الفصل الثالث

هل أوجدت التعددية الثقافية أحياءً للأقليات و«معايش متوازية»؟

(١) أعمال شغب وتقارير وإرهاب: ۲۰۰۱ وما بعدها

كان صيف ۲۰۰۱ وخريفها مصيريَّيْن، وقد يرى البعض أنهما كانا بمنزلة ضربة في مقتل للتعددية الثقافية في بريطانيا وباقي أنحاء أوروبا؛ فقد شهدت أشهر مايو ويونيو ويوليو لعام ۲۰۰۱ اضطرابات مدنيَّة عنيفة في «مدن المصانع» بشمال إنجلترا (سُمِّيَت بهذا لأنها كانت بها مصانع نسيج مزدهرة في الماضي) وهي مدن بيرنلي وأولدهام وبرادفورد، فاندلعت حروب الشوارع بين شباب آسيويين بريطانيين؛ معظمهم من المسلمين وذوي الأصول الآسيوية الجنوبية، وشباب بيض؛ أكثرهم من المنتمين إلى الحزب الوطني البريطاني اليميني المتشدد، والشرطة، ودمَّرَت القنابل الحارقة بنايات عدة، كان منها في أولدهام الحانة المسماة على سبيل المفارقة «عِش ودع غيرك يعش»، فضلًا عن منزل نائب رئيس البلدية الآسيوي.

فأمرت الحكومة البريطانية فورًا بإجراء سلسلة من التحقيقات الرسمية في الاضطرابات وأنشأت لجنة خاصة تابعة لوزارة الداخلية لمتابعة التحريات، وتنسيق النتائج المستخلصة منها وتأدية وظيفة الجهاز الاستشاري. أما برادفورد فقد شرعت بالفعل في تحرياتها الخاصة تحت إدارة سير هيرمان أَوْسيلي قبل وقوع الاضطرابات، نظرًا لتعرُّضها لاضطرابات في عام ۱۹۹٥. وقد نُشِر تقرير أوسيلي أولًا، في صيف ۲۰۰۱، مما استتبع في رأيي أن حيثيات تحرياته والنتائج المستخلَصَة منها خلَّفت على الأرجح تأثيرًا لا داعي له على إطار التحريات الأخرى وعلى نَهْج الحكومة المركزية إزاء المجموعة الكاملة من القضايا التي نشأت عن الاضطرابات. فكما أشار أوسيلي في مقدمته لتقرير برادفورد، فقد تلقَّى فريق «المراجعة العرقية» الذي قاده أوسيلي تعليمات بالتحري عن سبب «تفتُّت المجتمع من الناحية الاجتماعية والثقافية والعرقية والدينية» في برادفورد؛ أي إن «المشكلة» كانت قد تحددت بالفعل قبل الشروع فعليًّا في أي تحقيقات جادَّة، وهي: «تفتت المجتمع»، وهو مصطلح استُخدم بالتبادل مع «تمزُّق المجتمع». وُعرِّف «الانعزال الذاتي» بدوره باعتباره عاملًا مُسَبِّبًا رئيسيًّا قبل بدء التحقيق. وطُلِب إلى فريق المراجعة العرقية أيضًا أن يقدِّم المشورة بصدد معالجة التمييز العنصري وتعزيز تكافؤ الفرص. وما كان من التحريات المعنية بأولدهام وبيرنلي — إضافة إلى مراجعة مستقلة بقيادة تيد كانتل — إلا أن تضع في اعتبارها معطيات تقرير برادفورد والاستنتاجات التي توصَّل إليها، وكذلك كانت تحريات برادفورد وسائر التحريات الأخرى تعمل تحت مظلة تقرير ماكفيرسون المعني باغتيال المراهق الأسود ستيفن لورنس في جنوب لندن الذي كشف العنصرية المؤسسية المتأصلة لدى الشرطة، وأصدر حزمة من التوصيات واسعة النطاق من أجل معالجة العنصرية والقضايا المتصلة بها.

إلا أن فِرَق المحققين كانت أيضًا على دراية كاملة بأنها تواجه مجموعة مُرَكَّبَة من الظروف. وبصفة عامة، بالرغم من بعض التباينات الحتمية في مدى التوكيد، ظهرت عدة أفكار رئيسية مشتركة في محاولات تلك الفرق إبراز الخلفيات الجوهرية والدوافع الأكثر التصاقًا بالاضطرابات، وكما سنرى، هُمِّشَت العديد من تلك القضايا فيما بعد حين شرَعَت الحكومة المركزية في صياغة استراتيجية للحيلولة دون وقوع اضطرابات في المستقبل.

كانت التقارير المتعلقة بالاضطرابات محورية في تمهيد الطريق أمام تكوين نقد مستدام للتعددية الثقافية بمجرد بدء رد الفعل العنيف ضدها؛ لذا فمن المهم دراستها بمزيد من التفصيل، ومتابعة تطور السياسات الحكومية والفكر الشعبي؛ إذ طفقا يستوعبان نتائج التقارير وتوصياتها ويفسِّرانها ويعدِّلانها في صورة هجمة على التعددية الثقافية.

أشارت جميع التقارير إلى الأثر المدمر الذي خلَّفه الابتعاد عن التصنيع على مستويات التوظيف والفرص الاقتصادية، مع ارتفاع مستويات البطالة والفقر الآسيوية بصفة خاصة، الذي يُعزى في جزء منه إلى قلة السياسات الممنهجة التي تتبعها السلطات المحلية بهدف توظيف الأقليات العرقية. وقد ساهم ضياع صناعة النسيج جزئيًّا في وقوع جميع الدوائر (الأحياء) التي تعرضت للاضطرابات المدنية ضمن نسبة اﻟ ٢٠٪ الأكثر حرمانًا في البلاد، ووقعت بعض المناطق بأولدهام وبيرنلي ضمن أفقر ١٪. فالابتعاد عن التصنيع أسفر عن حرمان مشترك لدى البيض والآسيويين، وتعرَّضت مجتمعات الأقلية الآسيوية أيضًا لعنصرية شخصية مطَّردة من جيرانها البيض، وعنصرية مؤسسية من المجالس الحَضَرية الحاكمة التي ميَّزت ضد الآسيويين وعزلتهم في مناطق سكنية بعينها وأشكال محددة من المساكن (أدان تحقيق أجرته لجنة المساواة العرقية إبان تسعينيات القرن العشرين سياسات مجلس أولدهام الإسكانية باعتبارها عنصرية)، وتحرُّش الجبهة الوطنية اليمينية المتشددة بهم. وكثيرًا ما أسهم الوكلاء العقاريون المحليون في «ارتحال البيض» ببث الذعر في قلوبهم وحملهم على الانتقال من المناطق لدى بدء الآسيويين في شراء مساكن بها، مؤججين مخاوف هبوط أسعار المساكن؛ لذا كانت المناطق السكنية والمدارس آخذة في التحول إما إلى بيضاء تمامًا أو آسيوية تمامًا.

وقد استتبع زوال مجالس المساواة العرقية المحلية أن السكان لم يعد لديهم من يلجئون إليه طلبًا لأخذ المشورة بشأن التمييز، ولم يُبذَل جهد حثيث لتحسين العلاقات المجتمعية. ووفقًا للتقارير، فقد عمد كلا المجتمعَين إلى «الانعزال الذاتي»، مما أسفر عن انقسام ثقافي حاد بين الآسيويين والبيض، لم يدع مجالًا كبيرًا للتعامل بينهما، وقد خلَّف ذلك بدوره جهلًا ومخاوف مبالغًا فيها لدى كلٍّ منهما تجاه الآخر. وبصفة خاصة كان ثمة خرافات متواترة ومؤذية تتعلق بحصول الآسيويين أو البيض — وعادةً الآسيويون — على حصة جائرة من موارد الحكومة المحلية. وجاءت تلك الخرافات في أغلب الأحيان نتيجة عملية مزايدة تنافسية وُضِعَت بموجبها المجتمعات بعضها في مواجهة بعض، مما ولَّد مشاعر استياء حتمية.

كانت عملية المزايدة قائمة على المناطق، معزِّزةً التقسيمات المكانية بين المجتمعات التي تطورت، نتيجة أنماط استقرار ناجمة عن عمليات هجرة سابقة، إلى مناطق توفر الوظائف والسكن للأقليات العرقية الوافدة، وذلك قبل نشأة تصوُّرات التعددية الثقافية. وتشير التقارير إلى أن وسائل الإعلام زادت الموقف سوءًا بنزوعها إلى التركيز المجحف على التمويل المخصص للمناطق الآسيوية مع التقليل من شأن الأموال الممنوحة لمناطق الأغلبية البيضاء، وهي تغطية انتقائية عضَّدت الجبهة الوطنية في بث المزيد من مشاعر الاستياء والعدائية لدى السكان البيض، ولاقت الشرطة تخوينًا باعتبارها جائرة، لا سيما لدى الآسيويين، وأيضًا لدى البيض الذين شعروا أن الآسيويين كان يُسمَح لهم بالإفلات من العقاب عند ارتكاب المخالفات؛ لأن تشريعات العلاقات العرقية كانت تكبِّل الشرطة. وألمحت التقارير إلى أن الشرطة، بالتواطؤ مع وسائل الإعلام في كثير من الأحيان، كثيرًا ما فاقمت التوترات بتسليط الضوء على هجمات الآسيويين على البيض وإبعاده عن العنف والتحرش الروتيني المُوَجَّهَيْن ضد الآسيويين (على سبيل المثال: إلقاء القمامة في الفناء الخلفي للآسيويين، وهو ما كان شائع الحدوث).

ووفقًا للتقارير، فإن الاضطرابات الفعلية، التي وقعت انطلاقًا من هذه الخلفية، استدعتها مجموعة من الأحداث المحلية؛ مثل استخدام العنف ضد سائق سيارة أجرة آسيوي، أو إطلاق شائعات متعلقة باقتحام وشيك أو مسيرات فعلية للجبهة الوطنية داخل المناطق الآسيوية، أو المنافسات المزعومة بين العصابات البيضاء والآسيوية المتناحرة الضالعة في تجارة المخدرات، وما إلى ذلك. ومن المفروغ منه أن المشاركين في الاضطرابات كانوا شبابًا من مجتمعات باكستان والبنغال والبيض، وإن كان الدور الجليُّ الذي اضطلعت به أشكال الذكورة في التحريض على العنف لم يَرِد ذكره في التقارير بالمرَّة.

إذن بينما أدركت التقارير بوضوح تعددية الأسباب المحيطة بالأحداث ونصحت بإجراء المزيد من البحث والتحقيق، اعتبرت تمزيق المجتمعات المحلية القضية الرئيسية المتضمَّنة التي ترتب عليها أنْ سَلَك الآسيويون والبيض آنئذٍ ما سماه تقرير كانتل «معايش متوازية»، لا تنطوي إلا على القليل من الحوار المجتمعي والكثير من العداء المجتمعي الذي تفاقم بسبب انعدام القيادة المحلية الملائمة من جانب المجالس وقيادات المجتمع المحلي.

وذكرت التقارير المستويات غير اللائقة لإجادة اللغة الإنجليزية — لا سيما لدى العرائس الجدد والجيل الأكبر سنًّا — باعتبارها عوائق، إلا أن تقريرَيْ أولدهام وبرادفورد أثنيا كذلك على الآسيويات الشابات لتزعُّمهن مشروعات تضمَّنَت تفاعلًا بين المجتمعات وتبادلًا للخبرات.
fig4
شكل ٣-١: شباب بريطاني آسيوي يحتجُّ في الشوارع.1

(٢) «التعددية الثقافية» لم تتسبب في الانعزال وأعمال الشغب؛ هذا أمر مؤكد رسميًّا

لطالما سيقَت الاضطرابات المدنية لصيف ۲۰۰۱ دليلًا على إخفاق التعددية الثقافية في بريطانيا، وهو حكم عزَّزه ضلوع مسلمين جنوب آسيويين بريطانيين في تفجيرات إرهابية بلندن في يوليو عام ۲۰۰٥.

وعلى النقيض من الانطباع الراسخ الآن لدى المخيلة الشعبية والسياسات الحكومية بأن التقارير الرسمية الصادرة بشأن اضطرابات ۲۰۰۱ أيَّدت ذلك الحكم، فإن العكس هو الصحيح، حيث تشير قراءة التقارير عن كثب إلى ضرورة إعادة تقييم الموقف المتَّخَذ لاحقًا ضد التعددية الثقافية.

والواقع أن التعددية الثقافية لم يَرِد ذكرها تقريبًا في تقريرَيْ أولدهام وبيرنلي؛ فالاستخدام المباشر لهذا المصطلح جاء في تقرير بيرنلي حيث تحسَّر على غياب «أنشطة التعددية الثقافية». واللافت للنظر بوضوح فيما يتعلق بتلك التقارير هو أسفها على الغياب شبه الكامل للتعددية الثقافية ودعوتها إلى تحقيق المزيد منها، بصفة خاصة في مجال التعليم، لكن أيضًا في ممارسات السلطة المحلية، والتغطيات الإعلامية، والممارسات الوظيفية، والمرافق الترفيهية.

وقد وجَّه فريق برادفورد للمراجعة العرقية نقدًا صريحًا للمنهج القومي — الذي ابتكرته إدارات الحزب المحافظ في فترة ما قبل عام ۱۹۹۷ كاستراتيجية متعمدة ترمي إلى تهميش مبادرات التعددية الثقافية في المدارس — لفشله في تدريس «الثقافات والمعتقدات المختلفة القائمة بين مجتمعاتنا المتسمة بالتنوع وتعدد الثقافات». وساق الفريق أدلة من نقاشاته تفيد أن الشباب اعتبروا ذلك قصورًا واضحًا في تعليمهم.

رغَّب تقرير أولدهام في بذل المزيد والمزيد من الجهد في سبيل «الاحتفاء بتنوع المدينة» وكيفية «إثراء جماعات المهاجرين المختلفة للحياة الاجتماعية والاقتصادية في أولدهام وإسهامهم فيها»، وذهب أيضًا إلى أنه لا بد من غرس «الاحترام» لدى أهالي أولدهام «لتقاليد الآخرين ووجهات نظرهم»، مصحوبًا «بالمزيد من التثقيف في مجال التوعية الثقافية» و«الاستعداد للإصغاء إلى الرأي الآخر». فهذه مطالب ملِحَّة بتحقيق المزيد من التعددية الثقافية، تتضمن تقييم التنوع الثقافي، والإقرار بإسهامات المهاجرين، وبث التعاطف بين مختلف المجتمعات العرقية.

واستنادًا إلى الدور الرئيسي الذي لعبه التشخيص الخاص بالمدن المكوَّنة من مجتمعات ممزقة، لا يوجد ما يبعث على الدهشة في أن جميع التقارير أوصت بتحقيق المزيد من الاختلاط، وذلك لتصحيح أنماط الانعزال السكني والتعليمي الراسخة. لكن التعددية الثقافية ليست المسئولة عن نشأة الانعزال والمجتمعات الممزقة.

تشكِّل فكرة الانعزال «الذاتي» لدى كل من المجتمعَين — الآسيوي والأبيض — فكرة قوية متكررة أيضًا، وأكَّدَت التقارير على وجود أناس في جميع المجتمعات حريصين على تحقيق قدر أكبر من التفاعل والاختلاط بين الطوائف. ومما لا شك فيه أن ثمة أدلة مستقلة — لا سيما من الروايات الصحفية على شاكلة روايات كنان مالك — على أن التمويل القائم على العقيدة، الذي تطالب به الجماعات المحلية، قد زاد فعلًا من تكريس الانقسامات القائمة أصلًا على أرض الواقع في برادفورد وبرمنجهام، وغيرهما من المدن، لكن الأبحاث الأكثر منهجية لفارار وسولوموس وباك تكشف أيضًا عن صورة لعمليات التفاوض وعمليات التعبئة السياسيتين أكثر تعقيدًا مما يمكن ملاحظته من خلال توجيه أي لوم ساذج «للتعددية الثقافية» على حدوث انقسامات بين طوائف المجتمع.

إضافةً إلى ذلك، يكشف الاطلاع على النتائج التي توصلت إليها التقارير أن العنصرية لدى السكان البيض، مصحوبة بتمييز المجالس في تخصيص المساكن، وعنصرية أصحاب العمل، وأنشطة الوكلاء العقاريين، والتغطية الإعلامية المحلية الانتقائية المعادية للآسيويين، اضطلعت بدور أكبر كثيرًا في نشأة الانعزال مما اضطلعت به مقاومة الآسيويين للاندماج والتفضيل الثقافي للعيش ضمن الحدود الضيقة لأحيائهم السكنية الخاصة. وقد جاءت أكثر الرغبة في التفاعل والاختلاط من جانب الآسيويين لا البيض.

وقد «صُدِم» فريق أولدهام بما اكتشفه من عنصرية لدى البيض وأوصى «بضرورة معالجة العنصرية والمواقف العنصرية … بأقصى سرعة ممكنة». وعن مقاومة الاختلاط، قال: إنَّ «محاولات المزج بين الأسر الآسيوية والبيضاء في العقارات التابعة للمجلس باءت بفشل محقق، بسبب الإضرار العنصري بالأسر الآسيوية الوافدة» (التوكيد من المؤلف).

ويشدِّد تقرير برادفورد أيضًا على أن ساكني الأحياء الفقيرة من البيض لم يتقبَّلوا على ما يبدو أن يكون للمسلمين موضع بالمدينة، وأنهم نأوا بأنفسهم عن «الهوية البرادفوردية». وأعرب التقرير كذلك عن مخاوف كبيرة إزاء التفرقة العنصرية في المجال الوظيفي.

(٣) «السائرون نيامًا نحو الانعزال»: هل تحتوي بريطانيا على أحياء للأقليات؟ وهل نتجت هذه الأحياء عن التعددية الثقافية؟

لا تُحَمِّل أيٌّ من التقارير الصادرة بشأن اضطرابات عام ۲۰۰۱ التعدديةَ الثقافية المسئوليةَ عن الأحداث أو العوامل الاجتماعية التي تنطوي عليها، والتي أدت إلى بَذر الانقسامات والعدائية بين المجتمعات. وقطعًا لم يستخدم أيٌّ منها مصطلح «أحياء الأقليات» في وصف «التجمعات» العرقية التي أخبرهم عنها أهل تلك المدن. ومما لا يقل لفتًا للانتباه أن التقارير تضمَّنت اعترافًا بعدم وجود قياسات لدرجة الانعزال القائمة في «مدن المصانع» حتى ذلك الحين، لذا دعت التقارير إلى إجراء المزيد من الأبحاث الممنهجة والوافية لتحديد مدى صحة ظاهرة الانعزال القائم بين المجتمعات.

يرجع تخوف البلاد من «الأحياء» العرقية، لا سيما كمسبِّب للنفور الخطير المتكوِّن لدى الشباب المسلمين، في جزء منه إلى تريفور فيليبس — رئيس لجنة المساواة العرقية آنئذٍ — لما جاء في خطاب ألقاه حَظِي بدعاية كبيرة، وإلى تعليقات أخرى عقب تفجيرات يوليو ۲۰۰٥ التي نفَّذها عدة شباب آسيويين بلندن، فحذَّر من أن بريطانيا معرَّضة لخطر «السير في نومها» نحو الانعزال، وأن «بعض الأحياء في طريقها للتحول إلى أحياء أقليات مكتملة الأركان، ثقوب سوداء لا يطؤها أحد دون خوف ورهبة». وربط ذلك تحديدًا بمخاطر الإرهاب الإسلامي النابع من الداخل بقوله: «تضطرنا توابع أحداث السابع من يوليو إلى تقييم وضعنا … فنحن في سبيلنا إلى أن نصير أغرابًا بعضنا عن بعض.» وتحدَّث عن «مجتمعات منعزلة» يتزايد نظر أعضائها إلى «قواعد السلوك والوفاء والاحترام التي يتخذها بقيَّتنا مسلَّمًا بها على أنها أمر عفى عليه الزمن». وقد توصَّل إلى هذه النتيجة المشئومة: «نعلم ما يتبع ذلك: الجريمة والمناطق المحرَّمة والصراع الثقافي المزمن.» وقال إنه يجب على التعددية الثقافية أن تتحمل جزءًا كبيرًا من اللوم؛ إذ إننا:

ركَّزنا كثيرًا في السنوات الأخيرة على «التعددية» وليس على الثقافة المشتركة بالقدر الكافي. وأبرزنا ما يفرِّقنا … وسمحنا لقبول التنوع بأن يشتد متحولًا إلى عُزلة فعلية للمجتمعات، يرى بعض المقيمين فيها ضرورة أن تسري عليهم قيم منفصلة.

وقد صارت التعددية الثقافية والانعزال والعنف والإرهاب متصلين بعضهم ببعض بالفعل في المخيلة الشعبية؛ إذ بدأت وسائل الإعلام اليمينية تحديدًا تلك السلسلة الترابطية وأكسبتها تعليقات فيليبس المزيد من الزخم. وفي الدايلي تلجراف، كان مارك ستاين قد أنذر بالفعل بالنتيجة التي توصَّل إليها فيليبس بادعائه أن «التفجير الانتحاري الحقيقي هو التعددية الثقافية» (۱۹ يوليو ۲۰۰٥).

إلا أن تقارير عام ۲۰۰۱ كانت قد ألهمت بالفعل دراسة جادة أجراها علماء الجغرافيا والديموغرافيا والاجتماع الحضريين بالجامعات البريطانية، مثل: ديبورا فيليبس في ليدز، وسيري بيتش في أكسفورد، ولودي سيمبسون ونيسَّا فيني في مانشستر، وغيرهم، وأكثرهم كانوا يبحثون في تلك القضايا أيضًا قبل وقوع الاضطرابات بفترة طويلة.

اتضح تقريبًا أن جميع التأكيدات الواردة في تقارير عام ۲۰۰۱ بصدد «الانعزال» — التي تكررت في تقارير ووثائق سياسات أخرى صادرة عن الحكومة — ومن ثم الأدلة المفترضة التي تستند إليها الهجمات اللاحقة على التعددية الثقافية، مجرد خرافات وفقًا للاستنتاج الممنهج الذي خرج به فيني وسيمبسون. وفيما يلي بعض الاستنتاجات ذات الصلة التي استمدَّاها من أدلة أبحاثهما وغيرها من الأبحاث:
  • لا وجود لأحياء خاصة بالأقليات في بريطانيا، وتحركات السكان تفرز قدرًا أكبر من التنوع في المناطق المحلية لا قدرًا أقل. فبريطانيا لا «تسير في نومها نحو الانعزال». وبرادفورد، التي أُعرِب إزاءها عن أولى مخاوف الانعزال، هي نموذج نمطي لسائر البلاد، حيث استقر مهاجرو جنوب آسيا والجزر الكاريبية وغيرهم من المهاجرين. فحتى في أكثر المناطق آسيويةً، يكون أكثر من ۲٥٪ من السكان بيضًا.

  • وفي حين أنه كان ثمة تزايد للسكان من الأقليات داخل الدوائر التي يمثلون أغلبيتها، فقد نتج ذلك عن النمو الطبيعي لا الهجرة الجديدة.

  • السكان من الأقليات آخذون في الخروج من دوائر هيمنتهم السابقة، متجهين إلى مناطق أخرى من المملكة المتحدة؛ فالسكان من الأقليات الخارجين أكثر من الداخلين إلى تلك الدوائر. ويضفي وصول مهاجري أوروبا الشرقية وأفريقيا تنوعًا أكبر على المناطق؛ إذ تنخفض السيطرة الآسيوية.

  • بوضع «ارتحال البيض» في إطار زمني أطول، نجده خرافة أيضًا. فقد دأب السكان البيض على الانتقال إلى مناطق تركز الأقليات في ليستر وبرادفورد ولامبث وولفرهامبتون ومانشستر وغيرها من المناطق، في حين أخذ السكان من الأقليات العرقية في الخروج منها. وإضافةً إلى ذلك، بصفة عامة تنتقل الجماعات كلها بمرور الوقت من المدن الصناعية التي تعاني الكساد إلى الوظائف أو السكن الأفضل في غيرها من المناطق.

  • يتمتع البيض بأعلى نسبة تركُّز عرقي، وليس في هذا ما يثير الدهشة، علمًا بأن ستة من كل سبعة مقيمين في بريطانيا يكونون من البيض. فالشخص الأبيض العادي يقطن في دائرة يمثِّل البيض ٩٠٪ منها، وفي المقابل، يقطن الباكستاني العادي في بريطانيا في دائرة يمثل الباكستانيون ١٧٪ منها.

  • نسبة المسلمين المتهمين بارتكاب جرائم إرهابية ليست أعلى في المناطق التي تحتوي علي العديد من المسلمين مقارنةً بالمناطق التي تحتوي على القليل منهم. إذن فالمفهوم القائل إنَّ المسلمين الراديكاليين منعزلون ويميلون إلى العيش مع غيرهم من المسلمين والدراسة معهم ليس صحيحًا.

  • في حين تتضمن العديد من المدارس أعدادًا كبيرة من الأقليات العرقية، يغلب البيض على أكثر تلك المدراس قطعًا؛ وذلك ببساطة لأن البيض يشكِّلون غالبية السكان. ولا توجد أدلة على أن اختيار المدرسة يزيد الانعزال. وفي حين ظهر انعزال عرقي متزايد في بعض المناطق، يعزى ذلك إلى زيادة عدد السكان من الأقليات العرقية. وقد أحدث الدخل زيادةً في الانعزال أكبر مما فعل الانتماء العرقي.

  • إضافةً إلى ذلك، توضِّح الأبحاث أن الآباء من الأقليات العرقية يعربون عن تفضيلهم إلحاق أطفالهم بالمدارس المختلطة عرقيًّا. والشابات الآسيويات حريصات إلى حد بعيد على تنشئة أطفالهن في مناطق مختلطة، ومحاولةً منهن ضمان ذلك، يمِلْنَ إلى شراء المنازل في الضواحي.

  • تُناقِض الأدلة المتوافرة الرأي الذي يؤمن به الكثيرون القائل بزيادة تقيُّد جماعات الأصدقاء التي ينتمي إليها الشباب بجماعة عرقية واحدة. وتحديدًا ثمة اختلاط متزايد لجماعات الأصدقاء بين الأقليات العرقية البريطانية المولد.

  • إحدى الأقليات العرقية الأسرع نموًّا هي الجماعة «المختلطة»، التي تكشف ميلًا مميزًا لدى المواطنين البريطانيين من مختلف الانتماءات العرقية إلى التزاوج بينهم. ومما يدعو إلى الدهشة أن المسلمين الآسيويين والسيخ والهندوس يتزوجون من خارج مجموعاتهم بنفس معدَّل المسيحيين البيض.

  • وكما أشارت تقارير عام ۲۰۰۱ — وهو ما تؤكده استطلاعات الآراء — بصفة عامة يكون البيض أقل استحسانًا للانخراط مع الأقليات العرقية والاختلاط بها و«الاندماج» معها فعليًّا عن العكس، ومن ثم تنشأ الدعوة إلى زيادة التأكيد على الاحتفاء بالتنوع.

  • إحدى النتائج الرئيسية التي توصل إليها فيني وسيمبسون مفادها أنَّه «من الواضح أن تبني أجندة استيعابية تقصر المسئولية عن الاندماج على الأقليات ليس خيارًا مقبولًا»، على الرغم من أن هذا هو بالضبط المنحى العام لغالبية المبادرات الحكومية الأخيرة (المزيد عنها فيما بعد).

ويبدو أن الأدلة تشكك في فكرة تنامي الانعزال العرقي في المدن البريطانية. فمن المفروغ منه أنه لا يُعقل إطلاقًا أن تُلام التعددية الثقافية على شيء لم يحدث في الأساس.

إلا أن كارلينج، وكذلك فيليبس، انتقدا بعض جوانب النتائج التي توصل إليها فيني وسيمبسون؛ فيشير الأول إلى أننا ينبغي ألا نسقِط من حساباتنا تمامًا مفهوم الانعزال الذاتي لدى جاليات برادفورد الجنوب آسيوية ذات الأصول الباكستانية، التي تدفعها الرغبة في الإبقاء على الصلات، وانتهاز فرص ارتياد المساجد، والتسوق، وروابط القربى، وهكذا، وهي عملية يُتَوَقَّع إلى حد ما أن تستمر. ويشير كذلك إلى أن عملية «ارتحال البيض» حقيقية، وإن اختلطت بتطلعات الطبقة الوسطى فضلًا عن الرغبة في الابتعاد عن «المهاجرين». وتوضح ديبورا فيليبس أن ثمة ارتحالًا آسيويًّا من الطبقة الوسطى، ينطوي على انتقال أعداد كبيرة إلى الضواحي، وأيضًا كثيرًا ما ينتقل السيخ والهندوس والمسلمون إلى مناطق مختلفة، مُكَوِّنين مناطق محصورة قائمة بذاتها في الضواحي، على الرغم من عدم وجود أدلة على ارتباط التعددية الثقافية بهذه العمليات التمييزية بأي شكل من الأشكال.

إذن فالفصل بين الجنوب آسيويين والبيض مسألة مستمرة سواء وجدت أحياء الأقليات بالمعنى الحرفي أم لا، ولا يتوافر لنا سوى القليل من المعلومات عن نوعية العلاقات بين المجتمعين، حتى حينما يعيش أحدهما على مقربة من الآخر، لا نعلم درجة التفاعل وحسن الجوار و«العِشرة» — وهو مصطلح اكتسب بعض الرواج مؤخرًا — القائمة بينهما، وإلى أي درجة يكون التعايش على مضض هو القاعدة، ومُعدًّا للتحول إلى مواجهة في ظل أي استفزاز حقيقي أو تصوُّري.

أما ما يدعو إلى التفاؤل أكثر، فهو إشارة كارلينج إلى العديد من المبادرات السارية حاليًّا في برادفورد التي تعمل على تقريب المجتمعات المختلفة معًا على نحو بنَّاء، وسوف أتعرَّض لبعضها بالمناقشة في الفصل القادم.

تتألف السياسات المفضلة من طرف سيمبسون وفيني من تناول قضايا الإسكان وفرص العمل لدى جميع المجتمعات، على فرض أن القضاء على الحرمان المادِّي يحتل أعلى مرتبة من الأهمية.

في هذه الحالة تحديدًا، يمكن اتهام سيمبسون وفيني بالسذاجة المثيرة للدهشة؛ فالعلاقة بين الحرمان المادي والعنصرية هي علاقة مركَّبة، وليس ثمة ارتباط مباشر بينهما، ويشير كارلينج كذلك إلى أن العديد ممن صوتوا للحزب الوطني البريطاني الصريح العنصرية في برادفورد جاءوا من مناطق ميسورة الحال.

وفي حين تحظى العديد من حجج سيمبسون وفيني بقوة لا يستهان بها، يبدو أنهما استخفَّا بقدر الحاجة إلى تعامل السياسات مع العلاقات العرقية باعتبارها علاقات عرقية لا مجرد مسائل تتعلق بعدم المساواة والحرمان المادي، فمن السهولة بمكان أن يُغَضَّ الطرف عن تلك الاعتبارات بوصفها «مجرد اعتبارات ثقافية»، لكنها لن تختفي بمجرد تحسين فرص المعيشة لدى المجتمعات كافة، وإن كان ذلك أمرًا مستحسنًا للغاية.

لكن بصرف النظر عن الاعتراضات التي قد تثار، تشير تقارير عام ۲۰۰۱ وما سبقها وما تلاها من أدلة إلى أننا نواجه الآن في بريطانيا موقفًا يتوافر لدى السكان البيض فيه تحديدًا استيعاب ضئيل في المتوسط لمعتقدات الأقليات العرقية وأسلوب حياتها، وهم سهلو التأثر بالخرافات التي تروِّجها وسائل الإعلام الشعبية واليمين المتشدد، وما زالوا فعليًّا أكثر تحرجًا من الاختلاط بالأقليات العرقية والانخراط معها. ومن المرجَّح أن تُتداول خرافات بشأن السكان البيض في أوساط الأقليات العرقية، إلا أن الحياة في مجتمع بريطاني، وتَلَقِّي تعليمٍ بريطانيٍّ، والانخراط في الثقافة الشعبية البريطانية، وتطوير هويات مختلطة ومركَّبَة وتوفيقية وتعددية، وبعضها متصل ببعض، يستتبع — كما سنرى — ضآلة احتمال الرفض الساذج والجاهل لكل ما هو «بريطاني أبيض». وإنَّ الهويات البريطانية البيضاء في طور التحوُّل بدورها، لا سيما لدى الشباب، وهو ما يعني بلا شك أن أي مبادرات جديدة في مجال «التعددية الثقافية» بأشمل معانيها سيتعين عليها أن تأخذ في حسبانها أشكال التنوع الثقافي القائمة التي تختلف كثيرًا عن فترة تسعينيات القرن العشرين.

وكما سنرى في الفصل القادم، فإن انعزال الطبقات الاجتماعية، وتكوين الأحياء المنغلقة على نفسها، وتعطيل الحراك الاجتماعي، كلها عوامل مهمة تؤثر في ترابط المجتمعات المحلية.

إلا أنه قبل التصدي للمسائل العسيرة المحيطة بمستقبل التعددية الثقافية، فإننا في حاجة إلى توجيه انتباهنا إلى ما كان يجري للتعددية الثقافية في القارة الأوروبية.

(٤) التعددية الثقافية من منظور مقارَن: الدروس المستفادة من فرنسا وهولندا

بحلول أواخر تسعينيات القرن العشرين، كان البعض في فرنسا — من المثقفين في الأساس — قد بدءوا يطالبون بإعادة التفكير في النموذج الاستيعابي السائد في البلاد، الذي يتضمن «دمج» المهاجرين؛ ذلك النموذج الذي رفض فعليًّا أي اعتراف بالمطالب الثقافية، ومن ثم لم يتقبَّل وجود «أقليات عرقية». كان آلان تورين واحدًا ضمن مجموعة صغيرة، وإن كانت متنامية الحجم، قالت إن الفرنسيين في حاجة لاستعارة بعض عناصر التعددية الثقافية السائدة في بريطانيا وأمريكا الشمالية.

لكن اضطرابات عام ۲۰۰۱ في بريطانيا بدا وكأنها أظهرت ضلال تلك المطالب، على أقل تقدير؛ فقد اعتبرها الكثيرون في فرنسا دليلًا على الفشل الذريع للتعددية الثقافية «الأنجلو ساكسونية» وعلى التفوق البالغ لأسلوب الدمج السائد في فرنسا في احتواء المهاجرين غير الأوروبيين. ومثَّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وأحداث السابع من يوليو (۲۰۰٥) في بريطانيا مسامير إضافية في نعش مطالب التعددية الثقافية في فرنسا، حين بدأ البريطانيون أنفسهم يشعرون بالذعر لانعدام «الترابط الاجتماعي»، وطفقوا يتراجعون بحماس عن أوجه التزامهم السابق بالتعدد الثقافي.

إلا أن الطمأنينة الفرنسية سرعان ما أخَلَّت بها أحداث خريف ۲۰۰٥، حين شهدت ضواحي باريس وما يربو على ۲٥۰ بلدة أخرى أعمال شغب خطيرة، كان أغلب القائمين بها شبابًا ينتسبون إلى أصول مهاجرة، ولم تكن تلك هي المرة الأولى، ففي الفترة ما بين عامَيْ ۱۹٨۱ و۲۰۰۳، شهدت البلدات الفرنسية اضطرابات مشابهة أصغر أو أكبر، أكثر من اثنتي عشرة مرة. وكان الاستياء من مضايقات الشرطة أو المواجهات معها عادة هو المحرِّك لها، وأسفرت عن ليالٍ من إحراق السيارات والهجوم على مبانٍ رسمية، تضمنت في ۲۰۰٥ مدارس وصالات رياضية ومباني البلدية، مما كان مؤشرًا للعداء المُستَشعَر تجاه المؤسسات الفرنسية الرسمية. وكانت تلك أسوأ الاضطرابات التي شهدتها فرنسا منذ الأحداث الشهيرة لمايو ۱۹٦٨.

فإذا بمن كانوا يلومون التعددية الثقافية بغطرسة على الاضطرابات التي وقعت في المدن البريطانية يجدون أنفسهم أمام معضلة حقيقية؛ ففرنسا — كما رأينا — لم يكن لديها رسميًّا «أقليات عرقية»، ولم يسبق لها أن تبنَّت رسميًّا سياسات التعددية الثقافية قط، وتكاد الحوارات العامة لا تتحدث صراحةً أبدًا عن العرق أو العلاقات العرقية أو مسألة العنصرية، وأشار الخطاب العام الفرنسي بكل بساطة إلى «مشكلات في المناطق الحَضَرية»، إلا أن المتورطين الأساسيين في الاضطرابات كانوا بوضوح شبابًا فرنسي المولد، ينحدر من أصول شمال أفريقية أو أفريقية من جنوب الصحراء الكبرى، مُضطَهَدًا بشدة، تمامًا مثلما تضمنت اضطرابات بريطانيا إلى حد بعيد شباب الأقليات العرقية (إثر استفزاز من الشباب الأبيض اليميني المتشدد وقتال معهم).

وفي حين أن الدولة الفرنسية كانت دائمًا ما تتجنَّب جمع الإحصاءات على أساس الانتماء العرقي، وأنه لم يكن ثمة رصد رسمي للتمييز ضد المهاجرين المنتسبين إلى أصول غير أوروبية وذرياتهم، فقد دأب علماء الاجتماع وغيرهم — لا سيما عندما نبَّهتهم سلسلة من الاضطرابات على مدار تسعينيات القرن العشرين — على إجراء أبحاث منتظمة بشأن تلك المسائل تحديدًا. وفي أعقاب خريف ۲۰۰٥، والاضطرابات الأخرى لعامَيْ ۲۰۰۷ و۲۰۰۹، صار الكثير من المعلومات ذات الصلة متاحًا للعامة الآن.

وقد أسقط نيكولا ساركوزي، حين كان وزيرًا للداخلية في ۲۰۰٥، شباب المجمعات السكنية في الضواحي من حسابه باعتبارهم حثالة، ونظر إلى الاضطرابات على أنَّها مجرد سلوك إجرامي. وفي تناقض صارخ، ألقى جهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسي بمسئولية الاضطرابات على عاتق التفاوت الاجتماعي والإقصاء.

ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، أحدث الابتعاد عن التصنيع الذي لحق بجميع المدن الأوروبية الغربية — بما في ذلك «مدن المصانع» البريطانية — ضررًا بالغًا بمراكز الصناعة الفرنسية أيضًا، تحمَّل المهاجرون وأبناؤهم بمقتضاه العبء الثقيل للبطالة وتدهور ظروف السكن والمرافق الحَضَرية في الضواحي الخارجية. وكانت معدلات البطالة وسط الشباب ذوي الأصول الشمال أفريقية آخذة في الارتفاع بصورة مقلقة، وكما أشار أليك هارجريفز، كانت دراسة رائدة في أوائل تسعينيات القرن العشرين (الحراك الجغرافي والاندماج الاجتماعي) قد كشفت بالفعل أن معدل البطالة لدى الجيل الثاني من الجزائريين البالغين من العمر ما بين ۲۰ و۲۹ عامًا بلغت نسبة مذهلة، هي ٤٢٪ للرجال و٤٠٪ للنساء. وعلى مدار تسعينيات القرن العشرين، ارتفعت البطالة أكثر فيما سُمِّيَ «المناطق الحَضَرِيَّة الحساسة»، التي تُمَثَّل الأقليات العرقية فيها تمثيلًا مفرطًا. وفي عام ۲۰۰٤، أرسل باحثون من جامعة باريس، في دراسة لاختبار التمييز في مجال التوظيف، سِيَرًا ذاتية من مقدِّمي طلبات عمل وهميين إلى أكثر من ۲۰۰ صاحب عمل فرنسي، فلقيت السير الذاتية ذات الأسماء الفرنسية الكلاسيكية أكثر من خمسة أمثال الردود الإيجابية التي لقيتها نظيراتها ذات الأسماء الشمال أفريقية، على الرغم من أن كلتيهما أدرج مؤهلات متطابقة. فحسب قول هارجريفز:

لِما يربو كثيرًا عن عقد من الزمان، بلغت بطالة الشباب من الأقليات الظاهرة ارتفاعًا أفقد العديد من الشباب — الذين تنحدر أصولهم من المغرب العربي [شمال أفريقيا] وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والجزر الكاريبية — الأمل في العثور على وظائف ثابتة يومًا.

وقد خرج سخطهم، مصحوبًا بغضبهم من التمييز، عن نطاق السيطرة مرات عدة، لكن أكثرها لفتًا للنظر كان في خريف عام ۲۰۰٥.

لم يكن الشباب من الأصول المهاجرة غير الأوروبية يشككون في نموذج الاندماج الفرنسي أو نموذج المواطنة الجمهوري الاستيعابي، فجميع المقابلات التي أجراها معهم علماء الاجتماع والتي ذكرها دوبريه وهارجريفز وموشيلي وغيرهم أكَّدت أن ما طالبوا به كان الوفاء بوعود المساواة في المعاملة التي تضمنتها الفكرة الفرنسية عن المواطنة، والتي حُرِموا منها بسبب التمييز السافر في سوق العمل والتحرُّش الاستفزازي من جانب الشرطة. فالشباب المتورطون في الأحداث لم يكونوا مناصرين شرسين للتعددية الثقافية، ولا جهاديين إسلاميين أغضبهم عدم الاعتراف بهويتهم الثقافية، فالواقع أن الأبحاث التي أُجريَت على أولئك الشباب الفرنسي ما فتئت تؤكِّد أنهم يعرِّفون أنفسهم بوصفهم فرنسيين، أولًا وأخيرًا، ولا يكنُّون الكثير من الولاء للبلدان التي هاجر منها آباؤهم وأجدادهم (لا يتحدث العربية فعلًا سوى نسبة قليلة من ذوي الأصول الشمال أفريقية، وإنْ كان الخطاب العام واليومي يشير إليهم بوصف «العَرَب» ويرفض الإقرار بفرنسيتهم)، وقطعًا لم يكونوا مجرمين فاقدي عقل عاكفين على التدمير بلا هدف، فالعديد منهم كانوا هم الخريجين الذين يعانون ضِعف مستوى البطالة التي يعانيها حاملو الأسماء الفرنسية الصميمة، وفق دراسة أجرتها جامعة باريس.

ومن ثم كان نعت ساركوزي إياهم «بالحثالة» وتهديده «بتطهير الضواحي باستخدام مضخات الغسيل بالضغط» بالغَي الإهانة والاستفزاز، وقد جانب الاستجابة السياسية للدولة الفرنسية الصواب بذات القدر؛ إذ تضمَّنت تغليظ ممارسات الشرطة التي كانت قمعية بالفعل — متخليَّة بذلك عن تجارب رائدة في الماضي تضمنت المساهمة المجتمعية في أعمال الشرطة — وطرح قواعد أكثر صرامة للهجرة، بدأ عملها بالفعل إبان الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، استجابةً إلى حد ما لمكاسب الجبهة القومية شديدة المعاداة للمهاجرين.

وفي خطوة ترددت أصداؤها في باقي أنحاء أوروبا، طرح الرئيس ساركوزي قوانين «دمج» جديدة، تتضمن «عقد الترحيب والاندماج» للمهاجرين الذي تَطَلَّب أن يحافظوا على «قوانين فرنسا وقيمها»، وأن يحضروا دَوَرَات لغوية ومدنية. واستنادًا إلى مستوى الاندماج الثقافي المتحقق بالفعل لدى أولئك المقيمين في الضواحي، تبدو تلك اللوائح الجديدة، كمثيلاتها في المملكة المتحدة، غير لائقة إلى حد بعيد.

إلا أن الفرنسيين شرعوا بدورهم في اتخاذ خطوات وَجِلَة في اتجاه المزيد من التعددية الثقافية، بالرغم من بقاء ذاك المصطلح مُحَرَّمًا في الخطاب العام الفرنسي. واكتسبت مطالبات علماء الاجتماع وغيرهم من الباحثين في تسعينيات القرن العشرين بإجراء إحصاءات رسمية عن الأقليات العرقية وتوفير صور من الرصد العرقي لتعقُّب التمييز ضد «الأقليات الظاهرة» زخمًا إضافيًّا بصدور تقرير «المجلس الأعلى للدمج» عام ۱۹۹٨، الذي أوصى فعليًّا بإنشاء وكالة مُمَوَّلة من الدولة على غرار اللجنة البريطانية للمساواة العرقية يكون في مقدورها تَقَصِّي حالات التمييز العنصري. وقد أدَّى الأمر الرسمي الصادر عن الاتحاد الأوروبي عام ۲۰۰۰ مطالبًا جميع الدول الأعضاء بإنشاء أجهزة مستقلة مناهضة للتمييز إلى تأسيس «الهيئة العليا للمساواة ومكافحة التمييز»، وإن حظيت بسلطات وموارد أقل بكثير من لجنة المساواة العرقية (المنحلَّة حاليًّا).

إلا أن حكم هارجريفز على المبادرات الفرنسية الأخيرة هو حكم إدانة؛ فعن سائر الخطابات العامة الجديدة بشأن «التنوع» و«تكافؤ الفرص» التي حلت الآن محل الحديث المطعون في مصداقيته عن «الاندماج»، يقول إنَّه:

في كل خطوة اتُّخِذَت ضمن التغييرات المتزايدة تدريجيًّا منذ عام ۱۹۹۷، كانت المبادرات المناهضة للتمييز التي اتخذتها كلٌّ من حكومات اليسار واليمين الوسطي غير مكتملة المعالِم، وفي وجهة نظر البعض فاترة.

وإنَّ نشر إدارة الإحصاءات الوطنية رسميًّا في نوفمبر عام ۲۰۱۰ لأرقام تبيِّن معدلات بطالة أعلى لدى الفرنسيين لآباء من المغرب العربي، وإقرارها بأنَّ التمييز قد اضطلع فيما يبدو بدور كبير في الحرمان الذي يعانيه ذوو الأصول المهاجرة، لَتطورٌ محتمل الأهمية لم يتَّضِح بعد أثره على السياسات المستقبلية.

بَيْد أن اضطرار الفرنسيين إلى الابتعاد عن مفاهيم الاندماج المبسَّطة والاتجاه إلى الاعتراف بالتنوع وتكافؤ الفرص باعتبارهما هدفين عامَّين مهمين لأمرٌ ذو دلالة كبيرة. وقد أُلغِيَت وزارة الهجرة والهوية الوطنية في نوفمبر عام ۲۰۱۰ بعد فترة قصيرة من إنشائها. وربما يكون ذلك «تعددية ثقافية مخففة» لكنه تحولٌ أكيد عن المعارضة المتشددة في السابق للنماذج الاجتماعية «الأنجلو ساكسونية» فيما يتعلق بالأقليات العرقية ومكانتها في المؤسسات الاجتماعية الفرنسية.

ولا تشير اضطرابات «مدن المصانع» عام ۲۰۰۱، ولا الخطوات الفرنسية التي كانت مترددة لكن أكيدة تجاه الاعتراف «بالتنوع الثقافي» و«تكافؤ الفرص»، ولا حتي الرصد العرقي، إلى أن التعددية الثقافية هي المسئولة عن التفكك الاجتماعي. وثمة مبالغة مفرطة في تقدير مدى التفكك الاجتماعي المتحقق في كلا البلدين. والحقيقة أن بعض أوجه التعددية الثقافية قد توفِّر استجابة أكثر ملاءمة من مجرد الدعوة إلى المزيد من «الاندماج».

إلا أن التراجع الهولندي عن التعددية الثقافية يشير إلى أنه قد يظل على التعددية الثقافية الرد على اتهامها بأنها نذير بالتفكك الاجتماعي.

كما رأينا في الفصل الأول، ظهرت التعددية الثقافية الهولندية — وإن كانت لا يُشار إليها أبدًا بهذا المسمى — في ثمانينيات القرن العشرين في صورة «سياسة الأقليات»، عقب ما يقارب عقدين من الزمان، أَفْرَز فيهما الجمع بين نموذج التقسيم العمودي الهولندي وتوقُّع أن المهاجرين غير الأوروبيين على وجه التخصيص كانوا مجرد «عمَّال زائرين» مصيرهم العودة إلى «ديارهم» بعد فترة قصيرة نسبيًّا، نظامًا يكاد يكون استحثَّ عُزلَةً ثقافيةً حظي فيها المهاجرون بصحف وإذاعات مسموعة ومرئية بلغاتهم الخاصة، وبتدريس اللغات الأم في المدارس.

ومع أن الانتقال من سياسات العمالة الزائرة إلى سياسات التعددية الثقافية سهَّل من التحوُّل من الأولويات الاستيعابية نظرًا لوجود بنية تحتية متعددة الثقافات بالفعل، فإنه يمكن القول أيضًا إن خصوصية الحالة الهولندية عرقلت بدورها التعددية الثقافية؛ أي إنه بقدر ما تتضمن التعددية الثقافية احتفاءً بالتنوع، وتغيُّرًا بالزيادة أو النقصان في التصور الذاتي لأمة عبر التاريخ، متأثرًا بتوجُّه عام نحو الاندماج والالتزام بتكافؤ الفرص عبر مناهضة التمييز، فالنهج الهولندي الذي شَجَّع الأقليات المهاجرة بقوة على الارتباط بوطنها — وهو ما لم يكن ليحدث في نموذج استيعابي أو نموذج تقليدي للتعددية الثقافية — كرّس بداخل الأقلية والأغلبية إحساسًا قويًّا بأن الأقليات لا تنتمي ولا ينبغي لها أن تحاول أن تنتمي.

ومن المفروغ منه أن ذلك التشجيع الأكيد على عدم الاندماج استتبع أيضًا إنجاز القليل جدًّا من الأعمال التحضيرية في مجال تطوير ثقافات وسياسات مناهِضة للتمييز لدى أصحاب العمل العام والخاص، وفي مجالات الخدمات الاجتماعية والتعليم والمرافق الترفيهية.

ولم يُطرَح تشريع مناهض للتمييز على طريقة المملكة المتحدة سوى عام ۱۹۹٤، بصدور قانون المساواة في المعاملة. كان المجلس العلمي لسياسات الحكومة قد أصدر تقريرًا مهمًّا عام ۱۹٨۹ محذِّرًا من مستويات البطالة بالغة الارتفاع ومستويات التحصيل التعليمي المنخفضة لدى الأقليات المنتسبة إلى أصول مهاجرة غير أوروبية؛ فالأقليات ذات الأصول التركية والمغربية عانت معدل بطالة بلغ ٣٠٪ مقارنةً بمعدل ٦٪ لدى العمالة الهولندية الأصل. وكما في باقي أنحاء أوروبا الغربية، كانت الوظائف التي تتطلب مهارة منخفضة التي وُظِّف العمال المهاجرون فيها آخذةً في الاختفاء بسرعة.

تحوَّلت «سياسة الأقليات» الرسمية — وهي الصيغة الهولندية للتعددية الثقافية — إلى «سياسة اندماج» مُعلَنة؛ فبحلول عام ۱۹۹۷، أصبحت دورات اللغة الهولندية والاندماج المدني إجبارية للوافدين الجدد، وهي مبادرة استعارتها دول أوروبية أخرى على نطاق واسع. وتلك الخطوة جاءت مدفوعة بنقاش جديد حول صدام محتمل بين القيم الهولندية الليبرالية وما اعتُقِدَ أنها قيم إسلامية غير ليبرالية قمعية. والغريب أن تلك الحوارات لم تُثَر إزاء أحداث وقعت في هولندا، وإنما نتيجة لقضية رشدي في بريطانيا والجدل الدائر بشأن الحجاب في فرنسا. وبدا أن الأبحاث التي أجراها بول سنيدرمان ولوك هاخندورن عام ۱۹۹۷ — وإن لم تُنشَر إلا عام ۲۰۰۷ — تؤكِّد تفشِّي القلق حيال القيم الإسلامية لدى الهولنديين، وإن كانت الدراسة معيبة إلى أقصى حد؛ فأسلوب تصميم الاستبيانات شجَّع المجيبين عليها على التفكير من منطلق استقطابي، بوضع قيم «المسلمين» والقيم «الإسلامية» في مواجهة القيم «الأوروبية الغربية» بأسلوب نمطي جاف، إلا أن حوارات تسعينيات القرن العشرين سرعان ما هدأت حدَّتها نظرًا لغياب صدى هولندي محدد حينئذٍ، وإن كان يمكن القول إن بذور الهجوم الشامل على فشل التعددية الثقافية الهولندية كانت قد زُرِعَت. وفي تسعينيات القرن العشرين، بالرغم من انتهاء نظام العمالة الزائرة، اعتُبِر استمرار الارتباط القوي لدى العديد من ذوي الأصول التركية والمغربية ببلدانهم الأصلية دليلًا على «نجاح» النموذج الهولندي الذي يشجِّع على المحافظة على التراث الثقافي.

بيد أن الأقليات ذات الأصول المهاجرة كانت آخذة في التغير بدورها؛ فقد كشفت أبحاث أجراها علماء اجتماع مثل هان إنتسينجر وغيره في روتردام، نُشِرَت عام ۲۰۰۰، أن الشباب ذوي الأصول المغربية والتركية كانوا بصدد تطوير صيغهم الخاصة للإسلام ذي الطابع الغربي؛ فقد أيَّدوا بقوة مبادئ مثل الحرية الفردية والمساواة بين الأفراد. وكما أشار إنتسينجر، فقد اكتشف هو وشركاؤه في الأبحاث أنهم «بارتفاع مستواهم التعليمي، تصبح أفكارهم أكثر ليبرالية وتكاد تختفي اختلافاتهم عن الشباب الهولندي الذي يحظى بالمؤهلات التعليمية ذاتها».

إلا أن رواية مغايرة كان قد بدأ تداولها وسط قطاعات من النخبة السياسية والثقافية الهولندية، تعلَّقَت بنشأة طبقة دنيا هولندية أصلها من الأقليات المهاجرة، نافرة من المجتمع والثقافة الهولنديين وغير مستعدة للاندماج، وبثت تلك الرواية الحياة من جديد إلى التخوف السابق من نشأة صراع «حضاري» بين الهولنديين والأقليات غير الأوروبية المسلمة الأصل المقيمة لديهم، وأسفرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عن قفزة هائلة في المشاعر المعادية للهجرة، غذَّتها وسائل الإعلام الهولندية، واستغلها بيم فورتوين ببراعة، وهو من لقي حزبه المعادي للمهاجرين نجاحًا كبيرًا في الانتخابات البرلمانية لعام ۲۰۰۲ ودخل في حكومة ائتلافية.

وبدأت تتضح معالم خطاب جديد معادٍ للمهاجرين وتزداد نفوذه، ومع أن اغتيال ناشط في مجال حقوق الحيوان لفورتوين أدى في نهاية المطاف إلى تَرَدِّي أوضاع حزبه، فإن مخاوفه من انتشار ثقافة معادية للديمقراطية، ولا سيما كارهة للمثلية الجنسية وتضع المرأة في مرتبة أدنى، قد ضربت جذورها في السياسات الهولندية الجديدة إزاء المهاجرين وسلالتهم. وبدا أن اغتيال شاب مغربي الأصل يبلغ من العمر ۲٦ عامًا للمخرج ثيو فان جوخ إثر عرض فيلم «الخضوع» — الذي ساهم في صناعته مع أيان حرسي علي عضو البرلمان الهولندي الصومالية الأصل، والذي ظهرت فيه آيات قرآنية معروضة على جسد امرأة عارية محجبة بقصد إبراز الرأي القائل إن القرآن يشجِّع العنف ضد المرأة — ما كان منه إلا أن أكد المخاوف إزاء المسلمين والإسلام باعتبارهما خطرًا على الثقافة الهولندية الليبرالية.

وقد أصبح اكتساب الجنسية الهولندية — كما أشرتُ في الفصل الأول — أمرًا متزايد التكلفة والصعوبة؛ فدَوَرَات «الاندماج» الآن لا بد من تحمُّل نفقاتها، ولا بد من دخول امتحان في غضون خمس سنوات من الاستقرار في هولندا، وتُفرَض غرامات في حال عدم اجتيازه. وقُدِّمَت مقترحات إلى «الوافدين القدامى» المستقرين فعلًا بأخذ دورات ودخول امتحانات، مع فرض المخالفات جزاءً عن الإخفاق فيها. وكما في غيرها من البلدان الأوروبية، التي حذت حذو الهولنديين، أصبح على المهاجرين الآن أن يُظهِروا التزامهم «بالقيم والمعايير الهولندية».

فما الدروس المستفادة من التعددية الثقافية كما تأسست في هولندا إذن؟ بدت الإجابة ظاهرة للعيان في هولندا وبريطانيا وباقي أنحاء أوروبا الغربية: لم تَبُؤ التعددية الثقافية الهولندية بالفشل فحسب، وإنما اتضح أن التعددية الثقافية بصفة عامة تنطوي على عيوب جليَّة. والحقيقة أن التراجع الهولندي عن التعددية الثقافية يُعتَبَر ذا أهمية خاصة، علمًا بأن هولندا اعتُبِرَت ربما الأكثر حماسًا في مفهومها عن سياسات التعددية الثقافية وتنفيذها لها.

لكن في حين أن ذلك التأويل له مزاياه، إلا أنه من المهم تكوين رأي أكثر دقة، ولنبدأ بحكم إنتسينجر الساخر على الحالة الهولندية: فحسب قوله، لدينا «المفارقة المتعلقة بأنَّ المهاجرين الذين شُجِّعوا في البداية على الاحتفاظ بهوياتهم الخاصة يُلامون الآن على عدم كفاية ارتباطهم بالثقافة الهولندية». وإنَّ قصد إنتسينجر لذو أهمية؛ «فسياسات الأقليات» الأكثر تعدديةً ثقافية التي سادت فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين جاءت بعد فترة من التقسيم العمودي استمرت طويلًا كان يُتَعَمَّد فيها إبقاء الأقليات بمنأى عن الثقافة الهولندية، وتلقَّت دعمًا علنيًّا وتشجيعًا أكيدًا على عدم اعتبار هولندا «وطنها». وكان على المحاولات المتأخرة لتحقيق شكل من أشكال الاندماج يتسم بالتعددية الثقافية بحقٍّ — يشتمل بالتبعية على احتفاء وطني بالتنوع الثقافي — أن تسير عكس رؤية وطنية راسخة منذ زمن للأقليات المهاجرة باعتبارها لا تحظى بوجود طويل الأجل في المجتمع والثقافة الهولنديين.

وإضافةً إلى ذلك، استتبع التأخر في تبني السياسات المناهضة للتمييز التكريس القوي لتهميش المهاجرين غير الأوروبيين وذريتهم اجتماعيًّا واقتصاديًّا وصعوبة العدول عنه. فمن الحماقة أن نلوم التعددية الثقافية لنشأة «طبقة دنيا» منتسبة إلى أصول مهاجرة في حين أن الجزء المتعلق بتكافؤ الفرص، ناهيك عن مناهضة العنصرية، ضمن التسوية الخاصة بالتعددية الثقافية جاء متأخرًا للغاية.

وقد أصبحت قصة حياة محمد بِي — قاتل ثيو فان جوخ — بمنزلة سابقة في النقاشات الهولندية بشأن التعددية الثقافية؛ فهو يجسِّد، عند الكثيرين، إخفاق التعددية الثقافية الهولندية؛ فهو متسرِّب من المدرسة الثانوية وتحوَّل إلى اعتناق الإسلام الراديكالي، لكن اتضح أن قصة محمد بي أكثر تعقيدًا وغموضًا؛ فقد وُلِد في هولندا، وأبلى بلاءً حسنًا في المدرسة الثانوية، ودرس المحاسبة والعمل الاجتماعي، وكان مرشدًا اجتماعيًّا متطوعًا نشطًا في برنامج عمل خاص بالشباب في المنطقة التي عاش بها في أمستردام، وكما أشارت آنا كورتيفيج، بعد دراستها لحياة محمد ببعض التفصيل، تضمن عمل محمد حَثَّ غيره من الشباب المغربي الأصل على مواصلة تعليمهم على الرغم من أنه هو نفسه لم يكمل دراساته التالية على المرحلة الثانوية.

وقد رَدَّ عالم الاجتماع الهولندي إيفالد إنجيلين على الفكرة القائلة إن محمد بي يمثِّل نموذجًا صارخًا لإخفاق التعددية الثقافية؛ فمحمد بي كان عاملًا متطوعًا، من الناحية الفعلية كان عاطلًا عن العمل ويتلَقَّى إعانة الضمان الاجتماعي. فبالنسبة إلى إنجيلين، يشكِّل مصير محمد بي مثالًا نموذجيًّا لتعددية ثقافية معيبة و«ناقصة»؛ فهي استراتيجية منحت الجماعات حقوقها الثقافية «لكن في ظل غياب سياسة فعالة لمناهضة التمييز في مجال دخول سوق العمل». وقد كانت النتيجة التي خلص إليها هي أنَّ:
قضية محمد بي ليست بمنزلة برهان واضح على أن التعددية الثقافية الهولندية قد تمادت كثيرًا … بل على أن التعددية الثقافية في هولندا لم تكن كافية. ومن الممكن أيضًا أن يكون الدرس المستفاد هو أن الجمع بين الاستيعاب المفروض بالقوة، على غرار الطريق الذي سلكه الهولنديون منذ صعود بيم فورتوين وسقوطه عام ۲۰۰۲، والإهمال الخبيث في المجال الاجتماعي والاقتصادي، هو وصفة أكيدة للإسلام الراديكالي. (التوكيد في النص الأصلي.)

والواقع أن الدرس المستفاد من فرنسا وهولندا على حد سواء هو أنه لا يمكن صمود أي سرد مبسَّط عن إخفاق «التعددية الثقافية» الشامل؛ فالفرنسيون طفقوا يسيرون ببطء، لكن ببعض الثبات تجاه إحدى صِيَغها، لا سيما على الصعيد المحلي. ويذهب العديد من دارسي الحالة الهولندية إلى أنه كان ثمة رد فعل شعبي مبالغ فيه صوب أشكال متشددة من الاستيعاب، في حين أن الاستراتيجية الأنجح قد تكون إعادة ضبط النموذج الهولندي الشاذ للتقسيم العمودي الذي أُقحِمَت فيه التعددية الثقافية للأمة إقحامًا.

لكن ثمة استنتاجات أخرى أكثر عمومية يمكن استخلاصها؛ فمن ناحية يمكن القول إن الخطاب المتعجِّل الداعي إلى التراجع عن التعددية الثقافية في المملكة المتحدة وغيرها من أصقاع أوروبا الغربية يعاني العيب ذاته الذي مَيَّزَه إنجيلين في هولندا. فعلى أي حال، ذهبت التقارير الصادرة بشأن الاضطرابات الإنجليزية عام ۲۰۰۱ إلى عدم توافر قدر كافٍ من التعددية الثقافية. ويوضِّح السرد التفصيلي المتعلق بالمدن الأخرى — على سبيل المثال برمنجهام، التي أجرى سولوموس وباك بحوثًا عنها — كيف أنه في تسعينيات القرن العشرين كان ثمة تراجع عن سياسات تكافؤ الفرص في الواقع، ومن ثم عجْزٌ عن معالجة الحرمان العرقي في المناطق الحَضَرية.

(٥) إعادة النظر في أعمال الشغب: التفسيرات الرسمية لأحداث ۲۰۰۱ (المملكة المتحدة) و۲۰۰٥ (فرنسا) ورد الفعل العنيف ضد التعددية الثقافية

يتضح من جميع الروايات المتعلقة باضطرابات «مدن المصانع» عام ۲۰۰۱ في إنجلترا وأحداث عام ۲۰۰٥ في الضواحي الفرنسية أن شباب الأقليات العرقية المتورطين فيها لم يكونوا يطالبون بالحقوق الثقافية لجماعاتهم أو الحفاظ على «التقاليد» السائدة في أوطان آبائهم، وإنما طالبوا في الواقع باحتوائهم الكامل ضمن الدولتين القوميتين البريطانية والفرنسية باعتبارهم مواطنين يتمتعون بفرص متكافئة وبحقوق المشاركة والمساهمة في الأمة.

وفي حالة أحداث «مدن المصانع»، شكَّلت اقتحامات الحزب الوطني البريطاني اليميني المتشدد تهديدًا حقيقيًّا على أمن الجاليات الجنوب آسيوية وسلامتها. وتكشف الدراسة التفصيلية التي أجراها بول باجولي وياسمين حسين بصدد اضطرابات برادفورد كشفًا حيًّا مبلغ الشعور الحقيقي والمشروع لدى الشباب الباكستاني الأصل بالتهديد من مسيرات الحزب الوطني البريطاني وإضراره بممتلكاته وشخصه.

لكن كما أشار باجولي وحسين أيضًا، فقد صدرت تقارير ۲۰۰۱ بصياغة متضاربة؛ لذا يمكن قراءتها بحيث يُلقَى لوم وقوع الاضطرابات كاملًا على عاتق خصائص معينة لدى الأقليات العرقية ذاتها؛ أي إن عناصر التقارير «وجدت خللًا» بالجاليات الجنوب آسيوية، وسمحت للحكومة بأن تقول إن التغييرات الرئيسية لا بد من إحداثها داخل تلك الجاليات، وفي سياسات التعددية الثقافية التي يُفترض أنها سمحت لتلك الجاليات لوقت أطول من اللازم أن تعزل نفسها وتنشئ عادات اجتماعية مختلَّة دون إشراف لائق ولا ضغط من السلطات المحلية والمركزية.

وعلى وجه التحديد، نزعت تلك التقارير إلى سرد قائمة بمجموعة من العوامل المسببة بكل بساطة دون القدرة على تحديد الثقل الذي شَكَّله — على سبيل المثال — الابتعاد عن التصنيع والبطالة والتمييز العنصري في مجالَي الإسكان والتوظيف، مقابل رغبة تلك الجاليات في العيش منغلقة على نفسها، في خلق الانعزال الذي لم يتوافر له قياس على أي حال. وكان معنى هذا أنه تسنَّى للحكومة في إطار استجابتها الرسمية للأحداث والتقارير، أن تنتقي المسببات المفترضة وراء «الشغب»، وأن تصوغ الخيارات السياسية على أساس أجندتها الخاصة المفضَّلة.

وهكذا صارت أحداث ۲۰۰۱ جزءًا من حملة داعية إلى التخلي عن التعددية الثقافية، بهدف بثِّ «الاندماج» و«الترابط المجتمعي» بدلًا منها، وتهميش دور قضايا الحرمان الاجتماعي الاقتصادي والعنصرية الصادرة عن اليمين المتشدد والسياسات المحلية في إفساد حياة الأقليات.

وفي فرنسا وهولندا وغيرهما، باتت أفكار الاندماج والقيم المشتركة الرامية إلى توحيد الأقليات والأغلبيات تشكِّل حجر الزاوية في سياسات المواطنة الجديدة، إلا أنه في فرنسا — كما أشرت في الفصل الأول — ألغى الرئيس ساركوزي حديثًا وزارة الهجرة والهوية الوطنية التي كانت محل نقد واسع النطاق، لكن يظل «الاندماج» موضوعًا مهيمنًا ضمن البدائل الجديدة للتعددية الثقافية، وقد حان الوقت الآن لتقييم مدى ملاءمة تلك البدائل للقضايا التي تواجهها الدول القومية الأوروبية المتعددة العرقيات في الوقت الحاضر.

هوامش

(1) Simon Barber/Guzelian.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤