الخاتمة

المضيّ قدمًا: التعددية الثقافية والتواصل الثقافي وعبور الحدود الوطنية في إطار عصر عالمي جديد

(١) هل فشلت التعددية الثقافية؟

يبدو جليًّا أن الدول القومية الأوروبية قررت أن عهد التعددية الثقافية قد ولَّى، ويبدو أن الحكومات والنُّخَب المثقفة وقطاعات كبيرة من الشعوب الوطنية تنظر الآن إلى التعددية الثقافية باعتبارها كارثية، أو على الأقل تحولًا خاطئًا خطيرًا في رد الفعل إزاء هجرة السكان غير البيض، عادةً من المستعمرات السابقة للقوى الأوروبية في فترة ما بعد عام ۱۹٤٥ في نهاية الحرب العالمية الثانية.

لكن هل هذه فعلًا هي الحقيقة الكاملة؟ لقد قدَّمت في هذا الكتاب أسبابًا للتشكيك فيما إذا كانت الرواية المطروحة سابقًا مقنعة بالدرجة التي قد تبدو عليها في البداية. فوجهة النظر القائلة إن حقبة التعددية الثقافة كانت برمتها انحرافًا خطيرًا يصعب القبول بها عند تناولها في مواجهة الأدلة المتاحة التي قدمتُها، وحتى العيوب التي تكشَّفَت لا تسوقنا بالضرورة إلى استنتاج أن التعددية الثقافية كانت كارثة أو حتى خطأً فادحًا. وقد نتج إلى حد ما عن تزامن استقرار الأقليات العرقية الأحدث لمرحلة «ما بعد الحرب» على نحو أكثر دوامًا مع ما سميته في المقدمة «الانتقال الثلاثي» — انفصام عرى الروابط القائمة بين الدول القومية الأوروبية الغربية، وبدء مرحلة ما بعد التصنيع، وإعادة هيكلة دولة الرفاه — أنْ حُمِّل أولئك المهاجرون وسياسات التعددية الثقافية التي صدرت استجابةً لوجودهم المسئوليةَ أكثر من اللازم عن تفتت الثقافة الوطنية بصفة عامة والتغيُّرات التي طرأت على الهوية الوطنية، والبطالة في المناطق الحضرية الفقيرة، ونقص المساكن، والضغط على التعليم والصحة وغيرهما من الخدمات العامة، التي ترتبت في واقع الأمر بقدر أكبر على التحول الضخم الذي شكَّله الانتقال الثلاثي، الذي تداخل في حد ذاته مع صور أحدث وأسرع وتيرةً للتعددية الثقافية ومع الأهمية المتنامية للهياكل العابرة للحدود الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي.

وإن شعور الأقليات بالاغتراب عن الثقافة والهوية الوطنيتين يكون أعلى بكثير في بلدان مثل ألمانيا التي أعملت نظام «العمالة الزائرة» وحيث قاومت الجهات الرسمية بشدة إدراج التنوع الثقافي في تراث الأمة. أما فرنسا فتمكنت — كما رأينا — من غرس قيم المواطنة الجمهورية في الأقليات، إلا أن غياب الاعتراف الرسمي الجدِّي بالأقليات العرقية، بما في ذلك الطبيعة الفاترة لسياسات تكافؤ الفرص، تولَّد عنه استياء حاد باسم حقوق المواطنة، فيما حدت المقاومة الرسمية لرموز الهوية مثل الحجاب بقطاعات كبيرة من الأقلية المسلمة الكبيرة إلى الرجوع إلى الهويات الإسلامية على نحو أكثر تشددًا. ومن المفارقة الواضحة أن ذلك الرجوع ملحوظ على نحو خاص بين الشابات المسلمات.

وكان لمستويات التفاوت المتزايدة والفروقات الطبقية المتنامية أهمية أكبر من سياسات التعددية الثقافية في خلق مسافات اجتماعية وتولُّد مشاعر الاستياء داخل مختلف الجماعات العرقية وبينها، على الرغم من أن عملية المزايدة القائمة على المناطق التي استهدفت تمويل مشروعات المناطق الحضرية في الملكة المتحدة، والمحاولات التي بذلتها السلطات المحلية بغية توجيه التمويل بصفة خاصة إلى المشاريع المجتمعية القائمة على الأديان، تضافرت مع نقص المساكن والتغطية الإعلامية المحلية المضللة في ترسيخ الانقسامات وتأجيج مشاعر الاستياء.

جاء مهاجرو ما بعد عام ۱۹٤٥ إلى جميع الدول الأوروبية الغربية للعمل في الصناعات التي عانت تدهورًا خطيرًا على غرار الصناعات التحويلية والنسيج، وارتفعت مستويات البطالة والفقر ارتفاعًا هائلًا في تلك المناطق. والواقع أن عبء الانهيار الاقتصادي وقع على عاتق الأقليات العرقية؛ حيث ارتفعت مستويات البطالة والفقر لديهم ارتفاعًا أسرع وأكبر. ففي الضواحي الفرنسية والمدن الشمالية بإنجلترا، عادةً ما كان الشباب المسلمون بالذات يعانون ضِعف مستوى البطالة لدى شباب الأغلبيات أو ثلاثة أمثاله، وما فتئت جاليتهم تسقط في بئر الفقر بمعدل مقلق.

وكثيرًا ما قيل إن إحدى المشكلات الرئيسية التي تعتري التعددية الثقافية هي عدم قدرتها على إحراز تقدم كبير في مواجهة الحرمان الاجتماعي والاقتصادي والتمييز اللذين تعانيهما الأقليات العرقية، وهو ما يظهر في ضآلة تحصيلها التعليمي وارتفاع مستويات البطالة لديها، إلا أن السبب الرئيسي وراء ارتفاع معدل البطالة بين الأقليات العرقية — ولا سيما الشباب — يكمن في انهيار الصناعات القديمة في المراكز الحضرية التي كان آباؤهم وأجدادهم قد هاجروا إليها في الأصل. وقد رسمت تقارير عام ۲۰۰۱ التي ناقشتُها ببعض التفصيل في الفصل الثالث صورة مفصَّلة نسبيًّا للدمار الذي أحدثه الابتعاد عن التصنيع في المدن الشمالية ببريطانيا، ولا سيما تأثيره على شباب الأقليات العرقية. تذكَّر أيضًا أن تلك التقارير — فضلًا عن دراسات أخرى متعددة — حددت التمييز العرقي في القطاعين العام والخاص باعتباره أحد العوامل المهمة المساهمة في وضع البطالة والإسكان لدى الأقليات.

تتسم جميع البلدان الأوروبية الغربية بمستويات مرتفعة من بطالة شباب الأقليات العرقية ومستويات الفقر الإجمالية، إلا أن ثمة تباينات، وهي لا ترتبط بتبنِّي سياسات التعددية الثقافية، فتحظى المملكة المتحدة وألمانيا والنمسا بسجل أفضل من هولندا والسويد فيما يتعلق ببطالة الأقليات، كما أشار عالم السياسة راندل هانسن ضمن آخرين. وكما رأينا، فقد تبنَّت كلٌّ من المملكة المتحدة وهولندا والسويد التعددية الثقافية بدرجة أكبر. ووفقًا لأغلبية الباحثين المطَّلعين، فقد ساهم الافتقار إلى التعددية الثقافية في فرنسا، في صورة سياسات قوية تستهدف تكافؤ الفرص، في تكوين مستويات البطالة المرتفعة لدى شباب الأقليات، وثمة عداء رسمي إزاء الاعتراف بالأقليات العرقية وجمع الإحصاءات بشأن مصيرها. ويبدو أن تدابير مناهضة التمييز وتكافؤ الفرص الأكثر فعالية التي اتُّخِذت في القطاعين العام والخاص على حد السواء، لا سيما في المملكة المتحدة، قد ساهمت في تحقيق سجل أفضل من الذي تحقق في باقي أنحاء أوروبا فيما يتعلق ببطالة الأقليات العرقية. وفي المملكة المتحدة، تفوَّق الطلاب ذوو الأصول الهندية والصينية على أقرانهم البيض في التحصيل الدراسي والالتحاق بالجامعات، لكن هذا يتعلَّق إلى حد بعيد بأصل طبقتهم الاجتماعية الرفيعة وتاريخها قبل الهجرة.

ويبدو أن وصول طالبي اللجوء واللاجئين والمهاجرين الأحدث من أوروبا الشرقية فضلًا عن نشأة ما سُمِّي «التنوع الفائق» قد شكَّل عبئًا كبيرًا على الإسكان والمدارس والخدمات الصحية في بعض المناطق، مما أتاح الفرصة أمام اليمين المتطرف لإزكاء المشاعر المعادية للمهاجرين. وفي بريطانيا، ثمة إدراك متنامٍ لتفاوت توزيع منافع الهجرة وأعبائها؛ إذ تتحمل بعض مناطق إقامة الطبقة العاملة ومجتمعاتها عبء زيادة التنافس على الوظائف والموارد العامة الشحيحة، ولا يحصد المزايا في أغلب الأحيان سوى أصحاب العمل وأُسَر الطبقة الوسطى التي تتوافر لها إمكانية تجديد عقاراتها بمقابل زهيد والحصول على عمال نظافة وغيرهم من العمال المنزليين. ولا يوجد الكثير مما يربط التعددية الثقافية بأي من تلك العمليات، على الرغم من أنه في بعض الحالات توارت قلة استعداد السلطات المحلية والحكومة المركزية وراء محاولات بذلتها بعض الهيئات الرسمية لتمجيد «التنوع الثقافي» الناتج دون معالجة الأعباء التي تفرضها التدفقات السريعة الوافدة من المهاجرين الجدد على الموارد. إلا أن هذه تعددية ثقافية «لاحقة» لم تسبب هذه المشكلات فعليًّا. ويكمن أحد المتطلبات الجوهرية في إتاحة المزيد من الموارد، على الرغم من أن ذلك أمر مستبعد في ظل حقبة التقشف الجديدة، التي توفِّر أسبابًا للتشاؤم.

وإذا كان لا يجوز القول إن التعددية الثقافية قد فشلت — والواقع أنه في بعض الحالات لم تجرِ محاولات صادقة لإعمالها — فهل من حاجة إلى المضي قدمًا؟ أرى أن ثمة حاجة إلى سلوك طريق مختلف بعض الشيء الآن، وهي النقطة التي أعتزم اختتام حديثي بها.

إلا أن هناك مسألة الليبرالية وعلاقتها بالتعددية الثقافية. وعلى وجه التحديد، هناك المسألة المعلَّقة الخاصة بحرية التعبير وحرية التعبير الفني التي لا يتوافر لها حل قاطع. وينبع أحد أهم المخاوف — حتى من جانب الذين ناصروا التعددية الثقافية — من إيمانهم بأن إحدى صور النسبية الثقافية، والممارسة المترتبة عليها المتعلقة بإيلاء جميع الثقافات الاحترام الكامل، أدَّت إلى وأد الحوار المفتوح بدافع من «الكياسة السياسية».

وكانت قضية سلمان رشدي، ومقتل المخرج الهولندي ثيو فان جوخ، والضجة التي ثارت حول الرسومات الدنماركية للنبي محمد، وسحب مسرحية من تأليف سيخي تصوِّر أحداثًا تقع في أحد دور العبادة السيخية، وهو المعبد الذهبي، هي أشهر البؤر الساخنة لذلك الحوار. ويمكن القول إن رشدي وأعوانه كانوا بالغي العجرفة في رد فعلهم الأول إزاء مخاوف المسلمين، وكان فيلم ثيو فان جوخ والرسوم الدنماركية مستفزين بلا مبرر، وإعمال المعايير المزدوجة التي تحظى حساسيات المسيحيين بمقتضاها على قدر أكبر من الحماية من الإساءة، كل ذلك يمكن الإشارة إليه كظروف تخفيفية.

بيد أنني أرى ومعي العديد من المتعاطفين مع المبادئ الأساسية للتعددية الثقافية، قضية حقيقية تتمثل في عجز العديد من الأقليات العرقية عن تقبل النقد والمناقشة المفتوحة لأمور الدين تقبلًا متحررًا، ومن المفروغ منه أن هذا لا بد أن يتغير إن كان لتلك الجاليات الدينية أن تستريح أكثر إلى السياقات الثقافية الأكثر علمانية وليبرالية. ويمكن القول إن مجتمعات الأقليات لم تُدِر سوى القليل جدًّا من النقاش في داخلها حول تلك المسائل؛ فالأمر يتطلَّب، بل يستحق، اهتمامًا جديًّا ومناقشات على نطاق واسع في المنتديات المتوافرة حاليًّا في إطار تلك المجتمعات، وهذا أحد أسباب ضرورة مضي التعددية الثقافية قدمًا، وأحد المجالات التي تستلزم ذلك.

بيْد أن التقدم الذي أحرزته مطالب تدريس نظرية الخلق و«التصميم الذكي» في منهج المدارس ببريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية يوضِّح أن القضايا الشائكة المحيطة بالعلمانية والتحرر ووضع الدين والمعتقدات الدينية ليست مقصورة على المسلمين، وغيرهم من الأقليات العرقية، والتعددية الثقافية. فالمدارس الدينية باقية وتظهر عليها جميع دلالات الازدهار، ونأمل في وضع قواعد محكمة تضمن تعزيز تلك المدارس للحوار الحقيقي بين الأديان واتباع نهج إيجابي إزاء مزايا إحداث مواءمة ليبرالية وتعددية وعلمانية بين مجال الدين وغيره من المجالات.

(٢) هل التعددية الثقافية في طور التراجع النهائي أم أنَّها انقضت بالفعل؟

في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من مرورها بعقود من «الحروب الثقافية»، يبدو المبدأ العام للتعددية الثقافية متأصلًا الآن، لا سيما في مجال التعليم والتراث الوطني. وقد فسَّر جليزر، أحد الدارسين المحافظين المميزين في مجال العلاقات العرقية، عنوان كتابه «كلنا متعددو الثقافات الآن» قائلًا:

أقصد أننا صرنا جميعًا نتقبل إيلاء قدر أكبر من الانتباه للأقليات والنساء والدور الذي لعبوه في التاريخ الأمريكي وفي ميدان الدراسات الاجتماعية وحصص الأدب في المدارس، ولا يمكن لتلك القلة التي ترغب في العودة بالتعليم الأمريكي إلى حقبة انطوت على تجاهل الثقافات الفرعية المتنوعة، وتصوير أمريكا على أنها تمثِّل أوج الحضارة ومنتهاها، أن تتوقع الآن إحراز أي تقدم في المدارس.

ويجدر التذكير بأنَّ نقاشات وسائل الإعلام العامة في المملكة المتحدة وباقي أنحاء أوروبا الغربية لم يهيمن عليها بالكامل أولئك الراغبون في وأد التعددية الثقافية، فقد أتى التأييد من مصادر قد تبدو مستبعَدة، أحدها «الإيكونوميست» — أهم إصدارات اتجاه يمين الوسط في بريطانيا — برفضها القاطع عام ۲۰۰۷ لما أطلقت عليه ميل مصطلح «التعددية الثقافية» إلى أن يصير مصطلحًا ازدرائيًّا مثل «المحافظين الجدد» أو «الاشتراكيين». فقد ذهبت المقالة التي تصدر بانتظام تحت اسم باجوت — ساخرةً من عادة انتقاء الأهداف السهلة مثل الزواج المدبر وجرائم الشرف — إلى أن الفصل المحدود القائم بين الأقليات العرقية يمكن إلى حد بعيد إلقاء المسئولية عنه على مجالات السياسات الإسكانية والتعليمية التي ربما تكون قد تحلَّت ببعض سمات التعددية الثقافية، لكن في ظل ظروف كان من شأن الاختلاط القسري أن ينتج فيها آثارًا عكسية. وتذهب المقالة أيضًا إلى أن نجاح قطاعات متنامية — من السكان المنتمين إلى الأقليات العرقية ومستوى دمج بريطانيا للأقليات العرقية مقارنةً بغيرها من البلدان الأوروبية — يشير كذلك إلى أن تبنِّي سياسات التعددية الثقافية في المملكة المتحدة كان نعمة لا نقمة. وهي تقول إن مجموعات صغيرة من الشباب المسلمين الساخطين نشأت عن الصراع القائم بين الأجيال ومستويات البطالة والحرمان المرتفعة في المناطق المبتعدة عن التصنيع؛ ولا يوجد الكثير مما يربط التعددية الثقافية بتلك الاتجاهات. وتشير المعدلات المرتفعة نسبيًّا من الزواج بين البيض والسود كذلك إلى أن الانفصال الثقافي أقل مما في البلدان الأخرى، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد دُفع بحجج مشابهة من قِبَل أنتوني جيدنز، أحد كبار المفكرين المساندين لمشروع حزب العمل الجديد «الطريق الثالث»، الذي أعلن كذلك عن تأييده للتعددية الثقافية عام ۲۰۰٦، على النقيض من ساسة حزب العمل الجديد. وقال، ضمن أمور أخرى، إن أكثر النقاش الدائر حول التعددية الثقافية كان «فجًّا وجاهلًا ومستندًا إلى مفاهيم خاطئة»، مشيرًا إلى إخفاقات اليمين المتطرف في المملكة المتحدة مقارنةً بغيرها من البلدان الأوروبية؛ مثل: الدنمارك وبلجيكا وفرنسا وهولندا، باعتبارها دليلًا على أن بريطانيا كانت أنجح دول الاتحاد الأوروبي في إدارة التنوع الثقافي، ودعا — سائرًا على خُطى تقارير عام ۲۰۰۱ وإن لم يشِر إليها — إلى تحقيق «قدر أكبر لا أصغر من التعددية الثقافية»، وبهذا كان يردد مشاعر العديد من المعلِّقين المطَّلعين في هولندا وفرنسا، كما أشرتُ.

إضافةً إلى ذلك، ظلت الحكومات الليبرالية، على الرغم من الابتعاد الرسمي التام عن حقبة التعددية الثقافية، أكثر التزامًا بها مما قد يبدو عليه الحال، بصرف النظر عن اختبارات المواطنة.

وقد أشار فيرتوفيك وفيسيندورف عن حق إلى أن أكثر ذلك الابتعاد خطابي؛ إذ يحل تأييد «التنوع» الآن محل التعددية الثقافية. وما زال جزء كبير من إطار التعددية الثقافية الأصلي، وأغلب سياساتها، ثابتًا في موضعه، ولم يكن ثمة انسحاب من الالتزام بسياسات تكافؤ الفرص، ولا جرت أي محاولة لتخفيف أي تشريع قائم مناهض للتمييز. وما زال الاعتراف الثقافي مسألة خلافية، وإنَّ حظر الحجاب في فرنسا ومقاومة بناء المساجد في سويسرا لأمثلة بارزة على ذلك، لكن يجدر القول إن ذلك الخلاف لم يتخطَّ حده السابق، وما زال مقتصرًا على البلدان التي طالما عانت التعددية الثقافية فيها ضعفًا. وعلى الرغم من مخاوف الكثيرين، لم يكن ثمة تدافع صريح أو شامل نحو المذهب الاستيعابي؛ فما زال هناك ترويج علني لمبادئ التعددية والتنوع الثقافيين، وإنْ كان في إطار قيود أكثر إحكامًا إلى حد ما مرتبطة بأشكال النزعة الإدماجية، إلا أن تدابير الاندماج ما زالت مخففة نسبيًّا. وكما ذكر راندل هانسن، فإنَّ مطالبة المواطنين بتعلُّم اللغة القومية لا يمكن اعتباره تهديدًا للتعددية الثقافية، والكلام ذاته يسري على تعلُّم الحقائق الأساسية بشأن الثقافة الوطنية (مع تنحية الجدل الفارغ حول أهمية حقائق وقضايا بعينها جانبًا).

وتكشف المقالات التي تتضمنها مجموعة فيرتوفيك وفيسيندورف أن مدنًا من جميع أنحاء أوروبا، منها كوبنهاجن وشتوتجارت وفيينا وزيوريخ ودبلن، كرَّست المبادئ الخاصة بالتنوع في سياساتها وممارساتها، ونجت التعددية الثقافة، لكن مع مبدأ واضح مفاده أن الممارسات على شاكلة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث أو الزواج القسري هي ببساطة غير جائزة، وهو ما اتضح أيضًا من توصيات لجنة التعددية العرقية في بريطانيا عام ۲۰۰۰ (التي اشتهرت أكثر باسم تقرير باريك).

يخطئ من يظن أن «خطاب رد الفعل العنيف» المضاد للتعددية الثقافية لم يُحدث آثارًا، لا سيما على العلاقات بين العرقيات. وعلاوةً على ذلك، يُظهر انتخاب ائتلاف المحافظين والديمقراطيين الليبراليين في المملكة المتحدة بعض علامات الخطر بالنسبة إلى مستقبل التعددية الثقافية بقدر ما يبدي الأعضاء المحافظون في الحكومة رغبةً في إعادة تشكيل المنهج المدرسي في اتجاه أكثر قومية، يصاحبه تعتيم أكيد على الماضي الإمبريالي لبريطانيا، وفي سحب قانون حقوق الإنسان المستند إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والاستعاضة عنه بوثيقة حقوق بريطانية مخفَّفة. ويُستبعَد كذلك أن ينجو كل ما قدَّمته حكومة حزب العمل من مبادرات وتمويل إلى قضية الترابط المجتمعي، لا سيما في مواجهة برنامج ينطوي على تخفيضات جذرية في النفقات العامة.

بيد أنَّه من المرجَّح للغاية، وعلى الرغم من زيادة تضييق الاستحكامات ضد المهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبي، أن يُحتَفَظ بالتزام بريطاني عام بمسألة «التنوع»، على الرغم من أنه مصطلح مائع وعُرضة لمختلف التفسيرات. ويرجَّح أن تستمر الصور الأكثر استقرارًا من التشاور بين العرقيات والأديان والتأييد العام لتكافؤ الفرص بالنسبة إلى الأقليات العرقية، وإن كان ذكر التعددية الثقافية في الخطاب العام سيتناقص أكثر. ولا يتضح وقت كتابة هذه السطور ما يعنيه تأييد الائتلاف لفكرة «المجتمع الكبير» بالنسبة إلى العلاقات بين العرقيات.

(٣) نحو التواصل الثقافي

من الواضح — بصرف النظر عن جميع التحذيرات — أن نقلة سياسية وأيديولوجية قد حدثت في جميع أنحاء أوروبا، لكن هذا لا يمثِّل دائمًا ابتعادًا عن التعددية الثقافية؛ فأحيانا يتخطَّى ذلك التحوُّل التعددية الثقافية وصولًا إلى أشكال لما يمكن أن يُسَمَّى «التواصل الثقافي»، وهو مصطلح ظهر بالفعل في الخطابات الرسمية واكتسب رواجًا خاصًّا في ألمانيا.

تكمن إحدى العبارات التي تشير إلى الاختلاف في التأكيد الذي ينطوي عليه التواصل الثقافي، والذي يتجاوز التعددية الثقافية، في المبدأ السابع ضمن قائمة الاتحاد الأوروبي التي تضم «المبادئ الأساسية المشتركة لدمج المهاجرين» (۲۰۰٤): «إن كثرة التفاعل بين المهاجرين ومواطني الدول الأعضاء هي آلية جوهرية بالنسبة إلى الاندماج.» وتواصل العبارة ذاكرةً «المحافل المشتركة، والحوار بين الثقافات، والتثقيف بشأن المهاجرين وثقافاتهم»، وما إلى ذلك.

ويكمن بيت القصيد هنا في أنه عوضًا عن الاكتفاء بالاحتفاء بالتنوع والثقافات المختلفة كما في بعض صِيَغ التعددية الثقافية الكلاسيكية، فإن الأمر هنا يتعلَّق بالتشجيع الإيجابي لتنظيم اللقاءات بين مختلف الجماعات العرقية والدينية وإقامة الحوارات والأنشطة المشتركة. وكان هذا أيضًا بلا شك هو الفكر الذي وجَّه سياسات الترابط المجتمعي في المملكة المتحدة. حتى إن الحكومة البريطانية اقترحت على المجالس المحلية في وقت من الأوقات ألا تموِّل المشروعات التي تخدم مجتمعًا واحدًا، وأن تقصر تركيز مواردها بدلًا من ذلك على المشروعات التي تقرِّب بين المجتمعات، إلا أن ذلك الاقتراح استُبعِد باعتباره يفرض شرطًا مفرط الصرامة. وحل محله إقرار بأنَّ مثل تلك القرارات التمويلية ينبغي اتخاذها على الصعيد المحلي، لا سيما وأن منظمات المجتمع الواحد تلعب دورًا حيويًّا في دمج المجتمعات في الثقافة السائدة وفي المشاركة بين المجتمعات.

ولا ينبغي أن يؤخذ ذلك على محمل الإشارة إلى أن حوار التواصل الثقافي لم يشكِّل جزءًا من فلسفة التعددية الثقافية وممارستها فيما سبق، لكن ثمة اعترافًا أكيدًا الآن بأن فكرة التعددية الثقافية سقطت بسهولة في شرك تأويل الثقافات العرقية على أنها ذات حدود يمكن تعريفها بدقة، ومكونات جوهرية ثابتة، وتفتقر إلى المعارضة الداخلية المهمة للغاية؛ أي إن التعددية الثقافية كانت عرضة للنزعة الجوهرية أكثر من اللازم، وإن لم تنص عليها بالضرورة.

يعطي مقطع «التعددية» في التعددية الثقافية مساحة حرية أكبر من اللازم للحيز الذي طالما توافر في «التعددية الثقافية» بما يتيح الانزلاق إلى الظن بأن الثقافات العرقية والوطنية تتسم بحدود جامدة. ويؤدي استخدام مفهوم التواصل الثقافي بدلًا من ذلك إلى تقويض هذه النزعة الجوهرية — فلا يمكنه منعها تمامًا بمفرده — عن طريق بناء تصوُّر يتضمن ترابط وتفاعل وتداخل معتقدات الجماعات العرقية المختلفة (وليس المنفصلة) وممارساتها وأساليب حياتها، باعتبارها جزءًا من الثقافات الوطنية دائمة التقلُّب بسبب تغيرات لا حصر لها تنشأ عن مجموعة كبيرة من العوامل التكنولوجية والاقتصادية والسياسية والثقافية (وكانت الإنترنت والعولمة المتسارعة عرقين من أهم تلك العوامل في العقد المنصرم). وتشترك مقترحاتي في هذا الصدد مع بعض عناصر اقتراحات هولينجر المتعلقة بكيفية تجاوز الولايات المتحدة الأمريكية التعددية الثقافية بتبنِّي منظور «ما بعد العرقية».

يتجنَّب «التواصل الثقافي» كذلك نزعة شجعتها التعددية الثقافية عن غير قصد، ألا وهي معاملة جميع الثقافات غير الأوروبية على أنها لا تشترك مع الثقافات والمُثُل الغربية إلا في النذر القليل، وأنها منفصلة تمامًا عن الغرب في تطوُّرها، وعلى النقيض من ذلك، يتصدَّر أيَّ شكل من أشكال التواصل الثقافي اعترافٌ واضح بالترابط التاريخي — بل بالترابط المعاصر — بين الثقافات على الصعيد العالمي، فضلًا عن القيم المشتركة التي نشأت كقائمة بذاتها في مختلف الفترات الجغرافية الثقافية من تاريخ هذا الكوكب.

وحتى في روايات التعددية الثقافية، كثيرًا ما طُمس الترابط التاريخي الوثيق بين الغرب وغير الغرب، وهو ما يفسح المجال في النهاية أمام سخافات تصور هنتنجتون لنظام عالمي تحدَّد، ولا يزال يتحدَّد، من خلال «صراع الحضارات» المزعوم.

ويرتكز التمييز الجامد بين «الغرب وما عداه» على تاريخ مضلِّل يفترض أن الغرب يتمتع بسمات فريدة يفترض أنها نشأت في معزل عن غيرها من الثقافات غير الغربية، ويُقال إنها مثَّلت جزءًا محوريًّا من مساهمة الغرب في الحضارة، بل شكَّلت جزءًا من «الرسالة الحضارية» الغربية، إبان مرحلة التوسع الإمبريالي والاستعمار الأوروبي لأجزاء كبيرة من الكرة الأرضية وفيما بعد تلك المرحلة. وتؤكِّد هذه الرواية لصعود الغرب (وسيطرته العالمية المبررة)، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي، أن الديمقراطية، والتسامح، والحرية، وسيادة القانون، والمساواتية، والتصورات المتعلقة بحقوق الإنسان، والنزعة الفردية، والعقلانية العلمية، والنزعة الإنسانية، وحتى المدن والجامعات، وفكرة الحب الرومانسي، جميعها سمات غربية فريدة. وتذهب هذه الحجة إلى أن تلك السمات نشأت عبر تسلسل فريد تضمَّن حضارتَي الإغريق والرومان (العصور الكلاسيكية القديمة)، والمسيحية (لا سيما الإصلاح البروتستانتي)، وعصر النهضة والتنوير الأوروبي، والثورات العلمية والصناعية، والحركات الديمقراطية الغربية الحديثة. وعلى العكس من ذلك، يُنظَر إلى «الشرق»، بما في ذلك الإسلام، على أنه سلطوي بطبيعته، ومستند بصفة خاصة إلى الكونفوشيوسية في الشرق الأقصى والمفاهيم الهندوسية الجامدة عن الطبقة الاجتماعية في شبه القارة الهندية، والمعارضة الإسلامية للعلمانية والنزعة الإنسانية والبحث العلمي.

وقد قوَّضت الروايات الأقل تركيزًا على أوروبا الأساس التاريخي لتلك الغطرسة أيَّما تقويض. وسأشير، لأغراض هذا النص، إلى بعض النقاط المستخلصة من عمل جاك جودي، عالم الأنثروبولوجيا والتاريخ المقارن البارز بجامعة كامبريدج، وأمارتيا سين الخبير الاقتصادي والفيلسوف الحائز على جائزة نوبل، على الرغم من أنه حتى هذه اللحظة، ساهم عدد كبير من الباحثين الجادين غيرهما في عملية «إزاحة الغرب عن المركز»، كما يُطلَق عليها في بعض الأحيان.

لنتناول أولًا قضية الشكوك التي تنتاب الإنسانيين إزاء الدين والذات الإلهية؛ ففي الهند، ازدهرت مدارس الفكر الإلحادي في القرن السادس قبل الميلاد، في نفس وقت ظهور البوذية اللاأدرية، وبدأت مسيرتها الطويلة عبر الصين وغيرها من أنحاء الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا، وتتضمن بعض النصوص الرئيسية الهندية الأخرى مثل «الرامايانا» و«الأوبنشاد» آراءً متشككة إزاء الدين، والذات الإلهية، والحياة بعد الموت، واستمر تأثيرها في تقاليد الفكر الهندية.

ليس التسامح أيضًا مفهومًا غربيًّا فريدًا، فقد عبَّر الإمبراطور الهندي أشوكا عن فكرة تسامح مدروسة بعناية منذ القرن الثالث قبل الميلاد، وكان ثمة شخصيات إسلامية بارزة أيضًا تدعو إلى التسامح وتمارسه؛ فقد تقبَّل «أكبر» إمبراطور المغول في القرن السادس عشر حقوقًا إنسانية مثل حرية العبادة وشجَّع تلك الحقوق، وكان ضد اعتناق الإسلام بالإكراه. والإمبراطورية العثمانية المسلمة مثال شهير بصفة خاصة على التسامح الديني؛ إذ سمح نظام «الملة» الذي اتبعته للطوائف الدينية بالعيش بموجب ولاياتها القانونية الخاصة. وتعايش المسيحيون واليهود والمسلمون في ازدهار جنبًا إلى جنب في ظل «العصر الذهبي» الشهير لإسبانيا الإسلامية في العصور الوسطى.

وما يُعتبَر الآن بمنزلة الفكرة الغربية عن الحرية هو تطوُّر نشأ بعد عصر التنوير، ويمكن العثور على الأفكار الأرسطية عن حرية طبقة عليا — بإقصاء العبيد والنساء وبعض الفئات الأخرى — في مجموعة من التصورات الآسيوية، بما في ذلك التصورات المؤيدة لنظام الطبقات الاجتماعية الذي تضمَّن حماية البراهمة، وفي الصين حيث حظيت حرية الموظفين البيروقراطيين (الماندرين) بالحماية. وفي المجتمعات الأفريقية التقليدية، حتى وإن لم يتوافر نظير للفظ «الحرية»، فثمة وعي جليٌّ بمكانة العبيد والتابعين ومكانة من يتمتعون بقدر أكبر من الاستقلالية. وقد نشأت مبالغات مفرطة عن النزعة السلطوية لدى الثقافة الصينية وغيرها من الثقافات، يُعزى جزء منها إلى الفهم الخاطئ للطبيعة المركَّبة للاتجاهات المختلفة داخل الكونفوشيوسية، وأيضًا عبر إغفال أثر المكوِّنات الثقافية البوذية الأكثر نزوعًا إلى المساواة.

ولا يمكن، في سياق انتهاكات سجل التاريخ الإنساني العديدة الأخرى، أن توصَف سيادة القانون وحقوق الملكية بأنها ابتكارات غربية إلا إذا حُذف وجودها في المجتمعات الشفوية وغيرها من المجتمعات الزراعية من التاريخ العالمي ببساطة، مثلما أشار عدد لا يُحصى من علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين.

ربما يكون الإغريق هم من ابتكروا لفظة «الديمقراطية»، لكنهم بالتأكيد لم يبتكروا ممارستها. فيشير جودي إلى أن «الرغبة في الحصول على شكل من أشكال التمثيل، وفي أن يُسمَع صوت المرء، هي لصيقة بالحالة الإنسانية»، ويشير إلى مجموعة من الثقافات في أفريقيا وغيرها من الأنحاء التي تستمتع بتحررها من زعامة شيوخ القبائل والسلطة المركزية للدولة، وذكر أنَّه حتى أكثر الحكومات سلطوية عبر التاريخ اضطُرَّت إلى وضع المشاعر والمطالب الشعبية في اعتبارها. وكان ببلاد الرافدين مدن دويلات شديدة الشبه بالإغريقية، وفي أوروبا لم تكتسب الديمقراطية تقييمًا إيجابيًّا أكيدًا حتى القرن التاسع عشر.

ولا يمكن تصديق الفكرة القائلة إن الغرب هو المنبع الفريد لكل ما يتسم بالتقدمية السياسية إلا إذا أُعيدت قراءة الصِّيَغ الحديثة للمؤسسات الغربية بصورة غير صحيحة لتحويلها إلى تأويلات انتقائية ومفرطة التبسيط على نحو استثنائي للعصور الكلاسيكية القديمة وغيرها من عصور التاريخ الأوروبي، فضلًا عن تجاهل أوجه الشبه بين المجتمعات الغربية وغير الغربية فيما يتعلق بالديمقراطية وغيرها من التطورات التقدمية.

تقوم التقسيمات الشاملة بين الغرب وما عداه كذلك على تجاهل الترابط الجوهري بين الثقافات ومدى اقتباس التطورات الحادثة في الغرب من الثقافات غير الغربية.

وعلى أقل تقدير فقد اتضح الآن أن الرياضيين والفلاسفة وعلماء المنطق والفلك والباحثين في مجال الطب وغيرهم من الهنود والعرب والصينيين والفارسيين قاموا باكتشافات كانت جوهرية بالنسبة إلى الازدهار اللاحق للعلوم الغربية، وأنه بينما كانت أوروبا غارقة فيما وُصِف بعصور الظلام، كانت العلوم والصناعات الصينية والهندية في ازدهار، وكانت الزراعة فضلًا عن التصميم والمعيشة الحضريين متقدمة بمراحل عن أي مما في الغرب. ولا عجب أنه حتى في أوروبا القرن الثامن عشر، في عصر التنوير، حازت الثقافات وأساليب الحياة الصينية والتركية والهندية إعجابًا كبيرًا واستساغة فاقت ما حازته نظيرتها الغربية في كثير من الأحيان. ونحن الآن نعي كذلك أن النهضة الأوروبية التي سبقت عصر التنوير تدين بالكثير للدارسين الذين عملوا في المجتمعات الإسلامية وحفظوا إنجازات الإغريق الفلسفية والعلمية، وترجموها وأضافوا إليها. ولم تخرج العصور الكلاسيكية القديمة إلى النور دون ارتباطات بغيرها من الثقافات والمناطق واقتباسات منها، لا سيما الخاصة بمصر القديمة. وأيًّا كانت الانتقادات المفصَّلة التي قد تُوَجَّه إلى كتاب مارتن برنال «أثينا السوداء» الذي أثار جدلًا واسعًا، والذي شدد فيه بقوة على مسألة الامتنان لمصر، ليس ثمة شك كبير في خطأ رؤية ازدهار اليونان الكلاسيكية على أنه ببساطة نابع من الداخل، وليس بالتأكيد ظاهرة «أوروبية» منفصلة بالطبع.

كانت «العقلانية»، التي كثيرًا ما تُعتبَر حكرًا على الغرب، إنجازًا إنسانيًّا عالميًّا جماعيًّا تخلَّف فيه الغرب لفترات طويلة عما عداه، وهي نقطة أشار إليها جودي بقوة في كتابه الذي جاء بعنوان ملائم، هو: «الشرق في الغرب».

ويسوق جودي حجة مقنِعَة — استنادًا إلى عدد وفير من أبحاث غيره من المؤرخين — مفادها أنه بدلًا من نصب الفواصل الجامدة بين الشرق السلطوي والغرب القائم على اللامركزية والنزعة الفردية التي أسفرت عن «المعجزة الغربية» المزعومة في الحضارة الصناعية، فالمنطقي أكثر من الناحية التاريخية هو الحديث عن «المعجزة الأوراسية»، التي تقاسمت المجتمعات فيها ميراث العصر البرونزي، لكنها تتضمن غربًا ليس فريدًا تمامًا تميَّز جزئيًّا عن طريق التكنولوجيا العسكرية والبحرية المتفوقة. وتأتَّى للغرب، الذي اقتبس الكثير مما عداه في مجالات التكنولوجيا والعلوم والثقافة، أن يسيطر على أجزاء من الكرة الأرضية كانت أكثر تقدمًا من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية لقرون، مشاركًا في سمات اجتماعية متعددة مثل نظم الزواج والأخلاقيات التي أتاحت ازدهار التجارة والصناعات التحويلية في الشرق. وتشارف هذه الفترة الآن على الانتهاء؛ إذ إن بعض الاقتصادات الشرقية تبدو الآن متأهبةً لتولِّي مقاليد الأمور، وتحويل نمط السيطرة والتفوق تجاه الشرق بقدر أكبر، كما كان عليه الحال في الماضي.

وقد كان للتوسع الإمبريالي والاستعمار الغربيَّين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأوائل القرن العشرين عميق الأثر في بلدان مثل الهند وفي الشرق الأوسط العربي، مما كوَّن ثقافات مختلطة غير عادية امتزجت فيها اللغات والأدب وأشكال الحكم والمؤسسات الغربية مثل الجامعات الحديثة، لتؤسس مجتمعات استطاعت خوض الحروب الأوروبية، وقاتلت في النهاية للتخلص من الحكم الاستعماري المباشر، ومن ثم استطاعت توفير العمالة الرخيصة التي قدَّمت مساهمة حيوية في تحقيق الرخاء لاقتصادات أوروبا الغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

كانت المجموعات السكانية القادمة من المستعمرات السابقة قد تأثرت تأثرًا عميقًا بالفعل بتلك العمليات التبادلية السابقة مع الغرب، على الرغم من المخاوف الحكومية والشعبية من أنهم «أغراب داكنو البشرة» عديمو التحضُّر. و«هم» «ملونون» «ذوو أصول عرقية» يُفتَرَض أنهم وفدوا إلى حضارات تتمتع بقيم ومؤسسات مختلفة تمامًا لكنها ليبرالية وديمقراطية ذات نزعة عالمية.

وقد أُجرِيَ الآن تحليل متمعِّن لهذا التكوين للهوية الغربية، الذي يبث شعورًا بشخصيتها الفريدة التحضُّر في مقابل غير الغربي المختلف تمام الاختلاف، لا سيما في مجال «دراسات ما بعد الاستعمار». بيد أنه يُلاحَظ التوصل إلى رؤية متعمقة محددة من هذا المجال البحثي المزدهر؛ فقد أبرز كيفية تأثُّر تكوين الدول القومية الأوروبية العميق بمشروعاتها الاستعمارية والإمبريالية. فما منحه فوكو لقب «الحكوماتية» الشهير — حُكم الشعوب بصورة نظامية، باستخدام معلومات تُجمَع خصوصًا، وخبراء ذوي صلة، ومراقبة تزداد تدقيقًا باستمرار، بما في ذلك استخدام بصمات الأصابع، الذي ابتدأه البريطانيون في الهند — يستمد أصوله من طرق طوِّرَت من أجل حكم المستعمرات. وترتبط أيضًا الحاجة إلى إتاحة التعليم النظامي للعامة والنخبة بغية توفير العمالة المنضبطة إضافةً إلى كوادر الخدمة المدنية بالمرحلة الاستعمارية. وفي بريطانيا حتى استخدام الأدب الإنجليزي كأحد صور التثقيف و«التهذيب» جُرِّبَ أولًا في الهند، ولم يُعَد استيراده في بريطانيا كتقنية تربوية إلا فيما بعد.

بمعنى آخر، لم يحدث أن تشكَّلت الدول الأوروبية أولًا دون الرجوع إلى المستعمرات، وبعدها فقط فرضت مؤسساتها على المجتمعات المستعمَرة؛ فالشكل الذي اتخذته الدول القومية الأوروبية في حد ذاته كان متأثرًا بشدة بمؤسسات أنشئت في البداية لتولي حكم المستعمرات.

ثمة حاجة ملحَّة الآن لتحويل مفردات التعددية الثقافية إلى مفردات «التواصل الثقافي»، تصحبه نقلة مشابهة إلى الأسس التي يرتكز عليها والتي تسلِّط الضوء على الترابط التاريخي الوثيق بين الثقافات وفهم كيفية تقاسم «الحضارات» للتصورات المتعلقة بالتسامح والحرية والعقلانية وما إلى ذلك، ولا سيما كيفية تقديم الثقافات غير الغربية إسهامًا حيويًّا في تطوير هذه الأفكار وإنشاء المؤسسات الملائمة لها. فالحداثة ليست ظاهرة غربية فريدة، وإنما إنجاز أوراسي مشترَك.

وإنَّ النظر إلى المهاجرين غير الغربيين على أنهم ليسوا أكثر من أشخاص جاءوا من عصر ما قبل الحداثة لإضعاف أسلوب حياة غربي فريد، يشكِّل عقبة كبرى في طريق تطوير مبادئ ومؤسسات أكثر ملاءمةً لإدارة «التنوع الفائق» الذي تتسم به الدول القومية الأوروبية في القرن الحادي والعشرين. ولا تتطلب محورية الحوار بالنسبة إلى تطوير مبادئ جديدة للتواصل الثقافي مجرد إيلاء «الثقافات الأخرى» احترامًا باهتًا، بل تفهمًا لمقدار ما جرى تقاسمه بالفعل والكيفية التي توفر بها تلك القواسم المشتركة أساسًا لتكوين المزيد من التفاهمات المشتركة.

وليس في هذا ما ينتقص من درجة استمرار وجود فروقات في طريقة تصوُّر الحريات والحقوق والحياة الجنسية والسلوك المدني والمسئوليات المدنية، وممارستها بين شتَّى مجتمعات الدول القومية الأوروبية ذات التنوع الثقافي. لكن وقتما يُسَلَّم بأن التواريخ مترابطة ومشترَكة، وأن الصور الغربية التي يُفترضَ كونها فريدة من نوعها هي في الواقع إنجازات مشتركة بين الغربيين وغير الغربيين، وأن جميع المجتمعات العرقية بما فيها الأغلبية العرقية منقسمة على نفسها بشأن التأويل السليم للحقوق والحريات والحياة الجنسية والسلوك المدني (فكِّر في تحفظات المحافظين بخصوص قضايا الإجهاض والمثلية الجنسية والقسيسات وغير ذلك عبر مختلف الجماعات العرقية والأديان)، وأنَّ الأجيال الأحدث من المهاجرين غير الأوروبيين يطورون بسرعة صِيَغًا مختلطة جديدة من ثقافات آبائهم وثقافات «أوروبا المسيحية»، فإن فكرة وجود ثقافات «أخرى» مكتملة ومنفصلة عن ثقافاتنا «نحن» تصبح غير ملائمة أكثر فأكثر.

نحن الآن جزء من حقبة «عبور للحدود الوطنية» دائمة التوسُّع التي تصبح فيها الروابط بين المهاجرين وأسلافهم و«أوطانهم» السابقة أكثر تعقيدًا، وفي عديد من الأحيان تأخذ في الازدياد بسبب سرعة تطور الاتصالات الهاتفية الأرخص تكلفةً، والرحلات الجوية، والإنترنت. والهويات الوطنية، فضلًا عن هويات الأقليات العرقية، آخذة في التبدُّل استجابةً للعولمة الأكثر حدة، وقد أصبح انتشار تعدد الهويات الآن أمرًا موثقًا على نطاق واسع. ويلازم ذلك اتجاه جديد نحو «العالمية» يصبح العديد من أفراد الأقليات والأغلبيات السكانية في ظله أكثر براعةً في التبديل بين الثقافات وأساليب الحياة واللغات. ومن المحتم أن تكون مثل تلك العمليات متفاوتة ومعتمدة على عوامل مثل الطبقة ومستوى الدخل والجنس والعمر. ومع ذلك، فقد صار جليًّا على نحو متزايد أن ثمة حاجة إلى استبدال منظورات أكثر انسجامًا مع الأنماط الأكثر كثافة من الترابط العالمي بالمنظورات المرتكزة على الدولة القومية التي سادت في السابق.

وفي هذه المرحلة العابرة للحدود الوطنية والعالمية، لا يكون إقامة تواصل ثقافي حواري بحقٍّ داخل حدود الدولة أمرًا ضروريًّا فحسب، وإنما أمر تزداد إمكانية حدوثه أيضًا. وتوفر صيغة باريك لفلسفة التعددية الثقافية الحوارية، التي قدَّمها في كتابه «إعادة النظر في التعددية الثقافية» منبرًا مبدئيًّا، طوَّره باريك على نحو أكثر ملاءمةً، كما أدرج المزيد من الاعتراف بالتواريخ المترابطة، والجاليات الجديدة وهوياتها المختلطة والمتعددة، وصورًا جديدة للعالمية داخل شعوب الدول القومية، في كتابه «سياسات جديدة لتكوين الهوية» (۲۰۰٨).

ما المصير المتوقع لمفاهيم مثل الاندماج والترابط المجتمعي؟ دائمًا ما قُوِّض «الاندماج» بسبب عجزه عن التحديد السليم لماهية ما يُفتَرَض أن يندمج المرء فيه، إلا بالمعنى الأوسع المتصل بالقيم الغربية مثل الحرية والتسامح وما إلى ذلك، التي هي في الواقع مثار جدل وشكوك، لا سيما فيما يتعلَّق بالسياسات الملموسة والسلوك المدني. ويطرح كلٌّ من الاندماج و«الترابط المجتمعي» على ما يبدو حالات غير واقعية تتضمن ركودًا وتوافقًا، يتنافيان، كما أشار توللي وأمين وغيرهما، مع الثقافات الديمقراطية ذات التعددية والنقاشات السليمة النابضة بالحياة. وعلى الرغم من أنه لا بد بالطبع من وجود قواعد ثابتة نسبيًّا للنقاش والمشاركة وحل القضايا الخلافية، فيجب ترك كلٍّ من القواعد والحلول مفتوحة أمام الاعتراض المسبَّب والمنطقي. ويستهدف ذلك تهيئة المواءمات بين الجماعات العرقية وغيرها من المجتمعات مما ينمي بدوره شعورًا بوجود «وَحدة» بدلًا من ترسيخ مشاعر «نحن» و«هم».

وفي ظل ظروف ندرة الموارد وتأصُّل الأعمال العدائية الثقافية، سيكون التمويل الموجَّه إلى سبل الترفيه، والرياضة، وغيرها من المرافق المجتمعية، والإسكان، ومواقع بناء المساجد والمعابد اليهودية وغيرها من المعابد، عُرضةً لصراعات لا يمكن التعامل معها على نحو بنَّاء إلا ببناء علاقات مع مرور الوقت تقوم على الثقة والوساطة والتنازل في محافل المناقشة المناسبة. وقد ذكرتُ مبادرات عدة في مدن مثل ليستر وغيرها توفِّر سُبُلًا للمضي إلى الأمام في هذا الصدد.

وإنَّ إمكانية التوصل إلى اتفاق شامل بشأن الحاجة إلى القبول بالقيم العامة مثل التسامح والتنوع الثقافي والحقوق الفردية وما إلى ذلك، نتيجة الترابط والتواصل الثقافي القائم بالفعل، يؤدي إلى تيسير مهمة التوصُّل إلى تنازلات مقبولة. وإنَّ التنافر التام بين الجماعات الثقافية من حيث القيم والمعاني أمر نادر، وتتناقص أرجحيته بترعرع أجيال جديدة على خلفيات متعددة العرقيات، إلا أن التواصل الثقافي لا يتطلَّب قبول جميع المواطنين بالرواية ذاتها لتاريخ الأمة — والواقع أن جميع الأمم منقسمة حول تاريخها — ولا تحتاج الحلول المقدَّمة لأغلب القضايا العملية التي تنشأ في السياقات متعددة العرقيات ذلك النوع من التوافق المحكم.

يمكن تعلُّم بعض الدروس من مناطق تفصلها مسافات كبعد المسافات بين أيرلندا الشمالية وجوجارات، حيث أُنشئت الجمعيات المدنية — كما توضِّح أبحاث هيوستن وفارشني — بهدف تعزيز الاختلاط وشعور كافٍ بالانتماء المشترك؛ منعًا أو رأبًا للصدوع التي تنشأ بين الأحياء السكنية والمجتمعات العرقية والدينية. وتُبين أيضًا الأبحاث الإثنوغرافية التي أُجرِيَت على مجموعة من المراكز الحضرية تتضمن فانكوفر أن المفاوضات والصداقات النابعة من القاعدة بين الجيران تسمح بتكوين صور من الألفة متعددة العرقيات التي سماها هيبرت «العالمية على المستوى المحلي»، وإن كانت هذه ليست عملية أحادية البعد، وإنما عملية تتغير سماتها أيضًا مع مرور الزمن على مدى الأجيال المتعاقبة.

ينبغي النظر إلى التواصل الثقافي على أنه «عملية وليدة تفاعلات طبيعية» لا تتضمن بالضرورة نقطة نهاية. ويحتاج المشروع إلى وعي ثاقب بأنَّ الاختلاط وإقامة الحوار بين العرقيات قد يسفر أيضًا عن المزيد من الصراع على المدي القريب، وأنَّ الاتصال الرسمي بين العرقيات يؤتي ثماره أكثر في السياقات المُخطَّط لها بحذر التي تخضع للرقابة والتنظيم المستمرَّين. وتتوافر دروس من عدد كبير من دراسات الحالة، وإن كانت كل حالة فريدة من نوعها وتتطلَّب معرفة محلية ومبادرات محلية وصورًا مقرَّرَة ديمقراطيًّا من الأنشطة والمناقشات بين العرقيات. وعلى صعيد آخر، من الواضح أنه سيلزم اتباع نهج أكثر تسامحًا، على المستويين المحلي والوطني، إزاء تعددية الهويات التي تحملها الشعوب في عصر أكثر عبورًا للحدود الوطنية. وعلى وجه التحديد، ليس ثمة سبب مقنع لضرورة تغلُّب الولاء الوطني، في الرياضة على سبيل المثال، على غيره من الولاءات.

ثمة عمليات وأشكال مؤسسية قابلة للتعميم مثل «حرية اختيار الولاية القضائية» الذي رفعت لواءه إيليت شاتشر، واستمرار «الحوار بين نظم التنوع» الذي ناصره جريللو. ويسوق الأخير طريقة تعامل المحاكم والسلطات المحلية مع مطالبة الهندوس والسيخ بتوفير محارق تلائم بعض شعائرهم الجنائزية في بريطانيا كمثال جيد، وربما نموذج، للكيفية التي يمكن أن يسفر بها الحوار بين العرقيات عن تنازلات مقبولة لجميع الأطراف. وأفضل مصدر للأمثلة على مشاريع التواصل الثقافي التي أُقيمت حديثًا في أوروبا وأمريكا الشمالية هو كتاب «مدينة التواصل الثقافي» (۲۰۰٨) من تأليف فيل وود وتشارلز لاندري. وتتراوح المبادرات التي نوقشت ما بين مسرح بيرنهام للشباب وأولدهام يونيتي في برنامج الرياضة المجتمعي، والمكتبات الدنماركية، والمراكز المجتمعية لفانكوفر، ومشروع «الاختلاط على ضفاف نهر الماس» بروتردام، ومشروع تورين المسمَّى «الإدارة الإبداعية للصراع» الذي أنزل «وسطاء بين الثقافات» إلى الشارع للعمل مع الشباب والباعة الجائلين والوافدين الجدد والسكان المستقرين «بغية الوقوف على الاتجاهات المستجدَّة، واستباق الصراعات، وإيجاد الأرضية المشتركة والقيام بالمشروعات المشتركة». وانحدرت أصول أول مجموعة مكوَّنة من ثمانية عاملين انتقاها تورين من الجزائر والكونغو والمغرب وصربيا وبيرو والبرازيل وإيطاليا، وهي بالضبط نوعية المجموعة اللازمة للتعامل مع «التنوع الفائق» المستجد الذي يميِّز المدن الجديدة في أوروبا وفي أمريكا الشمالية بدورها.
fig5
شكل ١: إقامة الحوار بين الناس، كما في مشروع «الاختلاط على ضفاف نهر الماس» بروتردام، يمكن أن يكون فعالًا في كسر الحواجز الفاصلة.1

إلا أن التواصل الثقافي يقتضي تمويلًا ملائمًا، تمامًا مثلما اقتضت التعددية الثقافية، ولا يمكنه أن يعالج بمفرده قضايا العنصرية وعدم المساواة التي تعانيها الأقليات العرقية، ولا عدم المساواة الأشمل بين الطبقات وبين الجنسين، التي تشكِّل أهمية حيوية للتعامل بكياسة بين الأعراق المختلفة وللحفاظ على الروابط الاجتماعية السائدة في مجتمعات تزداد فيها الخصخصة والنزعة الاستهلاكية وتواجه تحديات الابتعاد عن التصنيع، والمطالب الإقليمية الانفصالية التي تدفع بها الأقليات الوطنية دون مستوى الدولة، والاقتطاعات الجذرية من خدمات الرعاية (الاجتماعية). ويتطلب التواصل الثقافي أيضًا مد جسور التفاهم عبر النطاقات المتداخلة للنوع والعمر ومختلف الهويات والاهتمامات الأخرى، ولا بد له من أن ينأى بنفسه عن عالم يميز الانتماءات العرقية والعقائدية على سائر أشكال الانتماء الأخرى، دون أن يمس التفاوتات العالمية التي تشكِّل محركًا أساسيًّا لهجرة الأشخاص من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب.

هوامش

(1) Photo courtesy of Welkom in Rotterdam.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤