لا مفرَّ من الجدل
لا تشترك المجموعة الواسعة من المذاهب التي سُميت بالعلوم الزائفة — بدايةً بعلم التنجيم إلى علم دراسة الحيوانات الخفية، ومن نظرية الخَلق إلى الفيزياء الآرية، ومن علم ما وراء النفس إلى الخيمياء — في جوهرٍ مشتركٍ كافٍ يسمح لنا بالقول: «المعتقدات التي تدَّعي أنها علوم، ولكنها تمتلك الخصائص كذا وكذا هي علوم زائفة.» ولكن لا يعني ذلك أننا عاجزون عن إيجاد نقاط تشابه عرضية في تاريخها. ورغم أن «العلوم الزائفة» قد لا تكون كيانات واحدة محددة، فإن عملية تسميتها تتبع مسارًا ثابتًا إلى حدٍّ ما.
يمكن أن تبدأ العلوم الزائفة كعلوم حقيقية — كما في حالة علوم التنجيم، والخيمياء، وتحسين النسل التي كانت علومًا بائدة — ثم تخرج تدريجيًّا من دائرة التفضيل (عادةً عبر نقد نظري وتجريبي مكثف)، ومن ثَم يجد المناصرون المتبقون أنفسهم مناصرين لفكرة هامشية. وبعضها وُلد علومًا زائفة، إن جاز التعبير. فنظريات فيليكوفسكي بشأن الكارثية الكونية والأساطير القديمة، أو التحمس ليتي أو وحش لوخ نيس، لم تبدأ كمجالات علمية، بل هاجمها التيار العلمي السائد منذ ظهورها الأول. ولكن عملية التهميش متشابهة في كلا النموذجين: فهي ناتجة عن إجماع مجموعة من علماء ذوي صلة بالموضوع. وعندما يصبح الإجماع ضد فكرة ما حاسمًا، ويصر مؤيدوها على التمسك بها بدلًا من التخلي عنها، تزداد احتمالية وصم معتقداتهم بالعلم الزائف.
كيف يجدر بنا أن نفهم هذه الحالة؟ هذه الحالة لا تشبه حالة فيليكوفسكي؛ إذ كان بلوندلو عضوًا مرموقًا في المجتمع العلمي، وعوملت أشعة «إن» على أنها مُحتملة الصحة عند الإعلان الأول عنها. كما أنها لم تكن مشابهة تمامًا لحالة علم تحسين النسل، لأن خصائص تلك الأشعة كانت مثيرة للجدل منذ البداية، وتعرضت لشكوك لاذعة خلال فترة انتشارها القصيرة. من المغري اعتبار هذه الحالة مثالًا بارزًا للعلوم الزائفة، بل إن إرفينج لانجموير استشهد بها كمثال كلاسيكي على «العلم الباثولوجي». ولكن قبل إعلان وود، يبدو أن بلوندلو كان يجري أبحاثًا مشابهة لقياساته للموجات الراديوية. الأمر باختصار أنه كان يمارس العلم بشكل طبيعي.
هذا زعم مؤرق، ولكنه ليس مفاجئًا في ضوء ما شهدناه سابقًا. فمن بين المذاهب التي صنَّفها المجتمع العلمي كعلومٍ زائفة، هناك عددٌ كبير من العلوم البائدة، والتي عُدَّت علومًا حقيقية، من حيث التعريف، في الماضي ثم لم تعُد كذلك. ما يجعلها تُعد علومًا زائفة اليوم هو استمرار مجموعة كبيرة من الأشخاص في الدفاع عنها كعلومٍ حقيقية رغم إجماع التيار العلمي السائد على عكس ذلك. الاستنتاج المباشر من ذلك هو أن «أي» موقف علمي قد يُوصم بأنه «علم زائف» اعتمادًا على مساره المستقبلي. وبما أننا لا نعرف المستقبل، فإن أي علم حقيقي حالي قد يكون عرضة لأن يسقط من عليائه. لم يعد الأمر يقتصر على إمكانية حدوث ذلك، بل أصبح فعليًّا شبه حتمي بسبب خاصيتَين رئيسيتَين في بِنية العلم الحديث.
الأولى هي أن العلم اليوم أصبح قائمًا على التنافس. يصنع العالم سمعته عبر البناء على النتائج السابقة وتطويرها، ولكن إذا اكتفى بتأكيد الحقائق المعروفة، فستتوقف مسيرته. وتُلزم الضغوط البحثية العلماء بالتجديد، الأمر الذي يعني عادةً تفنيد فرضيات علمية معاصرة راسخة. (نرى هنا أصداء فكرة الدحوضية لكارل بوبر.) يُمنح التقدير العلمي للأسبقية (أن تكون الأول في الاكتشاف) ولتفوقك في الدقة على منافسيك في التحقق من المسألة نفسها. وهكذا، ستظل هناك دائمًا فئة رابحة وأخرى خاسرة. ويؤدي تمسك الخاسرين بآرائهم إلى تهميشهم.
الخاصية الثانية هي أن العلم أصبح مكلفًا بشكل متزايد. فالموارد أصبحت شحيحة، وعادةً ما يتنافس عدد كبير للغاية من الباحثين على عدد قليل من المنح وفرص النشر في الدوريات البارزة. وفي ظل هذه الندرة، تخلق المعايير التنافسية بالضرورة دافعًا لدى الرابحين لحماية مكاسبهم، واستياءً لدى الخاسرين. وأي أحد يُعرض أبحاثك للخطر — كأن يدافع عن نظرية هامشية تتعارض معها — قد يُنظر إليه كتهديد. وعندما تُشكل الأفكار غير السائدة خطرًا (واقعيًّا كان أو مُتَوَهَّمًا) على العلماء المحترفين، يُستخدَم مصطلح «العلم الزائف» كسلاح ردع.
التمييز جزء لا يتجزأ عن أنظمة التمويل الخاصة بنا. فعلى الباحثين الراغبين في الحصول على تمويل إظهار تفوق أعمالهم على منافسيهم المضللين، وتضطر لجان تقييم المنح دائمًا إلى استبعاد عدد كبير من العروض لصالح قلة تعدها جديرة. ويخلق التمويل المحدود منظومةً لا ترحم لتصفية المزاعم العلمية، وقد ينتهي المطاف ببعضها بين الأفكار غير التقليدية. بالتالي، حين ندرس فئة العلوم الزائفة نميط اللثام عن بعض الأفكار المتعمقة التي تتعلق بآلية عمل العلم الحديث.
تنشأ المنطقة الرمادية بسبب حقيقة أن تقريبًا أي زعم علمي جديد مهم قد يكون عرضة لإثارة الجدل، وهو الوقود الذي يدير عجلة التقدير والسمعة. ولكن لا تلاقي جميع المذاهب المستبعَدة المصير نفسه. فحتى في المجال نفسه — مثل خواص الماء العلمية — نجد بعض الأفكار التي تخسر الجدل، وقد انتهى بها المطاف إلى الاندثار، واعتبارها غير علمية، بينما هناك أفكار أخرى وُصمَت بأنها حقيرة ووُضعَت على هامش المعارف المقبولة.
الماء المبلمر
في منتصف ستينيات القرن العشرين، استمتع العديد من الكيميائيين في الدول الرائدة علميًّا بدراسة الخواص الأساسية للماء السائل. الماء، من الناحية العلمية، مادة غريبة: فهو، بشكل غريب، يتمتع بكثافة أعلى في الحالة السائلة مقارنة بالحالة الصلبة (وهذا ما يفسر طفو الثلج)، كما أن له نقطة انصهار وحرارة نوعية تفوق التوقعات النظرية. كما أن الحصول على الماء سهل للغاية، ولا تتطلب دراسته استخدام معدات باهظة الثمن. وعلى الرغم من أن دراسة خواص الماء لا تُعد عادةً مسألة ملحة، فإن الاهتمام العلمي بها لم يفتر.
ظهرت التقارير الأولى عن «الماء الشاذ» من مختبر نيكولاي فيدياكين في المعهد التكنولوجي في كوستروما، تلك المدينة الصغيرة التي تبعد نحو مائتَي ميل شمال شرق موسكو. كان فيدياكين يُجري تجارب على السوائل المعزولة داخل أنابيب شعرية زجاجية رفيعة للغاية. وعندما ترك الماء في هذه الأنابيب عدة أيام، لاحظ تكوُّن عمود ثانوي عند القمة، بدا الأمر كأن الماء كان يتجزأ تلقائيًّا إلى جزأين منفصلَين. نشر فيدياكين هذه النتيجة عام ١٩٦٢ في مجلة روسية متخصصة في الغرويات. وفي ذلك الوقت، تولى العالم السوفييتي الأكثر بروزًا بوريس في ديرياجين (أو دِيجاجوين)، مدير مختبر القوى السطحية في معهد الكيمياء الفيزيائية بالأكاديمية العلمية في موسكو، مهمة متابعة هذا البحث. وقد نشر مختبره عشرة مقالات بارزة حول هذه الظاهرة في الفترة بين ١٩٦٢ و١٩٦٦.
ظلت الأبحاث قاصرة على الاتحاد السوفييتي حتى عام ١٩٦٦، حين سافر ديرياجين إلى مدينة نوتنجهام في إنجلترا للمشاركة في مناقشة في جمعية فاراداي، بناءً على دعوة من جيه دي بيرنال، مدير قسم علم البلورات في كلية بيركبيك بجامعة لندن، والذي كان مهتمًّا منذ زمن بعيد بدراسة الماء. تميز بيرنال، العالم المرموق وعضو الحزب الشيوعي البريطاني البارز، بدعمه المتواصل لنظريات ليسينكو بعد تأييد ستالين الرسمي للميتشورينية عام ١٩٤٨. وقد ساعدت علاقاته بالسوفييت في تسليط الضوء على أعمال ديرياجين. ومع ذلك، لم يتزايد الحماس العلمي إلا في عام ١٩٦٩، عندما أعلن أمريكي يُدعى إليس ليبنكوت عن نتائج مدهشة مشابهة في اجتماعٍ للجمعية الكيميائية الأمريكية في مدينة نيويورك. وغيَّر ليبنكوت الاسم الذي أطلقه ديرياجين على هذا الماء وهو «الماء الشاذ» ليصبح «الماء المبلمر»، استنادًا إلى فرضية أنه كان شكلًا مبلمرًا تتصل جزيئاته معًا مثلما يحدث مع البلاستيك. وفي العام التالي، بلغ البحث حول الماء المبلمر ذروته، فقد ركز العلماء السوفييت على خواصه الكلية بينما تناول الباحثون الغربيون تركيبه الميكروي. حظيت هذه الدراسات بدعمٍ كبير من مكتب البحوث البحرية، أحد أبرز الداعمين للعلم في أمريكا، وانتشرت شائعات مفادها أن ديرياجين كان ضمن المرشحين لجائزة نوبل. جاءت أغلب المنشورات عن موضوع الماء المبلمر في شكل مراسلات قصيرة مع مجلتَي «ساينس» و«نيتشر»، وهما من أبرز المجلات العلمية في العالم آنذاك وحتى الآن، الأمر الذي أبرز انتشار الماء المبلمر.
ولكن تلاشى كل هذا خلال بضع سنوات. وبحلول عام ١٩٧٣، نشر الباحثون الأمريكيون والسوفييت نتائج تُشير إلى أن أفضل تفسيرٍ للسلوك الشاذ لجزيئات الماء المبلمر هو وجود شوائب في عينات الماء. الأمر باختصار أن كل هذه الضجة أُثيرت بسبب نتيجة مضلِّلة للعملية التجريبية. واليوم، من المرجح أن يُوصَف مؤيدو الماء المبلمر بأنهم علماء زائفون من قبل المؤسسة العلمية، ولكن من غير المحتمل أن تعثر على أحدهم. كان الماء المبلمر مثالًا نموذجيًّا على الجدل العلمي: نقاش محتدم وفقًا لثوابت المجال، ثم جرت تسويته وإهماله. ما كان مميزًا في هذه القضية هو الطابع الدولي لهذا الجدل وانتشاره الواسع.
ذاكرة الماء
كان لهذا المقال جانبٌ غريب يتجاوز النتائج المذهلة التي تضمنها. فقد نشر محررو «نيتشر»، برئاسة جون مادوكس، مقالًا مرافقًا في العدد نفسه انتقدوا فيه نتائج المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي. كان هذا الإجراء، إن جاز التعبير، غير معتاد على الإطلاق، ولكن كذلك كانت الادعاءات التي طرحها فريق بنفنيست. إن فكرة أن المحاليل المخفَّفة يمكنها أن «تتذكر» خواص المادة المُذابة فيها دون وجودها تُعَد فرضية مركزية في علم العلاج المثلي، وهو نمط طبي بديل هامشي، ومثير للجدل للغاية. وعلى النقيض من الطب «الإخلافي» السائد، الذي يعالج الأمراض باستخدام مادة مضادة للداء، يصر المعالِجون المثليون على استخدام مادة مشابهة للداء، مثل المحاليل مفرطة التخفيف لسموم قوية مثل الزرنيخ أو البيلادونا. دفع تماثل أفكار المقال مع العلاج المثلي مادوكس لاتخاذ إجراءات استثنائية.
لم يكتفِ مادوكس بالمقال المرافق فحسب. فمنذ أن خرج المقال لإخضاعه لمراجعة الأقران في العام السابق، وضع مادوكس خطةً لتحويل نتائج بنفنيست إلى درس تطبيقي حول كيفية إدارة جدل علمي. كانت عملية مراجعة الأقران مشحونة بالغضب؛ حيث انتقد بعض المحكمين الآثار الضمنية للعلاج المثلي، ولكن، قرر مادوكس نشر المقال على أي حال. ثم شكَّل فريقًا وكلَّفه بالذهاب إلى المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي والتحقيق في أمر الباحثين. لم يتألف الفريق من علماء مناعة، بل ضم والتر دبليو ستيوارت، وهو أحد موظفي المعاهد الوطنية للصحة الأمريكية المعروف (وبشكلٍ مثير للجدل بعض الشيء) بتحقيقاته في مزاعم الاحتيال العلمي بين العلماء البارزين، وجيمس راندي، الساحر الذي كشف زيف الروحانيين، ومادوكس نفسه. كانت تلك الهيئة أشبه بفرقة إعدام، وهذا ما فعلته حقيقةً. في الوقت نفسه، أوقفت مجلة «نيتشر» عادتها في نشر الرسائل التي تتناول مقال المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي حتى تنتهي التحقيقات.
في الثامن والعشرين من يوليو عام ١٩٨٨، وبعد أقل من شهر من النشر الأولي للمقال، أصدر الفريق تقريرًا بعنوان: «تجارب التخفيف المفرط مجرد سراب». زعم التقرير أن التحليل الإحصائي في الورقة البحثية الأصلية كان مَعيبًا، وأن تجارب المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي ذات التعمية المزدوجة لم تتمكن من تكرار النتائج. لم يتهم الفريق الباحثين بوجود احتيال متعمَّد من جانبهم، بل زعم أنهم قد ضلَّلهم حماسهم المفرط، الأمر الذي كان أشبه بالاتهامات التي واجهها بلوندلو. كما نشرت مجلة «نيتشر» ردًّا من المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي. استمر الجدل — وكذلك الجدل حول كيفية تعامل مادوكس مع الأمر — طوال ثمانية أسابيع إضافية، حتى أوقفه مادوكس بنفسه.
يبدو أن جدل ذاكرة الماء عبارة عن مزيج من الجدل العلمي المعتاد نسبيًّا حول ظاهرة الماء المبلمر وثقافة كشف زيف العلماء المناهضين للإدراك الحسي الفائق، وأبرزه أكثر إقحام مجلة علمية نفسها فيه على غير العادة. ومن الجدير بالذكر أيضًا أن مصطلح «العلم الزائف» لم يكن جزءًا مهمًّا من معالجة هذه المسألة، على الرغم من أنه يُنسب إلى أولئك الذين لا يزالون يستشهدون بمقال المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي في مجلة «نيتشر» كدليلٍ علمي، على غرار بعض أعضاء مجتمع العلاج المثلي. وهذا دليل على أن الحدود بين العلوم غير التقليدية، والاحتيال، والعلم الخاطئ غير واضحة.
الاندماج النووي البارد
كانت التجربة نفسها بسيطة للغاية. أخذ اثنان من علماء الكيمياء الكهربية من جامعة يوتا في مدينة سولت ليك — ستانلي بونس، رئيس قسم الكيمياء، والمغترب البريطاني المولود في تشيكوسلوفاكيا مارتن فليشمان — قارورة تحتوي على إلكتروليت ذائب في ماء ثقيل — وهو الماء الذي استُبدلت ببعض ذرات الهيدروجين فيه نظيره الأثقل، الديوتيريوم، الذي يحمل نيوترونًا إضافيًّا — ومرَّرا تيارًا كهربائيًّا عبره باستخدام قطبَين كهربيَّين.

ولكنهما قالا إن ما حدث لاحقًا كان أقل وضوحًا. كان أحد القطبَين الكهربيَّين مصنوعًا من البالاديوم، المعدن الذي يمتاز بقدرته الفائقة على تجميع أيونات الهيدروجين من المحلول. أكد عالِما الكيمياء الكهربية أنهما عندما أجريا التجربة، لاحظا زيادة غير عادية في الحرارة، بالإضافة إلى تدفق للنيوترونات. وأرجعا هذا إلى حدوث اندماج لنوى أيونات الديوتيريوم المكدسة داخل قطب البالاديوم لتتحول إلى هيليوم، الأمر الذي يطلق طاقة هائلة.
وإذا ثبت ذلك، فسيكون هذا أهم اكتشاف علمي في هذا القرن. الهيدروجين هو العنصر الأكثر وفرة في الكون، واندماج أنويته لتكوين ذرات أثقل هو ما يُشغِّل النجوم، بما في ذلك شمسنا. جرت محاولات لاستغلال الاندماج بطريقة مسيطر عليها — فنحن نعرف كيف نطلقه بشكل غير مسيطر عليه في القنابل النووية الحرارية (المعروفة أيضًا باسم القنابل الهيدروجينية) — منذ خمسينيات القرن العشرين، ولكن لا تزال هذه المحاولات تواجه تحديات كبيرة. تتطلب عملية اندماج نوى الهيدروجين ضغطًا وحرارة شديدَين — إذ كانت الحرارة المطلوبة عالية للغاية إلى درجة أنها قد تذيب أي وعاء — لذا التجارب الحالية تعلق البلازما الوهاجة داخل «قارورة مغناطيسية»، والتي تحتاج بدورها إلى كميات هائلة من الطاقة. استهلكت كل المحاولات الناجحة لإحداث الاندماج بهذه الطريقة طاقة أكثر مما أنتجت. وزعم بونس وفليشمان أنهما حققا «الاندماج النووي البارد»: اندماج يحتاج إلى طاقة لبدئه أقل من الطاقة التي ينتجها. قد يؤدي ذلك إلى إنتاج طاقة من مصدر وقود غير محدود لا يتخلف عنه سوى الهيليوم غير الخَطِر. فمن دون انبعاثات كربونية، أو انصهار للمفاعلات، سيُحدث هذا ثورة كبيرة في المجال.
كان بونس وفليشمان على علمٍ بالحماس الذي سينتج عن اكتشافهما، فخططا للإعلان عنه بشكل مدبَّر لزيادة التأثير: فعقدا مؤتمرًا صحفيًّا. وكان هذا قرارًا تعاونيًّا مع مكتب نقل التكنولوجيا بجامعة يوتا، الذي كان حريصًا على إثارة الاهتمام ببراءات الاختراع (والأرباح المترتبة عليها) التي ستتدفق في نهاية المطاف من تسويق الاندماج النووي البارد. ولكن كان هذا القرار يهدف أيضًا إلى إحباط المنافسة، وتأمين أسبقيتهما إلى هذا الاكتشاف. كان الفيزيائي ستيفن إي جونز من جامعة بريجام يونج القريبة في مدينة بروفو بولاية يوتا، يعمل على مسائل مشابهة في الجيوفيزياء، على غرار كيف قد يتسبَّب نوعٌ من الاندماج النووي البارد لذرات الهيدروجين المجمعة في الوفرة غير المتوقعة للهيليوم في بعض التكوينات الصخرية. اتصل جونز بمجموعة جامعة يوتا بخصوص عرض كان سيقدمه في مؤتمر في مارس ١٩٨٩، الأمر الذي أدى إلى بدء ترتيبات لإعلانٍ مشترك في وقت لاحق من ذلك الشهر. وعندما ألغى جونز حضوره للمؤتمر، وبدلًا من ذلك قدم ملخصًا للاجتماع السنوي للجمعية الفيزيائية الأمريكية، الذي كان من المقرر عقده في الأول من مايو في بالتيمور، اعتبر بونس وفليشمان أن جونز قد تراجع عن الاتفاق معهما. في البداية، خطط الباحثون الثلاثة لتقديم أوراقهم البحثية إلى مجلة «نيتشر» معًا، لكنَّ الكيميائيَّين من يوتا (بونس وفليشمان) قدما بحثهما وحدهما إلى مجلة «جورنال أوف إلكتروانالاتيكال كيمستيري»، بعد حصولهما على وعدٍ بنشره في العاشر من أبريل. استشاط جونز غضبًا، بينما ظهر بونس وفليشمان أمام الكاميرات لضمان حصولهما على الفضل في الاكتشاف المُدوي.
هيمن المؤتمر الصحفي على العناوين الإخبارية، وأصبح اسماهما مألوفَين في كل بيت. في عصرنا الحالي، لا تُعد المؤتمرات الصحفية للإعلان عن الاكتشافات الثورية أمرًا غريبًا، لكنها كانت نادرة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. عرض بونس وفليشمان التجربة الأساسية، وشرحا تداعياتها المحتملة، الأمر الذي أسعد المراسلين. أما العلماء فكانوا أقل سعادة. فلم تُقدَّم إلا تفاصيل تقنية قليلة — زُعم أن ذلك جاء بناءً على طلب محرري المجلة السابقة الذكر، حيث كان المقال لا يزال قيد المراجعة — وعلى الفور حاول العلماء عبر البلاد تكرار النتائج باستخدام الأدلة التي بين أيديهم: مقاطع فيديو للتجربة على شرائط فيديو كاسيت مُرسَلة عبر البريد أو صور فاكس باهتة. ظهرت بعض محاولات مبكرة لتكرار التجربة، ولكن الفشل كان أكثر شيوعًا. كما كانت هناك مشكلات تتعلق بالنظرية نفسها. فلإنتاج ذلك القدر من الحرارة الذي تحدث عنه بونس وفليشمان، توقعت نماذج الاندماج النووي حدوث انبعاثات إشعاعية عالية من شأنها أن تقتلهما. اعتقد غالبية العلماء أنه من الحكمة الانتظار حتى يُنشر المقال للحصول على تفاصيل أكثر.
ولكن لم ينتظر بونس وفليشمان والمحامون في جامعة يوتا حدوث ذلك. فتوجهوا مباشرةً إلى مبنى الحكومة في ولاية يوتا، ومنه إلى مقر الكونجرس الأمريكي، لطلب منح مالية ضخمة بهدف تطوير تكنولوجيا الاندماج النووي البارد على نطاقٍ أوسع. وفي تلك الأثناء، تراجعت محاولات التكرار القليلة التي أُعلنت عن إعلان نجاحها: ففي إحداها كان هناك كاشف نيوترونات معطل، وفي أخرى ميزان حرارة غير مُعاير بالطريقة الصحيحة. في ذلك الوقت، كان الاندماج النووي البارد لا يزال علمًا مثيرًا للجدل.
حدث الانهيار التام للفكرة في الأول من مايو عام ١٩٨٩، خلال اجتماع الجمعية الفيزيائية الأمريكية نفسه الذي تسبب في حدوث الخلاف بين فريق جامعة يوتا وجونز. انخرط الفيزيائيون — لأسبابٍ علمية مستمَدة من الأدلة المتوفرة، وأيضًا بسبب العداء تجاه الكيميائيَّين المتفاخرَين، الذين رأوا أنهما اقتحما مجالهم — في جلسة كشف زيف علنية، وخاصةً الهجوم المدمر الذي شنَّه الكيميائي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ناثان لويس، الأمر الذي دمر ما تبقى من المزاعم الأصلية لبونس وفليشمان.
ولا يزال النقاش قائمًا حول ما إذا كانت النتائج الأصلية مجرد نتائج تجريبية خاطئة (كما في حالة الماء المبلمر)، أو تفسيرًا مفرطًا من قبل المجرِّبين (كما في حالة ذاكرة الماء)، أو احتيالًا متعمدًا. وقد لفت هجوم الفيزيائيين الشديد انتباه العالم. وإحدى الطرق لقياس فورة الاندماج النووي البارد متابعة أسعار البالاديوم، المعدن الأساسي للأقطاب في تجربة بونس وفليشمان. ففي مارس ١٩٨٩، كان يُتداول بسعر ١٤٥٫٦٠ دولارًا للأوقية. وبحلول شهر مايو، أي قبل اجتماع الجمعية الفيزيائية الأمريكية مباشرة، قفز السعر إلى ١٧٠ دولارًا. ثم انهار بعد ذلك إلى ٩٥ دولارًا. تعرض بونس وفليشمان لفضيحة كبيرة، فانتقلا إلى فرنسا عام ١٩٩٢ لمواصلة أبحاثهما، ولكن أُغلق مختبرهما الجديد في عام ١٩٩٨ دون تحقيق نتائج ملموسة.
ولكن كان إعلان موت الاندماج النووي البارد مبالغًا فيه بشدة. فلا تزال مجموعة صغيرة من الباحثين تبحث في طريقة بونس وفليشمان لتوليد الطاقة. وظهرت مجلات متخصصة مثل «كولد فيوجان» و«إنفاينايت إنرجي» في عامَي ١٩٩٤ و١٩٩٥، على التوالي. وبداية من عام ١٩٨٩، تُعقد سنويًّا مؤتمرات دولية حول الاندماج النووي البارد (والتي تُعرف منذ عام ٢٠٠٧ بالمؤتمرات الدولية المعنية بالعمليات النووية في المادة المكثفة)، بمشاركةٍ ملحوظة من الباحثين اليابانيين الذين يتلقَّون بعض التمويل الحكومي لهذا العمل. وحتى ستيفن جونز نفسه، الذي لم يتورط في الفضيحة العلمية، وجد نفسه طرفًا في خلاف. فقد أصبح عضوًا مؤسسًا في مجموعة «علماء من أجل حقيقة ما حدث في ١١ / ٩»، وقال إن تدمير مركز التجارة العالمي في نيويورك لم يكن نتيجة هجوم إرهابي. ورغم أنه استقال من عضوية المجموعة في عام ٢٠٠٦، فقد أجبرته جامعة بريجام يونج على الخروج في إجازة مدفوعة مفتوحة، ثم بدأت تتفاوض معه ليتقاعد مبكرًا.
الاحتيال وأزمة تكرار التجارب
لا مفرَّ من الجدل. إنه جزء لا يتجزَّأ من البحث العلمي بصورته الحديثة. فالباحثون يخرجون بأفكارٍ جديدة، ويحاول المنافسون دحضها. وينجح المبتكرون أحيانًا في ترسيخ مذاهبهم كمرجعية جديدة، وأحيانًا أخرى يفشلون. والسؤال المطروح هو: ماذا يحدث لأولئك الذين يخسرون؟ هل يعترفون بأخطائهم، ويشاركون في الإجماع الجديد، أم يصرون على صحة أفكارهم؟ وإذا اتَّبعوا النهج الأخير، فما مدة استمرارهم في فعل ذلك؟ إذا ما استمروا فترةً طويلة بما يكفي، واجتذب التهديد المحتمل الذي يمثلونه للمؤسسة العلمية الكثير من الأتباع، فقد يُصنَّفون على أنهم «علماء زائفون» (كما يُصنف بعض باحثي الاندماج النووي البارد اليوم، ولكن ليس جميعهم).
ترتبط النزاعات التي تنتهي بالانزلاق إلى شَرك التهميش بظاهرتين أخريَين أصبح حضورهما متزايدًا في العلم المعاصر، ولكنها تختلف عنهما. أولاهما — تلك التي أشرنا إليها سابقًا في جدالات الاندماج النووي البارد — هي الاحتيال العلمي. من الصعب تحديد ما إذا كان الاحتيال يتزايد في العلم المعاصر نظرًا إلى عدم توفُّر معيار موثوق لقياس مدى انتشار الاحتيال العلمي في الماضي، ولكن لا شك في أنه أصبح أكثر وضوحًا اليوم من أي وقتٍ مضى. من الصعب للغاية تحقيق مسيرة علمية (المكانة العلمية والدخل) ناجحة، ومن المفهوم أن بعض الأفراد قد تفتنهم هذه المحفزات إلى درجة اختلاق أو تحريف بياناتهم على أمل الحصول على مادة منشورة أعلى مرتبة، أو نتيجة أكثر بروزًا تساعدهم على الترقي. يحدث ذلك في كل من القطاعَين الخاص والأكاديمي في جميع أنحاء العالم.
في عام ٢٠٠٢، خلصت لجنة داخلية في مختبرات بيل إلى أن باحثها يان هندريك شون، الباحث العبقري في مجال أشباه الموصلات العضوية، قد فبرك تمامًا بعض نتائج أبحاثه (التي نُشرت في منصَّات علمية مرموقة مثل «ساينس» و«نيتشر»). وطُرد شون من عمله بالمختبرات. وفي عام ٢٠٠٤، ألغت جامعة كونستانز في ألمانيا درجة الدكتوراه الخاصة به، وخسر استئنافه على قرارها. وفي عام ٢٠٠٦، وُجد أن العالِم البيطري الكوري الجنوبي هوانج وو-سوك، الذي تصدَّر العناوين الصحفية بزعم أنه أنتج خلايا جذعية جنينية بشرية عبر الاستنساخ، مذنب بتهم تتعلق بالسلوك العلمي غير اللائق والمخالفات الأخلاقية، ما أدى إلى سحب مقالاته ذات الصلة. وإلى جانب مثل هذه الحالات التي تصدَّرت عناوين الصحف الدولية، توجد العديد من الحالات الأخرى التي تتراوح بين الإهمال في جمع البيانات والكذب الصريح. من الصعب اعتبار هذه الحالات أمثلةً على العلم الزائف (كما يرى أغلب العلماء)، ولكنها تشبهها إلى حدٍّ كبير.
أما الظاهرة الثانية، فهي «أزمة تكرار التجارب»، خاصةً في مجالات علم النفس التجريبي والطب الحيوي. ففي نحو عام ٢٠١٠، بدأ الباحثون في هذَين المجالَين يلاحظون أن العديد من النتائج الأساسية في تخصصاتهم يصعب تكرارها في مختبرات أخرى. وعلى مدى عقود عديدة، اعتبر العلماء أن تكرار تجارب زملائهم معيارًا مهمًّا للمعرفة العلمية الموثوقة، ودليلًا على أن النتائج نابعة من طبيعة الكون الحقيقية، وليست نتيجة خادعة لتجهيز تجريبي معين. لا شك في أن تكرار التجارب أثبت أنه أمر صعب في بعض الحالات، ولكن كان يُنظر إليها على أنها مشكلة تتعلق بكاتب المقال الأصلي، أما الفشل في تكرار عشرات أو حتى مئات التجارب، فيُنظر إليه على أنه أزمة تتعلق بالمنهج في المجال ذي الصلة. انتقى مشروع «تكرار التجارب» التابع ﻟ «مبادرة العلم المفتوح» عام ٢٠١٥ مائة دراسة تجريبية وارتباطية من ثلاث مجلات، وتمكن من تكرار ٣٦ في المائة منها فقط. وفي عام ٢٠١٢، حاولت شركة أمجين للأدوية تكرار التجربة في ثلاثة وخمسين بحثًا «بارزًا» في مجال البحوث الأساسية للسرطان. ولم تنجح إلا في تكرار ستة منها فقط. وتتعدد التفسيرات لهذه النتيجة، فمنها الضغط الشديد من أجل الإسراع بنشر النتائج، وقلة إلمام الباحثين ببرمجيات الإحصاء، والتلاعب المتعمد بالعلاقات الإحصائية لإنتاج أوراق بحثية قابلة للنشر. لا يزال مدى وخطورة أزمة تكرار التجارب موضوع نقاش واسع، إلا أن مصطلح العلم الزائف عادة ما لا يرِد في هذا السياق.
القاسم المشترك بين كل هذه الحالات هو أنها شغلت موقع الصدارة «بعد» النشر. كانت الآلية المعتادة المستخدَمة منذ ستينيات القرن العشرين لتقييم ما إذا كان الزعم العلمي يستحق النشر، هي مراجعة الأقران، حيث يُقيِّم الخبراء في المجال النتائج، ويوافقون عليها، أو يقدمون انتقادات تدعو إلى تعديلها أو رفضها. وقد اجتازت كل هذه النتائج محل النزاع عملية مراجعة الأقران. إن حجم النشر الكبير في العقود الأخيرة، والوقت المحدود لتكرار التجارب، وحقيقة أن أغلب النتائج المنشورة لا يُستشهد بها أبدًا — إذ يبلغ معدل متوسط الاستشهاد لمقالة في الطب الحيوي صفرًا، ما يعني أن أكثر من نصف الأدبيات المنشورة لا تُستغَل — قد غيَّرت من محفزات الباحثين، فقد أصبحوا يرَون أن نشر زعم غير مؤكد أو حتى ملفق أمرٌ مجدٍ. فإن احتمالية أن يكتشف أحد الأمر منخفضة للغاية. ويبدو أن مراجعة الأقران عاجزة عن كشف العمل الرديء، ومن المرجح ألا تتمكن من اكتشاف الاحتيال إذا نُفذ بمهارة كافية. تشير البيئة التواصلية للعلم إلى أن المجالات غير التقليدية ستستمر في التداخل مع المعتقدات الخاطئة، والملفقة، والرديئة في المستقبل القريب.