة، لا سيما في مجال التعليم. وأشرتُ إلى أن أنصار التعددية الثقافية ينظرون إلى الثقافات العرقية نظرة تبسيطية على أنها متجانسة وذات خصائص ثابتة وأساسية وجوهرية، ورأوا أن المجتمعات متعددة الثقافات هي «آنية سَلطة» تحتوي على ثقافات عرقية منفصلة لا تمس إحداها الأخريات. وقد عملوا أيضًا بموجب تعريفات إشكالية للعنصرية باعتبارها تحيُّزًا غير عقلاني يمكن القضاء عليه من خلال التثقيف عن الثقافات «الأخرى» حسبما تُعرِّفها خصائص سطحية مثل فنون الطهي والأزياء. إلا أن مناهضي العنصرية — الذين أشاروا صوابًا إلى أن التثقيف عن الثقافات الأخرى لا يتطرَّق إلى معالجة العنصرية المتأصلة لدى ثقافة الأغلبية — نزعوا إلى العمل بموجب نظرة اختزالية للعنصرية باعتبارها نتاج أوجه التفاوت الطبقي، وباعتبارها — مثلما رأى أنصار التعددية الثقافية — نتاج نوع من «الوعي الزائف».

لكن من الناحية العملية، كان البساط في سبيله إلى أن يُسحَب على نحو هائل من تحت أقدام أنصار كل من التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية على يد حكومة السيدة تاتشر، وذلك بإلغاء مجلس لندن الكبرى عام ۱۹٨٦، الذي كان قد استهلَّ بعض سياسات التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية في مجال التعليم وغيره من المجالات، إضافةً إلى ما صاحب ذلك من سخرية بعض وسائل الإعلام من هذه الأهداف. وفي تلك الأثناء، كانت ردة فعل عنيفة قد نشأت بالفعل في هولندا ضد صيغتها الخاصة من التعددية الثقافية، في حين ظل الفرنسيون — بالتزامهم بالجمهورية والعلمانية — يديرون ظهورهم رسميًّا لما اعتبروه تجاوزات «أنجلو ساكسونية» (أي أنجلو أمريكية) في إطار التجارب التي أُجريَت في ميدانَي التعددية الثقافية والاعتراف العلني بعرقيات وأديان متعددة.

وقد حاولت في هذا الكتاب أن أعلِّق على التعددية الثقافية ليس في بريطانيا فحسب، وإنما أيضًا في هولندا وفرنسا وغيرهما من أنحاء أوروبا حيثما توفِّر ذلك. على الرغم من حدوث تطورات مهمة أيضًا في كندا والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وحتى بعض البلدان الآسيوية، فإنني لم أعلق عليها إلا بإيجاز شديد. فهذا الكتاب يركز بالأساس على أوروبا الغربية.

كانت نيتي هي مد الجسور بين مجالين كادا يصيران منفصلين إلى حد بعيد في إطار دراسة التعددية الثقافية: يرتكز الأول على النظرية السياسية، ويتناول قضايا على غرار كيفية التوفيق بين التعددية الثقافية — بتأكيدها على الهويات الجماعية — والدور الرئيسي الذي تضطلع به الحقوق الفردية في إطار الليبرالية التي تمثِّل عماد دساتير الدول القومية الغربية. ويقع الآخر في مجال العلوم الاجتماعية ودراسات السياسات، ويركِّز على طبيعة الانتماءات العرقية وغيرها من انتماءات الجماعات الموجودة على أرض الواقع، وعلى السمة الفعلية المميِّزة للتفاعلات القائمة بين الجماعات العرقية، ومجموعة السياسات التي طُوِّرَت بهدف استيعاب التنوع الثقافي المتنامي لدى المجتمعات الغربية وإدارته.

على أرض الواقع، يتداخل المجالان؛ فالسياسات لا بد لها من أن تولي القوانين الاعتبار الواجب؛ على سبيل المثال القوانين المعنية بحرية التعبير، التي تكرِّس الأفكار المتعلقة بالحرية الفردية. وكثيرًا ما كانت التوترات والصراعات القائمة بين مبادئ حرية التعبير من ناحية والهويات الجماعية وحساسياتها من ناحية أخرى تتحول إلى مناطق ملتهبة بحق، كما في الجدل الذي ثار بشأن سلمان رشدي لدى نشر كتابه «آيات شيطانية»، وفي اغتيال المخرج ثيو فان جوخ في هولندا، وفي نشر الرسوم الكرتونية الدنماركية للنبي محمد. إلا أن قِصَر هذا الكتاب فرض قيودًا صارمة؛ فقد تعيَّن حذف فصل كان يتناول عمل براين باري وويل كيمليكا وبيكو باريك وتشارلز تايلور، وهم من أبرز الفلاسفة السياسيين الذين عالجوا هذه القضايا، لكنني تناولت بعض القضايا ذات الصلة حول التوفيق بين الحريات الفردية والاعتراف بالهويات الجماعية في فصول عدة من هذا الكتاب.

سأحصر نفسي حاليًّا في نقطتين رئيسيتين؛ أولًا: كان ثمة سوء فهم كبير متعلِّق بالتناقض المفترض بين حقوق الجماعات وحقوق الأفراد. على سبيل المثال، الاستثناءات التي تسمح للسيخ بارتداء العمامات بدلًا من الخوذات الواقية ليست ضربًا من ضروب المعاملة الخاصة التي تتيح لحقوق الجماعات أن تنتصر على حقوق الأفراد، بل إن الحق في ارتداء العمامات بدلًا من الخوذات الواقية يمارسه الأفراد بصفتهم أفرادًا، ولا يحق للجماعة ككل أن تجبر أي فرد سيخي على ارتداء العمامة؛ فالجماعة لم تُعطَ حقوقًا تميزها على أفرادها. وثانيًا: كما يتضح من اختياري للعبارات المقتبسَة التي استهللت بها هذه المقدمة، أرى أن ما يُفترَض أن يكون ممارسات ثقافية تقليدية لا يجوز أن يُسمَح له بإلغاء اعتبارات حقوق الإنسان الأساسية وقدرة أعضاء أي جماعة عرقية على الانشقاق عن التقاليد الثقافية المفترَضة لجماعاتهم العرقية. وتتصدَّر هذه القضية على نحو خاص تناولي لقضية النوع والتعددية الثقافية في الفصل الثاني. ويتبع ذلك أنه لا مجال للنسبية الثقافية مكتملة الأركان في إطار التعددية الثقافية، والواقع أن أي تمعُّن في كتابات أنصار التعددية الثقافية سوف يكشف أنه ما من أحد منهم مدان بالنسبية الثقافية الشاملة التي كثيرًا ما يُتهمون بها.

لا ريب أن التعددية الثقافية حظيت بدعاية سلبية في السنوات الأخيرة — على أقل تقدير — وقد امتدت الآن أذرع الهجمات التي شُنَّت عليها بدايةً من ثمانينيات القرن العشرين في بريطانيا وتسعينيات القرن العشرين في هولندا إلى جميع أنحاء أوروبا الغربية. وتعرِّف الفصول المتعددة لهذا الكتاب المعنى الفعلي للتعددية الثقافية، وتقيِّم الشكاوى المقدَّمَة ضدها مقابل الأدلة المتاحة. وقد توصَّلتُ إلى أن أغلب الاتهامات الموجَّهة إلى التعددية الثقافية كما تُعرض في النقاشات العامة إما مضلَّلة أو مبالَغ فيها حينما توضَع في مواجهة الأدلة المستمَدَّة من الأبحاث التي يجريها علماء الاجتماع وتلك التي تُجرى لأغراض التحقيقات الحكومية.

صار جليًّا أيضًا أن العديد من النقائص التي تُعزَى إلى التعددية الثقافية نتجت في الواقع عما أسميه «انتقالًا ثلاثيًّا»، أو تفاقمت بسببه، ويتمثل هذا الانتقال في: تفكك الدولة القومية إثر دَفْع الأقليات الوطنية الخاضعة للدولة، التي اتسمت بالوداعة فيما سبق مثل الاسكتلنديين والويلزيين في المملكة المتحدة، والباسكيين والكاتالونيين في إسبانيا، بمطالب انفصالية، في حين تفقد الدولة أيضًا سلطتها لمصلحة الاتحاد الأوروبي والمؤسسات العالمية. والابتعاد عن التصنيع في معاقل الصناعات التحويلية السابقة في المناطق الحضرية من المدن الأوروبية الكبرى، حيث استقر المهاجرون الأوائل في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية تلبيةً لمطالب التوسع الاقتصادي. وتقليص مخصصات الرعاية الاجتماعية التي كانت الدولة تمنحها بسخاء في السابق. وعلى الرغم من أن مسألة الابتعاد عن التصنيع تحظى فعلًا ببعض المناقشة، فلا يتوافر لي حيز في هذا الكتاب للتعليق على هذه النقلات بأي قدر من التفصيل، إلا أنه ينبغي أخذ النقلات الثلاث في الحسبان دائمًا باعتبارها الخلفية الأساسية التي دارت في إطارها روايات التعددية الثقافية ومعاناتها.

تغذِّي الأزمة المالية العالمية التي بدأت عام ۲۰۰٨، وتداعياتها فيما يتعلق بتقليص الخدمات العامة وارتفاع معدل البطالة، مخاوف أكبر لدى شعوب تشعر بعدم الارتياح بالفعل في ظل دوامة الاختلالات المتزايدة السرعة، الناشئة عن معدل التغيير بالغ السرعة في ظل ما يُسمى في كثير من الأحيان فترة «ما بعد الحداثة» بالنسبة إلى أوروبا والغرب. إلا أن كمًّا كبيرًا للغاية من المخاوف الناجمة عن تزايد حالة انعدام الأمن الاقتصادي، والتشرذم الاجتماعي الأكثر شمولًا، أُلقِيَ به على قضايا الهجرة، وتحولَّت «التعددية الثقافية» خلال هذه العملية فيما يبدو إلى الوعاء الذي تصب فيه دول أوروبا الغربية مخاوفها، التي تكمن منابعها في أغلب الأحيان في تغيرات اجتماعية واقتصادية أوسع نطاقًا إلى حد بعيد من التغيرات الناشئة عن الهجرة وسياسات التعددية الثقافية.

إلا أنني، ولأسباب سوف أُقدمها، أرى أيضًا أن التعددية الثقافية تعاني عيوبًا لا يمكن معالجتها دون الانتقال إلى مرحلة أكثر رقيًّا؛ أي «التواصل الثقافي»، في إطار إدارة التعددية العرقية الجديدة، أو «التنوع الفائق» كما سماه فيرتوفيك، الذي تتسم به المجتمعات الغربية في الوقت الراهن. ولا تواجه تلك الدول القومية الآن، في سياق الانتقال الثلاثي والأزمة المالية العالمية، الآثار المترتبة على الهجرة من مستعمراتها السابقة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرةً وما تلاها من توسع اقتصادي فحسب، بل كذلك المجموعات السكانية النازحة من الدول المتفككة والحروب الأهلية. وهناك أيضًا طلبات العمل التي تتدفق من سوق المعرفة المستجدة، وتوسع القطاعات المالية في حقبة جديدة تتسم بالتدفقات العالمية، وانخفاض معدلات المواليد، وتزايد حرية انتقال العمالة الناشئة عن توسيع الاتحاد الأوروبي وانهيار الاتحاد السوفييتي.

وبدون صور أكثر ديمقراطية ومساواتية من الحكم القائم على التواصل الثقافي، قد يتحول المد المتصاعد لليمين المتطرف إلى طوفان يمثل عقبة منيعة أمام فرص التعامل المهذَّب بين العرقيات المتعددة في حقبة التقشف المالي، ومعدلات البطالة المتزايدة، والتخفيض الحاد للنفقات في مجال الخدمات العامة التي نقف الآن على أعتابها. وقد تمكَّنتُ في خاتمة الكتاب من وضع رسم مبدئي لإعادة النظر اللازمة لتخطِّي مرحلة التعددية الثقافية. وبدأتْ بعض السياسات الجديدة اللازمة تتضح معالمها الأولى بالفعل في صورة مبادرات نشأت في أعقاب سياسات «الترابط المجتمعي» و«الاندماج» الأخيرة، أيًّا كانت أوجه النقص التي تشوبها. وتستند السياسات الجديدة في كثير من الأحيان إلى أسس مشكوك في صحتها، تتراوح بين نظرية «رأس المال الاجتماعي» وفلسفة «النزعة المجتمعية»، إضافةً إلى المطالبة بالولاء والتمسك ﺑ «قيم مشتركة» أو هويات وطنية تفتقر إلى التحديد. لكنها — كما سنرى — تحتوي على بذور عصر جديد يتضمن صنع السياسات على نحو أكثر ملاءمة، يستند إلى فلسفة التواصل الثقافي التي تتطلب إقامة قدر من الحوار والتفاعل بين العرقيات يفوق ما تطلبته معظم صور التعددية الثقافية.

وفي الوقت ذاته، وكما تؤكد مناقشتي أيضًا، تحتاج السياسات الرامية إلى تقليل الحرمان العرقي إلى أنْ تصبح أكثر فعالية من قبل، ولا بد أيضًا من تشجيع كل محاولة تُبذَل في سبيل كبح جماح أوجه التفاوت الأشمل بين الطبقات وبين الجنسين داخل الدول القومية الأوروبية، وفي سبيل تشجيع معالجة أوجه عدم المساوة بين دول العالم، التي ستظل تدفع سكان الجنوب والشرق إلى شمال دائم الإحجام عن توفير العمل أو الملاذ إلا في ظل أقسى الظروف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤