الفصل الثالث

العلوم المفرِطة التسييس

لا شك أن قراءة الطالع في الجريدة من حين إلى آخر لا يجعل بالطبع من المرء منجِّمًا، كما أنها لا تتطلَّب حتى أن نأخذ المنجِّمين الذين رسموا تلك المخططات النجمية والتنبؤات على محمل الجِد جدًّا. ربما كان هذا التصرف ببساطة تجاوزًا. وربما ترى أنه فعل «غير ضار».

لا يتصدى أغلب العلماء بشكلٍ نشِط للمذاهب التي يصمونها بأنها «علوم زائفة». يمكنهم أن يذكروا بعض المذاهب التي لها صلة بمجال خبرتهم بالطبع، ولكن من النادر أن يحمِّل شخص نفسه عبء شن حملة للهجوم على المذاهب المؤذية ومن يمارسونها. وحتى أولئك الذين يعدهم العلماء «مهووسين» عادة ما يكونون «مهووسين غير مؤذيين»، ولا يستحقون إضاعة الوقت عليهم، كما أنهم لا يسببون أذًى كبيرًا.

في المسار المعتاد للأمور، ينظر الناس إلى العلوم الزائفة على أنها معتقدات ضالة؛ لكنها غير مزعجة كثيرًا، وهذا هو السبب في عدم شغل تفكيرهم بها كثيرًا. ولكن ليست جميع المذاهب غير ضارة. يجدر بنا في هذا السياق ذِكر مجموعة من المذاهب وثيقة الصلة بالأنظمة السياسية القمعية، مثل ألمانيا النازية، وفترة حكم جوزيف ستالين للاتحاد السوفييتي. يمكن أن نقول عن هذه المذاهب إنها «مفرطة التسييس». وعندما تفككت الأنظمة التي تدعمها، اختفى أنصارها من الساحة على نحوٍ كبير.

يتطلب مصطلح «مفرط التسييس» المزيدَ من التفصيل. كانت بعض البرامج العلمية في عهد النازيين وستالين مثيرة للجدل ومدمِّرة بشدة، ويعزو المعلقون على المشهد عادةً عواقبها المدمِّرة إلى حقيقة كونها «مسيَّسة». يُعد هذا توصيفًا خاطئًا. كل العلم مسيَّس بشكلٍ ما، سواء جاء هذا التسييس على نطاقٍ صغير فيما يتعلق بالبِنى الهرمية والمكانة داخل مجال بعينه، أو على نطاقٍ أوسع فيما يتعلق بالحصول على التمويلات الحكومية، وإظهار الدولة بمظهر «المناصِرة للعلم» (والذي عادة ما يكون مظهرًا حميدًا ومفيدًا). فخلال الحرب الباردة، رعت وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية الكثير من المشروعات العلمية كجزءٍ من سياسة مشتركة لإظهار الديمقراطية الأمريكية على أنها أكثر موضوعيةً، وأكثر ملاءمةً لإفراز المعارف من الاتحاد السوفييتي. وعندما انتقدت حكومة تابو إيمبيكي في جنوب أفريقيا استيراد العقاقير المضادة للفيروسات القهقرية التي تستهدف الحد من انتشار فيروس ضعف المناعة المكتسَبة، وتخفيف حدة أزمة مرض الإيدز في جنوب أفريقيا، كان هذا موقفًا سياسيًّا، وكذلك كان الضغط الدولي ضد موقف إيمبيكي المنكِر لوجود صلة بين فيروس ضعف المناعة المكتسَبة ومرض الإيدز. فكون أن العقاقير المضادة للفيروسات القهقرية تدعمها بقوة الغالبية العظمى من علماء الأوبئة والفيروسات لا يجعل ترويجها أمرًا غير سياسي.

لم تكن المشكلة في حالة النازيين والسوفييت تكمن في كون العلوم «سياسيةً» أو حتى «مسيَّسة» — عادةً ما تُسيَّس علوم المناخ ومعارف الصحة الإنجابية في عصرنا الحالي — بل كانت تكمن في أنها «مفرطة التسييس» بدرجة جعلها أسلحةً في يد أيديولوجيا سياسية معينة. وعلى الرغم من أن أمثلة الأنظمة الديكتاتورية هي الأبرز، فإن هذا الإفراط في التسييس يمكن أن يحدث أيضًا في الأنظمة الديمقراطية أيضًا، وهناك الكثير من السِّمات البارزة المشتركة فيما يتعلق بهذا بين أكثر الأنظمة السياسية تباينًا. وبما أن هذه المذاهب واضحة التسييس، يستدعيها السياسيون (من مختلف المشارب الأيديولوجية) باستمرارٍ باعتبارها أمثلة سلبية بغرض انتقاد خصومهم. كما أنها نادرة أيضًا بسبب الطاقة السياسية الهائلة المطلوبة لاستمرارها.

الفيزياء الآرية

«في الواقع، ومثل كل شيء صنعه الإنسان، يتحدد العلم بالعرق أو الدم»، هذا ما كتبه عالِم الفيزياء الألماني فيليب لينارد في كتابه «الفيزياء الألمانية» — الذي سأُطلِق عليه اسم «الفيزياء الآرية» — المكوَّن من أربعة مجلدات، والذي نُشر في أغسطس عام ١٩٣٥. كان لينارد يعتقد بوجود أنواعٍ مختلفة من «الفيزياء» لأنواعٍ مختلفة من البشر، ولكنها ليست جميعها متساوية من الناحية العلمية. فلنأخذ كمثالٍ ألبرت أينشتاين ونظريتَيه النسبية الخاصة والنسبية العامة، أو نظرية الكم للذرة التي غيَّرت الكثير من فيزياء لينارد في العقود الأخيرة. لم تكن هذه النظريات تُصنَّف على أنها فيزياء آرية سليمة، بل فيزياء «يهودية» بلهاء. «ليست «الفيزياء» اليهودية بالتالي إلا وهمًا وتمثيلًا مخلًّا للفيزياء الآرية العريقة. […] تسعى الروح الألمانية القومية غير الفاسدة إلى التعمق، فهي تسعى إلى «أسس نظرية تتوافق مع الطبيعة»، ومعرفة بالكون لا يمكن دحضها.» كانت الفيزياء اليهودية على النقيض تمامًا من كل ما سبق، وأراد لينارد استئصالها من التعليم الألماني في الرايخ الثالث في عهد أدولف هتلر.

صاغ لينارد وشريكه المقرب يوهانس شتارك محتوى الفيزياء الآرية، ليس في هذا الكتاب فحسب، بل أيضًا في عددٍ من المقالات التي نُشرت في صحفٍ شهيرة، وكذلك في دوريات أكاديمية موجَّهة أُنشئت لهذا الغرض خصوصًا. كان الجوهر الرئيسي للفيزياء الآرية هو تصنيف النظريات الفيزيائية الأخرى على أنها علوم زائفة. كان لينارد وشتارك يثمنان التجارب الدقيقة والفهم العميق للظواهر الفيزيائية، الأمر الذي أثار شكوكهما حول الفيزياء النظرية التي تعتمد على الرياضيات بصورة مفرِطة، والتي كانت هي السائدة في تلك الحقبة. كان بعض أبرز أنصار هذه النظريات من اليهود — خاصةً أينشتاين الذي كان هدفًا رئيسيًّا لهجمات النازيين بسبب سلميَّته، واشتراكيته، وصهيونيته — الأمر الذي أضاف دافعًا إضافيًّا معاديًا للسامية إلى حملتهما. (وتجاهلا حقيقة أن أغلب العلماء الذين عملوا على هذه المجالات النظرية لم يكونوا يهودًا أو أجانب.) ما تبقى بين يدَي لينارد وشتارك كان في الأساس فيزياء نيوتن وكهرومغناطيسية ماكسويل الكلاسيكية، وكلاهما كان سليل أصول آرية (رغم كونهما بريطانيَّين). وعلى الرغم من محتواها الأساسي السلبي، ألَا وهو تشويه سمعة النظريات الفيزيائية الرائدة، كانت الفيزياء الآرية تنطوي على جانبٍ إيجابي يحن إلى الماضي، يشبه بعض الشيء الأنماط التي شهدناها مع العلوم البائدة. (لا شك أن نظريات نيوتن وجيمس كليرك ماكسويل الفيزيائية لم تصمها التطورات الحديثة بأنها قد عفا عليها الزمن، ولكنها قصرتها على المجالات التي تنطبق عليها.)

ثمة مفارقة في قيادة لينارد وشتارك الهجومَ على نظرية الكم، فقد كانا مشاركَين في ظهورها الأول. كان كلاهما عالمَين تجريبيَّين مرموقَين أجريا الكثير من القياسات الدقيقة التي أظهرت قصور النظريات القديمة، ومن ثَم أسهما في إفساح المجال لظهور علم الذرة الجديد. وُلد لينارد في المدينة التي كانت تُدعى حينها برسبرج في المملكة المجرية (أصبحت اليوم مدينة براتيسلافا، عاصمة سلوفاكيا)، واكتسب شهرته من دراساته المفصَّلة لأشعة الكاثود، الإشعاع الذي ينبعث من الأقطاب السالبة للأنابيب الزجاجية المُفَرَّغة جزئيًّا. مكَّنته ابتكاراته من دراسة امتصاص أشعة الكاثود — التي اكتُشف في عام ١٨٩٧ أنها تتكوَّن من جسيمٍ أساسي جديد سالب الشحنة يُسمى الإلكترون — وخاصةً تماثُلها مع ما ينبعث من الفلزات مع امتصاص الأشعة فوق البنفسجية («التأثير الكهروضوئي»). إن القياسات التي قام بها جعلته يحصل على جائزة نوبل في الفيزياء في عام ١٩٠٥، في السنة نفسها عندما قدَّم موظف براءات الاختراع من العاصمة السويسرية برن يُدعى ألبرت أينشتاين تفسيرًا كميًّا نظريًّا للظاهرة. (حصل أينشتاين على جائزة نوبل عن هذا العمل في عام ١٩٢١.) لم تكن إنجازات شتارك تختلف عن إنجازات زميله. ففي عام ١٩١٣، تمكَّن من قياس الأطياف التي تنبعث من الذرات عند تعرُّضها لمجالاتٍ مغناطيسية قوية، ولاحظ انقسام الخطوط الناتجة، الأمر الذي سرعان ما سُمي «تأثير شتارك». وفاز بجائزة نوبل في الفيزياء عن هذا العمل في عام ١٩١٩، وعُدَّ الركيزة التجريبية المركزية لنماذج الذرة الكمية.

صعَّبت سُمعة كلٍّ من لينارد وشتارك العلمية كأباطرة الفيزياء التجريبية الألمانية من تجاهلهما بشكلٍ تام عندما بدآ ينشران آراءهما المعادية للسامية عن اضمحلال علم الفيزياء في أوائل عشرينيات القرن العشرين. وزادت صعوبة الأمر بعد استحواذ أدولف هتلر على الحكومة الألمانية في عام ١٩٣٣. كان عالِما الفيزياء هذان ما يُطلق عليهم اسم «المقاتلون القُدامى» في حركة هتلر، فقد دعما الحزب النازي قبل حتى أن يصل إلى سُدة الحكم، كما دعما انقلاب بير هول الفاشل بقيادة هتلر في ميونخ عام ١٩٢٣. ومع صعود نجم الرايخ الثالث، وتطهير جميع المؤسسات الألمانية، وإعادة تنظيمها بما يتوافق مع الأفكار النازية، اعتقد العالِمان المعارضان للاتجاه السائد في الفيزياء أنهما سيتمكَّنان من إعادة بناء الفيزياء الألمانية وفقًا لأفكارهما.

بسبب حماقتهما السياسية، وعدم توافقها مع حماستهما الأيديولوجية، لم يتمكَّنا من فعل ذلك. فبدايةً من عام ١٩٣٦، ألحَّ لينارد وشنارك بشدة على اجتثاث نظرية النسبية ونظرية الكم من التعليم الألماني، ولكن واجهتهما عقبتان. العقبة الأولى كانت رفض وزير تعليم الرايخ، برنهارد روست، التعاون معهما؛ فلم يكن يحب الدخلاء الذين يتدخلون في عمله. وازدادت حدة معارضة علماء فيزياء ألمان بارزين آخرين لهما، على غرار فرنر هايزنبرج، الذين أصروا على أن فيزياء الكم والنسبية نظريتان فيزيائيتان، ولا يمكن استبعادهما من دون تعريض الأعمال التي كان يؤديها علماء الفيزياء لصالح الجيش النازي للخطر. حاول لينارد وشتارك أن يردَّا لهايزنبرج الصاع صاعَين، فأطلقا عليه «اليهودي الأبيض» (أي، خائن الجنس الآري) في أهم نشرة دورية تابعة لوحدات الأمن الألمانية الخاصة، ولكن بعد استجواب هايزنبرج، لم ينقذه من مصير أسود إلا تدخُّل هينريش هيملر الذي كانت والدته ووالدة هايزنبرج تلعبان لعبة البريدج معًا. لم تحظَ الفيزياء الآرية بمكانة راسخة في الرايخ الثالث قَط.

ولكن هذا لا يعني أن السياسات النازية لم يكن لها تأثير كبير في العلوم الألمانية. بادئ ذي بدء، قضى قانون الخدمة المدنية الصادر في أبريل عام ١٩٣٣ بإقصاء جميع اليهود أو الاشتراكيين الذين يعملون في مناصب تتعلق بالخدمة المدنية، ويشمل ذلك الأساتذة الجامعيين. أطلق ذلك شرارة التشتت الجماعي لبعضٍ من أبرز العقول في مجالات العلوم الألمانية، الأمر الذي كان له تأثير كبير في كلٍّ من ألمانيا، التي فروا منها، ودول الحلفاء التي هاجروا إليها (وخاصةً الولايات المتحدة). وتغيرت ديموغرافية العمالة العلمية الألمانية تغيرًا تامًّا. على الجانب المقابل، ضخَّت الدولة الألمانية مبالغَ هائلة في تمويل الأبحاث العلمية المتعلقة بالحرب، بدايةً من الصواريخ إلى أنماط النحل في تلقيح النباتات (من أجل زيادة الإنتاج الزراعي). ربما أسهمت هذه العوامل في تعزيز العلوم بدرجة تفوقت على الأضرار التي تسببت فيها المذاهب المفرطة التسييس مثل الفيزياء الآرية، ولكنها لم تكن كافية، على الأرجح، لتعويض اللاجئين الفارِّين.

النقطة الأخيرة، والأهم على الإطلاق، تحركت العلوم الألمانية في مجالات الطب، والفسيولوجيا، والأنثروبولوجيا، والوراثة، وعلوم إنسانية أخرى في اتجاهٍ متوافق مع السياسات العنصرية النازية التي تفاقمت إلى «الحل الأخير» وشملته، وهو إبادة يهود أوروبا. كما عَلِقَ شعبا الروما والسنتي، والمعاقون ذهنيًّا وجسديًّا، والمثليون، وفئات أخرى من الناس في شبكة صحة عامة عقَّمت الملايين في البداية، ثم قتلتهم قبل أن تضع الحرب أوزارها. كان هذا مثالًا على العلوم مفرطة التسييس الذي لم ينتهِ إلا بسقوط النظام في مايو عام ١٩٤٥.

الليسينكووية

بينما وقعت هذه الأحداث في ألمانيا الهتلرية، ظهر شكل آخر من أشكال العلوم المفرطة التسييس في مجال الوراثة في الاتحاد السوفييتي في عهد جوزيف ستالين. كان بطل هذه القصة عالمًا زراعيًّا أوكراني المولد، يُسمى تروفيم دينيسوفيتش ليسينكو، الذي ادَّعى، بناءً على نظريات وممارسات البستنة الخاصة بمربي النباتات المسن إيفان ميتشورين، أنه قادر على تغيير الخواص الوراثية للنباتات عن طريق تعريضها لعوامل إجهادٍ بيئية. من هذا المنظور، كان مذهبه عبارة عن تطوير في إطار اللاماركية الجديدة لوراثة الصفات المكتسبة، وأطلق عليه اسم «الميتشورينية»، نسبةً إلى مربي النباتات الجليل (الذي نجا، بوفاته عام ١٩٣٥، من براثن الانتقادات)، أو «علم الأحياء الزراعي». عُرفت أفكاره خارج الكتلة الشيوعية، خاصةً في خمسينيات القرن العشرين، باسم «الليسينكووية»، ولكن لم يُطلق عليها هذا الاسم في الاتحاد السوفييتي إلا بعد وفاته عام ١٩٧٦.

دانَ ليسينكو بالفضل في صعوده المذهل من مجرد قروي بسيط إلى الفرص التعليمية والاجتماعية التي وفَّرها النظام البلشفي بعد الثورة الروسية عام ١٩١٧، واستخدم كلاهما، هو والنظام، هذه الصلة في تعزيز أهدافهما المنفصلة. لقد تردَّد اسمه للمرة الأولى في المجتمع العلمي بفضل مقالٍ نُشر عام ١٩٢٧ في الجريدة الرسمية «برافدا»، عندما كان في التاسعة والعشرين من عمره فحسب، والذي أشاد به لنجاحه في إثبات إمكانية زراعة محصول من البازلاء الشتوية في أذربيجان ذات المناخ شبه الاستوائي. حقق ليسينكو هذا الإنجاز العظيم باستخدام مجموعة من الإجراءات التي سيُطلق عليها فيما بعد «المعالَجة بالبرودة»: تعريض البذور لفترات من البرودة الشديدة أو الاحتكاك الشديد قبل زراعتها. جعلت هذه الطريقة الأنواع الشتوية أو الربيعية من محاصيل بعينها قابلة للاستنبات في مختلف المناخات، وفي واقع الأمر، كانت هذه الطريقة مستخدَمة كتقنية زراعية منذ منتصف القرن التاسع عشر في ربوع العالم الغربي. وفي بدايات ثلاثينيات القرن العشرين، زعم ليسينكو أن عملية المعالَجة بالبرودة «هشَّمت» التكوين الوراثي للنباتات، مما مكَّن نقل هذه التعديلات البيئية إلى الأجيال المستقبلية. زعم علم الوراثة الكلاسيكي، المجال النامي منذ إعادة اكتشاف تجارب الراهب جريجور مندل على نباتات البازلاء التي أجريت في منتصف القرن التاسع عشر عام ١٩٠٠، أن وحدات الوراثة، التي أُطلق عليها «الجينات» منذ عام ١٩٠٩، لا تتغير بفعل التعديلات البيئية. كان الاتحاد السوفييتي، إلى جانب الولايات المتحدة، أحد أهم مراكز علم الوراثة الكلاسيكي في عشرينيات القرن العشرين، وكانت ثمة مواجهة فكرية بينهما على وشك الحدوث.

واصل ليسينكو استخدامه البارع للصحف التي كانت تحب ترويج ادِّعاءات ذلك العالِم الزراعي على أمل تحفيز الفلاحين على العمل خلال مرحلة الفرض الكارثي للزراعة الجماعية على الريف السوفييتي (١٩٢٩–١٩٣٣). وفي عام ١٩٢٩، عيَّن ليسينكو والده الفلاح من أجل ترطيب بذور القمح الشتوي وتبريدها، ثم زراعتها في فصل الربيع، وفي العام التالي، كرست المفوضية الزراعية الأوكرانية ألف قطعة أرض، مساحة كلٍّ منها هكتار لإجراء التجارب. زعم ليسينكو نجاح الكثير من هذه التجارب، على الرغم من محدودية البيانات، وعدم وجود التحليلات الإحصائية. وقد حظي ليسينكو ببعض القبول من قبل علماء أكاديمية لينين للعلوم الزراعية لكامل الاتحاد السوفييتي (VASKhNIL)، وخاصةً رئيسها نيكولاي فافيلوف، عالم الوراثة ذا الشهرة العالمية. قدَّم ليسينكو غطاءً أيديولوجيًّا في ظل الفكر الستاليني الخطر في ثلاثينيات القرن العشرين، بينما كان المذهب الميتشوريني وعلم الوراثة الكلاسيكي يكافحان من أجل اكتساب الأفضلية. وعلى الرغم من أن مزاعم ليسينكو كانت قد بدأت تبدو عتيقة الطراز وفقًا لمعايير العلوم العالمية، ظل النزاع عند هذه المرحلة يحمل سِمات الخلاف بين المختصين.

سيتغير كل هذا في أغسطس عام ١٩٤٨ عندما بدأ مصطلح «العلم الزائف» يحيط باسم ليسينكو في الصحافة الدولية والأدبيات العلمية. فضمن سلسلة من المؤتمرات، سواء التي خُطط لها، أو التي عُقدت بالفعل في العديد من المجالات الأكاديمية، استضافت أكاديمية لينين للعلوم الزراعية لكامل الاتحاد السوفييتي مؤتمرًا لمناقشة «الوضع في علم الأحياء». كان رئيس الأكاديمية في تلك الفترة هو تروفيم ليسينكو. فنيكولاي فافيلوف كان قد قُبض عليه، وسُجن في يوليو عام ١٩٤١ بتهمة مزاولة أنشطة مناوئة للثورة، وكان ضحيةً أخرى من ضحايا حملة الإرهاب الكبير التي أطلقها ستالين. (وقد تُوفي فافيلوف بسبب سوء التغذية في عام ١٩٤٣ في ساراتوف.) كان علم الوراثة الكلاسيكية في قفص الاتهام، ووصمه ليسينكو بأنه «مندلي–مورجاني–فايسماني»، نسبة إلى أباطرة الأيديولوجيات المثيرة للجدل في هذا المجال: مندل (القس الكاثوليكي)، وتوماس هانت مورجان (عالِم الوراثة الأمريكي الذي تصادف أن تشابه اسم عائلته مع المصرفي سيئ السمعة، جيه بي مورجان)، وأوجست فايسمان (الذي كان الإثم الأكبر الذي ارتكبه هو، بغض النظر عن إظهار أن التعديلات على الخلايا الجسمية لا تؤثر في «الخط الجرثومي» الموروث، أنه كان ألمانيًّا، الأمر الذي ربط اسمه باستخدامات النازيين الإجرامية لعلم الوراثة، رغم وفاته قبل ذلك.)

عند هذه المرحلة، دخل الصورة جوزيف ستالين بنفسه. جاء الذكر الأول المسجَّل لستالين وعلاقته بليسينكو خلال خطبة ألقاها الأخير في ١٥ فبراير عام ١٩٣٥. عندما تلعثم ليسينكو في خطبته، اعتذر مبررًا أنه عالِم زراعي وليس خطيبًا مفوهًا، وأثنى عليه ستالين قائلًا: «أحسنتَ، أيها الرفيق ليسينكو، أحسنتَ!» ظل القائد الشيوعي يراقب الخلاف بين علم الوراثة الكلاسيكية والميتشورينية، ولكنه فضَّل أن تظل المجموعتان منفصلتَين على طرفَي النقيض، وألَّا يتدخل. أعلن ليسينكو في السابع من أغسطس عام ١٩٤٨، في اليوم الأخير من اجتماع الأكاديمية، أن هذا الموقف قد تغيَّر. وفي أثناء تلقي الأسئلة من الحضور، سجَّل محضر المؤتمر أن ليسينكو قال الآتي: «طُرح سؤال في إحدى الرسائل التي استلمتها يقول: ما توجُّه لجنة الحزب المركزية تجاه تقريري؟ إجابتي هي: فحصت لجنة الحزب المركزية تقريري، وأقرَّته. (تصفيق حاد. هتاف. الجميع يقفون.)» هكذا أعلن ستالين أن الميتشورينية/علم الأحياء الزراعي هو علم الوراثة الشرعي الوحيد. وقد وُصم علم الوراثة الكلاسيكية بأنه علم زائف في الاتحاد السوفييتي، وطُرد كل مناصريه حتى عام ١٩٦٥ عندما فقد ليسينكو هيمنته على المجال أخيرًا. لقد عاش ليسينكو بعد وفاة ستالين اثني عشر عامًا، ولم يسقط إلا عندما طالب أكاديميون بارزون (أغلبهم من مجالات العلوم الطبيعية) أكاديمية العلوم بمراجعة مزرعة ليسينكو التي تقع في تلال لينين التي تفشَّى فيها سوء الإدارة والاحتيال. ومات ليسينكو في عام ١٩٧٦ بعدما ساءت سمعته. وبعد موته، عمل علماء الأحياء السوفييت جاهدين للحاق بركب علم الوراثة وعلم الأحياء الجزيئي الحديث، ولا يزال تأثير إرث تجريم علم الوراثة حاضرًا في العلوم الروسية حتى يومنا هذا.

لا تزال حالة ليسينكو حاضرةً كأحد الأمثلة الكلاسيكية على «العلوم الزائفة»، خاصةً في الولايات المتحدة، وهي قصة تحذيرية تحكي عن شرور الشيوعية السوفييتية، ومخاطر تدخُّل السياسة في العلم. يواجه هذا التفسير عددًا من المصاعب التجريبية. أولًا، إن السوفييت، مثل النازيين تمامًا، ضخُّوا استثمارات ضخمة في العلم الذي ازدهر بشكلٍ عام في الاتحاد السوفييتي. (في وقت انهيار الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١، كان يتفاخر بأنه أكبر مجتمع علمي قومي في العالم.) كانت الليسينكووية استثناءً. ثانيًا، تتدخَّل السياسة في العلم باستمرار، حتى في الأنظمة الديمقراطية: تُدرس نظرية التطور في المدارس العامة، ولكن تدريس نظرية الخَلق هناك ممنوع، والتجارب على استنساخ البشر ممنوعة، وبعض العلوم تحصل على تمويل، بينما لا تحصل علوم أخرى على أي تمويل، ويرجع ذلك في بعض الأحيان إلى أسس سياسية وليست فكرية. ومع ذلك، أُدرجت حالة ليسينكو ضمن «العلوم الزائفة» لتشهد على مخاطر تدخُّل الدولة في المناقشات العلمية. قد يتساءل المرء عما كان سيحدث لو دعم ستالين علم الوراثة الكلاسيكي. كيف كنا سنحكم على هذا التدخل حينئذٍ؟

fig4
شكل ٣-١: في عام ١٩٤٨، أعلن تروفيم ليسينكو أن جوزيف ستالين (الذي يوجد في البورتريه الذي على اليمين) يدعم نظرياته الميتشورينية عن الوراثة.

علم تحسين النسل

عادةً ما ترتبط العلوم المفرطة التسييس بالأنظمة الاستبدادية. وهذا الارتباط منطقي: هذه الحكومات عادةً ما تتبنَّى مواقف أيديولوجية قوية تمتد إلى العلوم الطبيعية، وتستخدم آلياتٍ قسرية لفرض الالتزام بها. وعلى الرغم من أن تلك الحالات في تاريخ العلم الزائف تميل إلى الظهور بشكلٍ أكبر في ظل هذا النوع من الحكومات، فإن الأنظمة الديمقراطية أو التحرُّرية لم تسلم منها. وأوضح مثال على ذلك حالة علم تحسين النسل في الولايات المتحدة.

صِيغ المقابل الإنجليزي لعلم تحسين النسل (Eugenics)، ذي الجذور اليونانية التي تعني «كريم الأصل»، على يد فرانسيس جالتون، وهو أحد أقرباء تشارلز داروين، كاسمٍ لدراسة علم الوراثة البشري والتحكُّم فيه في عام ١٨٨٣، أي، قبل عَقدَين تقريبًا من ظهور مصطلح «علم الوراثة» نفسه. المهم في الأمر أن علم تحسين النسل سبق علم الوراثة، وعند بداية القرن العشرين، كان من الصعب التفرقة بين ممارسي المجالَين. وبينما نأى بعضٌ من علماء تحسين النسل الرائدين، مثل توماس هانت مورجان، بأنفسهم عن مزاعم علماء تحسين النسل العدوانية، ظل الكثير من العلماء يبحثون في كلا العِلمَين. وكان التمييز بين المجالين أمرًا صعبًا.

في بداية القرن العشرين، تحوَّل علم تحسين النسل من علم إلى علم بائد ثم إلى مذهب مفرط التسييس تعرَّض لانتقاداتٍ واسعة كونه علمًا زائفًا. كانت المزاعم الأساسية لعلم تحسين النسل شديدة الوضوح: مسلحين بفهم الوراثة (بفضل مندل) والانتخاب الطبيعي (بفضل داروين)، أصبحنا قادرين نظريًّا على «تحسين السلالة» البشرية عبر الانتقاء الواعي لمن يُسمح له بإنتاج نسلٍ من أجل الجيل التالي، ومن لا يُسمح له بذلك. سُمي الموقف الأول ﺑ «علم تحسين النسل الإيجابي»، وشمل جهودًا لتشجيع «الأفراد الصالحين» على الزواج وتكوين عائلات كبيرة (على سبيل المثال، عبر الإعانات المالية، أو تقديم رعاية أفضل في فترة ما قبل الولادة)، أما الموقف الثاني، فسُمي ﺑ «علم تحسين النسل السلبي»، والذي يهدف إلى منع الأفراد غير الصالحين من التكاثر، إما عبر التعقيم الطوعي أو القسري في بعض الأحيان.

إذا ما نحَّينا لحظة الكُلفة البشرية جانبًا، سرعان ما سنجد أن العديد من فرضيات علم تحسين النسل الأساسية مشكوك في صحتها من الناحية التقنية. كثير من الحالات المدمَّرة التي افترضوا أنها وراثية تبيَّن أنها ليست كذلك، مثل الدرن (السل)، أو أنها ليس لها وجود من الأساس، مثل الثالاسوفيليا (حب البحار). لا شك في أن بعض الأمراض وراثية بالفعل، ولكن عددًا قليلًا للغاية منها، مثل داء هنتنجتون، ينتقل عبر جين جسدي سائد واحد، ومن ثَم يمكن القضاء عليها عبر منع حاملي هذا الجين عن إنجاب نسل. أثبت مبدأ هاردي-واينبرج (١٩٠٨) بطريقة رياضية أن تغيير معدل تكرار الصفات الوراثية باستخدام معايير علم تحسين النسل يتطلَّب عادةً إجراءاتٍ عسيرة، رغم عدم استحالتها، تُعَد غير أخلاقية. ولكن ظل المناصرون لهذه الإجراءات يعملون على فرضها عبر التشريعات، بل حصلوا على تصريحٍ بالتعقيم القسري «لضعاف العقول» من المحكمة الأمريكية العليا في قضية باك ضد بيل (١٩٢٧).

لطالما كان علم تحسين النسل علمًا مسيسًا، ولكنه أصبح علمًا مفرط التسييس على المستوى القومي والمحلي في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى. (وليس في الولايات المتحدة فحسب: كانت ثمة مجموعاتٌ علمية وتشريعاتٌ خاصة بعلم تحسين النسل في ثلاثين دولة على أقل تقدير في تلك الفترة.) المخاوف المتعلقة بتسبُّب الهجرات في تغيير التكوين الديموغرافي للولايات المتحدة، والانحياز الطبقي ضد الفقراء من البيض، والعنصرية الدائمة ضد الأمريكيين الأفارقة — مختلطة بمزاعم «العلوم العنصرية» التي تدور حول البنى الحيوية الهرمية الأساسية بين أعراق البشر، والتي وصلت إلى ذروتها في منتصف القرن التاسع عشر — واصلت اعتبار علم تحسين النسل حلًّا علميًّا لما كان في الأساس نزاعًا سياسيًّا. وخلال الفترة ما بين عامَي ١٩٠٩ و١٩٦٣ (عندما أُبطل القانون)، أجرت ولاية كاليفورنيا وحدها عشرين ألف عملية تعقيم قسري لأسبابٍ متعلقة بتحسين النسل.

وحتى بعدما أشاح المجتمع العلمي إلى حدٍّ كبير بنظره بعيدًا عن علم تحسين النسل، ظل مستمرًّا كقوة قانونية. وتسبَّب مزيج من النفور من الفظائع التي ارتكبها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية، وتنامي قوة حركة الحقوق المدنية، في إطلاق شرارة موجة من الإصلاح في نهاية المطاف. وظلت عملية تجديد الدماء مستمرة مع تغيير الجمعية الأمريكية لعلم تحسين النسل — التي تأسست عام ١٩٢٦، بعدما فقد علم تحسين النسل الدعمَ من المجتمع العلمي السائد — اسمها إلى جمعية علم الأحياء الاجتماعي عام ١٩٧٢. ولم تعُد تؤيد أفكار المنظمة التي سبقتها، وأصبحت تدعم الأبحاث الديموغرافية في الغالب. (في عام ٢٠١٤، أعادت تسمية نفسها مجددًا باسم جمعية الديموغرافيا الحيوية وعلم الأحياء الاجتماعي.) ولكن لا تزال عناصر من فكر تحسين النسل منتشرة في الثقافة العامة، كما قد تُثبِت بسهولة القراءة المتمعنة في الكتابات الصحفية عن علم الجينوم. ورغم انفصالها عن الحكومات، تحتل هذه المذاهب مكانةً مختلفة ضمن المجالات غير التقليدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥