مناهضة العلم «المؤسسي»
لا أحد يحب أن يُوصم بأنه عالِم زائف، ومن ثَم يطرأ السؤال البديهي: من الذي يملك الحق في وصم أي أحدٍ بهذا اللقب؟ وبما أن المشكلة تتعلق بتحديد ما يُعد علمًا، فإن المجموعة التي تملك الحق في إطلاق هذا اللقب هي في الغالب الأعم ما نُطلق عليها اسم «علماء التيار السائد»: أي، أعضاء المجتمع العلمي الذين يتَّبعون الأساليب والمنهجيات المتعارَف عليها. هذه المجموعة نفسها عبارة عن مجموعة متنوعة تزدهر بفضل خلافاتها ومناقشاتها الداخلية، ولكن في بعض الأحيان، قد تجد مجموعة فرعية من علماء التيار السائد مذهبًا ليس خطأً فحسب، بل مضرًّا أيضًا. في مثل هذه اللحظات، نجد ما يمكننا أن ننسبه إلى «العلم الزائف».
لكي تفهم كيف صُنفت العلوم الزائفة على هذا النحو، لن يمكنك ببساطة أن تبدأ بقائمة مذاهب وتحلل خواصها المشتركة، بل ستحتاج إلى النظر أيضًا إلى مجتمع علماء التيار السائد، والتعرُّف على الأسباب التي دفعته لأن يقرر أن هذه الأفكار تحديدًا مهمة بما يكفي لمهاجمتها. الكثير من الأفكار الخطأ — حتى الأكثر خطأً — تظهر كل يوم، ولكن تختفي أغلبها بلا أثر. ولكن بعضها يبقى.
حتى أولئك الذين يُقال عنهم إنهم علماء زائفون لاحظوا هذا النمط. يعتقد أغلب هؤلاء الناس أن ما يمارسونه علمًا، ولكنهم يدركون أن العلم الذي يمارسونه خارج عن إطار الإجماع العلمي. ويستمرون في عملهم اعتقادًا منهم بأن هذا الإجماع خطأ، وأنه يقوم على فرضيات خطأ، ومكاسب مادية شخصية، وغرور، وغيرها من الآثام غير المعرفية على نحوٍ مؤكد. بل يصرون أنهم هم من يمارسون «العلم الحقيقي»، وأن أنصار علوم التيار السائد هم الضالون. وعادة ما يصِفون في كتاباتهم الإجماع العلمي السائد بأنه «مؤسسي». هذا افتراء بيِّن، ويرسم صورة عن معسكرَين متقابلَين: المؤسسة التي تقمع الباحثين الشرفاء عن الحقيقة، وتشوِّه سُمعتهم بالحُجج الخادعة والإهانات على غرار «غرباء الأطوار» أو «المهوسين».
هذه سردية قوية، ولا يجدر بنا أن نندهش من لجوء بعض أولئك الذين وُصِموا بأنهم علماء زائفون إلى تبني هذه الافتراءات. بفعلهم ذلك، أصبحوا قادرين على الاستناد إلى واحدة من أعتى الأساطير التي تكتنف العلم الحديث، والموغلة في القدم حتى القرن السابع عشر: محاكمة جاليليو جاليلي. بينما كان يعمل كفلكي في البلاط الملكي في فلورنسا، دعم جاليليو علنًا النظام الفلكي الذي وضعه كوبرنيكوس: وجهة النظر التي تقول إن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس. اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية أن هذا المذهب خاطئ، وفي عام ١٦١٦، أمرته محكمة التفتيش بألا يتحدث عن هذا المذهب إلا باعتباره فرضيةً فقط. في عدة أعمال كتبها جاليليو على مدار الخمسة عشر عامًا التالية، استمر في تبني نظرية مركزية الشمس، وفي عام ١٦٣٢، نشر كتابًا تحت عنوان «حوار حول النظامَين الرئيسيَّين للكون». وُضع الكتاب في صورة مناظرة، وعامل جاليليو ظاهريًّا نظرية كوبرنيكوس على أنها مجرد فرضية، ولكن كان للكنيسة (وأغلب القراء في عصره وعصرنا الحالي) رأي آخر. اتهمته الكنيسة بمخالفة الحكم الصادر في عام ١٦١٦، وطالبته بالتراجع عن رأيه، وحكمت عليه بالإقامة الجبرية في منزله. حُوكم جاليليو من قبل المؤسسة بسبب معارضته للتيار السائد المتعارَف عليه في مجال الفلسفة الطبيعية، إلا أن آراءه هي التي انتصرت في النهاية. تلك القصة، التي بُولغ في تصويرها بطريقة رومانتيكية، أصبحت الركيزة التي تعتمد عليها قرارات العلماء الذاتية فيما يتعلق بالحاجة إلى الدفاع عن الحقيقة، وأصبح معتادًا أن يطوِّعها ويستخدمها كل من يرغب في محاججة المعتقدات السائدة بجميع صورها، حتى وإن كانت تلك المعتقدات هي الإجماع العلمي نفسه.
وصلنا الآن إلى فئة أخرى مما يُطلَق عليه العلوم الزائفة: العلوم «المناهضة للعلم المؤسسي». إنها ليست ببساطة علومًا مناهِضة للعلم المؤسسي، رغم أن علماء التيار العلمي السائد يعرضونها بهذا الوصف في بعض الأحيان، كما أنها ليست مناهِضة للعلم نفسه. ولكن يعتقد مؤيدوها أن العلم المؤسسي يفسد الحقيقة أو يحجبها، ومن ثَم يحتاج المدافعون عن العلوم الحقيقية — العلوم المُشيطنة التي يُطلق عليها العلوم الزائفة — إلى أن يعدلوا من أساليبهم لمقاومة العلم المؤسسي. كانوا يفعلون ذلك عادةً عبر استنساخ بِنى علوم التيار السائد التي ينتقدونها. تمتلك العلوم المناهضة للعلم المؤسسي معاهد، ومؤتمرات، ودوريات (عادةً ما تُقيَّم مقالاتها بنظام مراجعة الأقران)، وفي بعض الأحيان برامج لنيل الدرجات العلمية. من حيث الشكل، إنها تحمل جميع السِّمات المهنية للعلوم المؤسسية التي تندد بها. ولأن الجانبَين يستخدمان الآليات نفسها من أجل نشر رسالتَيهما بين العامة واستقطاب أتباعٍ جُدد، وُضعت العلوم المناهضة للعلم المؤسسي ضمن أكثر المذاهب المستبعَدة انتشارًا.
وبما أن العلوم المناهِضة للعلم المؤسسي طبقًا لتعريفها تستنسخ — أو تحاكي، أو تنسخ، أو تقلد — العلوم المؤسسية التي تعارضها، فيجب أن تختلف بناءً على السياق التاريخي. فقد اختلفت طريقة عمل المؤسسة العلمية في بريطانيا خلال القرن التاسع عشر عنها في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ويرجع ذلك ببساطة إلى تغيُّر هياكل عمل العلم السائد في تلك الأثناء. وعبر تتبُّع بعض من أهم الأمثلة على العلوم المناهِضة للعلم المؤسسي، لن يتمكن المرء من رؤية أوجه التشابه فيما بينها فحسب، بل أيضًا كيف تعكس كلٌّ منها الطرق السائدة لعمل العلم في نطاقه الخاص.
علم الفراسة
على الرغم من أن المذاهب المستبعَدة كانت موجودة دائمًا، فإن العلوم المناهِضة للعلم المؤسسي لم تظهر في واقع الأمر إلا مع بداية القرن التاسع عشر. ولكي يتمكَّن أتباع مذهب معين من استنساخ البِنى المؤسسية، يجب أولًا أن تمتلك المؤسسة نفسها بِنًى يمكن تحديدها، ولم يحدث ذلك في غرب أوروبا إلا مع مطلع القرن التاسع عشر. فقبل هذه الحقبة (في عصر جاليليو على سبيل المثال)، كان من يدرس الفلسفة الطبيعية هم هُواةَ متعلمين، كانوا يجنون قوت يومهم من مهن أخرى، مثل الأطباء أو المحامين، أو كانوا يتمتعون بثروة توارثوها. بدأ العلماء الذين يدرسون الطبيعة في التحوُّل إلى مهنيين في نهاية عصر التنوير، مع تحوُّل إجرائهم للأبحاث إلى وظيفة. صاحب هذا التحوُّل ظهور هُوية جديدة، ألا وهي: «العالِم». صيغ هذا المصطلح في عام ١٨٣١، وظهرت الحاجة إلى وجوده بسبب الحضور الذي يزداد وضوحًا للشخصية الجديدة التي تتكسَّب من إجراء الأبحاث، وتنشر أعمالها في الدوريات العلمية حديثة التأسيس، وتحصل على عضوية الجمعيات المتخصصة. ولم تكن مصادفةً أن يظهر مصطلح «العلم الزائف» في اللغات الأوروبية في هذه الفترة نفسها تقريبًا. ووُلدت العلوم المناهِضة للعلم المؤسسي.
الأرجح أن المثال الأول على هذه العلوم كان هو علم الفراسة الذي نشأ في سويسرا، ولكنه وجد الرواج الأكبر في شمال بريطانيا (خاصة اسكتلندا). عرض فرانز جوزيف جال، عالم الفسيولوجيا المتخصص في المخ، أفكاره خلال العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، ولكنها لم تلقَ رواجًا كبيرًا إلا بعد أن روَّج لها يوهان سبورزهايم الذي حضر واحدة من محاضرات جال العامة في عام ١٨٠٠. ازدهر علم الفراسة في القرن الجديد بناءً على مبادئ جال: الدماغ هو العضو المادي للعقل، والدماغ ليس عضوًا واحدًا، بل مجموع «أعضاء» مختلفة، ولكلٍّ من هذه الأعضاء وظيفة خاصة؛ ونظرًا إلى أن جميع الخصائص الأخرى متساوية، فإن حجم العضو يُعد مؤشرًا موثوقًا على قوة الملَكات العقلية؛ وأخيرًا، مع تعظُّم الجمجمة في مرحلة الطفولة، تحتفظ في النتوءات على سطحها بطبعات مختلف الأعضاء، والتي يمكن «قراءتها» لتحليل شخصية المرء. وطبقًا لما عرضه جال وسبورزهايم، كان علم الفراسة عبارة عن فرضية علمية معروضة للفحص من قبل الأطباء وعلماء الفسيولوجيا، وضمَّت قائمة خصومه أغلب أعضاء هذه المجموعة المذكورة، والذين سرعان ما وصموه بأنه علمٌ زائفٌ.
على الرغم من وصمة العار التي تلقَّاها من المؤسسة العلمية، ظل علم الفراسة محتفظًا بشعبية كبيرة لأن له الكثير من المناصرين، ولأن هؤلاء المناصرين لم يكونوا في العادة قاصرين على طبقة اجتماعية معينة. وقد درس الأشخاص المهتمون بالإصلاحات التعليمية والجنائية مذاهب علم الفراسة بتركيزٍ شديد، الأمر الذي تسبب بدوره في ربط هذه الأفكار بالحركات الراديكالية المعنيَّة بتوسيع نطاق حقوق التصويت لتشمل الطبقات الدنيا، وتقليص سلطات أصحاب المصالح الشخصية، سواء كانوا الأرستقراطيين أو الأطباء والعلماء المهنيين. أظهر تحليل لمؤلفي الأعمال الخاصة بعلم الفراسة، التي انتشرت مع انتشار الطباعة الرخيصة، أن المشكِّكين في علم الفراسة في الغالب من كبار السن، ومن طبقاتٍ اجتماعية أرقى من مناصريه، الذين هم في الغالب من أتباع الكنائس المنشقَّة (أو لا يؤمنون بأي دين). انجذب الاشتراكيون اليوتوييون في بريطانيا إلى أفكار علم الفراسة، الأمر الذي زاد من سوء سمعة هذا المذهب في عين المؤسسة العلمية. (الجدير بالذكر أن بعضًا من فرضيات جال، مثل تقسيم الدماغ إلى ملَكات عقلية، أصبحت حاليًّا ببساطة جزءًا من مبادئ علم الأعصاب المتعارَف عليها، إلا أن الفرضية الخاصة بالنتوءات على الجمجمة ليست كذلك.)

بعدما اتضحت حدود المعركة، بدأ علماء الفراسة في تقليد خصومهم تنظيميًّا، حتى مع اختلافهم معهم في كل الجوانب الأخرى. كانت هناك مجلات وكتيبات مخصصة لعلم الفراسة، ومحاضرون متنقلون لنشر الوعي العام، وكتب دراسية ودورات تعليمية، وما إلى ذلك. ظل علم الفراسة شائعًا طَوال القرن التاسع عشر (ولا يزال في الإمكان شراء تماثيل نصفية مميزة بالعلامات كقطعٍ تذكارية)، لكنه ظل سجينَ عالمٍ معرفي موازٍ. كان في الإمكان دراسة الفراسة والنشر عنها بقدر ما يشاء المرء، ولكن ضمن مجلات مستقلة فقط. من الصعب جدًّا استئصال أي علم مناهِض للعلم المؤسسي ما دام له مؤيدون وموارد مالية تدعمه.
إن معظم المذاهب المستبعَدة في القرن التاسع عشر لم تضاهِ قوة وانتشار علم الفراسة. (الاستثناءات هي التنويم الإيحائي والروحانية، اللذان استكشفا أيضًا العلاقة بين العقل والمادة وتسبَّبا في انطلاق حركاتٍ شعبية خاصة بهما.) لم يكن ذلك لقلة المحاولات. بل لأن المؤسسة العلمية، كلما ازدادت ترسخًا، ضاقت المساحات أمام أي كيانٍ بديلٍ يسعى لمنافستها. إن بناء مؤسسات علمية موازية لم يكن ليتم دون عزيمة لا تلين، وتمويل يضمن لها الاستمرارية، غير أن هذا الأخير كان، في معظم الأحيان، عصيًّا على التوفُّر.
نظرية الخَلق
إن انتشار اعتبار نظرية الخلق النموذج الأبرز للعلوم الزائفة في الغرب (خاصةً في الولايات المتحدة) يخفي وراءه المسار العسير الذي مرَّت به هذه الحركة قبل أن تتمكَّن من ترسيخ نفسها. إن كل الأديان تقريبًا تمتلك روايتها الخاصة عن الخَلق، وحتى في الكتاب المقدس اليهودي-المسيحي يحتوي سِفر التكوين على روايتَين متباينتَين قليلًا لقصة آدم وحواء، وهناك عشرات التأويلات اللاهوتية المعتمدة لتلك الآيات القليلة. وقد استغرق بناء سردية علمية تستند إلى أحد هذه التأويلات وقتًا طويلًا، وفي النهاية، وفَّرت البِنية التحتية المتنامية تدريجيًّا للمسيحية الإنجيلية الأساس المطلوب. وكانت النتيجة ظهور نظرية الخَلق كأنجح العلوم المناهِضة للعلم المؤسسي حتى يومنا هذا.
بدأت نظرية الخلق، أي العقيدة التي ترى أن طبيعة الأرض وتنوُّع الحياة عليها لا يمكن أن يُفسَّر تفسيرًا وافيًا إلا من خلال وجود الإله الخالق، في الأصل كعلمٍ بائد. في الدول ذات الأغلبية المسيحية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، لم يكن السؤال المطروح يتعلق بما إذا كان الرب (بالمفهوم المذكور في الكتاب المقدس) قد خلق النبات، والحيوان، والإنسان، بقدر ما كان يتمحور حول كيف تم ذلك. وأصبحت القضية الأكثر إثارة للجدل تتعلق بالبشر: ما إذا كانوا قد خُلقوا مرة واحدة، بحيث يكون التنوع العرقي على الأرض نتيجةً لتغيرات طرأت بعد عملية الخلق الأولى (وحدة المنشأ)؛ أم أن الأعراق البشرية نشأت منفصلة منذ البداية، بحيث خُلق كل عِرق على حدة (تعدُّد المنشأ). وبحلول الوقت عندما نشر تشارلز داروين كتابه «حول أصل الأنواع» في عام ١٨٥٩، أصبح الاعتقاد الراسخ بالخَلق الإلهي يواجه المزيد من الصعوبات، فقد بدأ بعض علماء التاريخ الطبيعي البارزين في طرح آليات تطورية متعددة لتفسير نشأة الكائنات الحية. لم تكن هذه الآليات مناقضة لفكرة الإله الخالق بالضرورة — فقد كان تصوُّر أن الله قد وضع بذور الحياة الأولى وترك قوانين الانتخاب الطبيعي تؤدي دورها تصورًا واردًا — غير أن استيعاب التطور في هذا السياق كان يقتضي تعديلات جوهرية في الفهم التقليدي لصفحات سِفر التكوين الأولى.
لم يمثِّل ذلك مشكلةً كبيرةً في البداية. فعند مطلع القرن العشرين، أصبح إطار «الطبيعانية العلمية» الفكري، الذي روَّجه بشدة توماس هنري هكسلي — والذي ينص على ضرورة استبعاد التفسيرات الخارقة للطبيعة من النظريات العلمية من حيث المبدأ — مقبولًا بشكلٍ متزايد كمعيار، الأمر الذي أدى تدريجيًّا إلى إقصاء النقاشات حول الخَلق خارج المجتمع العلمي. وبحلول عام ١٩٠٠، تضمن المجتمع العلمي الناطق باللغة الإنجليزية — حيث دارت معظم هذه النقاشات في بريطانيا العظمى وكندا، وبشكل خاص في الولايات المتحدة — مجموعة متنوعة من المواقف، تتراوح من المادية الصرفة (التي تفترض أن كل شيء نشأ من المادة دون أي تدخل خارق للطبيعة)، إلى التطور التوحيدي (الذي يرى أن الله وجَّه تحوُّل الأنواع وفقَ خطة محددة)، إلى نظرية الخلق وفق نموذج الأرض القديمة (التي تفترض صحة الرواية التوراتية لخلق آدم، لكنها ترى أن ذلك حدث بعد ملايين السنين من خلق الأرض)، وصولًا إلى الموقف الهامشي جدًّا حينها، وهو نظرية الخَلق وفق نموذج الأرض الفتية. كان الموقف الأخير يرى أن الكون خُلق في ستة أيام منذ ما يقرب ستة آلاف عام.
كانت نظرية الخلق وفق نموذج الأرض الفتية قريبة بشكلٍ واضحٍ من التفسير الحَرفي للكتاب المقدس، والذي كان يزداد رواجًا بين المسيحيين الإنجيليين، ولكنها واجهت مشكلات كبيرة في التعامل مع الملاحظات الجيولوجية حول تكوين الجبال وأودية الأنهار، هذا فضلًا عن السجل الحفري الذي كان في توسع مستمر.
أما الشخص الأكثر مسئولية عن معالجة هذه الإشكالية المفاهيمية، وبالتالي منح مجتمع نظرية الخَلق مذهبًا يمكنهم من خلاله حشد منظومتهم المضادة للمؤسسة العلمية، فكان جورج مكريدي برايس. وُلد برايس عام ١٨٧٠، ونشأ في الكنيسة الأدفنتست السبتية التي انبثقت عن الحركة الميلرية التي اختفت سريعًا — وهي حركة كانت تُصر على أن عودة المسيح ستكون بين عامَي ١٨٤٣ و١٨٤٤، الأمر الذي لم يتحقق في واقع الأمر — الأمر الذي جعله شخصية هامشية، ليس فقط في أفكاره العلمية، بل في معتقداته الدينية أيضًا. بصفته مدرسًا، أدرك أن الجبهة الرئيسية ضد المؤسسة العلمية لا يجب أن تُدار على أساس علم الأحياء الدارويني، بل من خلال علم الجيولوجيا، الذي قدم الأدلة على أن عمر الأرض ملايين أو مليارات السنين، مما يسمح للانتخاب الطبيعي بأن يؤدي معجزاته. ففي عمله «الجيولوجيا المنافية للمنطق: أضعف نقطة في نظرية التطور» (١٩٠٦)، حوَّل برايس الاهتمام من آدم وحواء إلى نوح. وفي أعظم مؤلفاته، «علم الجيولوجيا الجديد» (١٩٢٣)، قال إن الطوفان الذي أغرق الأرض بأسرها كما ذُكر في الإنجيل كان عنيفًا بحيث أنشأ بدرجة كارثية سِمات سطح الأرض التي تبدو أنها موغلة في القدم بدرجة لا يمكننا تخيلها. ألهم هذا العمل ويليام جينينجز برايان، السياسي الشعبوي المرموق ومحامي الدفاع في قضية سكوبس، لدعوة برايس للإدلاء بشهادته (رغم اختلاف برايان مع مفهوم جيولوجيا الطوفان)، ولكن كان برايس في إنجلترا، وغير قادر على السفر. عاد برايس عام ١٩٢٩، وخلال العَقد التالي لهذا التاريخ، بدأ الأصوليون يقرءون أعماله، ويؤسسون جمعيات مناصرة لنظرية الخلق تُروج فكرة الأرض الفتية التي تحمل آثار طوفان نوح.
خلال العقود الوسطى من القرن العشرين، غيَّر الأصوليون الأمريكيون استراتيجياتهم من محاولة استئصال الحداثة من المدارس والكنائس، مثل حظر تدريس نظرية التطور، إلى إنشاء برامج إذاعية ومعاهد إنجيلية وكليات جامعية. وتوافقت جمعيات نظرية الخلق بصورة تامة مع هذا القالب الانفصالي. لم تنجح المحاولات الأولى، مثل جمعية الدين والعلم (١٩٣٦-١٩٣٧)، في تحقيق التأثير المطلوب، ولكن واصل برايس مزاولة نشاطه بتأسيس جمعية جيولوجيا الطوفان عام ١٩٣٨، والتي انبثقت من أوساط الأدفنتست في لوس أنجلوس. لكن ظلت جيولوجيا الطوفان تلعب دورًا هامشيًّا في المحاولات الدينية للتوفيق بين المسيحية والعلم حتى أواخر خمسينيات القرن العشرين، عندما أعيد إدخال نظرية التطور الداروينية إلى العديد من المدارس العامة الأمريكية.
يظهر في المشهد في تلك الفترة جون سي ويتكوم، عالِم اللاهوت، وهنري إم موريس، المهندس الهيدروليكي المرموق. كانا قد التقيا عام ١٩٥٣، وألهم كلٌّ منهما الآخر لتحديث الإطار الجيولوجي لبرايس ومواءمته مع اللاهوت المغاير للأدفنتست. ونشرا عملهما تحت عنوان «طوفان سِفر التكوين» (١٩٦١)، ليكون بمنزلة دراسة علمية عن حدث خلق الأرض الفتية بناءً على أدلة تجريبية لطوفان عالمي كارثي حدث قبل عدة آلاف من السنين. وبعدما رفضتهما الرابطة العلمية الأمريكية المهيمنة في ذلك الوقت، أسس موريس وبعض زملائه الذين يؤمنون بالأفكار نفسها جمعية أبحاث الخلق في يونيو ١٩٦٣. وقد ركزت هذه الجمعية، منذ البداية، على التعليم والبحث أكثر من التبشير والسياسة.
خلال عَقدها الأول، كانت مشروعات الجمعية الرئيسية هي نشر مجلة «كريشان ريسيرش سوسايتي كوارترلي» وإعداد كتاب مدرسي لعلم الأحياء للمرحلة الثانوية، والذي صدر عام ١٩٧٠ بعنوان «علم الأحياء: بحث عن النظام وسط التعقيد». وخلال العَقد التالي، بدءوا يُطلقون على هذا النهج اسم «علم الخلق» أو «الخلقية العلمية»، وطالبوا بمنحه وقتًا يساوي الوقت المكرَّس لتدريس «علم التطور» في مناهج المرحلة الثانوية. وعلى الرغم من أن الجمعية بدأت بعشرة مؤسسين، كان من بينهم خمسة حاصلون على شهادة الدكتوراه في علم الأحياء، فإن استقطاب متخصصين في جيولوجيا الطوفان أصبح مهمةً صعبة بشكل متزايد. وفي عام ١٩٧٠، رفض موريس منصبًا أكاديميًّا ممنوحًا في مجال الهندسة المدنية بجامعة أوبرن للتعاون مع تيم لاهاي من سان دييجو (المؤلِّف المشارك لسلسلة روايات «المتروكون» المسيحية الشهيرة التي تتحدث عن أحداث ما بعد نهاية العالم) لإنشاء معهد أبحاث الخلق. (نُقل المعهد منذ ذلك الوقت إلى دالاس بولاية تكساس.) تواصلت عملية التنظيم المؤسسي بوتيرة متسارعة مع إصدار المجلات وتنظيم المؤتمرات. وكانت الاستراتيجية العامة تتمثل في تحدي الداروينية عبر تشريعاتٍ تطالب بتحديد «وقتٍ متساوٍ» لكلٍّ من «علم الخلق» و«علم التطور» في حصص العلوم، ولكن في ثمانينيات القرن العشرين، حكمت المحكمة العليا الأمريكية بأن تدريس نظرية الخلق في المدارس العامة يمثل تأييدًا حكوميًّا للدين، وبالتالي لن يكون دستوريًّا.
بعد فشل استراتيجية الوقت المتساوي في الثمانينيات، تبنَّى أنصار نظرية الخلق نهجًا أقل ارتباطًا باللاهوت اليهودي-المسيحي يُعرف باسم «التصميم الذكي»، بدعمٍ من معهد ديسكفري (الذي تأسس عام ١٩٩٠) في سياتل. كانت كل السِّمات المميزة للمؤسسات العلمية حاضرة: كتاب مدرسي («عن الباندا والناس: السؤال الجوهري عن الأصول الحيوية»، ١٩٨٩)، وبيانات شعبوية، وحملة دكتوراه (بعضهم في الكيمياء الحيوية والرياضيات، وآخرون في الفلسفة أو العلوم الاجتماعية) الذين منحوا المؤسسة الموازية مكانةً علمية. سيفشل هذا النهج القانوني الساعي لإزالة الطابع اللاهوتي عن نظرية الخلق أيضًا في حكم محكمة استئناف عام ٢٠٠٦، ولكن المؤسسة المناهضة للعلم المؤسسي مستمرة، مدعومة بشكلٍ تكافلي من توجه الحركة الإنجيلية الأوسع نطاقًا نحو التعليم الأبريشي والمنزلي. ما زالت المجلات والمعاهد قائمة في الغالب، ووجدت مقلدين لها في الخارج.
علم دراسة الحيوانات الخفية
علم دراسة الحيوانات الخفية ليس مذهبًا واحدًا، بل مصطلحًا شاملًا تندرج تحت مظلَّته الكثير من المذاهب. على وجه التحديد، إن أنصار هذه المذاهب المتنوعة لا يفترضون شيئًا مستحيلًا من الناحية العلمية: إنهم يزعمون أن هناك حيوانات معينة على الأرض اليوم لا يعترف بوجودها العلم السائد. وبمجرد رصد أحد هذه «الكائنات الأسطورية» (على حد تعبير المنتقدين)، كما حدث في حالة الحبار العملاق الذي رُصد أخيرًا عام ٢٠٠٤، فإن علماء العلم السائد سيرحبون من حيث المبدأ بوجوده. فالأنواع الجديدة تُكتشف طَوال الوقت.
لكن أدَّى تشكُّك المؤسسة العلمية في بعض ادعاءات علماء دراسة الحيوانات الخفية إلى ظهور مؤسسات مناهِضة للعلم المؤسسي للدفاع عن الكائنات التي يفضِّلونها. وعلى النقيض من نظرية الخَلق التي تمتلك جميع السِّمات البنيوية للعلم السائد، فإن العلم الذي يشبه، بصورة أكبر، علم دراسة الحيوانات الخفية هو التاريخ الطبيعي. يعطي هذا العلم الأولوية للمعرفة الواسعة بالطبيعة وشهادات الشهود الموثوقين، ويستخدم أنواع الأدلة وطرق الاتصال التي تشبه أساليب هُواة مراقبة الطيور والصيادين أكثر من أساليب العلماء في المختبرات.
ثمة مجموعة من الحيوانات المرشَّحة (مثل شيطان جيرسي، وتشوباكابرا، وما يماثلهما)، لكنَّ الحيوانَين الأكثر شهرةً وإثارةً للجدل هما بيج فوت (المعروف أيضًا باسم ساسكواتش، ورجل الثلج المقيت، ويتي) ووحش لوخ نيس (المعروف أيضًا باسم نيسي). وعلى الرغم من أن أنصار وجود هذه المخلوقات يستشهدون بالفولكلور كدليلٍ غير رسمي، فإن البحث العلمي الجاد في علم دراسة الحيوانات الخفية بدأ في أوائل القرن العشرين.
يُعد نيسي تجسيدًا بريطانيًّا للمشكلة نفسها؛ حماس شعبي كبير — أثاره جزئيًّا افتتاح طرق قرب بحيرة لوخ نيس في مرتفعات اسكتلندا في أوائل القرن العشرين، مما سمح برؤية مساحات أوسع من البحيرة — مقرونًا بحالات متكررة من الفبركة. وعلى النقيض من حالة بيج فوت التي كانت الفبركة فيها في كثير من الأحيان لأجل المتعة فقط، كانت صور نيسي المزعومة تُستخدَم أحيانًا لتحقيق مكاسب مالية أو لجذب السياح. وقد تجاهل العلماء ووكالات التمويل المَطالب الجادة لفحص البحيرة باستخدام السونار، أو استكشافها باستخدام الغواصات، نظرًا إلى التكلفة الباهظة وانعدام الاحتمالية تقريبًا لاكتشاف ما يُقال إنه بليزوصور ما زال على قيد الحياة (على الرغم من انقراضه منذ العصر الطباشيري)، أو أي كائن بحري غامض آخر. ويعطي الموقع الجغرافي المحدد لهذه المجموعات البحثية المناهضة للعلم المؤسسي دورًا مزدوجًا يتمثَّل في الترويج السياحي المحلي، ومحاولة توزيع النشرات الإخبارية، وجمع النتائج البحثية.
الكارثية الكونية
في شهر أبريل عام ١٩٥٠، نشر المحلل النفسي الروسي المهاجر إيمانويل فيليكوفسكي، الذي كان يعيش في نيويورك، كتابًا حقق أفضل المبيعات تحت عنوان «عوالم في تصادم» مع دار ماكميلان، التي تُعد أبرز دار نشر علمية في الولايات المتحدة. زعم فيليكوفسكي أن تفسيرًا دقيقًا للقصص الخرافية المأخوذة من مختلف أنحاء العالم كشف أنه نحو عام ١٥٠٠ قبل الميلاد انطلق مذنب من كوكب المشتري، واقترب بشدة من الأرض. كان لهذا الحدث تأثير كارثي على كوكبنا تسبَّب في ميلان محوره، وتشقق القشرة الأرضية، وإصابة الناجين من هذه الكارثة بالرعب، الأمر الذي دفعهم إلى تسجيل رعبهم في الحكايات الشعبية. وبعد عقود من تفاعل الجاذبية والقُوى الكهرومغناطيسية مع الأرض، استقر المذنب أخيرًا ليصير كوكب الزهرة، جارنا السماوي الأقرب. تطلبت نظرية الكارثية الكونية لفيليكوفسكي تحدي النظريات السائدة والراسخة في علوم الجيولوجيا والفيزياء الفلكية، والكهرومغناطيسية، بالإضافة إلى التاريخ القديم، لأنها اعتمدت على إعادة تأريخ جدلية للنصوص المصرية، والعبرية، والخاصة ببلاد ما بين النهرين لكي تصف جميعها الكوارث المذهلة نفسها. وبِيع من الكتاب عدد كبير للغاية من النسخ.
جزء من السبب في ذلك يرجع إلى أنه رسم مسارًا للمصالحة بين العلم والدين، بعيدًا عن التصور الأصولي المسيحي لنظرية الخَلق. (كان فيليكوفسكي يهوديًّا، متحمسًا للصهيونية، ولم يلجأ إلى أي قوًى خارقة للطبيعة في صياغة إطاره الفكري) ولكن كان المحرك الرئيسي لشهرته هو أن مجموعة صغيرة من العلماء، من بينهم عالم الفلك الشهير للغاية من هارفارد هارلو شابلي، أرسلوا رسالة إلى دار ماكميلان يطالبونهم فيها بسحب النص لأنه يندرج تحت العلم الزائف، وحذَّروا من أن عدم الامتثال لذلك قد يؤدي إلى مقاطعة قسم الكتب المدرسية الخاص بالدار، والذي يُشكِّل عصب استقرارها المالي. بعد شهر من الشد والجذب، رضخت ماكميلان وحوَّلت عقد فيليكوفسكي إلى دار دابلداي، وهي دار نشر لا تملك قسمًا للكتب المدرسية يمثِّل نقطة ضعفها. انفجر فيليكوفسكي غضبًا، ولكن صعدت مبيعات كتابه إلى عنان السماء. فسارع هو ومؤيدوه إلى ارتداء عباءة جاليليو، زاعمين أن العلماء التقليديين يضطهدونهم لمجرد أنهم يقولون الحقيقة. مع انحسار الضجة الأولى، واصل فيليكوفسكي نشر أعمال تكميلية لكتاب «عوالم في تصادم» دون أن يهمل السعي إلى نيل الشرعية والتصديق من المؤسسة العلمية. ولكنه لم يلقَ أي تجاوب منها، رغم أنه قد أحرز بعض النجاحات في التكهن بسِمات غير مألوفة للزهرة والمشتري، والتي اكتُشفت مع بزوغ عصر الفضاء.
خلال ستينيات القرن العشرين، عادت نظرية الكارثية الكونية بشكلٍ أقوى من ذي قبل، مصحوبة بمؤسسة مناهضة للعلم المؤسسي. فعندما أصبح فيليكوفسكي على مشارف السبعين من عمره، وجد نفسه في أحضان ثقافة الطلاب المضادة، الذين ارتشفوا من مزيجه من النصوص القديمة وعلوم النجوم جرعة مُذهِبة للعقل. فظهرت بعض الدوريات التي ركزت على نظرياته، بينما استفز مؤيدوه العلماء البارزين — ولا سيما عالم الفلك الشهير كارل ساجان، الذي سخر علنًا من ادِّعاءات فيليكوفسكي عن كوكب الزهرة — وطالبوا بمنح فيليكوفسكي فرصة لعرض أفكاره. ظهرت فجأة دورات تعليمية تتناول أفكاره، وألقى محاضرات في جامعات مختلفة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة حضرها جمهور كبير. وآمن مؤيدوه بأن بين أيديهم علمًا جديدًا.
كان علم فيليكوفسكي المناهِض للعلم المؤسسي تجربة شخصية تمامًا. فقد كان هو قلبه النابض، وكان يتدخل باستمرار في أنشطة أتباعه، ويراقب ما يُنسب إليه من مزاعم من جانبهم، ويستبعد من يشك في عدم إخلاصهم الكافي لمبادئه الخارجة عن المألوف. وعندما تُوفي عام ١٩٧٩، لم تتمكَّن الفروع الأمريكية والبريطانية لنظرية الكارثية الكونية من الاستمرار بالزخم نفسه، خاصة مع ظهور أدلة جيولوجية وفلكية تناقضها، وفقدانها لقوة شخصية فيليكوفسكي الداعمة. وفي خلال عَقد واحد بعد وفاته، اختفى مؤلف كتاب «عوالم في تصادم» في طي النسيان.
الفضائيون، في الحاضر والماضي
ظلت التخمينات حول حضارات الكواكب الأخرى أمرًا هامشيًّا دائمًا، فهي عنصر أصيل من عناصر الخيال العلمي منذ ظهوره، لكنها اتخذت طابعًا جديدًا في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية. ففي الرابع عشر من يونيو ١٩٤٧، لاحظ ويليام برازيل، المشرف على العمال في مزرعة تقع على بُعد ٣٠ ميلًا شمال مدينة روزويل بولاية نيومكسيكو، وجود بعض الحطام الغريب على الأرض. وبعد مرور ١٠ أيام، شاهد كينيث أرنولد، صاحب شركة لتوريد معدات إطفاء الحرائق في مدينة بويسي بولاية أيداهو، تسعة أجسام دائرية متصلة معًا في أثناء تحليقه بطائرته فوق سلسلة جبال كاسكيد. وأثارت مشاهدات مماثلة ﻟ «الأجسام الطائرة المجهولة» أو بقاياها — بما في ذلك الحطام والعلامات المحترقة على الأرض — فضولًا كبيرًا لدى العديد من المهتمين، وهو فضول تعزَّز فقط بسبب محاولات القوات الجوية الأمريكية التي بدت غير بارعة لإنكار وإخفاء هذه الآثار. وخلال العقود العديدة التالية، ظهر علم مناهض للعلم المؤسسي أطلق على نفسه اسم علم الأجسام الطائرة المجهولة.
إن تناول السينما والأدب لمسألة الأجسام الطائرة المجهولة — بالإضافة إلى الشكوك المتصاعدة حول السرية العسكرية في زمن حرب فيتنام، وتصاعد المواجهة مع السوفييت — أبقى الفضول تجاهها متقدًا. وقد وثَّق علماء اجتماع، ومؤرخون، وصحفيون مراحل تلك الحركات المؤمنة بزيارة كائنات فضائية ذكية للأرض، واستمرارها في العيش بيننا، وربما اختطافها (أو استمرارها في اختطاف) البشر لغاياتٍ تجريبية. وساهم الانتشار الكبير للكاميرات المدمجة في الهواتف المحمولة، والوعي المتزايد بإمكانية تعديل الصور الرقمية في تقليل تصديق تلك الادعاءات بعض الشيء خلال العقود الأخيرة.
إذا لم يكن الفضائيون يزوروننا في العصر الحالي، فهل يعني ذلك أنهم زارونا بالفعل في الألفية السابقة؟ في عام ١٩٦٨، نشر مدير فندق سويسري شاب يُدعى إريش فون دانيكين كتابًا حقق نجاحًا مذهلًا بعنوان «عربات الآلهة؟» فسَّر فيه عجائب الحضارات القديمة (مثل الأهرامات)، والتقليد العالمي باعتبار الآلهة قادمة من السماء الناتج عن زيارة كائنات فضائية في العصور القديمة. لقد استخدمت تلك الكائنات تقنياتهم المتقدمة في إنشاء المباني، بل التناسل مع أسلاف تطورنا الأشبه بالقرود لإنتاج البشر الحاليين. قراءة الكتاب ممتعة، فهو يشبع (مثلما فعل فيليكوفسكي) شغف القراء بعصر الفضاء والأساطير القديمة. وقد انتقد علماء الآثار والأنثروبولوجيا الكتاب، ووصفوه بأنه يشوِّه سجل الأدلة بشكلٍ كبير، بالإضافة إلى كونه عنصريًّا لافتراضه أن القدماء ذوي البشرة الداكنة لم يكونوا قادرين على تحقيق هذه العجائب دون مساعدة شبه خارقة. لم تُضعِف الانتقادات شعبية فون دانيكين، ولكنها ربما حدَّت من قدرته على إنشاء علم مناهض للعلم المؤسسي. فلا تزال نظرياته حية حتى الآن في المسلسلات التليفزيونية والأفلام الشهيرة.
ثمة نقطتان مهمتان فيما يتعلق بعلم الأجسام الطائرة المجهولة المناهِض للعلم المؤسسي (سواء الحالي أو القديم) تحتاجان إلى تأكيدهما. النقطة الأولى هي مدى قوة نظريات المؤامرة في جوهره. إن كل زعمٍ بزيارات الفضائيين يأتي مصحوبًا بادِّعاء مقابلٍ بأن الحكومة تحاول إخفاء الأمر. تضم جميع المؤسسات المناهضة للعلم المؤسسي تقريبًا نظريات مؤامرة في طياتها مستمدة من موقفها المعارض للمؤسسة العلمية السائدة، إلا أن هذه النظريات واضحة بصورة أكبر في علم الأجسام الطائرة المجهولة.
النقطة الثانية، وعلى الطرف الآخر من المذاهب غير التقليدية، يتعيَّن على علم الأجسام الطائرة المجهولة أن يتنافس مع مجال علمي هامشي آخر — البحث عن حياة عاقلة غير أرضية — والذي على صلة وثيقة أكثر بالعلوم السائدة، على الرغم من أن معظم العلماء يتجاهلونه باعتباره غير ذي أهمية أو مصدرًا للتضليل. يفحص ممارِسو علم البحث عن حياة عاقلة غير أرضية موجات الراديو التي تمطر الأرض من أنحاء الكون من أجل تحديد ما يمكن أن يكون إشارات من حضارات فضائية. لا تمت هذه الأساليب بصلة إلى نظريات المؤامرة، وهي علمية تمامًا: أجهزة إلكترونية أساسية، وتحليل حاسوبي لأشكال الموجات، وحسابات احتمالات. مع ذلك، فإن قُرب هذا العلم من قضايا شائكة على غرار «الفضائيين» عادة ما يجعله شبه محظور؛ لذا يحرص علماء الفلك هؤلاء على كشف زيف أي مزاعم تتعلق بزيارات الفضائيين. وبالمثل، يصِم علماء الأجسام الطائرة المجهولة علم البحث عن حياة عاقلة غير أرضية بأنه جزء من عملية إخفاء الحقيقة. تحاكي العلوم المناهضة للعلم المؤسسي العلوم المؤسسية، وفي بعض الأحيان، تكون تلك المحاكاة متبادَلة.
الأرض المسطحة
على الرغم من أن تلك العلوم المناهضة للعلم المؤسسي تستمر في جذب أنصارٍ، فإنه من النادر أن ينمو أيٌّ منها. على النقيض من ذلك، برزت نظريات الأرض المسطحة من أعماق اللاوعي الجمعي الغامضة لثقافتنا لتكتسب بعض الزخم. كشفت دراسة استقصائية أُجريَت عام ٢٠١٨ أن واحدًا من بين كل ستة أمريكيين غير مقتنعٍ تمامًا بكروية الأرض، وفي عام ٢٠١٩، أشارت دراسة أخرى إلى أن ٧ في المائة من البالغين البرازيليين يرفضون هذه الفكرة من أساسها. ولكن ثمة مفارقة هنا. في الخطاب الشعبي، يُنظر إلى فكرة أن «الأرض مسطحة» على أنها ارتدادٌ إلى القرون الوسطى، ورفض كل ما هو حديث. في الواقع، منذ أيام أفلاطون وأرسطو على أقل تقدير، التزم الفكر الغربي بإيمانٍ راسخٍ بكروية الأرض. لم يكن الجدل المحتدم يدور حول شكل الأرض، بل ما إذا كانت خطوط العرض الجنوبية مأهولة (أو حتى قابلة للسُّكنى). ومع استثناءات محدودة للغاية — كالكاتبَين المسيحيَّين القديمين لاكتانتيوس وكوزماس إنديكوبليوستس، اللذين نشرا كتاباتهما بين القرنين الثالث والسادس — كان المفكرون الطبيعيون المسيحيون والمسلمون في العصور الوسطى يستهجنون فكرة الأرض المسطحة، ويرونها ضربًا من الهُراء. ترجع فكرة اعتقاد «مفكري العصور الوسطى» بأن الأرض مسطحة بشكلٍ كبيرٍ إلى كتابات الكاتب الأمريكي واشنطن إرفينج في القرن التاسع عشر، الذي طرح هذه الفكرة ليوحي بأن كريستوفر كولومبوس كان ثوريًّا علميًّا عندما أبحر غربًا عبر المحيط الأطلنطي. و«إعادة إحياء» هذه الفكرة في القرن الحادي والعشرين لا تُعَد إعادة إحياء من الأساس، بل بدعة حداثية (أو ما بعد حداثية).
كما وثَّق الفيلم الوثائقي الحديث «خلف المنحنى» (بيهايند ذا كيرف) الذي أخرجه دانيال جيه كلارك، ٢٠١٨، تزايد الاهتمام بفكرة أن الأرض مسطحة، مع جغرافيا مركزها القطب الشمالي، ويحيط بها جدار جليدي على الحافة. برع الفيلم في تصوير الخلافات داخل الحركة، فضلًا عن مؤتمرها الأول، الذي يمثِّل البدايات الأولى لتكوين علم مناهض للعلم المؤسسي. تستند هذه الأفكار، في الغالب دون الاعتراف بذلك، إلى أفكار ويلبر جلين فوليفا، الذي ادَّعى عام ١٩١٤ أن الأرض مسطحة، وأن الشمس يبلغ عرضها اثنين وثلاثين ميلًا، وتبعد عن الأرض مسافة ثلاثة آلاف ميل فقط. (كان هذا هو رده على نظريات الأرض المجوفة التي أطلقها العلم الهامشي في القرن السابق، والتي كانت تستلزم أرضًا كروية.) وظلت المذاهب الجغرافية البديلة، كالإيمان بالقارتَين المفقودتَين أطلانطس وليموريا، ركنًا راسخًا في العلوم الهامشية. (ولكنها لم تكن كذلك تمامًا؛ فقد كتب أفلاطون عن قارة أطلانطس.)

ينتشر فكر نظريات المؤامرة بين المؤمنين بنظرية الأرض المسطحة، ربما حتى أكثر من المؤمنين بعلم الأجسام الطائرة المجهولة. ولكن، كيف يمكن تفسير الإجماع الساحق على كروية الأرض، والذي يُدرَّس حرفيًّا في كل قاعة دراسية في العالم؟ وكيف يمكن أيضًا تفسير الصور المتعددة التي التقطتها بعثات الفضاء الدولية، والتي تُظهِر الكرة الأرضية معلقة في الفضاء الخارجي؟ لا بد من أنها مؤامرة مدبَّرة لإخفاء الحقيقة عن الجمهور. في الواقع، هذا هو الزعم الرئيسي للمؤمنين بأن الأرض مسطحة. وجهود هذه المجموعة البحثية موجَّهة بشكل حصري لكشف زيف نظرية كروية الأرض وفضح المؤامرة.
ثمة أمر آخر مشترك بين الحركات المناهضة للعلم المؤسسي: ثمة حضور ذكوري هائل بها (رغم عدم اقتصارها عليهم). وكحقيقة تجريبية، ينجذب الرجال إلى تلك الحركات غير التقليدية بنسبة أكبر من النساء. قد يرجع ذلك جزئيًّا إلى المجالات الاجتماعية المرتبطة بالنوع المنبثقة منها تلك الحركات — في حالة بيج فوت، الصيادون والحطابون — كما أنها أيضًا سِمة مشتركة بين واضعي نظريات المؤامرة. ولكن قد يرجع على الأقل جزء من السبب إلى سِمة المحاكاة التي تتمتع بها العلوم المناهضة للعلم المؤسسي. فقد بُنيت هذه المؤسسات حول تصور عن كيفية أداء العلم، وحتى وقت قريب، كانت المؤسسة العلمية السائدة تهمِّش النساء بشدة. هل من المفاجئ أن نرى هذا الجانب أيضًا ينعكس في مرآة العلوم غير التقليدية؟