الفصل الخامس

العقل وقدرته على التحكم في المادة

تُعَد طريقة عمل العقل والعضو المرتبط به، الدماغ البشري، بالغة التعقيد، الأمر الذي أدى إلى ازدهار علم الأعصاب، والعديد من المجالات الفرعية المتخصصة من علم النفس. ويبدو أنه لا يمر شهر دون أن يتوصل العلماء إلى اكتشافات جديدة وغير متوقعة حول القدرات العقلية للبشر، بدءًا من مرونة الخلايا العصبية، وصولًا إلى قدرة الجنين على التقاط إيقاعات لغة أمه في أثناء وجوده في رحمها. واللافت أن العديد من هذه الاكتشافات التي نعرفها اليوم كانت تُعَد مجرد أوهام أو أخطاء علمية وفقًا للإجماع العلمي السائد في ماضٍ ليس ببعيد.

فلتسأل نفسك بأمانة: هل تمتلك القدرة على تحريك الأشياء بأفكارك؟ هل يمكن أن تقرأ أفكار الآخرين؟ هل سبق أن انتابك إحساسٌ غريبٌ بأن حدثًا جللًا قد وقع في مكان بعيد — كارثة طبيعية، وفاة شخص مقرب — ثم تبيَّن لاحقًا أن حدسك كان في محله؟ يستبعد معظم الناس الفرضية الأولى تمامًا، ويتعاملون مع الثانية بتشكُّك كبير. أما الثالثة، فتظل حاضرة في الأذهان بقوة. أسهب عالم النفس والفيلسوف الأمريكي المرموق والمشهود له برجاحة العقل، ويليام جيمس، في توثيق ودراسة ادِّعاءات القدرات العقلية غير التقليدية — التي أُطلق عليها لاحقًا اسم «علم ما وراء النفس» — ورأى أن الأدلة الشفوية عن الشعور بوفاة شخص عزيز كانت كبيرة بدرجة تستحق المزيدَ من البحث، رغم رفضه لغيرها من الادعاءات باعتبارها محض هُراء.

تتطلَّب التحقيقات العلمية حول ظواهر علم ما وراء النفس، ولا سيما «الإدراك الحسي الفائق» — أي القدرات العقلية التي تتجاوز الحواس الخمس المعهودة: البصر، والسمع، والشم، والتذوق، واللمس — تدقيقًا علميًّا صارمًا. وهناك ثلاثة أسباب تدفع إلى الاهتمام بهذا المجال البحثي الذي لا يتوقف عن إثارة الجدل. الأول، أن هذا الموضوع لا يزال يُعَد من أكثر «العلوم الزائفة» انتشارًا بين العامة والعلماء. تنشر المجلات العلمية المتخصصة من وقتٍ إلى آخر مقالات تدَّعي إثبات وجود الإدراك الحسي الفائق، ويكتبها علماء معترف بهم وذوو مكانة علمية مرموقة. (غالبًا ما تفُوق هذه الدراسات في عددها الأبحاث التي تفنِّد الإدراك الحسي الفائق. إذ إن تقديم دليل مزعوم على الظواهر الخارقة، مثل التخاطر أو الاستبصار، أكثر جاذبية للمحررين من مجرد إثبات عدم وجودها) إن القبول المتحفظ الذي يبديه التيار العلمي السائد تجاه هذا المجال يمنحه طابعًا استثنائيًّا بين العلوم غير التقليدية.

السبب الثاني هو أن هناك تطورًا تاريخيًّا يمتد على الأقل منذ أواخر القرن الثامن عشر، يربط بين مختلف النظريات التي تناولت القدرات الذهنية غير المعتادة. ورغم التباين الكبير بين التنويم الإيحائي، والروحانية، وأبحاث الإدراك الحسي الفائق الحالية، فإن ثمة تشابهًا واضحًا بين الممارسات، ومن يمارسونها عبر الزمن. (كما هو متوقع، تستمر النظريات القديمة في الوجود كعلومٍ بائدة إلى جانب نظيراتها الأكثر حداثة وتطورًا.) من هذا المنظور، يُظهر علم ما وراء النفس تطورًا تاريخيًّا وتميزًا يشبهان إلى حدٍّ كبير ما نجده في العلوم التقليدية الأخرى.

السبب الأخير، والمرتبط بالسببَين السابقَين، يتمثَّل في أن اكتشافات علم ما وراء النفس كانت لها تأثير عميق على منهجية التجارب التي أدَّت إلى إعادة تشكيل أبحاث العلوم السائدة. لطالما استدعت شهرة وغرابة ادِّعاءات علماء ما وراء النفس في الماضي ظهور مجموعة من كاشفي الزيف الذين يسعون إلى إثبات أن هذه الظواهر المزعومة ليست سوى محض خيال، أو مجرد نتائج مشوهة بسبب أساليب التصميم التجريبي. ترك كلٌّ من المدافعين وكاشفي الزيف إرثًا كبيرًا من العلامات البارزة في مجال الممارسة التجريبية. وأدى هذا السباق المنهجي إلى دفع علم النفس نحو مستوياتٍ أعلى من الدقة والتطور، سواء في المختبرات أو في تحليل البيانات.

التنويم الإيحائي (الميسمرية)

انطلقت شرارة الولع بالتنويم الإيحائي من فيينا، غير أنها لم تبلغ أوج اشتعالها إلا في باريس. ففي شهر فبراير عام ١٧٧٨، حطَّ الطبيب الشوابي فرانتس أنطون ميسمر رحاله في عاصمة التنوير، قادمًا من عاصمة إمبراطورية هابسبورج؛ حيث أحدثت نظرياته وعلاجاته ضجة واسعة. وكان جوهر المسألة يتمحور حول الحد الفاصل بين الطب والفيزياء: فمن جهة، قدَّم ميسمر علاجاتٍ يُفترض أنها قادرة على التخفيف من وطأة عدد من الأمراض، سواء النفسية أو العضوية، ومن جهة أخرى، طرح تفسيرًا طبيعانيًّا يوضح أسباب نجاح أساليبه العلاجية. وكثيرًا ما أكد مرضاه أنهم قد تعافوا، أو على الأقل شعروا بتحسنٍ بعد خضوعهم لجلساته، ومن الصعب إنكار شهادة المريض عن معاناته وتجربته الذاتية. غير أن الآلية التي ادَّعى ميسمر أنها تفسر نجاح علاجاته أثارت حفيظة العلماء الفرنسيين، فهبُّوا لمحاولة فضح زيف ادعاءات ذلك المتطفل.

ادَّعى ميسمر أنه اكتشف سائلًا خفيفًا للغاية يخترق جميع الأجسام في الكون، وأن انسداد مجرى هذا السائل يؤدي تلقائيًّا إلى المرض. ولحسن الحظ، يمكن التحكم في معدلات تدفُّقه داخل جسم الإنسان، وإعادة المرضى إلى عافيتهم. وقال إن هذا السائل يتمتع بخصائص مغناطيسية، ويدخل الجسم عبر عدة «أقطاب» — حيث يقوم القطب الشمالي بتمرير السائل الميسمري القادم من النجوم عبر الرأس، بينما يجلب القطب الجنوبي المغناطيسية الأرضية — ومن الممكن إزالة العوائق أمام تدفقه عبر التدليك. ومن شأن اندفاع السائل أن يُنتِج تشنجاتٍ أو غفوات، يقول المرضى بعدها إنهم شعروا بأنهم في حال أفضل كثيرًا. وبفضل القدرات العلاجية لهذه المادة، أصبح من المنطقي تخزينها من أجل سهولة استخدامها، وكان ذلك ممكنًا في حوضٍ حديدي ضخم ذي أقطاب تخرج منه. أصبحت هذه العملية بالكامل (وكانت عملية مربحة) جذابةً للغاية بين طبقات النخبة والعامة. ومن المرجح أنه كان الموضوع الأكثر انتشارًا في أحاديث الناس طَوال عَقد كامل حتى انعقاد مجلس الطبقات العامة في عام ١٧٨٩.

fig7
شكل ٥-١: عادةً ما كان الدكتور ميسمر يعرض المغناطيسية الحيوانية أمام أتباعه في تجمُّع مزدحم مثل الظاهر في الصورة. لاحظ الحوض الضخم والأسلاك المعدنية في منتصفه، والذي كان يُستخدم في تركيز السائل، وكذلك الزبائن من طبقة النخبة من كلا الجنسين.

لم يكن من المفاجئ أن يحقق التنويم الإيحائي هذا النجاح الكبير. كانت ثمانينيات القرن الثامن عشر في باريس خلال نظام الحكم الأرستقراطي، حقبة تتسم بالطيش، وكانت مشبَّعة بالحماسة للاكتشافات العلمية المذهلة، التي بعضها خيالية، وبعضها الآخر حقيقية. كانت الأحذية التي يُروج لها أنها تُمَكِّن الناس من السير على الماء ضمن الاكتشافات الخيالية، ولكن على الجانب الآخر، عرض الأخوان مونجولفييه منطادهما الذي يعمل بالهواء الساخن في صيف عام ١٧٨٣، وهو الاكتشاف الذي بدأ عصر الطيران البشري. وطَوال عقود، كان المحاضرون الجوَّالة يعرضون على الناس عجائب الكهرباء الاستاتيكية؛ فكانوا يشحنون أجساد صِبية صغار بالكهرباء، ويعلقونهم بحِبال، ويعرضون كيف تطفو قصاصات من الورق في الهواء حول أجسادهم عكس الجاذبية، أو يرسلون صاعقة كهربية تمر عبر أجساد صفٍّ من الأشخاص. أتاحت قدرة قارورة ليدن — وهي وعاء زجاجي به قضيب معدني — على تخزين الكهرباء إمكانية عرض التأثيرات الكهربية على نطاقٍ أوسع، ولم يتفوق عليها إلا اختراع البطارية الفولتية في عام ١٨٠٠. كانت هذه الثقافة القائمة على العروض ملائمة تمامًا للتنويم الإيحائي، واستفاد جيدًا من صعق صفوف المشاهدين وقارورة ليدن في عروضه. السؤال الآن: هل كان التنويم الإيحائي مثل الأحذية، أم مثل المنطاد المشار إليهما؟

كان الفلاسفة الطبيعيون في تلك الحقبة، مصدومين من السلوكيات الفاضحة التي تحدث في صالونات ميسمر، ومنزعجين من تخميناته بشأن السائل المغناطيسي الكوني الذي لا يمكن الكشف عن وجوده بمعداتهم، يهدفون إلى الإجابة عن هذا السؤال. كان ميسمر قد طلب من الجمعية الملكية للطب أن تفحص علاجاته (ولكنها امتنعت عن ذلك)، وعلى الرغم من أنه قد دُعي بالفعل للمثول أمام أكاديمية العلوم، فقد تجاهله أبرز أعضائها بعد ذلك. وعندما ذاع صيته أكثر، قرر العديد من الأكاديميين أن يتحققوا من علاجاته. وفي ربيع عام ١٧٨٤، شكَّلوا لجنتَين، كانت اللجنة الأكثر شهرة منهما مكوَّنة من أشخاص ذوي مكانة مرموقة في أكاديمية العلوم وكلية الطب. كان هذا الفريق مرصعًا بالنجوم فعليًّا، فقد كان يرأسه بنجامين فرانكلين الذي كان في زيارة لباريس في تلك الفترة ضمن بعثة دبلوماسية من الولايات المتحدة التي حصلت على استقلالها حديثًا، وأنطوان لافوازييه، مكتشف الأكسجين وأبرز كيميائيي أوروبا. كان هذا الفريق من أول مجموعات كشف الزيف في العصر الحديث، الذي كان الشرارة الأولى لتقليدٍ استمر حتى الآن في علم ما وراء النفس.

رتَّب تشارلز ديسلون، مساعد ميسمر، الأمر بحيث يكون هو شخصية الاختبار الرئيسية (رغم اعتراضات رئيسه). بدأت اللجنة عملها بفرض أن السائل المغناطيسي لا وجود له، وأن جميع تأثيراته على الأشخاص ما هي إلا نتاج خيال مفرط. وبدءوا محاولة إثبات ذلك مدرجين في العملية النظريات المعاصرة عن كيفية اختلاف الخيال باختلاف النوع والطبقة الاجتماعية. قسَّم لافوازييه البروتوكول التجريبي إلى قسمَين: الأول، محاولة فصل السائل عن الخيال عن طريق تنويم عينات التجربة إيحائيًّا دون أن يعرفوا ذلك، ثم محاولة فصل الخيال عن السائل عن طريق دفع الناس إلى تصديق أنهم خضعوا للتنويم رغم عدم حدوث ذلك في الحقيقة. صممت اللجنة تجربة تدور حول جلوس عينة الاختبار على مقعدٍ أمام ستارٍ، بينما يحاول ديسلون أن ينوِّمها إيحائيًّا من الخلف من دون أن تعرف، وبعد ذلك تُخبَر أن ديسلون هناك على عكس الحقيقة. أجرى أعضاء اللجنة عملية مماثلة مع عينة اختبار معصوبة العينَين. وجاءت النتائج كما توقعتها اللجنة تمامًا: لم تحدث أي تشنجات في التجربة الأولى، وحدثت بإفراطٍ في التجربة الثانية. من هنا نشأت «العلاجات الوهمية» التي أصبحت حاليًّا نظامًا تجريبيًّا معياريًّا في علم النفس.

أفقدت النتائج التي نشرتها اللجنة مصداقية ميسمر لدى بعض الدوائر. بينما استمرت دوائر أخرى في الإيمان بصحة هذا المذهب، واتهمت اللجنة بالتحيز، واستخدام أساليب معيبة أو ادَّعت أن ديسلون يفتقر إلى البراعة في التنويم الإيحائي. بعد ذلك، اجتاحت الثورة الفرنسية باريس، وحلَّ الوعي العام محلَّ التنويم الإيحائي. وعثر الأخير لنفسه على وطنٍ جديد على الجانب الآخر من القناة الإنجليزية في عشرينيات القرن التاسع عشر. وخلال المحاولة البريطانية لإحياء التنويم الإيحائي، استخدم الممارسون السائل المغناطيسي في تخدير الناس قبل الجراحات، وجمعوا بين التنويم الإيحائي وعلم الفراسة كأسلوبٍ جديدٍ لفهم دماغ الإنسان. ومرةً أخرى، لم يألُ كاشفو الزيف جهدًا في الهجوم على أولئك الأطباء الذين أقسموا إن المغناطيسية الحيوانية ظاهرة علمية مقبولة، بغض النظر عن أصولها الفاضحة.

الروحانية

ظهرت «الروحانية» (أو «الوساطة الروحية») في شمال نيويورك عام ١٨٤٨، ولكنها ازدهرت في إنجلترا الفيكتورية حيث هُجِّنت بما تبقى من التنويم الإيحائي. ففي بوفالو، زعمت الأخوات فوكس امتلاكهن القدرة على الدخول في حالة من الغفوة تمكِّنهن من التواصُل مع أرواح الموتى التي تجيب، من خلال الطَّرق على الطاولات وتحريك الأثاث وأمور من هذا القبيل. وفي لندن، اكتسبت جلسات تحضير الأرواح الأمريكية الارتجالية هذه بِنية منهجية أكثر.

كان «الوسيط» — الذي أُطلق عليه هذا الاسم لأنه يتوسَّط بين عالم الأرواح وعالمنا — عادةً ما يكون امرأةً شابة أو ذكرًا حديثَ السن من الطبقات الاجتماعية الدنيا، وكان يجلس وسط مجموعة من الناس حول طاولة في غرفة مظلمة. وطبقًا لأغلب ممارسي الروحانية، تنساب الأرواح المنفصلة عن أجسادها عبر الوسيط، وتُحدث العديد من التأثيرات: طرقات وخبطات، ورفع الأثاث أو الأشخاص في الهواء، والكتابة دون كاتب، والأصوات المخيفة، والتجسدات الإكتوبلازمية العرضية. أصبحت الروحانية أيضًا حديث الأوساط الراقية، وظهرت حركات فرعية في باريس، وبرلين، وسان بطرسبرج وأماكن أخرى.

أرجع الكثير من الدارسين الذين حلَّلوا الحركات الروحانية، التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، سبب ظهورها إلى أنها نتاج الأزمة التي ألمَّت بالاعتقاد الديني التقليدي. فنظرًا إلى التقدم الهائل في العلوم في ذلك الوقت، كان أفراد الطبقة المتوسطة في منتصف القرن يشعرون بالقلق من أن الطقوس الكنسية التي ورثوها أصبحت تبدو أكثر شبهًا بالخرافة منها بالحقيقة. على هذا المنوال، اعتبر بعض الناس أن الروحانية تُعد طريقة علمية أكثر لفهم الروح: فهي تعتمد على المراقبة في بيئات خاضعة للسيطرة، وغالبًا ما تستخدم تقنيات جديدة — مثل التصوير الفوتوغرافي حديث العهد — لتسجيل ما يحدث في أثناء الجلسات الروحية. كانت هذه الجلسات في الأساس تجريبية؛ إذ كان يراقب المشاركون الأحداث بأنفسهم، ويبذلون عادةً جهودًا مضنية لاكتشاف أي غش أو خداع؛ فإذا استطاع الوسيط اجتياز هذه الاختبارات، فلمَ قد يمتنع المرء عن الإقرار بواقعية تلك الظواهر؟ طبقًا لهذا التفسير، لم يكن يُنظر إلى الروحانية على أنها معادية للعلم أو للدين، بل كانت مزيجًا يجمع بين العلم والدين.

إن الإفراط في تسليط الضوء على الجانب «الروحي» من الروحانية قد يؤدي إلى إغفال تنوُّع الحركة. ظل بعض المشاركين في الجلسات الروحية في حالة من التشكُّك فيما إذا كانت الأرواح الراحلة هي التي تسببت في الظواهر التي تحدث داخل غرفة الجلسة. هل كانت هذه التأثيرات ناتجة عن تفاعلات بين نبضات الدماغ والأثير الكهرومغناطيسي؟ نظر العديد من العلماء المرموقين إلى جلسات تحضير الأرواح بتشكُّك حتى اقتنعوا عبر المراقبة بأنفسهم، ومن ثَم منحوا الوسطاء سُلطتهم العلمية القيمة. شملت هذه القائمة الكيميائي البريطاني البارز ويليام كروكس، والمكتشِف المشارِك للانتخاب الطبيعي ألفريد راسل والاس، وعالِم الكيمياء العضوية الروسي ذا التأثير الكبير ألكسندر بوتليروف. وقد اجتمع فريق من العلماء (وبعض العالمات) البريطانيين في عام ١٨٨٢ لتأسيس جمعية الأبحاث الروحانية، برئاسة الفيلسوف هنري سيدجويك. (وتأسست الجمعية الأمريكية للأبحاث الروحانية بعد عامَين من هذا التاريخ.) وعلى الرغم من أن معظم الأعضاء الأوائل انضموا إلى الجمعية مدفوعين باهتمامهم بالروحانية، فقد وسَّعت الجمعية تحقيقاتها لتشمل التخاطُر والتنويم المغناطيسي، اللذين كانا يُعتبران ظاهرتين ذواتَي صلة. وفي الوقت نفسه، تفككت الدوائر الروحانية إلى حركاتٍ باطنية، مثل الثيوصوفية، والتي اختلطت بالفكر الباطني من جنوب آسيا.

وكما حدث مع التنويم الإيحائي، جذبت الروحانية العديد من كاشفي الزيف، ومن ضمنهم مؤدُّو العروض السحرية الناشئون، مثل هاري هوديني، الذين استغلوا مهاراتهم لكشف المحتالين. وتمكَّن بعض الوسطاء من الصمود أمام الهجمات، واستمروا في اجتذاب أتباعٍ. كان قلق العلماء يتمحور بالأساس حول أن ظهور زملاءٍ لهم بين صفوف المؤمنين بهذه الحركة قد يُضفي مزيدًا من المصداقية عليها، فشكَّلوا العديد من لجان التحقيق. على سبيل المثال، في سان بطرسبرج، شكَّل ديمتري مندليف، الذي وضع النظام الدوري للعناصر الكيميائية في عام ١٨٦٩، لجنة أدَّت إلى توتر علاقته مع بوتليروف، دون أن تُخفف من موجة الاهتمام بالمجالات الباطنية (رغم النتائج التي لا تقبل الجدل التي أسفرت عنها التحقيقات).

وكان من أبرز نتائج هذه التحقيقات — التي أُجريت تحت مظلة جمعية الأبحاث الروحانية وخارجها — استخدام العشوائية في التجارب العلمية. كان العديد من اختبارات قدرات الوساطة الروحانية يعتمد على قدرة المشاركين على تخمين تسلسلات أوراق اللعب، أو الكشف عن هُوية أشياء مخفية بدقة كبيرة. استلهم عالِم الفسيولوجيا الباريسي (الذي حصل لاحقًا على جائزة نوبل) شارل ريشيه من مجلة الجمعية فكرة اختبار مدى انتشار التخاطر بوجه عام في المجتمع، وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر أدخل مجموعات عشوائية من المشاركين وأوراق اللعب للتأكد من استبعاد الحظ أو الخداع. وسرعان ما انتقل هذا الأسلوب من ميادين علم ما وراء النفس الغامضة لتصبح ربما التحول الأبرز في أساليب التجريب العلمي خلال القرنَين الماضيَين.

علم ما وراء النفس الجامعي

في بداية القرن العشرين، كانت الأبحاث الروحانية يجريها هُواة، سواء أولئك الذين يفتقرون إلى المؤهلات المهنية أو العلماء المدربون الذين كانوا يعتبرونها نشاطًا ثانويًّا دون أن تتوفر لهم الموارد الكافية (أو حتى موافقة زملائهم). وفي عام ١٨٩٨، أجرى هارلو جيل، الذي كان يعمل مدرسًا غير دائمٍ لعلم النفس بجامعة مينيسوتا، استطلاعًا لآراء علماء النفس في إحدى عشرة مؤسسة علمية عن وضع الأبحاث الروحانية، فوجد أن هناك مؤسستين فقط تتعاملان مع الموضوع بجدية (هو نفسه وويليام جيمس سالف الذكر من جامعة هارفارد). لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى انضم إليهما جيه إتش هايسلوب من جامعة كولومبيا ومحاضر آخر غير معروف من جامعة بنسلفانيا. عندما كرر هايسلوب تحقيقات جيل في عام ١٩١٧، تبيَّن له أن حال الأبحاث الروحانية الأكاديمية قد تدهور أكثر مما كان عليه. فحين تُركت الجامعات لتدير شئونها بنفسها، كانت تثبط مثل هذا النوع من الأبحاث.

كان للمتبرعين الأثرياء رؤاهم الخاصة. فعندما أجرى هايسلوب استطلاعه الثاني، كانت التبرعات المخصصة للأبحاث الروحانية تنهمر على جامعة كلارك (١٩٠٧)، وستانفورد (١٩١١)، وهارفارد (١٩١١-١٩١٢). وتبرع توماس ويلتون ستانفورد، الأخ الأصغر لمؤسس جامعة ستانفورد، بمبلغ ٥٠ ألف دولار لتأسيس قسم للأبحاث الروحانية ضمن قسم علم النفس. وقبِل كلٌّ من رئيس القسم ورئيس الجامعة تلك المنحة بتحفظ. وعيَّنا جون إي كوفر، ابن المدينة الذي حصل على درجة الدكتوراه مؤخرًا، ليقود هذا المسعى البحثي. ورغم تشككه، كرَّس كوفر خمس سنوات كاملة لإجراء تجارب دقيقة، طوَّر خلالها نموذجًا لكيفية تطبيق منهجية علم النفس التجريبي على هذا المجال. وفي عام ١٩١٧، نشر كتابه تحت عنوان «تجارب في البحث الروحاني» مع نهاية المنحة، ونسب نتائج أبحاثه إلى الصدفة البحتة، كما كشف أمرَ وسيطٍ مزيف. وظل صندوق جامعة هارفارد المُخصَّص لإحياء ذكرى الباحث الروحاني الأسترالي-الإنجليزي ريتشارد هودجسون متوقفًا، حتى وجد أخيرًا المسئولون عنه في عام ١٩١٦-١٩١٧ مجالًا جديرًا به. أعطت اللامبالاة الإدارية، وندرة الكوادر، تلميحات كئيبة عن مستقبل الأبحاث الروحانية.

ومع ذلك، ازداد الاهتمام بنقل دراسة الظواهر الخارقة إلى صفوف الباحثين المهنيين عقب الحرب العالمية الأولى، مع بدء انضمام مجموعات جديدة من التجريبيين الجادين إلى الجمعية الأمريكية للأبحاث الروحانية. وبحلول أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، حدث تبدُّل في الأجيال مكَّن من إدخال طرق جديدة مستوحاة من تجارب إينا جيفسون الرائدة في مجال الاستبصار، التي أُجريت في الجمعية البريطانية للأبحاث الروحانية خلال عشرينيات القرن العشرين. قاد هذا الاهتمام المجدد بأبحاث علم ما وراء النفس جوزيف بانكس راين من جامعة ديوك، الذي غيَّر مجال أبحاثه من علم النبات إلى علم النفس حين التحق بجامعة كارولاينا الشمالية عام ١٩٢٧.

تبلور علم ما وراء النفس، مع تطوُّره بشكل مهني خلال القرن العشرين (وإلى حدٍّ ما في شكله الحالي)، حول برنامج راين في جامعة ديوك، وبشكل خاص حول كتابه النموذجي «الإدراك الحسي الفائق» (١٩٣٤). وعلى الرغم من أنه كان مهتمًّا بالتحقيقات الروحانية منذ أمدٍ بعيد، فقد خاب أمله مبكرًا بسبب الوسطاء المحتالين، وشعر بالإحباط من الأعمال التي تسير على خُطى جمعية الأبحاث الروحانية. فأطلق برنامجه الجاد في عام ١٩٣٠ بعد قراءته المكثفة للكتب المنشورة، واستقطاب زملاء تجريبيين، مثل عالِم النفس الإدراكي كارل زينر.

تميزت أبحاث راين بتحسين المنهجية. فقد استخدمت الأعمال السابقة، التي تعود إلى ما قبل ريشيه، قدرة بعض الأفراد على تخمين وجوه أوراق اللعب المخفية. قدَّر راين بساطة هذا الإجراء، وسهولة إخضاع نتائجه للتحليل الإحصائي، لكنه وجد أنه يعاني من كثرة المتغيرات المشوِّشة. فقد يكون للأفراد ارتباطات عاطفية معينة مع أوراق لعب محددة (مثل الواحد البستوني أو ملكة القلوب)، الأمر الذي قد يتسبب في تحيُّز تخميناتهم، وكانت هناك ببساطة أوراق كثيرة للغاية للتعامل معها. بدلًا من ذلك، وجَّه بإعداد ما يُعرف اليوم ببطاقات زينر، التي أزالت مسألة الميل العاطفي من التجربة، واستبدلت بالأرقام خمسة أشكال سوداء: دائرة، وعلامة جمع، وثلاث أمواج متعرجة، ومربع، ونجمة خماسية.

كان من المفترض أن يحقق الفرد الذي يخمن عشوائيًّا معدل صحة يبلغ ٢٠ في المائة (أي واحد من كل خمسة)، وكان أي شخص يتجاوز مستوى الصدفة بفارق كبير — أو، الأمر المثير للدهشة، يقل عنه بفارق كبير — من الناحية الإحصائية يقدم دليلًا على تمتعه ببعض القدرات الروحانية. واعتمادًا على نهج جيفسون، فرَّق راين مفاهيميًّا بين تأثيرَين: التخاطُر (أي قراءة أفكار المُجرِّب في أثناء تأمُّله لبطاقة زينر) والاستبصار (تحديد البطاقة عندما تُخفَى عن كلٍّ من المُجرِّب والمشارك). خضع المشاركون لآلاف جولات التجارب باستخدام البطاقات على مدى نوبات عمل شاقة. وأسفرت أغلب التجارب عن نتائج لا تبتعد عن نسب الصدفة، ضمن حدود الخطأ التجريبي، بينما أسفرت بعض التجارب عن نتائج غير اعتيادية. ومن خلال إدخال أساليب جديدة للتحليل الإحصائي والضوابط التجريبية في ميدان الأبحاث الروحانية، نجح راين في رفع مستوى احترام هذا المجال في الأوساط الأكاديمية، وزيادة التبرعات لجامعة ديوك.

لم يكن الكثير من انتقادات المشككين مفاجئًا. فبدلًا من إيجاد آلية سببية — كيفية انتقال الصور إلى المتلقي — أكد راين أن التأثير ذا الدلالة الإحصائية يُثبت وجود الظاهرة، حتى إن ظلَّت سُبل تفسيرها غامضة. ورأى راين أن مسألة عدم تأثر نتائج الإدراك الحسي الفائق الخاصة به بالمسافة — فقد كان من يملكون هذه القدرة يخمنون البطاقات بشكل صحيح بنفس المعدل، سواء كانت البطاقات في الغرفة المجاورة أو في مدينة أخرى — ينبغي أن تكون موضع دراسة مستقبلية. واستحدث إرفينج لانجموير معيار التمييز المُسمَّى «العلم الباثولوجي» كرد فعلٍ مباشر على نتائج راين. وحتى العلماء الأكثر اهتمامًا بالإحصاء، مثل عالِم الوراثة السكانية جورج برايس، أزعجتهم دلالات البيانات، وأصروا على أن التفسير الوحيد المعقول هو الاحتيال، وهو اتهام كان بمنزلة الطعنة في قلب راين المدقِّق في عمله.

في الواقع، قال المتشكِّك وكاشِف الزيف المتشدد مارتن جاردنر في عام ١٩٥٧: «ينبغي أن يُقال فورًا إن راين ليس عالمًا زائفًا بأي حال، ولا تصح مقارنته، ولو من بعيد، بأغلب الرجال الذين ذُكروا في هذا الكتاب. إنه نزيه تمامًا، وأجرى أبحاثه بعناية وكفاءة لا يمكن تجاهلهما بسهولة، ويستحق معاملة أكثر جدية بكثيرٍ مما تتيحه هذه الدراسة السطحية.» وبحلول عام ١٩٤٠، كانت نحو خمسين جامعة تجري تجارب باستخدام بطاقات زينر. ولكن بدأ الحماس تجاه أبحاث راين يتراجع في خمسينيات القرن العشرين. لم يرجع السبب في ذلك إلى رفض علماء النفس النتائج نفسها، بل لأنهم كانوا يمتلكون طاقة وموارد محدودة، وفضَّلوا تجنُّب العمل على موضوع يثير استياء قيادة جمعية علم النفس الأمريكية بشكلٍ مستفز.

fig8
شكل ٥-٢: جوزيف بانكس راين يُجري إحدى تجارب علم ما وراء النفس باستخدام بطاقات زينر.

لم يختفِ علم ما وراء النفس الجامعي تمامًا، ولكنه لم يستعِد مجددًا مستوى المصداقية الأكاديمية الذي كان يحظى به في عصر راين. وفي منتصف سبعينيات القرن العشرين، كانت هناك نحو ست مؤسسات عريقة تضم عددًا محدودًا من الباحثين المتفرغين في علم ما وراء النفس. وفي عام ١٩٦٩، قُبِلت جمعية علم ما وراء النفس رسميًّا في الجمعية الأمريكية لتقدُّم العلوم، رغم أن معظم منشورات هذا المجال استمرت في الظهور في دوريات متخصصة (وهامشية). وفي سبعينيات القرن العشرين، برز مجال بحثي جديد يستخدم النظم الميكانيكية التي يُعرف عنها أنها عشوائية — مثل رمي النرد، والحصول على الرقم ستة بمعدل غير طبيعي — لاختبار قدرة الأفراد على التأثير الروحاني الحركي في المادة.

كان أحد آخر هذه البرامج هو مختبر أبحاث الشذوذ الهندسي التابع لمدرسة الهندسة والعلوم التطبيقية في جامعة برينستون العريقة في ولاية نيو جيرسي. وقد كان هذا المشروع مشروعًا شخصيًّا يخص روبرت جان، رائد تصميم أنظمة الدفع الكهربائي للمركبات الفضائية وعميد المدرسة، ويُقال إنه استوحى فكرة البحث من أحد الطلبة الجامعيين. أنشأ مختبر أبحاث الشذوذ الهندسي مولدات أرقام عشوائية، ثم اختبر قدرة المشاركين على تحريف المتوسط الإحصائي إما بالزيادة وإما بالنقصان عن المتوقع. وعلى نحوٍ مماثل لراين، نشر جان بيانات تفيد بوجود تأثير (عند مستوى دلالة قدره ٠٫٠٠٠٢٥)، إلا أن الفرق الجوهري بين دراسته ودراسة راين تمثَّل في عدم تمكُّن الباحثين في مختبرات أخرى من تكرارها. ظل مختبر أبحاث الشذوذ الهندسي قائمًا بفضل التبرعات الخاصة، خاصةً الدعم التأسيسي الذي وفَّره جيمس ماكدونيل، أحد أقطاب صناعة الطيران (الذي كان يؤمن بأن الحالة العقلية للطيارين تؤثر في أداء الطائرات)، ولكن المختبر أغلق أبوابه في عام ٢٠٠٧، وغادر الحرم الجامعي، وهو أمر قابله بالارتياح زملاؤه السابقون في كليات الهندسة.

كاشفو الزيف

نشأت أغلب المعارضة لعلم ما وراء النفس في القرن العشرين من التجاهل الراقي الذي أبداه علماء النفس التقليديون لما رأوا أنه يمثِّل إحراجًا لعلم اجتماعي كان يسعى جاهدًا لكسب احترام العلماء الطبيعيين. وكانت تلك المعارضة في معظمها سلبية. ولكن في سبعينيات القرن العشرين، ومع عودة الاهتمام بأنماط متنوعة من العلوم الخارجة عن التيار السائد، اتخذ بعض المشككين موقفًا أكثر شراسة؛ حيث جمعوا طيفًا متنوعًا من الباحثين للمشاركة في تفنيدٍ ممنهجٍ لادعاءات النظريات الخارقة، بدءًا من الإدراك الحسي الفائق وانتهاءً بالأجسام الطائرة المجهولة.

من بين الرموز التي أشعلت هذا الجدال كان العالِم الروحاني ذو الأصول الإسرائيلية أورى جيلر. بدأ المهتمون بعلم ما وراء النفس يستمعون إلى تقارير عن قدرات جيلر المذهلة منذ عام ١٩٦٩، وبحلول أوائل السبعينيات، أصبح يتنقل كثيرًا بين أوروبا وأمريكا الشمالية، مقدمًا عروضه أمام جماهير غفيرة وعلى شاشات التلفزيون التي تتضمن قدرته على تخمين أرقام النرد المخفية في صناديق، وقراءة أفكار الآخرين، وإنجازه المميز المتمثل في ثني ملعقة معدنية موجودة في يده باستخدام قوة عقله. (أُبرزت هذه القدرة الأخيرة في فيلم الخيال العلمي الشهير «المصفوفة» (ذا ماتريكس) عام ١٩٩٩، إلا أن استخدام ثني الملعقة في الإشارة إلى جيلر ربما لم يؤدِّ غايته على الوجه الأمثل مع المشاهدين الشباب الذين لم يعاصروا حقبته.) ومن بين الذين أُسروا بسحر هذه الظاهرة الإعلامية الباحث في علم ما وراء النفس أندريا بوهاريش، الذي رتب في سبتمبر ١٩٧٢ لإحضار جيلر إلى معهد ستانفورد للأبحاث، ذلك المركز البحثي غير الربحي الذي انفصل رسميًّا عن الجامعة في عام ١٩٧٠.

في المعهد، أجرى فيزيائيان سابقان مختصَّان في الليزر، راسل تارج وهارولد بوتهوف، سلسلة من الدراسات على جيلر، واستنتجا أن قدراته حقيقية. وفي أكتوبر ١٩٧٤، نُشرت ورقة بحثية تستند إلى هذه التجارب في المجلة العلمية البريطانية المرموقة «نيتشر». (وكانت تلك الورقة البحثية واحدة من الأبحاث القليلة المتعلقة بعلم ما وراء النفس التي استطاعت الظهور على منصة مرموقة كهذه.) كانت هذه الأبحاث مموَّلة جزئيًّا (بمبلغ يقارب ٥٠ ألف دولار) من وكالة المخابرات المركزية، التي كانت تخشى من اتساع «الفجوة الروحانية» بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، الذي كان يُعتقد أنه يجند الوسطاء الروحانيين للمشاركة فيما أُطلق عليه «تجسس الإدراك الحسي الفائق»: استخدام الاستبصار لقراءة ملفات محفوظة في خزائن مغلقة. كما ساهمت وكالة ناسا ببعض التمويل، بتشجيعٍ من رائد الفضاء واختصاصي التخاطر إدجار ميتشل، الذي أجرى تجربة إدراك حسي فائق بنفسه من فوق سطح القمر عام ١٩٧١.

أثار كل هذا استياء المشككين، الذين بدءوا يقتنعون بأن آليات المجتمع العلمي التقليدية أصبحت عاجزة عن صد موجة من اللاعقلانية الجديدة. وبرز مشروع محدد، لأسباب عديدة، من أهمها خيبة الأمل في علماء التنجيم. كان قد شارك الفيلسوف الإنسانوي العلماني بول كورتز في تأليف هجوم لاذع على علم التنجيم عام ١٩٧٥، الذي انتعش حينها قليلًا (كما هي الحال اليوم)، وحوَّل اهتمامه إلى تنظيم معارضة لعلم ما وراء النفس. فكوَّن مجموعةً أسماها «موارد التقييم العلمي للظواهر الخارقة»، ودعا إلى الانضمام إليها تشكيلةً واسعةً من المشككين أمثال كاتب تبسيط العلوم مارتن جاردنر، وعالِم الاجتماع مارتشيلو تروتسي، إضافةً إلى الساحر الشهير جيمس راندي أو «راندي المذهل». سرعان ما أُعيد تشكيل المجموعة تحت اسم «لجنة التحقيق العلمي في مزاعم الظواهر الخارقة». ضمَّت اللجنة شخصيات علمية بارزة، أبرزهم عالِم الفلك الشهير كارل ساجان، وكاتب الخيال العلمي المعروف إسحاق أسيموف، وعالِم النفس السلوكي المرموق بي إف سكينر. كان ساجان، المعروف بتسامحه مع الأفكار غير التقليدية نظرًا إلى اهتمامه باحتمال وجود حياة عاقلة خارج الأرض، أحد أبرز الأعضاء المعروفين في المجموعة.

أجرت اللجنة بعض التحقيقات التجريبية في مجال علم ما وراء النفس، لكنها صبَّت أغلب تركيزها على فضح المحتالين بطرقٍ حاسمة. لهذا السبب بالذات استقال تروتسي. كتب راندي بشكلٍ واضحٍ يقول: «لا تنكر اللجنة إمكانية وجود مثل هذه الظواهر، وأنا شخصيًّا لا أنكرها. ولكن في ضوء خبرتي الطويلة في فحص هذه الأمور، سأقول إن احتمال وجود قوًى خارقة للطبيعة يكاد يقترب من الصفر.» عرض راندي شيكًا بنكيًّا بمبلغ ضخم ليمنحه أيَّ شخص يستطيع تنفيذ عملٍ خارق واحد من أي نوع، في ظل شروط مراقبة صارمة، ولم يضطر إلى دفع أي مبلغ حتى وفاته في أواخر عام ٢٠٢٠. كانت اللجنة مثيرة للجدل منذ نشأتها، فقد قاضاها جيلر بدعوى تشهير بقيمة ١٥ مليون دولار، ولكن أُغلقت القضية عام ١٩٩١. لا تزال المنظمة موجودة تحت اسم لجنة التحقيق في الشكوك، وتواصل مهاجمة المزاعم الخارقة.

لم تحقق محاولات كشف زيف الظواهر الخارقة نجاحًا كبيرًا. صحيح أن المزاعم الفردية بوجود ظواهر خارقة غالبًا ما يُثبَت أنها احتيال أو تُدحَض بمجرد التدقيق فيها، ولكن تظهر مزاعم أخرى. كما تضاءل استعداد العلماء البارزين للمشاركة في جهود على غرار اللجنة السابقة الذكر على مَر السنين. ورغم أن النفور من علم ما وراء النفس لا يزال مستشريًا في المجتمع العلمي السائد، فإن عقودًا من المحاولات المخلصة لكشف زيف هذه المزاعم لم تُثنِ المنافسين الجدد عن دخول الميدان. ثمة مثالان يشيران إلى الفجوة بين الحملات المنظمة والآليات الأخرى لإبقاء الإدراك الحسي الفائق على هامش الساحة العلمية.

ربما كان الفيزيائي الويلزي الأصل بريان جوزيفسن أبرز اسمٍ في مجتمع علم ما وراء النفس في الوقت الحالي. وهو أيضًا الوحيد الحاصل على جائزة نوبل. فقد فاز بهذه الجائزة عام ١٩٧٣ عن التنبؤ النظري لما يُعرف باسم «تأثير جوزيفسن»، الذي يصف العبور النفقي الكمي عبر حاجز فائق التوصيل. بدأ جوزيفسن أبحاثه الأولية في مجال التوصيل الفائق عندما كان طالب دراسات عليا يبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا في جامعة كامبريدج، وبحلول أوائل السبعينيات تحوَّل اهتمامه نحو التأمل المتسامي وأفكار هامشية أخرى. (على سبيل المثال، استشار كلًّا من بوتهوف وتارج من معهد ستانفورد للأبحاث.) أتاح له حصوله على جائزة نوبل الوقت الكافي لمتابعة هذه الاهتمامات بشكلٍ أوسع، وظل معارضًا صريحًا للقيود الخانقة التي فرضتها تقاليد التيار العلمي السائد. ولم تشكِّل لجنة التحقيق العلمي في مزاعم الظواهر الخارقة وشبيهاتها رادعًا حقيقيًّا.

وأخيرًا، هناك حالة داريل بيرن، الذي أصبح الآن أستاذًا فخريًّا لعلم النفس في جامعة كورنيل. في عام ٢٠١١، نشر مقالًا في مجلة «جورنال أوف بريسونالتي آند سوشيال سايكولوجي»، وهي إحدى الدوريات الرائدة في هذا المجال الفرعي، بعنوان «استشراف المستقبل»، ادَّعى فيه أنه وجد أدلة على الإدراك الحسي الفائق باستخدام إحصائيات على طريقة راين. تعرَّض المقال لهجوم شديد من قبل التيار السائد في المجتمع العلمي، وكان أحد الأسباب التي أدَّت إلى ما يُعرف باسم «أزمة التكرار» في علم النفس، وهي نقد داخلي في المجتمع العلمي للمنهجية التجريبية بعد تكرار الفشل في إعادة إنتاج حتى النتائج العلمية المقبولة.

تشير هذه الحالات — بيرن، وجوزيفسن، وجان، وراين — إلى سِمة مهمة من سِمات العلم الحديث: أن موطنه هو البحث الجامعي. لا شك في أن المختبرات الحكومية أو الصناعية تُجري الكثير من الأبحاث العلمية أيضًا، ولكن دور الجامعات كمركزٍ أساسي لإنتاج العلم لا غبار عليه.

وكان هذا أحد الأسباب التي جعلت علم ما وراء النفس كاشفًا للغاية: فهو يعيش على هامش الأبحاث الجامعية؛ حيث يتداخل مع العلوم المناهضة للعلم المؤسسي، ولكنه لا ينتمي إليها بشكل كامل. وبينما كانت تُجرى أبحاث الإدراك الحسي الفائق في الجامعات، يبدو أنها غير قادرة على الحفاظ على استمرارية هذا الوضع فترةً طويلة. إذ تظهر عملية التمييز في نهاية المطاف لإبراز الحدود الفاصلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥