العلوم البائدة
عادةً ما يُصنِّف الناس نظرية معينة كعلمٍ زائف، لا بناءً على ماهيتها، بل استنادًا إلى الحقبة الزمنية التي ارتبطت بها. المعرفة العلمية ليست مخزنًا ثابتًا من المعلومات، كما لو كانت مجموعة من الكتب علاها التراب، تملأ حائطًا من أرفف الكتب في مكتبة مدينتك المحلية. على النقيض من ذلك، واحدة من أبرز خصائص العلم هي ديناميَّته الهائلة، ويُوجَّه جزءٌ كبير من هذه الطاقة إلى دحض أو مراجعة المعارف السابقة، وهذه السِّمة هي ما ألهم كارل بوبر لوضع معيار التمييز. لا يوجد فَهم منطقي للعلم لا يعترف بهذه الخاصية التطورية، بل الثورية، لما يُعَد معرفة علمية.
يعني التطوير العلمي أن الأمور التي كنا نعتقد في الماضي أنها صحيحة يتبيَّن بعد ذلك أنها مبسَّطة للغاية، أو غير متطورة بما يكفي، أو خاطئة تمامًا بعدما يجمَع الباحثون اللاحقون أدلة جديدة، ويعمقون من تحليلاتهم. ينطبق الأمر نفسه على أبحاث العصر الحالي: لقد نُشر الكثير منها على أنها أحدث ما توصَّل إليه العلم، ولكن سيتبيَّن في المستقبل غير البعيد جدًّا أنها غير ذات صلة أو خاطئة. إليكَ مثالَين. كان بلوتو يُصنَّف على أنه كوكب عندما اكتُشف في عام ١٩٣٠، ولكن في الرابع والعشرين من أغسطس عام ٢٠٠٦، أعاد الاتحاد الفلكي الدولي تصنيفه على أنه «كوكب قزم»، الأمر الذي أدى إلى انتهاء كواكب المجموعة الشمسية الرسمية بكوكب نبتون. كان علماء الحفريات يعتقدون أن الديناصورات زواحف تكسوها حراشف، ولكن كشفت تقنيات جديدة أن الكثير من هذه المخلوقات المنقرضة كانت أجسادها مكسوة بالريش، وهو ما كان ينبِّئ عن تطورها لتصبح طيور العصر الحالي. كلتا الفكرتين الجديدتين صدمتا أولئك الذين شبُّوا على أن بلوتو كوكبٌ، وأن الديناصورات عارية الأجساد، فكان هذا ما تعلَّموه في حصص العلوم في المرحلة الابتدائية، ألم تكن هذه المعرفة موثوقة إذن؟ ولكن من الخطأ أن ننظر إلى العلوم على أنها ثابتة. لا يمثِّل التغيُّر الدائم مشكلة فيما يتعلق بكيفية عمل العلوم، فهذه هي الطريقة الطبيعية لعمل العلوم.
إن لهذا تداعياتٍ مهمة بالنسبة إلى فئة العلوم الزائفة، خاصةً عندما تتوغل في الماضي. تمتلئ سجلات العلوم بالنظريات المنبوذة. في واقع الأمر، أغلب تاريخ العلوم عبارة عن نظريات مرفوضة، وتكبر كومة تلك النظريات يومًا بعد يوم. إذا ما استمررت في اعتناق فكرة بعد انتهاء تاريخ «صلاحيتها» — وبعدما اعتبرت جموع العلماء أن الفكرة لم تعُد مثمرة أو صحيحة — فإنك تخاطر بأن توصَم بأنك عالِم زائف. أُطلِق على هذه النظريات اسم «العلوم البائدة»: أي، النظريات والمعتقدات التي كانت تُعد علميةً في الماضي، ولكنها أصبحت مرفوضة، فتحوَّلت في العصر الحالي، وأصبحت تُصنَّف على أنها علوم زائفة.
من بين تلك العلوم البائدة نظريات يُنظر إليها بشكلٍ جماعي تقريبًا على أنها علوم زائفة كلاسيكية. تقدِّم هذه المكانة المرموقة درسَين لنتعلَّمهما. الأول، تُلقي هذه العلوم الضوء على ما كان يعتقد الأقدمون أنه الخصائص الرئيسية للمعرفة الموثوق فيها، الأمر الذي يعني أنه يمكننا أن نلاحظ التنوع التاريخي للأفكار التي صنَّفناها على أنها علوم. الثاني، يساعدنا التحليل التاريخي في فهم العملية الطويلة التي استُبعدت من خلالها هذه المجالات خارج نطاق العلوم السائدة.
علم التنجيم
يُعد علم التنجيم أطول المعتقدات عمرًا على الإطلاق فيما يتعلق بالطبيعة، ويحلُّ على رءوس قوائم الكثير من الناس عندما يُطلب منهم ذكر أحد العلوم الزائفة. غير أن طول عمره وانتشاره الواسع قد يسهمان في طمس طبيعته بدلًا من إظهارها. بوجه عام، يمكننا تعريف علم التنجيم بأنه الاعتقاد بأن مواقع الأجرام السماوية لها تأثيرات في الأرض. عند صياغة التعريف بهذه الطريقة، فإنه لا يكون عديم الضرر فحسب، بل صحيحًا أيضًا. فموقع الشمس في السماء لا يتوافق مع درجة الحرارة فحسب، بل أيضًا مع الفصول، كما أن القمر يؤثر بشكلٍ واضحٍ في المد والجزر، رغم أن آلية حدوث ذلك لم تُفهم جيدًا إلا مع مطلع القرن الثامن عشر. استند جانبٌ كبير من هذا إلى الملاحظة البسيطة. ومن هناك، لم يكن الأمر يتطلب الكثير من الجهد لتضمين الكواكب والنجوم الثابتة في الاعتبارات الخاصة بالتنجيم.
انطلاقًا من هذا التعريف العام، نجد أن جميع الحضارات تقريبًا طوَّرت صيغةً ما يمكن وصفها بأنها علم تنجيم: فإلى جانب منطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث توطَّد التقليد التنجيمي الغربي، برزت أنظمة تنجيم متعددة في شرق آسيا، وجنوب آسيا، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وسكان أمريكا الشمالية الأصليين، وإسكندنافيا، وبولينيزيا. يتميز كلٌّ من هذه التقاليد بتنوُّع داخلي ملحوظ، وحتى ضمن التقليد الغربي، شهدت أشكال علم التنجيم تطورًا كبيرًا على مدى آلاف السنين، انطلاقًا من جذورها العميقة في بلاد ما بين النهرَين القديمة. مَر هذا المجال بمسارٍ طويلٍ للغاية حتى وصل إليك في صورة الأبراج التي تقرؤها في جريدتك اليومية (وهي ممارسة بدأت في ثلاثينيات القرن العشرين).
إذا اقتصرنا على التقليد الأوروبي الذي انتقل إلينا من اليونان القديمة والعالم الإسلامي في العصور الوسطى، فسيتضح بجلاءٍ أمر واحد: حتى القرن السابع عشر تقريبًا، لم يكن هناك شك في أن علم التنجيم كان يُعَد عِلمًا. وليس مجرد علم عادي. فقد كان أكثر العلوم ارتكازًا على التجربة، وأكثرها تعقيدًا من الناحية الرياضية، وانعكست مكانته في الرعاية السخية التي تلقَّاها من الرُّعاة الأثرياء. وبفضل اهتمامه الكبير بجمع البيانات، وإجراء الحسابات، والتنبؤ — إلى جانب أهميته السياسية — احتل في أوروبا أوائل العصر الحديث مكانةً مشابهة لتلك التي احتلها علم الاقتصاد في أوائل القرن الحادي والعشرين. ورغم أن مكانة علم التنجيم كانت دائمًا موضع جدل، فإن ذلك لم يضعضع من هيبته، رغم انتقاد البعض لافتراضاته، وتشكيكهم في تنبؤاته الخاطئة. (يتعرض علم الاقتصاد في العصر الحالي لمثل هذه الانتقادات.)
كانت إيطاليا في أوج عصر النهضة أحد أفضل الأماكن التي برزت فيها المكانة العلمية لعلم التنجيم. فقد جذبت الدول-المدن الرائدة في شبه الجزيرة الإيطالية مؤرخي العلوم خلال العقود الأخيرة للأسباب نفسها التي جذبت بها إليها المنجمين في القرن السادس عشر. فقد أنتجت التجارة وأعمال الصرافة ثروةً طائلة تركزت في الدول-المدن المتنافسة التي سعت كلٌّ منها لبسط نفوذها وهيمنتها على منافسيها، بمباركةٍ من النفوذ الواسع للكنيسة الكاثوليكية المتمثِّلة في الحبر الأعظم في روما. دفعت طبيعة الأعمال التجارية التي شكَّلت المحرك الرئيسي للنمو السريع في هذه المنطقة النُّخب إلى تمويل البحث في مجالات المعارف الطبيعية، ولا سيما المجال المعروف آنذاك باسم «الرياضيات المختلطة»: وهو مجال تطبيقي يُعادل اليوم منطقة وسطى تقع بين الفيزياء والهندسة. كان البحَّارة يحتاجون إلى ملاحظاتٍ فلكية دقيقة من أجل الملاحة، وطوَّر المحاسبون أساليب محاسبية متطورة لحساب معدلات التأمين. ومع انكباب الإنسانويِّين على دراسة النصوص اليونانية القديمة ونظيراتها العربية في العصور الوسطى، ومنها تلك التي تتناول علم التنجيم — مثل كتاب «تيترابيبلوس» (المقالات الأربع)، الذي ألَّفه كلاوديوس بطليموس (الذي اشتهر في العصر الحالي بنظامه الفلكي المرتبط بمركزية الأرض الذي وصفه في كتابه تحت عنوان «المجسطي») في القرن الثاني الميلادي، وأعمال العالِم الفارسي قطب الدين الشيرازي في القرن الثالث عشر — أدت الرياضيات المتقدمة والملاحظات الفلكية المتزايدة الدقة إلى خلق مزيج فكري غاية في الروعة.
ولذا، لم يكن من العجيب أن يشهد علم التنجيم ازدهارًا كبيرًا يوازي الأعمال العظيمة التي أُنجزت في الرسم والنحت، والتي اقترنت بعصر النهضة في إيطاليا. كانت كل مدينة، وكل بلاطٍ أميري، في حاجة إلى إعداد مخططات أبراج بصورة منتظِمة لمساعدتهم في اتخاذ القرارات المهمة، مثل توقيت حفلات الزفاف، أو تحديد إذا ما كان الوقت مناسبًا لخوض المعارك ضد العثمانيين. وفي تلك الحقبة، لم يكن هناك عالِم فلك — وكانوا جميعهم من الرجال — إلا ومارس علم التنجيم في وقتٍ ما، سواء بدافع الحاجة المادية (مثلما هي الحال مع جاليليو جاليلي)، أو عن قناعة شخصية (مثل يوهانس كيبلر، الذي عمل كمنجم الدولة في الشمال في جراتس وبراغ).
ما الذي كان يفعله المنجمون؟ في الغالب، كان المنجمون يعتمدون على البيانات التي يجمعها علماء الرصد الفلكي، ثم يحوِّلونها إلى خرائط (تُسمَّى «مخططات الأبراج»)، تحدد مواقع النجوم والكواكب في لحظة ميلاد العميل. ثم يعمدون إلى تفسير تلك المخططات استنادًا إلى أحدث معارف المجال. كانت النماذج والتفسيرات تمر بعملية تنقيح مستمرة، حيث تُستبعَد النسخ القديمة، كما هو معهود في أي فرع من فروع الفلسفة الطبيعية في ذلك الزمان. قامت جميع هذه المخططات على أساس تصور مركزية الأرض الخاص بالقرن السادس عشر.

توجد الأرض في مركز الكون، ويدور حولها سبعة كواكب: القمر، والشمس، وعطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل. (ظل ترتيب الكواكب الداخلية محلَّ خلاف.) تتحرك هذه الكواكب على خلفية النجوم الثابتة، وتُكمل الشمس دورتها حول الأرض في عام كامل، وسُمِّي مسارها مقابل النجوم الثابتة باسم دائرة البروج، وقُسمت هذه الدائرة إلى ١٢ قطاعًا، قياس كلٍّ منها ٣٠ درجة، بما يتوافق مع الأبراج الفلكية الاثني عشر. يضع مخطط الأبراج (ضمنيًّا في بعض الأحيان) الأبراج على محيط الدائرة؛ حيث يوجد برج الحمل عند موضع الساعة التاسعة، ثم تتابع الأبراج، وفقًا لترتيبها السنوي، في عكس اتجاه دوران عقارب الساعة. قُسمت حافة الدائرة إلى ١٢ مثلثًا قائم الزاوية تمثِّل «المنازل» التي تحكمها هذه الأبراج، وتبدأ أيضًا عند موضع الساعة التاسعة. كانت المنازل الفلكية تُحاكي مسار الشمس (المسار الكسوفي) وتُعبِّر عن مرحلة من حياة الإنسان، وكان المُنجِّم يضع رموز الكواكب بين هذه المنازل، ويحدد المواقع الفلكية عند اللحظة المعنية — سواء كانت لحظة ولادة فرد أو توقيت حدث معين — باستخدام جداول مواقع النجوم، وكانوا يولون اهتمامًا خاصًّا لوضعية الكواكب بالنسبة إلى النجوم الأشد سطوعًا في دائرة البروج. ثم يحددون: هل كانت في وضعية مواجهة (١٨٠ درجة)، أو تثليث (١٢٠ درجة)، أو تربيع (٩٠ درجة)، أو تسديس (٦٠ درجة)، أو اقتران (٠ درجة)؟ كانت وضعيتا المواجهة والتربيع تُعدَّان وضعيَّتين عدائيتَين، بينما كان يُنظر إلى التثليث والتسديس على أنهما وضعيتان إيجابيتان. وكان هذا هو النهج المعياري الذي ظل مُتبَعًا في هذا العلم طَوال قرون.
ونظرًا إلى انتشار علم التنجيم، فقد أثار جدلًا واسعًا. فمنذ ظهوره وهو يتعرَّض لوابلٍ من الانتقادات التي اتهمته بالزندقة، أو الافتقار إلى المنهج العلمي، أو الأمرين معًا. وتمحور أغلب الخلاف حول ما يُعرف باسم «علم التنجيم القضائي»: أي، استخدام النجوم للتنبؤ بمسار الأحداث البشرية. وكان القديس أوغسطينوس، أسقف هيبو وأحد آباء الكنيسة الموقَّرين، كارهًا لهذه الممارسة، وثار جدل لاهوتي حول تداعياتها التي نُظر إليها على أنها هرطقة: هل يمكن أن يكون الرب مقيَّدًا بحركة الأفلاك؟ وهل مخططات الأبراج نوع من السحر المحرَّم؟ كان «علم التنجيم الطبيعي»، الذي ركز على تأثير الأفلاك في تعاقُب الفصول وشخصيات الناس وطباعهم، أقل إثارة للجدل.
ولكن بدأ هذا المجال يفقد مكانته في القرن السابع عشر، بسبب تطور نظام مركزية الشمس من جانب — الذي تطلَّب تعديلات جوهرية على النموذج القديم (رغم أن ذلك لم يثنِ كيبلر عن مواصلة عمله) — وكذلك التحولات الدينية والثقافية من جانب آخر. وبحلول أواخر القرن الثامن عشر، كاد هذا العلم يختفي تمامًا، ليحل محله علم الفلك الموضعي القائم على ميكانيكا نيوتن. لم يكن هناك حدثٌ واحدٌ حاسم أدى إلى اختفائه، على الرغم من أن أبرز منتقديه ألحقوا به أضرارًا كبيرة؛ بدلًا من ذلك، بدأ يختفي ببساطة من النقاشات العلمية في أوروبا.
ولكنه لم يختفِ تمامًا من الروزنامات الشعبية والمطبوعات الرخيصة. وفي منتصف القرن التاسع عشر، اضطر أنصار علم الأرصاد الجوية الجديد إلى الدفاع عن توقعاتهم بعد اتهامهم بترويج علم التنجيم القديم في ثوبٍ جديد. (كانت المخاطر كبيرة بالنسبة إلى متنبِّئي الطقس. ففي عام ١٨٢٤، أصدر البرلمان البريطاني قانونًا ضد الصعلكة يجرِّم أشكال العرافة، بما في ذلك علم التنجيم.) كما ظهرت الصحف الشعبية التي بدأت تنشر الأبراج للتسلية، وإن كانت تفتقر إلى الدقة التي توفرها مخططات الأبراج المصمَّمة خصوصًا. وفي سبعينيات القرن العشرين، في وقتٍ بلغت فيه حماسة العلماء لكشف زيف العلوم الزائفة ذروتها، حاول أبرز الباحثين إحراج الجمهور، ودفعهم إلى التخلي عن تعلقهم بما يُطلَق عليه عصر برج الدلو، ولكن دون جدوى. في أجزاء أخرى من العالم، مثل جنوب آسيا، لا يزال التنجيم يحتفظ بمكانة ثقافية بارزة، حيث يُستخدَم لتحديد التواريخ الميمونة للأعراس والفعاليات المهمة الأخرى. ولا تزال مخططات الأبراج المخصصة تمتلك سوقًا معقولة، ولكنها لا تُعد سوقًا محترمة بين أوساط العلماء المهنيين. وقد استُبعد تمامًا من كونه مجالًا للبحث العلمي.
علم الخيمياء
على الرغم من أن علم الخيمياء، مثل علم التنجيم، كان يحظى بدعم بعض الأمراء عبر أوروبا، فإنه لم يتمكن قَط من فك ارتباطه بالدجل والاحتيال بشكلٍ كامل. ومع ذلك، فإن الصلة بين مذاهب علم الخيمياء وممارساته، وبين ما سيُعد فيما بعدُ علم الكيمياء، ملحوظة، على خلاف العلاقة التي تجمع بين علم التنجيم وعلم الفلك. لقد استُبعد علم الخيمياء بشكلٍ نهائي عن التيار الرئيسي لدراسة المادة في أوائل القرن الثامن عشر، ولكن كان هذا الفصل متعلقًا باللغة أكثر منه تغييرًا في التقنيات المستخدَمة في المختبرات. وعلى مدى العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث في أوروبا، استُخدِما مصطلحا الكيمياء والخيمياء بشكلٍ متبادَل، ولكن بدايةً من القرن الثامن عشر، بدأنا نلاحظ تغيرًا في فرنسا وبريطانيا. فقد عمد الكيميائيون، الذين كانوا يرغبون في النظر إلى عملهم بكونه يندرج تحت العلم الحديث، إلى شيطنة بعض المعتقدات والممارسات باعتبارها «خيميائية»، الأمر الذي أدى إلى وصمها بسمعة سيئة.
يجب أن نبدأ برسم صورة دقيقة لما كان يفعله «الخيميائيون». إن التقليد الغربي لعلم الخيمياء ليس قديمًا مثل ذلك الخاص بعلم التنجيم؛ إذ تعود أصوله إلى أوراق البردي اليونانية-المصرية من القرن الثالث الميلادي. ولكن استمر هذا التقليد في التطور في أوروبا خلال العصور الوسطى، وفي العالم الإسلامي، وبلغ ذروته في القرن السابع عشر. ومنذ تسعينيات القرن العشرين، أجرت مجموعة متخصصة من مؤرخي العلم مراجعة شاملة لفهمنا لمذاهب الكيماء وممارساتها في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث — والكيماء مصطلح معاصر اعتمده هؤلاء ليشمل كلًّا من «الخيمياء» و«الكيمياء»؛ حيث لم تكن الحدود بينهما واضحة بعد. كان هذا التداخل شائعًا إلى درجة أن العديد من عمالقة الفلسفة الطبيعية مثل إسحاق نيوتن وحتى روبرت بويل («أبو الكيمياء الحديثة») بذلوا جهودًا كبيرة في البحث الخيميائي — وهي أعمال نفَّذوها في الخفاء.
يربط أغلب الناس علم الخيمياء بالسعي إلى تحويل المعادن الرخيصة (الرصاص، والحديد، وغيرهما) إلى ذهب. لا شك في أن هناك أشخاصًا حاولوا تحقيق هذا الهدف، الذي كان يُسمَّى «كريسوبيا»، ولكن لم تكن هذه العملية هي كل ما كان يفعله ممارسو علم الخيمياء. فقد تمحور أغلب عملهم حول التلاعب بالمواد في المختبرات، عادةً باستخدام حرارة الأفران، من أجل التعرف على التحولات التي تطرأ عليها من أجل تطوير بعض المواد المفيدة، مثل العقاقير. وكان «حجر الفيلسوف»، تلك المادة الحمراء التي تمكِّن المرء من تحويل أي معدن إلى ذهب، مطلوبًا أيضًا كعقَّار قوي، وظهرت الكثير من الصبغات والعلاجات الأقل تأثيرًا بفضل البحث عن هذا الحجر. وعلى مستوى العمليات اليومية، قيَّم أغلب الممارسين لهذا العلم واختبروا وحددوا مكونات المواد؛ وهي أنشطة تبدو شبيهة كثيرًا بما نُطلق عليه حاليًّا علم الكيمياء.
طبقًا لافتراضات الفلسفة الطبيعية في ذلك العصر، كانت حتى أكثر المذاهب غرابة، مثل تحويل الرصاص إلى ذهب، منطقيةً. لم تكن المعادن اللامعة على هذه الهيئة في بادئ الأمر، بل خرجت من المناجم في صورة خام يحتاج فيما بعدُ إلى أن يُنقَّى باستخدام الحرارة. وعندما يعثر المرء على فضة أو ذهب في منجم، عادةً ما تكون عروق مثل هذه المعادن مختلطة بخامات معادن أخرى. ربما كانت حرارة الأرض تطهى خامات المعادن الرخيصة محولةً إياها ببطء إلى ذهب. وكان علماء الخيمياء مهتمين بتسريع تلك العملية الطبيعية الخاصة بالتخمير أو الإنضاج. وقد أثبتت الفوائد الاقتصادية والطبية الواضحة للتلاعب بالمواد الطبيعية امتلاكها جاذبيةً كبيرة خلال العصور الوسطى، ولكن جاء الازدهار الحقيقي لجميع أشكال أبحاث الكيماء — بما في ذلك الكريسوبيا بالطبع، إلى جانب دراسة خواص المعادن ومكونات المادة النباتية — في أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
كيف إذن ارتبط علم الخيمياء بالاحتيال؟ أحد التفسيرات هو أنه كان هناك بالفعل الكثير من حالات الاحتيال. كان المحتالون الرُّحل يسعون للحصول على رعاية من اللوردات السُّذج المتخمين بالأموال عبر وعدهم بملء خزائنهم بالذهب المُصنَّع. وكان كل ما يحتاجون إليه هو كمية ضئيلة من الذهب كنواةٍ لبدء عملية تحويل الرصاص إلى ذهب. يمكنك أن تتصور كيف كان يتم الأمر. صُوِّر هذا النوع من المحتالين بصورة خالدة في قصة «خادم القمص» في عمل «حكايات كانتربري»، من تأليف جيفري تشوسر، ويحكي فيها خادمٌ كيف أن سيده المخادع احتال على قس ساذج ليشتري «وصفة» لتحويل المعادن بعدما رأى سلسلة من الحيل الخادعة. عكست هذه القصة المزاعم واسعة الانتشار عن علماء الخيمياء، والتي ظهرت بوضوح في الأحكام المعاصرة الصارمة على «الشعوذة»، الجريمة التي تستهدف السحر، ولكنها شملت أيضًا علم الخيمياء.
علاوةً على ما سبق، نتج جزءٌ من هذه السُّمعة المشبوهة من القيام بممارسات علم الكيماء القياسية سرًّا، مثل اعتياد نيوتن وبويل إخفاءَ تجاربهم في علم الخيمياء. (في الوقت نفسه، اعتاد بويل انتقاد علم الخيمياء على الملأ.) لم يلجأ العلماء إلى السرية بسبب القيود على «مضاعفة المعادن» أو السمعة المريبة التي تحُوم حول الدجالين فحسب، بل أيضًا لأن الممارسين النزهاء أدركوا مدى قوة معارف علم الخيمياء، ومن ثَم كانت في حاجة إلى حمايتها من الوصول إلى مَن لا يستحق.
طُبقت هذه السرية من خلال عدة آليات. أولاها هي تدريب ممارسين جُدد بأسلوب التلمذة. على سبيل المثال، نعرف أن بويل تعلَّم الكثير من علم الكيماء (جانبا الخيمياء والكيمياء على حدٍّ سواء) عبر تتلمذه على يد جورج ستاركي، السيد المولود في برمودا، والمتعلم في هارفرد، الذي كان يعيش في لندن بينما كان ينشر مؤلفاته باسمٍ مستعار هو إيرينايوس فيلاليتيس. يعني التدريب المباشر من المعلم إلى التلميذ أن علماء الكيماء يمكنهم التحكُّم فيمن يحصل على المعارف، والقدر الذي يحصلون عليه منها. استُمدت هذه الأساليب من التقاليد الحِرفية، مثل الحدادة، التي تشاركت بعض الأساليب العملية مع علم الكيماء. ومع زيادة سمو الفلسفة الطبيعية خلال تلك الحقبة، وتحوُّلها إلى نشاط يخص النخبة فقط، استُبعد أولئك الممارسون «الصغار»، الأمر الذي جعل السرية تبدو كأنها انتكاسة لهذا العلم.
بعد اختراع الطباعة، جاءت آلية ثانية للحد من نشر النصوص الخيميائية، وهي تداول اكتشافات هذا العلم عبر المخطوطات اليدوية فقط، الأمر الذي سهَّل التحكُّم فيمن يُسمح له بقراءتها. في العصر الحالي، حيث تُبنى السمعة العلمية بالكامل تقريبًا على أساس المنشورات، يبدو هذا السلوك غريبًا، ولكن لم تظهر حُمى نشر جميع الاكتشافات بأقصى سرعة ممكنة إلا في منتصف القرن التاسع عشر. لم يكن تجنُّب النشر بالأمر الغريب بين الفلاسفة الأوروبيين خلال أوائل العصر الحديث، فقد كانوا يُجرون أغلب اتصالاتهم عبر المراسلات الشخصية بدلًا من النشر. اعتاد بلايز باسكال وجوتفريد فيلهلم فون لايبنتس، من بين شخصياتٍ لامعة أخرى في تلك الحقبة، تداولَ نتائج أبحاثهما عبر خطاباتٍ مرسَلة إلى أصدقائهما الموثوقين، الذين كانوا بدورهم ينسخون هذه الكتابات، ثم يعيدون إرسالها إلى شبكة محدودة من المعارف. استُشهد بممارسات السرية هذه فيما بعدُ لتبرير استبعاد علماء الخيمياء من نطاق العلم السائد، ولكنها كانت، في عصرها، ببساطة تقليدًا شائعًا.
قد يبدو كل هذا هراءً: ربما كانت هذه الصورة الرمزية مجرد اختلاق، ولا يُقصَد بها تمثيل أي عملية لتطبيقها في مختبر حقيقي. ولكن أظهرت الأعمال الحديثة لمؤرخي علم الخيمياء عكس ذلك. فقد تمكَّنوا من فك شفرة رموز الكثير من الصور، وعندما أجروا التجارب المرتبطة بها في مختبراتٍ حديثة باستخدام المواد الكيميائية الصحيحة، تمكَّنوا من تكرار النتائج التي زعم علماء خيمياء القرن السابع عشر أنهم توصَّلوا إليها. تفاخرت قلة قليلة من مؤلفي نصوص علم الكيماء بأنهم تمكَّنوا شخصيًّا من الحصول على الذهب، ولكنهم تحدثوا عن نتائج سمعوا بها من مصادر موثوق فيها، ومنحهم نجاحهم في تنفيذ الخطوات الأربع أو الخمس الأولى الثقةَ في أن الخطوات التالية (الأكثر صعوبة) كانت تستند إلى أسسٍ موثوق فيها أيضًا. ومع بدء علماء الطبيعة في تبني قناعات مختلفة تتعلق بالنشر، أصبح يُنظر إلى أسلوب العرض هذا على أنه سخيف. وكانت هذه إحدى السِّمات التي سهَّلت استبعاد «علماء الخيمياء» في القرن الثامن عشر.

كان هذا الصخب هو صاحب الفضل في إعادة إحياء شعبيتهم فيما بعد. وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، بدا أن علم الخيمياء كتقليدٍ قد اندثر بعد أن فَرضت الكيمياء الحديثة، القائمة على الأكسجين ودقة القياسات، التي وضع أُسسها أنطوان لافوازييه، هيمنتها. ولكن بعد نصف قرن، عاد علم الخيمياء إلى الحياة من جديدٍ على نحوٍ غير متوقع. وفي عام ١٨٥٠، نشرت ماري آن أتوود كتابها «تحقيق موحي في الغموض المحكم»، الذي زعم أن لغة التشفير التي استخدمها علم الخيمياء في العصور الوسطى وعصر النهضة مثَّلت بحثًا روحانيًّا استخدمه علماء الخيمياء لتطهير نفوسهم. استكمل إيثان ألين هيتشكوك مسار هذا التحقيق بدايةً من عام ١٨٥٥، وسرعان ما أصبحت تلك المعالَجة لعلم الخيمياء الروحاني شائعةً في الدوائر الدينية الباطنية، الأمر الذي زاد من اتساع الفجوة بين الممارسين الفعليِّين في أوائل العصر الحديث و«العلم» نفسه. وعندما نشر عالِم النفس كارل جوستاف يونج تفسيره الواسع التأثير لعلم الخيمياء على أنه سعي لتحقيق الذات روحيًّا في عام ١٩٤٤، كان من الشائع أن نصوص علم الخيمياء هي رحلات خيالية باطنية، وليست سجلات لممارسات مختبرية. لهذا السبب سيصمك المجتمع العلمي بأنك عالِم زائف إذا ما قلت عن نفسك إنك عالم خيمياء في العصر الحالي بأي صورة إلا إذا كانت مجازية.
انتشار الاستبعاد
تُعَد أغلب العلوم الزائفة علومًا بائدة. هذا يعني أن أغلب المذاهب التي قال عنها أعضاء المجتمع العلمي إنها علوم زائفة في الماضي والحاضر لا تقدم أفكارًا جديدة تمامًا. على النقيض من ذلك، وكما هي الحال مع علم التنجيم وعلم الخيمياء، إنها في الغالب ليست سوى إعادة إحياء أو بقايا لأفكارٍ قديمة كانت تُعد في الماضي علومًا، ولكنها لم تعُد كذلك. على سبيل المثال، كانت فكرة أن جميع الأنواع صممها إله سائدةً بين المؤرخين الطبيعيين على مدى العقود والقرون التي سبقت نظرية تشارلز داروين للانتخاب الطبيعي. فإذا كنتَ تؤيد هذه الفكرة في عام ١٨٢٠، فأنت حينها تتحدث عن علم الأحياء، لكن إذا تبنيتها في عام ٢٠٢٠، فسيُقال عنك إنك غريب الأطوار. أنا لا أشير إلى ذلك بغرض إعادة إحياء هذه المذاهب — على الرغم من أن إعادة الإحياء الجزئي لعلم الخيمياء بواسطة المؤرخين جديرة بالذكر — بل بغرض عرض فكرة عامة أكثر عن كيفية تسميتنا وتصنيفنا للنظريات المستبعَدة.
في عام ١٩٠٠، لم تكن فكرة أن كل الإشعاع الكهرومغناطيسي (بما في ذلك الضوء) ينتقل عبر وسطٍ مرِن عديم الوزن يخترق الفضاء بأسره، يُسمَّى «الأثير»، مجرد فكرة شائعة، بل كانت من المسلَّمات الملزِمة لعلماء الفيزياء. وفي عام ١٩٠٥، نشر ألبرت أينشتاين مقالًا يحاجج فيه، على استحياءٍ، بأن الأثير «فائض عن الحاجة»؛ إذ يمكنك أن تستوعب الكهرومغناطيسية جيدًا (بل أفضل في واقع الأمر) من دونه. استغرق الأمر نحو عَقد كامل، حتى توصل المجتمع العلمي إلى إجماعٍ بأن الأثير لم يعُد له وجود. ولكن إذا ما استطلعت آراء المناصرين للنظريات المستبعَدة في العصر الحالي، فستجد أن «فيزياء الأثير» عبارة عن مجموعة فرعية بارزة. ومن وجهة نظر تاريخية، يبدو أن هؤلاء الناس غير مواكبين للعصر.
وكلما بحثت أكثر، عثرت على المزيد من هذا النمط. فينج شوي، مذهب الاستطراق الصيني — أي دراسة كيفية التلاعب بالطاقة في البيئة المحيطة — كان أيضًا من المعارف الشرعية في وقتٍ ما، ولكنه استُبعد في وقتٍ لاحق. لا تتم عمليات الاستبعاد هذه على الفور: بل تتكشَّف بمرور الزمن، وفي بعض الأحيان تمر فترات طويلة من الزمن قبل أن تحدث. وعبر ملاحظة هذه العمليات، وتكرار حدوثها بانتظام، يمكننا أن نراها كآلية معتادة؛ أن تحل بعض الفرضيات العلمية الجديدة محل أخرى قديمة. وبما أن هناك الكثير من المذاهب المستبعَدة التي تطفو تحت سطح المعارف الحالية، فإذا نظرنا من المستقبل، فسنجد الكثير من العلوم الزائفة المحتملة (والفعلية) موجودة في العالم حاليًّا.