مشكلة التمييز
يجب أن يبدأ أي نقاش حول العلم الزائف بما يُطلَق عليه اسم مشكلة التمييز. فمن دون حلٍّ مقترَح لمشكلة التمييز — سواء أكان صحيحًا أم خطأً، صريحًا أم ضمنيًّا — لن يكون لمصطلح «العلم الزائف» معنًى حقيقي. إذا كان هناك معيارٌ شاملٌ مقبول وقابل للتطبيق للتمييز (أو كما أطلق عليه حلًّا لمشكلة التمييز)، ستصبح مهمة هذا الكتاب بسيطة: ستُصنَّف المعتقدات التي تلبي المعيار على أنها «علوم»، وتلك التي لا تلبيه ستُصنَّف على أنها «علوم زائفة». للأسف، استعصت مشكلة التمييز على الحل حتى الآن. وثمة أسباب قوية للاعتقاد بأنها ستظل لغزًا مستعصيًا، ما يعني أن النقاشات المتعلقة بما يُصنَّف على أنه «علم زائف» لن تختفي.
في واقع الأمر، لطالما جابهتنا مشكلة التمييز منذ أن بدأت المجالات المعرفية عن العالم الطبيعي تدَّعي الموثوقية. من بين أقدم النصوص الطبية في التراث الغربي النص الأبُقراطي، الذي يعود للقرن الخامس قبل الميلاد بعنوان «حول المرض المقدس»، والذي يُعد في الأساس وثيقةَ تمييز تتحدث عن كيفية فَهم وعلاج ما نُطلق عليه حاليًّا مرض الصرع. في هذا النص، يهاجم المؤلف — الذي يُطلق عليه عادة اسم «أبقراط» رغم أنه من المرجح أن النص قد ألَّفه العديد من المؤلفين على مدى فترة زمنية طويلة — «نوعية الناس الذين نطلق عليهم الآن اسم المعالجين بالسحر، والمعالجين بالإيمان، وممارسي الدجل الطبي، والمشعوذين». ويطرح أبقراط نظريته الخاصة عن مسبِّبات الصرع، ويشرح سبب عدم أحقية أي معالج بالإيمان لقبَ طبيب. يتطلب ضمنيًّا انتزاع السلطة العلمية في كل مرة إقصاء الخصوم عنها.
الصيغة الأساسية لمشكلة التمييز هي: كيف يمكن التفرقة بين العلم والعلم الزائف؟ ولكن، في واقع الأمر، ثمة الكثير من مشكلات التمييز. السؤال الأساسي للأبستمولوجيا هو: كيف يمكن تنقية المعرفة الصحيحة من المزاعم الخاطئة؟ بالإضافة إلى ذلك، قد ترغب أيضًا في تمييز العلوم على كل هذه المجالات (تاريخ الفن، وعلم اللاهوت، والبستنة) «اللاعلمية»، أو تلك المجالات التي قد تشبه العلوم كثيرًا، ولكنها لسببٍ ما لا ترقى إلى مرتبة العلوم. تلك المجموعة الأخيرة، المدَّعون، هي التي تُصنَّف على أنها «علوم زائفة». يجب أن يكون أي معيار تمييز يستحق هذه التسمية قادرًا على تمييز العلوم عنها.
صاغ مصطلح «مشكلة التمييز» الفيلسوف كارل بوبر، ولا يزال معيار التمييز الذي ابتكره هو المعيار الأكثر شيوعًا بين العلماء، والفلاسفة، والطلبة الجامعيين الذين يملكون آراءً حول هذا الموضوع. سنبدأ إذن بهذا الفيلسوف، ومعيار «قابلية الدحض» الذي ابتكره قبل الإسهاب في التحدُّث عن سبب فشله.
كارل بوبر وقابلية الدحض
وُلد كارل بوبر في مطلع القرن العشرين في مدينة فيينا، التي كانت في ذلك الوقت عاصمة الإمبراطورية النمساوية المجرية المترامية الأطراف. وعندما حصل على الدكتوراه في علم النفس (الغريب أنها لم تكن في الفلسفة) في عام ١٩٢٨، كان لا يزال يعيش في المدينة نفسها، ولكن في دولة مختلفة تمامًا: جمهورية النمسا الأصغر كثيرًا من الإمبراطورية السالفة الذكر. كانت فيينا في تلك الحقبة موطنًا لحركة اشتراكية حيوية ومثيرة للجدل، ما أطلعه مبكرًا على الماركسية، ولكنه سرعان ما تحرر من وهمها. كما أنها كانت مسقط رأس نظرية التحليل النفسي، وتطوع بوبر في بدايات عشرينيات القرن العشرين في عيادات ألفريد ألدير، الذي انفصل عن مُعلمه السابق، مبتكر نظرية التحليل النفسي، سيجموند فرويد. لعب اهتمام بوبر المبكر بكلا الإطارَين النظريَّين، ثم رفضه التالي لهما، دورًا محوريًّا في تشكيل فلسفته العلمية بعد ذلك.
كانت فلسفة العلم تحمل أهميةً كبيرة في فيينا خلال وجود بوبر بها، وشهد العَقد، عندما كان طالبًا، ازدهار مجموعة من الفلاسفة أطلقوا على أنفسهم اسم «جماعة فيينا». عزَّزت هذه الجماعة من هيمنة فلسفة العلم السائدة خلال النصف الأول من القرن العشرين، والتي تُسمَّى «التجريبية المنطقية». لم تهيمن جماعة فيينا وأقرانهم، أصحاب الفكر المماثِل في برلين، على فلسفة العلم في أوروبا فحسب، لكن بعد صعود النازية، هاجر الكثيرُ من أعلامها (الذين كانوا يهودًا، أو اشتراكيين، أو كليهما) إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث أعادوا إنشاء مدرستهم الفكرية. وعلى الرغم من أن بوبر لم يكن عضوًا بجماعة فيينا، فإنه اضطر هو الآخر إلى الترحال في أنحاء العالم، لأسبابٍ مماثلة. فعلى الرغم من تعميده كمسيحي لوثري وسليل عائلة من الطبقة المتوسطة، فإن جميع أجداده كانوا يهودًا، الأمر الذي ألقى بظلاله على مستقبله عندما لاح في الأفق احتلال ألمانيا الهتلرية للنمسا في عام ١٩٣٨. فهاجر بوبر إلى نيوزيلندا قبل عام من وقوع هذا الاحتلال، وانتقل إلى لندن في عام ١٩٤٦.
يمكن فَهم التجريبية المنطقية جيدًا عبر تأمُّل المصطلحَين المكونَين لها. أتباع هذه الفلسفة «تجريبيون» لأنهم يؤمنون بأن البيانات الحسية هي مصدرنا الوحيد للمعلومات عن العالم الطبيعي الذي يمكن الاعتماد عليه. واستنادًا إلى قرونٍ من الفكر الفلسفي — ربما كان أشهره هو فكر ديفيد هيوم، الفيلسوف الاسكتلندي من القرن الثامن عشر، الذي كان يمثِّل أهمية خاصة بالنسبة إلى بوبر، وكذلك إيرنست ماخ، عالِم الفيزياء النمساوي الذي أكد جوهرية البيانات الحسية بالنسبة إلى العلوم الطبيعية — رفض التجريبيون المنطقيون أي مزاعم «ما ورائية» عن بِنية الطبيعة لا يكون مصدرها ملاحظات حسية. ولكن، بعيدًا عن هيوم وماخ، أكد التجريبيون المنطقيون أيضًا أهمية العلاقات «المنطقية» في التجميع المتجانس لشَتات الواقع التي تجلبها لنا حواسنا. بالضرورة يجب ألا تقوم هذه العلاقات المنطقية على البيانات التجريبية نفسها، ولكنها ضرورية لتأكيد الحقائق اللاماورائية عن الطبيعة. في البداية، كان بوبر معجبًا بالتجريبية المنطقية، ولكنه انحرف بعد ذلك عن التيار السائد للحركة، وأنشأ إطارًا خاصًّا به لفهم الفكر العلمي في كتابيه «منطق البحث العلمي» (١٩٣٤، الذي أعاد كتابته بالإنجليزية، وظهر في عام ١٩٥٩)، و«الحدوس الافتراضية والتفنيدات» (١٩٦٣).
زعم بوبر أنه صاغ أفكاره المبدئية عن التمييز في عام ١٩١٩، عندما كان في السابعة عشرة من عمره. فكان «يأمل في التفرقة بين العلم والعلم الزائف، مدركًا إدراكًا تامًّا أن العلم عادة ما يُخطئ، وأنه قد يتصادف تداخُل العلم الزائف مع الحقيقة». كل هذا جيد جدًّا، ولكن كيف السبيل إليه؟ قدَّمت نتائج البعثة البريطانية لدراسة كسوف الشمس في ٢٩ مايو ١٩١٩ الأفكار الأساسية في هذا الشأن. نظَّم عالِما الفلك آرثر إدينجتون وفرانك دايسون مجموعتَين لقياس انحراف ضوء النجوم حول الشمس بغرض اختبار أحد تنبؤات النسبية العامة، وهي النظرية الخاصة بالجاذبية التي كان ألبرت أينشتاين قد وضعها حديثًا. من بين الاختبارات الحاسمة التي وضعها أينشتاين للنظرية أن مسار الضوء ينحني بفعل مجالات الجاذبية القوية، مثل تلك التي تحيط بالأجرام السماوية الهائلة، مثل الشمس، وخلال كسوف الشمس، يمكن للمرء أن يقيس بدقة درجة انحناء الضوء الآتي من النجوم التي توجد خلف قرص الشمس. وفقًا لكلٍّ من إدينجتون ودايسون، كان الانحناء المقيس أقرب إلى القياسات التي توقعتها نظرية أينشتاين، من تلك التي توقعتها نظرية نيوتن للجاذبية. أحدثت الأخبار ضجة دولية فورية، وذاع صيت أينشتاين على مستوى العالم.
تأثَّر بوبر بتنبؤ أينشتاين لأسبابٍ خاصة. فقد كتب بعد عقود: «يكمن الأمر المذهل لهذه الحالة في المخاطرة التي ينطوي عليها تنبؤٌ على هذه الشاكلة.» فإن أثبتت القياسات خطأ أينشتاين، لأُجبر عالِم الفيزياء الكبير على ترك نظريته. بنى بوبر معيار التمييز الخاص به على أساس جرأة الرهان على إمكانية التفنيد: «يمكن أن يلخص المرء كلَّ ذلك بقول إن «معيار الحالة العلمية لنظرية ما هو قابليتها للدحض، أو التفنيد، أو الاختبار».»
يُعد معيار التمييز هذا أشهر مساهمات بوبر الفلسفية، رغم أنه كان، بشكلٍ ما، خروجًا على أفكاره الأساسية. عرض بوبر هذا المعيار للمرة الأولى خلال محاضرة تحت رعاية المجلس البريطاني في كلية بيترهاوس التابعة لجامعة كامبريدج في عام ١٩٥٣، ونشره في وقتٍ لاحق في كتابه «الحدوس الافتراضية والتفنيدات». لطالما غطَّى هذا الإعلان عن معيار التمييز بعد الحرب العالمية الثانية على أهمية أصوله النمساوية، على الرغم من تركيز بوبر خلال المحاضرة على أصوله التاريخية التي تعود إلى فيينا بعد الحرب العالمية الأولى.
صُممت جميع معايير التمييز بغرض «استبعاد» شيء ما؛ على الرغم من تصريح بوبر بأن هدفه هو تفسير إنجاز أينشتاين، فكان ما يريد فعله حقًّا هو إظهار السبب في أن نظريتَي التحليل النفسي والماركسية غير علميتَين. عدَّ الكثير هاتين النظريتين «علميَّتَين»، في محيطه في فيينا، بفضل نظرية تجريبية منطقية تُسمى «التحققية». طبقًا لهذا التصور، تكون النظرية علمية إذا ما أكدتها البيانات التجريبية. بالنسبة إلى بوبر، لا يكفي هذا على الإطلاق. أشار بوبر إلى وجود كمٍّ كبير من البيانات التي تؤكد ظاهريًّا نظرية التحليل النفسي: قد يزعم الفرويديون أن رجلًا يحمل صفاتٍ ما، وتربى بطريقة ما، سيصبح شاذًّا جنسيًّا، ولكنهم قد يزعمون أيضًا أن شخصًا يحمل الصفات نفسها، ولكنه ليس شاذًّا جنسيًّا يؤكد النظرية أيضًا. في واقع الأمر، قد تكون كل قصاصة من البيانات عن الشخصيات حجرًا آخر يُضاف إلى بناء فرويد الإثباتي، مثلما أثبتت جميع الأحداث السياسية أو الاقتصادية على ما يبدو النظريات الماركسية، مثل مركزية الصراع بين الطبقات في التاريخ، أو فائض قيمة العمالة. بالنسبة إلى بوبر، كان التجريبيون المنطقيون ينظرون إلى الأمور من منظورٍ خاطئ. لا تكمن المشكلة فيما إذا أُثبتت نظرية أم لا، فكل شيء يمكن تفسيره على أنه إثباتٌ إذا ما صيغت النظرية بطريقة مرنة بما يكفي. فالمهم هو إذا كان من الممكن «دحض» النظرية. هل هناك أي ملاحظة متصورة بحيث إذا ما اكتُشفت، لسلَّم الفرويديون والماركسيون بخطأ نظريتَيهم؟ إذا كانت الإجابة بلا، فالنظريتان غير علميَّتَين. (هذا هو السبب في أن عدم تلبية نظريتَي فرويد وماركس لمعيار بوبر لا يُعد دليلًا جوهريًّا يؤخذ عليهما؛ فقد «صُمم» خصوصًا بغرض استبعادهما.) إذا زعمت أنك تسير على نهجٍ علمي، ولكنك لم تتمكَّن، مثلما فعل أينشتاين، من افتراض الظروف التي يمكن دحض نظريتك بناءً عليها، فأنت عالِم زائف.
لا يمكن إنكار جاذبية فكرة الدحوضية. فهي تقدم خطًّا واضحًا يفصل بين النظريات العلمية، وتلك التي يمكن أن تندرج تحت العلم الزائف، كما أنها تكافئ الجرأة التي عادة ما نحب أن نراها متجسَّدة في العلم. ما مدى كفاءتها في تحقيق الغرض منها؟
دحض الدحوضية
الإجابة المختصرة هي: ليس كثيرًا. لاحظ فلاسفة العلم تلك الحقيقة على الفور تقريبًا، وهذا لسببَين. الأول، من الصعب تحديد إذا ما كنت قد دحضت نظرية فعليًّا. ويُعد هذا، إلى حدٍّ كبير، إعادة صياغة لأحد اعتراضات بوبر على نظرية التحققية. كيف يمكنك تحديد أن ملاحظة ما تتضمن فعليًّا إثباتًا لنظرية؟ حسنًا، ستفسرها وفقًا لإطارها، وفي بعض الأحيان تنتج هذه التفسيرات الانحرافات المؤسفة التي استنكرها بوبر. ولكن ينطبق الأمر نفسه على دحض نظرية ما. لنفترض أنك أجريت تجربة في مختبرك لاختبار النظرية «س»، التي تتنبأ بأنه في ظل ظروف معينة، يجب أن يسجل مقياس التحقق خاصتك القيمة ٣٢٫٨، ولكنك حصلت على النتيجة ٥٫٦٣. يبدو أنك قد دحضت النظرية «س». ماذا يجدر بك أن تفعل؟ هل تهرع إلى الدوريات العلمية وتعلن نهاية تلك النظرية؟
لا تتعجل. كيف تعرف أن نتيجتك التجريبية دقيقة؟ ربما كان السبب في عدم حصولك على الناتج ٣٢٫٨ هو أن مقياس التحقق خاصتك معطوب، أو ربما لم تجرِ التجربة في الظروف المناسبة بدقة تامة. الأمر باختصارٍ أنه من النادر أن تحصل على نتيجة مُرضية أو مرفوضة مثلما حدث في بعثة دراسة كسوف الشمس لعام ١٩١٩. (في واقع الأمر، لم تكن نتائج هذه البعثة قاطعة مثلما أظهرها إدينجتون. ومرَّت عدة سنوات قبل التوصُّل إلى نتائج لا تقبل النقاش تدعم نظرية النسبية العامة، توصلت إلى أغلبها مراصد في ولاية كاليفورنيا) إذا كان من شأن أي نتيجة دحض أن تنفي صحة النظرية التي توقعتها، فإن جميع النظريات العلمية الحديثة سيدحضها طلبة العلوم في المرحلة الإعدادية، الذين يفشلون في إعادة إجراء التجارب القياسية المُتفَق عليها تمامًا. وهذا محض هُراء بلا شك. وبينما قد يبدو الإصرار على دحض الملاحظات فكرةً جيدة، فإنه من الصعب تمامًا تحديد الوقت الدقيق لفعل ذلك، الأمر الذي يُبطِل الغرض من وجود خط معياري واضح.
تتعلق المشكلة الثانية بجوانب التمييز الفعلية التي يضعها معيار بوبر أمام أعيننا. إن الحد الأدنى لتوقعاتنا من معيار التمييز هو أن يرسم حدودًا واضحة بين العلوم الحقيقية والزائفة. فنحن نريد من معيارنا أن يصنِّف النظريات التي تُعتبر على نطاقٍ واسعٍ من ركائز العلم الحديث، مثل فيزياء الكم، والانتخاب الطبيعي، وحركة الصفائح التكتونية، على أنها نظريات علمية. وفي الوقت نفسه، نريد من معيارنا أن يستبعد المذاهب التي يرى الجميع تقريبًا أنها علوم زائفة مثل التنجيم والاستنباء بالعصا. معيار بوبر الخاص بقابلية الدحض ليس مفيدًا بشكل خاص في هذا السياق. فبالنسبة إلى المبتدئين، من الصعب التعريف بالعلوم الطبيعية «التاريخية»، مثل علم الأحياء التطوري، أو الجيولوجيا، أو علم الكون — تلك المجالات التي لا يمكننا فيها «إعادة تشغيل الشريط مجددًا» في المعمل — في ضوء المزاعم القابلة للدحض فقط. تقدِّم هذه العلوم تفسيرات مقنعة عن الطبيعة بناءً على إجمالي تسلسلٍ مترابِط من الاستنتاجات السببية، وليس اعتمادًا على تسلسل من التصويتات التجريبية بنعم أو لا. استبعد بوبر دون قصد مجالات مهمة من العلوم المعاصرة.
أما مسألة التضمين، فوضعها أكثر تعقيدًا. سلَّط فيلسوف العلم لاري لودان الضوء على هذه الصعوبة بشكلٍ دقيق في مقالٍ مهم، نُشر عام ١٩٨٣، فقال:
[معيار بوبر] يؤدي إلى النتيجة غير المرغوب فيها المتمثِّلة في اعتبار كل ادِّعاء غريب «علميًّا» ما دام يقدم مزاعم قابلة للدحض. وبذلك، يصبح دُعاة الأرض المسطحة، وأنصار الخلق التوراتي، ومؤيدو مركَّب الليتريل أو صناديق الأورجون، ومناصرو أوري جيلر، والمهتمون بمثلث برمودا، وأنصار تربيع الدائرة، وأتباع ليسينكو، ومعتنقو فكرة عربات الآلهة، ومصمِّمو الآلات الدائمة الحركة، والباحثون عن بيج فوت، ومُروِّجو أسطورة بحيرة لوخ نيس، والمعالجون بالإيمان، وأنصار فكرة الماء المبلمر، وأنصار حركة الصليب الوردي، والمتنبئون باقتراب نهاية العالم، ودُعاة الصراخ البدائي، ومكتشفو الماء بالعصا، والسحرة، والمنجمون، جميعهم أصحاب رؤًى علمية وفق معيار بوبر، ما داموا على استعدادٍ لتحديد ملاحظة ما، مهما كانت مستبعَدة، من شأنها (إن تحققت) أن تجعلهم يغيِّرون من قناعاتهم.
(لا تقلق إذا لم يكن الكثير من هذه المذاهب مألوفًا بالنسبة إليك، فسوف نتعرَّف إلى أغلبها في الصفحات الآتية) امتد نقد لودان إلى ما هو أبعد من ذلك: أي معيار دلاليٍّ واضح — أي، صياغة تقوم على اختبار لغوي مثل تلك الخاصة ببوبر — سيفشل بالضرورة. ثم وصف مشكلة التمييز بأنها «مشكلة زائفة»، الأمر الذي أغضب الكثير من الفلاسفة الذين أصرُّوا على أنها ستظل تساؤلًا جوهريًّا في فلسفة العلم. ولكن حقيقة أن لودان كان مندفعًا بعض الشيء في صياغته، لا تنفي صحة وجهة نظره: فمعيار بوبر لا يستبعد الكثيرَ من المذاهب التي تُعَد بشكلٍ عام من قبيل العلم الزائف. بل على النقيض من ذلك، عادةً ما يقتبس أنصار الخلق التوراتي وعلماء الأجسام الطائرة المجهولة أفكار بوبر ليثبتوا أن نظرياتهم قائمة على أساس علمي، وأن نظريات خصومهم تندرج تحت العلم الزائف.
من شأن فحصٍ متعمِّق أكثر لفكر بوبر أن يكشف أنَّ صياغته تتطلَّب قبول المواقف الفلسفية التي من المرجح ألَّا تكون ملائِمةً في نظر الكثير من أنصاره الصاخبين دائمي الاستشهاد بمعيار قابلية الدحض. في مقاله الأصلي عن التمييز، وكذلك في كتابه الأيقوني «منطق البحث العلمي»، كان بوبر واضحًا في ذكر أن إطاره الفكري يتطلَّب منَّا أن نتخلى عن احتمالية التوصُّل إلى الحقيقة المطلَقة عن الطبيعة (أو أي شيء آخر). فمن وجهة نظر بوبر، لا توجد نظرية علمية يمكنها أن ترقى، بالمعنى الدقيق للعبارة، إلى مصاف «الحقيقة». وأقصى ما يمكن للعلماء الوصول إليه هو «ما لم يثبت خطؤه بعد». فوجود الذرات، ونظرية النسبية، والانتخاب الطبيعي، وبِنية الحياة الخلوية، والجاذبية، وهلم جرًّا جميعها نظريات مؤقتة تنتظر الدحض. تتسم الصورة التي رسمها بوبر بالاتساق، ولكنها تتعارض مع حدس أغلب العلماء الممارسين، والفلاسفة، وعامة الناس.
رغم أنه كان سيصبح من المفيد لو استطاع معيار بوبر الواضح للتمييز أن يفرِّق بين العلوم والعلوم الزائفة، فإن كلًّا من التحليل المنطقي والنظرة الاجتماعية إلى ما يفعله العلماء والعامة من تمييزٍ على أرض الواقع يظهران قصوره عن تحقيق هذا الغرض. يطرح ذلك تساؤلًا آخر: على الرغم من وضوح عيوب معيار بوبر، لماذا لا يزال يتمتع بهذه الدرجة من القبول والشيوع؟
محاكمة بوبر
كان انتشار معيار بوبر لقابلية الدحض على نطاقٍ واسعٍ نتيجةً غير مقصودة لمعركة قانونية في الولايات المتحدة الأمريكية حول «عِلم الخَلق»، والذي كان محاولة لتقديم معالجة علمية لقصة الخلق اليهودية-المسيحية الواردة في سِفر التكوين. يقدم التناول المُوجَز لهذه القصة، والذي يتعلق بشرعية تدريس هذا المعتقَد في المدارس العامة، موضوعات أكثر شمولًا، تتعلق بتحديات التمييز، وأهمية التفكير العميق في المشكلة، بدلًا من الاعتماد على حلولٍ بسيطة (ومبسَّطة).
استمر الجدل حول تدريس نظرية التطور في المدارس العامة الأمريكية طَوال أغلب القرن العشرين، وتحوَّل هذا الجدل في بعض الأحيان إلى صراعاتٍ علنية. كان أول هذه الصراعات وأشهرها هو «محاكمة قرد سكوبس» في يوليو ١٩٢٥. بفضل الدعم الكبير من مدينة دايتون في ولاية تينيسي، والنجاح الهائل للتجسيد الأدبي للقصة في المسرحية (١٩٥٥، من تأليف جيروم لورانس وروبرت إي لي) والفيلم (١٩٦٠، من إخراج ستانلي كرامر وبطولة سبنسر تريسي) بعنوان «إرث الرياح»، أصبحت هذه القصة ذائعة الشهرة. ففي ربيع عام ١٩٢٥، أقرَّت ولاية تينيسي قانون باتلر، الذي جرَّم تدريس نظرية تطور الإنسان من أسلافه من الرئيسيات في المدارس العامة. جنَّد الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية المعلم جون توماس سكوبس لانتهاك القانون عن عمدٍ لاختبار دستورية حظر نظرية داروين في المحكمة، مشيرين إلى أن القانون، بحظره نظرية داروين، لأنها تتناقض مع قصة الخَلق في دينٍ معين، يتعارض مع التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة، الذي يمنع الحكومة من إقامة دينٍ رسمي للبلاد. وكان من المتوقع أن يُدان سكوبس كجزءٍ من الاستراتيجية التي كانت تهدف إلى استئناف القضية أمام المحكمة العليا للولايات المتحدة. لم تحقق الخطة الغرض منها كاملًا: إذ وُجد سكوبس مذنِبًا بمخالفة القانون، وغُرِّم ١٠٠ دولار.
استأنف سكوبس الحكم أمام المحكمة العليا في تينيسي، التي ألغت الغرامة على أساس ثغرة قانونية، ولكنها أكدت دستورية القانون بناءً على أنَّه رغم تحريمه تدريس نظرية التطور، فإنه لم «يفرض» تدريس أي نظرية أخرى حول أصل الإنسان، ومن ثمَّ لم يرجح كفة أي دين معين. وانتهت القضية عند هذا الحد. وبحلول عام ١٩٢٧، كانت ثلاث عشرة ولاية أمريكية قد خاضت مناقشاتٍ حول تدابير مماثِلة، ولكنَّ ولايتين فقط، مسيسيبي وأركنساس، حوَّلتها إلى تشريعاتٍ نافذة. وعلى الرغم من أن محاكمة سكوبس كشفت عن أنه من القانوني منع تدريس نظرية التطور، فإن الصخب الإعلامي فيما يتعلق بهذه الإجراءات صوَّرها على أنها سخيفة. وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من الولايات لم تحظر تدريس نظرية التطور، فإنها لم تشجع أيضًا إدخال هذه النظرية إلى المدارس، وكان هناك تباين كبير في كيفية التعامل مع هذه القضية من منطقة إلى أخرى.
وقع حادثان أدَّيا إلى إعادة تقييم قانونية حظر تدريس النظرية الداروينية في المدارس العامة. الأول كان إطلاق الاتحاد السوفييتي قمره الصناعي الأول، سبوتنيك، في الرابع من أكتوبر عام ١٩٥٧. أثار الإنجاز السوفييتي مناقشةً محتدمة تمحورت حول إذا ما كانت الولايات المتحدة قد تخلَّفت عن ركب التعليم العلمي، واقتُرحت إصلاحاتٌ في العديد من المجالات، استنادًا إلى نموذج لجنة دراسة العلوم الطبيعية التي شُكلت في عام ١٩٥٦. وقد شجع حلول الذكرى المئوية لنشر كتاب داروين «حول أصل الأنواع» (١٨٥٩)، والتي كانت بعد سنتين من إطلاق سبوتنيك، علماء الأحياء على القول بأن «مائة عام من دون النظرية الداروينية تكفي!» وأوصى برنامج دراسة مناهج العلوم البيولوجية بإجراء تغيير شامل للمناهج في مجال علوم الحياة للمرحلة الثانوية، مع وضع النظرية الداروينية (وتطوُّر الإنسان) في قلبها. وانتهت الهدنة بين أنصار نظرية التطوُّر والأصوليين المسيحيين.
في ستينيات القرن العشرين، ردَّت مجموعات دينية بسلسلة من القوانين تنادي بوجود «مساواة»: إذا أصبحت النظرية الداروينية (أو «علم التطور») مادة أساسية في التعليم، فلا بد من إحداث توازن بتدريس نظرية مكافئة لها، ألَا وهي «علم الخَلق». أدرك أولئك الذين أرادوا مقاومة تدريس نظرية الخَلق في المناهج الدراسية أنهم يحتاجون إلى بناء قضيتهم على أساس مسألة التمييز. إذا لم تكن نظرية الخَلق علمًا، فلا بد أنها دين، والدين لا يمكن تدريسه في المدارس العامة، الأمر الذي سيكون دعمًا غير قانوني من جانب الدولة للدين. (كانت المدارس الخاصة، ولا تزال، قادرة على تدريس المناهج التي تحلو لها.)
وصلت قضايا من ولايتَي أركنساس ولويزيانا إلى محاكم الاستئناف في بدايات ثمانينيات القرن العشرين. كانت القضية الأولى من هذه القضايا، قضية ماكلين ضد مجلس التعليم في أركنساس، وهي قضية شهيرة، حيث تناقش العديد من الشهود الخبراء حول إذا ما كانت النظرية الداروينية تُعد عِلمًا، وإذا ما كان علم الخَلق يفي أيضًا بتعريف العلم، وكذلك حول حدود بند تأسيس الدين في الدستور الأمريكي.
كان أحد الشهود الحاسمين لصالح أنصار نظرية التطور هو مايكل روز، وهو فيلسوف العلم البريطاني، الذي كان يعمل في جامعة جويلف بكندا حينذاك. قدَّم روز شهادته حول عدة معايير تمييز مختلفة، وأكد أن الروايات التي تتعلق بأصل الإنسان والمستنِدة إلى سِفر التكوين لا يمكنها أن تستوفي هذه المعايير. ومن بين المعايير التي طرحها كان معيار بوبر. وفي حكمه النهائي في يناير ١٩٨٢، استند القاضي ويليام أوفرتون إلى شهادة روز عندما أشار إلى أن قابلية الدحض كانت معيارًا لتحديد كون أي معتقد علميًّا، وأن نظرية الخلق العلمية لم تستوفِ هذا المعيار. (تراجع روز عن شهادته بعد عَقد من الزمن.) وفي قضية إدواردز ضد أجيلارد (١٩٨٧) ذات الصلة بقضية لويزيانا، وسَّعت المحكمة العليا الأمريكية نطاق قرار محكمة استئناف أوفرتون، وكانت النتيجة إدراج قابلية الدحض لبوبر كمعيار تمييزٍ في العديد من كتب علم الأحياء الخاصة بالمرحلة الثانوية. وبغض النظر عن اعتبار المعيار نوعًا من الفلسفة السيئة، فقد أصبح منصوصًا عليه قانونًا. (وفي حُكمه الخاص بمحكمة الاستئناف الصادر عام ٢٠٠٥ في قضية كيتزميلر ضد منطقة دوفر التعليمية، عدَّل القاضي جون إي جونز الثالث معايير التمييز القانونية، متخليًا عن معيار بوبر ومتبنيًا عددًا من المعايير الأقل دقة والأكثر ملاءمة، مع النظر في تدريس نظرية تُعرَف باسم «التصميم الذكي»، والتي تمثل امتدادًا لنظرية الخَلق صِيغ لتفادي تكرار سابقة حكم قضية إدواردز.)
التمييز بعد بوبر
في عام ١٩٨٣، شنَّ لاري لودان هجومًا على التمييز كموضوعٍ للبحث الفلسفي، مدفوعًا بغضبه من استدعاء روز لمعيار قابلية الدحض لبوبر، رغم ما يحمله من عيوبٍ واضحة. لكن اعتبار لودان أن جميع محاولات التمييز ليست سوى «مشكلات زائفة»، أثار بدوره ردودَ أفعال غاضبة من فلاسفة أكدوا أن التمييز لا يزال يمثِّل قضية جوهرية. في واقع الأمر، التمييز شيء «حتمي». يمتلك العلماء وقتًا محدودًا للدراسة؛ لذا يجب أن يحددوا الموضوعات التي تستحق العمل عليها، وتلك التي لا تستحق ذلك، وهذا يتطلب ضمنًا نوعًا من التمييز. كما يبدو أن هناك إجماعًا كبيرًا على النظريات التي تُعد غريبة، رغم استمرارية الجدل حول النظريات الضبابية. وحتى مع الاعتراف بأن لودان كان محقًّا في أن معايير التمييز الواضح مثل معيار بوبر ليست مفيدة، فقد تحقِّق مقاربات أخرى نجاحًا أكبر.
فعلى سبيل المثال، اقترح الفيلسوف (وأستاذ علم الأحياء السابق) ماسيمو بيليوتشي أن مشكلة الدحوضية تكمن في أنها أحادية البُعد. وعلى الرغم من أن الفصل الواضح قد لا يكون ممكنًا، فربما كان في مقدورنا أن نضيف المزيدَ من الأبعاد التي تتوافق مع تنوُّع الممارسة العلمية. وأشار إلى أن بعض العلوم ركزت على توسيع نطاق المعرفة التجريبية، بينما ركزت علومٌ أخرى أكثر على تعميق فهمنا النظري، وركزت علوم ثالثة على كلا المحورَين، إلا أن الإخفاق في العمل على كلا المحورَين في الوقت نفسه لا يُفقِد النظرية أهليتها لكي تكون «علمية». ولكن يُعَد الاقتراب الشديد من أصل هذا المخطط مؤشرًا جيدًا على نحوٍ معقول على أن الموضوع قد لا يُعد علميًّا، وإذا ما أصر مناصرو إحدى هذه النظريات على أنها علمية، فقد يعرِّضون أنفسهم لأن يوصموا بأنهم علماء زائفون. هذه المقاربة لا تخلو من عيوب، ولكنها تتفادى بعض جوانب القصور التي توجد بمعيار بوبر.

بدلًا من محاولة تطوير معيار يشمل «جميع» مزاعم الحالة العلمية — وهو الطموح الذي تشارك فيه كلٌّ من بوبر وبيليوتشي — فقد تركز على ما قد نعتبره «معايير التمييز المحلي»: السِّمات التي تنطبق على مجموعات معينة من النظريات غير التقليدية من دون الادِّعاء بتقديم حلٍّ وافٍ وشافٍ لمشكلة التمييز.
على سبيل المثال، أحد معايير التمييز المحلي المهمة هو معيار «العلم الباثولوجي» وهو مصطلح صيغ بواسطة عالِم الفيزياء (والحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٣٢) إرفينج لانجموير خلال محاضرة ألقاها في مختبر شركة جنرال إلكتريك للطاقة الذرية في ديسمبر عام ١٩٥٣ — الغريب في الأمر أنها السنة نفسها التي ألقى فيها بوبر محاضرةً عن معيار التمييز في الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي — ولكنه قرر عدم نشرها. (جرى تداول نسخة مكتوبة منها على نطاقٍ واسعٍ في ستينيات القرن العشرين، ونُشرت في ثمانينياته.) تأثر لانجموير بسلسلة من الأحداث الشهيرة التي وقعت في تاريخ العلم الحديث، مثل اكتشاف أشعة «إن»، والإدراك الحسي الفائق، التي تتشارك خصائص معينة فيما بينها: فجميعها كانت اكتشافات مثيرة للجدل بشكلٍ كبير، اكتُشفت عند حافة حساسية أجهزة قياس مستخدمة حاليًّا، إلا أن الباحثين الذين اكتشفوها زعموا أنها اكتشافات فائقة الدقة. افترض لانجموير أنه في مثل هذه الحالات، قد يتحوَّل التزام الباحث تجاه برنامجه البحثي إلى شيء «باثولوجي»، أي، غير صحي: قد يستحوذ الإيحاء الذاتي والتفكير الحالم على برنامجه. يغطي معيار التمييز هذا في واقع الأمر مجموعةً من النظريات التي يُطلق عليها عادةً «علوم زائفة»، ولكنه لا ينطبق على نظرية الخَلق، أو دراسات بيج فوت، أو علم الخيمياء. إنه معيار صُمم خصوصًا لاستبعاد أبحاث الإدراك الحسي الفائق، ومن ثَم، لن يكون مفاجئًا أن يتمكن من تحقيق ذلك.
على المنوال نفسه، أقام بوبر معيار قابلية الدحض لاستبعاد نظرية التحليل النفسي، وصمم روز وأوفرتون معيارهما لاستبعاد نظرية الخَلق؛ لذا، فإن نجاح معاييرهم في تحقيق هذه الأهداف لا يُعد إنجازًا عظيمًا. تمتلك جميع معايير التمييز الخاصية الآتية: جميعها أُنشئت استقرائيًّا من حالات معينة، ومن ثَم لا يمكنها أن تغطي كل الاحتمالات. لهذا السبب تحديدًا، لا يمكنني تقديم معيار تمييز شامل من ابتكاري؛ إذ سيتسبب في الحد من تنوُّع الظاهرة قيد الدراسة.
ما يمكننا فعله بدلًا من ذلك هو تصنيف النظريات غير التقليدية إلى «مجموعات» يمكن تحليلها معًا بنجاح. ثمة أربعة أمثلة على ذلك، هي كالآتي: العلوم البائدة التي تقوم على علمٍ «شرعي» قديم أصبح عتيق الطراز، والعلوم المفرطة التسييس التي ترتبط ببرامج أيديولوجية، والعلوم المناهِضة للعلم المؤسسي التي تحاكي البِنى الاجتماعية للعلم السائد، وسلسلة النظريات التي تفترض امتلاك العقل لقوًى خارقة. عادةً ما تتداخل هذه التصنيفات، ويمكنك أن تصنف نظرية معينة بسهولة، التنويم الإيحائي على سبيل المثال، على أنها علمٌ بائد أو علم مناهض للعلم المؤسسي بدلًا من انتمائه إلى فئة النظريات التي تفترض امتلاك العقل لقوًى خارقة. لا يوجد أسلوب تصنيف يمكنه تصنيف جميع النظريات غير التقليدية؛ لأن تنوُّع تلك النظريات يماثِل تنوُّع العلم نفسه، ومن ثَم، فإن هذه الفئات التصنيفية الأربع — بالإضافة إلى تداخُل بعضها مع بعض — بعيدة كل البعد عن الشمولية. ومن شأن النظر إلى تنوع النظريات غير التقليدية أن يمدنا بالأدوات اللازمة لفهم كيفية عمل العلوم السائدة، ويقدم بعض المعلومات عن كيفية التفكير في مهمة التمييز الحتمية، وغير المثالية.