الفصل السابع

السؤالان الروسيان

من الصعب إنكار أن معرفة البشر بكيفية عمل الكون قد زادت بشكل ملحوظ مقارنةً بما كانت عليه منذ الألفية الماضية أو القرن الماضي، أو حتى منذ عَقد من الزمن. لكن هذا لا يعني أننا نمتلك خارطة طريقٍ دقيقة عن الطبيعة، وأن الإجماع العلمي السائد اليوم لن يتبدَّل في المستقبل؛ فقد يتغير حتى تغيرًا جذريًّا. ومع ذلك، يطرح ذلك أمامنا لغزًا يتعلق باستمرارية النظريات غير التقليدية. إذا كان العلم يُنير العقول، والتنوير يقضي على النظريات المضلِّلة، فلمَ لا يزال من السهل العثور على «العلوم الزائفة» في عصرنا العلمي الحالي؟

لا يزال ذلك سهلًا للأسباب نفسها التي جعلت ظهورها سهلًا في العصور السابقة. إننا لن نتمكن من التخلص من العلوم الزائفة تمامًا. وبما أن نظرياتنا عن العالم الطبيعي تتغير بمرور الزمن، ونظام إنتاج المعرفة لدينا قائم على تنافس الباحثين الذين يبحثون في مسائل متشابهة، ويقدمون تفسيراتهم المختلفة على أنها أفضل من المعارف السائدة، فإن وجود فائزين وخاسرين أمرٌ حتمي. وقد يُقر الخاسرون ببساطة بمزايا المزاعم التي انتصرت دون الإصرار على مواقفهم التي رفضها الإجماع العلمي، ولكن هذا السيناريو يبدو غير محتمل. إن الإطار التنافسي الذي يُنتَج فيه العلم يخلق بطبيعة الحال مزاعم بائدة ومثيرة للجدل يمكن أن تجتذب مؤيدين.

ومع ذلك، فإن هذه الحالات البائدة والمثيرة للجدل لا تُشكِّل كامل ما يُطلِق عليه الإجماع العلمي السائد اسم العلوم الزائفة. فقد جرى في بعض الأحيان الاستيلاء على بعض الأفكار المتعلقة بالعالم الطبيعي واستخدامها كأدواتٍ للدعاية، وفرض الأيديولوجية من قِبل الحركات السياسية (أو قادتها). هذا التبني المسيَّس يُعَد في حد ذاته نتيجةً ثانوية للمكانة الرفيعة التي تتمتع بها العلوم الطبيعية، ويرتبط بالتوقُّع المعتاد في العصر الحديث بأن تدعم الحكومات البحث العلمي. وحيثما تستثمر الدولة، تسود رقابتها، ويمكن أن تصبح العلوم مفرطة التسييس. وهذا الجانب أيضًا يرتكز على بِنية نظامية.

هذه النتائج مثيرة للإحباط. ما الذي يجب أن نستنتجه من المنظومة المعقَّدة للنظريات غير التقليدية؟ سيساعدنا أن نقسِّم هذا السؤال إلى جزأَين منفصلَين، أسمِّيهما «السؤالَين الروسيَّين»، لأن كليهما مستمدان من عنوانَي روايتَين روسيتَين من القرن التاسع عشر (ولكنهما ليسا من أفضل الأعمال الأدبية): رواية «من المُلام؟» لألكسندر هيرزن، المنشورة في الفترة ما بين عامَي ١٨٤٥ و١٨٤٦، ورواية «ما العمل؟» لنيكولاي تشيرنيشيفسكي، المنشورة عام ١٨٦٣. (استخدم فلاديمير لينين أيضًا عنوان الأخيرة ليكون عنوانًا لمقالٍ سياسي في عام ١٩٠٢) يُعبِّر هذان السؤالان إلى حدٍّ كبير عما نعتقده عن ظاهرة العلوم غير التقليدية.

من المُلام؟

منذ ظهور مصطلح «العالِم الزائف» يُستخدم كأداة ازدراءٍ وانتقاص. لم يستخدم أحدٌ يومًا هذا اللقب طوعًا ليصف نفسه، بل يستخدمه الخصوم دومًا للتشكيك في مصداقية الآخرين. الإجابة النموذجية عن سؤال اللوم، التي يقترحها أولئك الذين يُطلقون هذا الوصف، هي أن العلماء الزائفين أنفسهم مسئولون عن العلوم الزائفة. ولو كفُّوا عن الدفاع عن هذه المذاهب المشكوك فيها، لاختفت العلوم الزائفة تمامًا.

رغم أن هذا الطرح يتميز بالوضوح، فإنه يعاني من مشكلاتٍ مفاهيمية تمنعه من أن يكون ردًّا ناجعًا. أولًا، العلماء الزائفون المزعومون لا يرَون أنهم يدافعون عن علوم زائفة، بل على العكس، عادة ما يرى أولئك الذين يعملون في العلوم المناهِضة للعلم المؤسسي أن الإجماع العلمي السائد هو الحصن الحقيقي للعلم الزائف. هذا الاتهام لا يُوجَّه من العلوم غير التقليدية إلى المؤسسة العلمية الرسمية فحسب، بل يُستخدم أيضًا على نطاقٍ واسعٍ بين جماعات العلوم غير التقليدية لوصف بعضها لبعض. يعتبر أنصار الكارثية الكونية أن أنصار نظرية الخَلق علماء زائفون، بينما يسخر المنجِّمون من مؤيدي نظرية الأرض المسطحة، وهكذا إلى ما لا نهاية.

كان يمكن لهذا الأمر أن يكون أوضح لو أن أغلب أعضاء المجتمع العلمي اتفقوا على تعريفٍ موحَّد لمن يُعد عالمًا زائفًا، ولكن الواقع ليس كذلك. تبيَّن أن «الإجماع العلمي» ليس ثابتًا كما قد تعتقد. على سبيل المثال، ثمة نظرية سائدة حاليًّا في علم الكون تُعرَف باسم التضخم الكوني، وهي تفترض أن الكون قد مَر بمرحلة توسُّع متسارع لفترة وجيزة بعد الانفجار العظيم. ومع ذلك، خرج بول ستينهارت، أحد المساهمين في وضع أسس هذه النظرية، ليصف ذلك الإجماع العلمي في عام ٢٠١٧ بأنه «علم زائف». غير أن أنصار نظرية التضخم يرفضون هذا الرأي بشدة، ويظل موقف ستينهاردت رأي أقلية لا يحظى بقبولٍ واسع.

لنأخذ مثالًا آخر وهو نظرية الأوتار الفائقة، وهي مجال رياضي شائك يسعى إلى التوفيق بين ميكانيكا الكم (التي تحكم عالم الجسيمات الدقيقة) والنسبية العامة (نظرية أينشتاين للجاذبية التي تتجلَّى إلى أقصى حد في المستويات الفلكية) من خلال افتراض وجود أوتار صغيرة تهتز في أبعادٍ يتراوح عددها بين عشرة وأحد عشر. وقد جعلت إمكانية التوصل إلى «نظرية لكل شيء» من هذه الفرضية فكرةً جذابة بشدة في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، حتى غدت عند مطلع الألفية أحد المجالات الفرعية للفيزياء النظرية. ومع ذلك، فإن صِغَرَ النطاق الذي من المفترَض أن تعمل فيه الأوتار يجعل من شِبه المستحيل التحقُّق منها تجريبيًّا. واحتجَّ المعارضون بأن عدم قابلية التحقق منها عمليًّا، بالإضافة إلى تأثيرها المهني المتمثل في استبعاد مقاربات بحثية بديلة، يستدعي رفضها. أما أنصارها، فعلى النقيض، يتمسكون بأناقة صياغتها واتساقها الرياضي، رغم أنهم انسحبوا من أمام خصومهم بخصوص بعض النقاط بأن غيَّروا اسمها إلى «الجاذبية الكمية»، مما فتح المجال أمام نُهج بحثية أخرى. لا شك في أننا في حاجة إلى تنوع الأفكار في العلوم، إلا أن تحقيق التوازن الصحيح بين هذا التنوع، والحفاظ على نَهج علمي صارم دون الوقوع في فخ العلم الموحَّد أو «الفوضى المطلَقة» ليس بالأمر الهيِّن. فإذا كان من الصعب تمييز الإجماع العلمي في المجالات البحثية الأساسية، فليس من الغريب أن يكون تصنيف العلماء الزائفين في المجالات الهامشية أمرًا بالغ التعقيد.

حتى إن استطعنا تحديد هوية العلماء الزائفين، فما الذي سنلومهم عليه؟ هل سندينهم بسبب سلوكيات معينة: التركيز الشديد على مسألة محددة، ومقاومة الأدلة المعارضة، والميل إلى الإسهاب، أو الإصرار المتعنت عند الدفاع عن الآراء، والميل إلى كتابة رسائل واستخدام الأحرف الكبيرة وعلامات التعجب بإفراط، وغيرها من السمات الواضحة التي تُنسب إلى «المهووسين»؟ يُظهر العديد من أنصار المذاهب غير التقليدية في واقع الأمر بعض هذه الصفات، إن لم يكن جميعها. تكمن المشكلة في أن العديد من العلماء الذين يعملون بجِد لصالح الإجماع العلمي باستخدام الممارسات والنظريات السائدة يُظهِرون هذه الصفات أيضًا. بالتأكيد، قد تكون هناك صفات شخصية مشتركة بين العديد من أولئك الذين يُصنَّفون كعلماء زائفين، ولكن من الواضح أيضًا أن هذه الصفات ليست حكرًا على مَن لا ينتمون إلى التيار العلمي السائد. لن يتمكَّن علم النفس غير الطبيعي من تقديم حل عصبي لمشكلة تمييز بوبر العصية على الحل فلسفيًّا.

في بعض الأحيان، لا تكون ثمة حاجة إلى السؤال عمن يجب أن يُلام. فمثلًا، يتحمَّل ليسينكو، ولينارد، وشتارك مسئولية السخافات التي روَّجوها. ولكن هناك من عملوا بحسن نية لفهم العالم الطبيعي، وإن كان ذلك وفق افتراضات اعتبرها المجتمع العلمي غير تقليدية بشدة في أفضل الأحوال، إن لم تكن خاطئة تمامًا. وبدلًا من إلقاء اللوم على الأفراد لمشاركتهم فيما يُعَد، في أغلب الأحيان، حماسًا صادقًا للعلم، ولكن في غير محله، يمكننا أن نتبنى استراتيجية مماثلة لتلك التي تناولناها في مشكلة التمييز. فبدلًا من إلقاء اللوم على عامل واحد عام، يمكننا البحث عن العوامل السياقية الخاصة، وبذلك نتجنب دون قصد تقديم كبش فداء.

الإنكار

من الأمثلة البارزة في هذا الشأن ما يُعرف أحيانًا باسم «الإنكار». وكما هي الحال مع «العلماء الزائفين»، فإن الأشخاص الذين يُوصَفون بذلك لا يرَون أنهم كذلك. ولكنهم يُظهِرون نمطًا مشتركًا من السلوكيات، ويتشاركون روابط شخصية تُضفي على هذا التصنيف بُعدًا اجتماعيًّا واقعيًّا.

الإنكار هو مجموعة من الحُجج المعارضة — غالبًا ما يُقدمها مؤيدون مؤهَّلون باستخدام تحليلات رياضية ورسوم بيانية — ليس بهدف إثبات حقيقة تتعلق بالعالم الطبيعي، بل لزرع الشكوك بشأن بعض عناصر الإجماع العلمي السائد. إن زيادة الشك دون تقديم بديل متماسك هي سِمة من سِمات الممارسات الإنكارية، وهناك سِمة أخرى وهي هدفها المشترك: ترمي تقريبًا جميع مزاعم الإنكاريين التي ظهرت في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية (وبمعدل أقل في دول صناعية أخرى) إلى تفكيك الرقابة الحكومية على الصناعات المربِحة التي قد تُعرِّض الرفاهية العامة للخطر. يمكن ملاحظة ذلك في هجمات الإنكاريين القوية على الفهم العلمي الذي يقف وراء تغيُّر المناخ نتيجة لحرق الوقود الحفري، وتدمير طبقة الأوزون في طبقات الغلاف الجوي العُليا، وتكوُّن الأمطار الحمضية، وأضرار تدخين التبغ.

عندما تواجهنا سلوكيات مماثلة في عدد من المجالات، لا نجد الكثير من الفرضيات التي يمكنها تفسير هذا التشابه. ربما كانت مجرد مصادفة. وربما كانت هذه المجالات المتباينة تواجه ضغوطًا مماثلة، وتلك الضغوط هي ما دفعتها لتبتكر تلك الاستراتيجيات بعينها، كلٌّ على حدة. وربما استلهم نقاد مختلفون الأمور التي كانت تحدث في مجالات أخرى ثم تبنوا حُججًا ناجحة. أو ربما كان هناك مصدر مشترك، وأن جميع هذه الحجج التي تبدو مختلفة جزءٌ من نهج واحد. وفقًا لبحثٍ شامل أجراه مؤرخا العلوم نعومي أوريسكس وإريك كونواي، فإن الفرضية الصحيحة في حالة الإنكار الأمريكي بعد الحرب هي الفرضية الأخيرة.

لم تُنشأ استراتيجية الإنكار بواسطة علماء، بل بواسطة شركة علاقات عامة. ففي عام ١٩٥٤، استُئجرت شركة هيل آند نولتون من قبل عميل كان يواجه أزمة: صناعة التبغ. كان قادة الصناعة يدركون أن تدخين السجائر خطر على صحة المدخن، وأن الخواص الإدمانية للنيكوتين تجعل الإقلاع صعبًا، وبالتالي فإن منتجهم، عند استخدامه حسب التعليمات، سيؤدي إلى وفاة المستهلكين. كانوا يدركون ذلك، ولكنهم أرادوا استمرار تجارتهم، ومن ثَم، احتاجوا إلى استراتيجية اتصالات للتشويش على الحقائق. (أدَّت جهود المسئولين التنفيذيين لإخفاء النتائج العلمية الأساسية إلى إدانة كبرى شركات التبغ الأمريكية بموجب قوانين الاحتيال المدني عام ٢٠٠٦) لم تكن فكرة شركة هيل آند نولتون الأساسية هي تقديم أدلة علمية بديلة، بل غرس الشكوك حول الإجماع العلمي الذي يتزايد بخُطًى ثابتة، والمطالبة ﺑ «المزيد من الأبحاث». مَن قد يعارض المزيد من العلم؟ كما ذُكر في وثائق صناعية سرية من ذلك الوقت: «الشك هو منتجنا».

فصَّل أوريسكس وكونواي كيفية انتقال هذه العملية من صناعة إلى أخرى عندما سعَت الشركات إلى تجنُّب (أو على الأقل تأجيل) التدخل الحكومي. وكانت النسخة الأكثر بروزًا من هذه الاستراتيجية على الصعيد السياسي هي تلك التي اعتمدتها صناعة الوقود الحفري لمواجهة الحُجج التي تفيد بأن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي تعيد تشكيل مناخ الأرض بشكلٍ عنيف، وترفع درجات الحرارة العالمية، وتزيد من حموضة المحيطات. لم تكن زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون محلَّ جدل، رغم أن مسألة ما إذا كانت الحلقات الارتجاعية للكوكب — كالامتصاص في المحيط، وزيادة غطاء السحب، على سبيل المثال — قد تُعزز أو تُضعف من «الاحتباس الحراري» كانت، في الستينيات والسبعينيات، محل أبحاث مكثَّفة. وبحلول الثمانينيات، توصَّل الإجماع العلمي إلى أنه سيحدث احترار كبير للكوكب خلال القرن القادم مما سيتسبب في عواقب كارثية. فسعت الشركات التي حققت أرباحًا من مبيعات النفط وغيره من الوقود الحفري إلى تأجيل التدخل السياسي.

تشبه استراتيجية الإنكار استراتيجية الإنكار التي تتبعها العلوم المناهضة للعلم المؤسسي من حيث إنشائها لمؤسسات بديلة — عادة ما تكون مراكز أبحاث مموَّلة من الصناعة تُخفي رعايتها لدرء الشكوك العامة — ولكنها تختلف كثيرًا من حيث إن الإنكاريين لا يقدمون أنفسهم كعلمٍ خارج على التيار الرئيسي. طريقتهم الأساسية هي ضمان استمرار غرس الشكوك، والمطالبة بالمزيد من الأبحاث، والتشويش على اعتقاد الجمهور بأن وجود إجماع واضح في المجتمع العلمي هو ببساطة سلوك علمي عادي. ولكن هناك الكثير من الأمور غير العادية في هذا الأمر. تنشر مراكز الأبحاث نتائج في تقارير مفصلة تبدو رسمية وتشبه الأدبيات العلمية، ولكن تُنشر هذه الوثائق دون أن تخضع للهياكل التنظيمية الخاصة بمراجعة الأقران التي أصبحت من عادات النشر العلمي. وقد لا يُنتبه لهذا التمييز من جانب جمهورها الرئيسي — السياسيين والجمهور — وهذا هو الهدف. في بعض المجالات، مثل تنظيم محطات حرق الفحم لتقليل الأمطار الحمضية، أو التخلص التدريجي من مركبات الكلوروفلوروكربون للحد من تلف طبقة الأوزون، أدت هذه الاستراتيجية إلى تأخير الإجراءات بضع سنوات فحسب. أما فيما يتعلق بأضرار تدخين التبغ وتغيُّر المناخ، فقد أثبتت فاعلية أكبر بكثير. (في الحالة الأخيرة، لا تزال العملية قائمة، رغم أنه يبدو أنها تفقد قوتها تدريجيًّا).

هل يُعد ذلك من قبيل العلم الزائف؟ مثلما هي الحال دائمًا، يعتمد ذلك على تعريفك له، والذي يعتمد بدوره على تعريفك ﻟ «العلم الحقيقي». لقد عثر واضعو استراتيجية الإنكار بمهارة على علماء معتمدين — غالبًا من أولئك الذين يتعاطفون سياسيًّا مع سياسات مناهضة للتنظيم — لترويج آراء تبدو مستندة ظاهريًّا إلى ممارسات مباشرة مرتبطة بالعلم السائد (تحليل أكبر للبيانات، والقيام بمزيدٍ من الاختبارات باستخدام أساليب جديدة، وما إلى ذلك). لا يتطابق ذلك تمامًا مع العلوم مفرطة التسييس، أو العلوم المناهضة للعلم المؤسسي. يلقي الإنكاريون باتهامات العلوم الزائفة — ولا سيما مسألة «الليسينكووية» المخيفة — على ممثِّلي الإجماع العلمي والعكس صحيح، ومن السهل أن تغرق في مستنقع دلالات هذه المصطلحات. تدور النقطة الأساسية حول كيفية عمل هذه المزاعم في الدوائر العامة: بمجرد أن تفهم كيف تعمل استراتيجية الإنكار ضد المصلحة العامة، لن يصبح المُسمى مهمًّا.

هناك حركة مختلفة تستخدم العديد من التكتيكات نفسها التي يستخدمها الإنكاريون المدعومون من الشركات، ولكنها تنبع من الأنشطة المجتمعية الشعبية: المجموعات المعارضة للتطعيم. هذه الحركة معقدة، ولها العديد من العناصر المختلفة. وبينما ترتبط معارضة التطعيم في نسختها المعاصرة بالنشطاء اليساريين المهتمين بصحة الأطفال، ويرجع تاريخ بدايتها إلى عَقدَين ماضيَين فحسب، فإن المعارضة نفسها موجودة فعليًّا منذ أول ظهور للتطعيم، منذ أكثر من قرنين كاملين.

كان معارضو التطعيم ضد الأمراض المعدية في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر يطرحون اعتراضَين رئيسيَّين: الأول، أن التطعيم نفسه يحمل خطرًا على الشخص المُلقَّح، الذي قد يصاب بالمرض من العامل المُمرض المخفف في المصل، أو يتعرض لآثار جانبية ضارة أخرى؛ والثاني، أن فرض التطعيم هو تدخُّل غير مبرَّر من الدولة في قرارات الأفراد. يبقى التخوف الأول معقولًا، رغم أن اللقاحات أصبحت أكثر أمانًا على مدى القرون. ولتلافي النتائج السيئة الحتمية (رغم ندرتها)، توفِّر أغلب الحكومات تعويضات عن الإصابات الناتجة عن التطعيم. يمكن إثبات الفوائد الصحية العامة للتطعيم الواسع النطاق بصورة غير قابلة للتفنيد من خلال إنجازاتٍ محقَّقة على غرار القضاء التام على الجدري في عام ١٩٨٠، والقضاء شبه التام على شلل الأطفال في السواد الأعظم من العالم. يمكن ملاحظة عواقب انتشار عدوى فيروسية غير مسيطر عليها دون لقاح في الانتشار السريع والمدمِّر للفيروس التاجي الجديد المتسبب في كوفيد-١٩ في عام ٢٠٢٠. تعتمد كل الآمال في إنهاء المرض والانهيار الاقتصادي الناجم عن الإجراءات الصحية القائمة على الحجر الصحي على وجود لقاح فعال.

fig10
شكل ٧-١: المنظمات المعارضة للتطعيم تملك تاريخًا طويلًا في الولايات المتحدة، يعود إلى فترة طويلة قبل هذا الإعلان المنشور في عام ١٩٠٢.

أثار كوفيد-١٩ بعض نظريات المؤامرة حول منشئه في الصين، والعديد من المقترحات لعلاجاتٍ مشكوك فيها، ولكن لم يكن مصطلح «العلم الزائف» مستخدمًا في البداية. ولكن تغيَّر ذلك مع انتشار الجائحة خلال عام ٢٠٢٠، لأسبابٍ قد تبدو مألوفة. فقد كُرس فجأة اهتمام وموارد هائلة لفهم هذا الفيروس التاجي الجديد. بدأت الخواص المميزة للفيروس المسبِّب لكوفيد-١٩ بالظهور، بما في ذلك فترة الحضانة الطويلة التي يكون فيها حاملو الفيروس معدين، وتنوُّع أعراضه الشديد ونتائج الإصابة به. غمرت الإنترنت دراسات حول فاعلية (أو عدم فاعلية) الكمامات، والتباعد الاجتماعي، وتجنُّب لمس الوجه، والحجر على البريد، وعلاجات افتراضية متنوعة، وما إلى ذلك. ومع انتشار هذه الدراسات ثم تراجع شعبية بعضها لاحقًا، بدأت مزاعم خاصة بمعارف بائدة في الانتشار، ووجدت في بعض الأحيان صدًى لدى عدد كبير من المتابعين. وفي الجهة المقابلة، ظهرت ردود أفعال يغلب عليها الشك المفرط إزاء جميع الادعاءات المتعلقة بجائحة كوفيد-١٩. وظهرت اتهامات ﺑ «العلم الزائف». وكان هذا التهميش يحدث بين الدورات الإخبارية اليومية، كنتيجة طبيعية لعملية إنتاج المعرفة.

بالعودة إلى معارضي التطعيم: ظل تخوفهم الثاني قائمًا، وأصبح يرتبط اليوم بأيديولوجيات مثل التحرريين، وحركات النجاة، وغيرها من الأيديولوجيات المشكِّكة في أفعال الحكومات، إلى جانب حركات دينية مثل العلماء المسيحيين، والكنيسة الإصلاحية الهولندية، التي تحظر استخدام بعض العلاجات الطبية، أو لا تشجع عليها. يُربط دائمًا بين الجماعات غير الدينية واليمين السياسي، وغالبًا ما يتم تجاهلها في النقاشات العامة حول معارضة التطعيم. ومع ذلك، نجحت جهود الضغط التي مارستها كلٌّ من المجموعات الدينية والمناهضة للتدخل الحكومي في دفع العديد من الولايات داخل الولايات المتحدة إلى السماح للأفراد بإعفاء أطفالهم من التطعيمات الإلزامية. وقد استغل معارضو التطعيم في القرن الحادي والعشرين هذه الآلية القانونية.

ترتكز حركة معارضة التطعيم على مقال نشره أندرو ويكفيلد واثنا عشر زميلًا له عام ١٩٩٨ في المجلة الطبية البريطانية «ذا لانسيت». استند ويكفيلد، وهو طبيب أمراض الجهاز الهضمي، إلى دراسة أُجريَت على اثني عشر طفلًا يعانون من اضطرابات في المعدة، ليزعم وجود علاقة بين لقاح الحصبة، والنكاف، والحصبة الألمانية، والتوحد. لطالما أعرب الأطباء عن قلقهم إزاء الأدلة الكثيرة على ارتفاع معدلات التوحد عالميًّا — من حالة واحدة بين كل ٢٥٠٠ شخص عام ١٩٧٠ إلى أكثر من حالة بين كل ١٥٠ شخصًا اليوم — ولكن تحديد ما إذا كان هذا الارتفاع ناتجًا عن عوامل خارجية، أو عن زيادة الوعي (ومن ثَم، التشخيص) لا يزال موضع جدل محتدم. أشار ويكفيلد إلى لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية كسببٍ محتمَل للتوحد، ما أعطى الآباء الذين يعاني أطفالهم من التوحد هدفًا ليحمِّلوه المسئولية.

ارتفعت معدلات رفض لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية بصورة مطردة في الولايات المتحدة، واستمرت في الارتفاع حتى بعد سحب مقال ويكفيلد من مجلة «ذا لانسيت» في ٢٠١٠. كما تبرأ عشرة من أصل ثلاثة عشر مؤلفًا مشاركًا في الدراسة من نتائجها، لكن ويكفيلد ظل متمسكًا بادعاءاته، وحوَّل الصلة بين هذا اللقاح والتوحد إلى مسيرة مهنية ثانية. (لقد سُحبت رخصته الخاصة بممارسة الطب عام ٢٠١٠) دحضت هذه المزاعم العديد من الدراسات، مثل دراسة الأكاديمية الوطنية للعلوم عام ٢٠٠١ بعنوان «لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية والتوحد»، إلا أن معارضي التطعيم لا يزالون يستشهدون ببحث ويكفيلد الذي فقد مصداقيته كما لو كان لا يزال يحظى بمصداقية في المجتمع العلمي. كانت عواقب استمرار هذا الزعم الباطل واضحة: سُجلت ١٢٤٩ حالة تفشي للحصبة في الولايات المتحدة من يناير إلى سبتمبر ٢٠١٩، وكان ٨٩ في المائة من المصابين إما لم يحصلوا على اللقاح وإما حالتهم غير معروفة.

من السمات المميزة لحركة معارضة التطعيم مقارنةً بالحركات غير التقليدية الأخرى وجود الكثير من النساء في صفوفها. (انطبق الأمر نفسه على الحركة الروحانية، فكانت أغلب عينات الدراسة من النساء، بالإضافة إلى كونهن مناصرات فاعلات) كان الربط بين معارضة التطعيم والوقاية من التوحد في مرحلة الطفولة، وهو مجال تقليدي للنساء كأمهات، متوقعًا في حركة تحسين النسل، التي شهدت أيضًا مشاركة قوية من النساء. وهذا يشير إلى نمطٍ أكثر عمومية في الطب غير التقليدي. تلك الحركات غير التقليدية التي تدَّعي تحقيق إنجازات متقدمة فيما يتعلق بالوقاية من الأمراض، وعلاجها غالبًا ما تروق للنساء والرجال على حدٍّ سواء، ما يمنح تلك المجتمعات هيكلًا مختلفًا مقارنةً بالعلوم غير التقليدية. لا شك في أن المسئولية عن عدم تطعيم الأطفال تؤدي بوضوحٍ إلى توجيه الاتهامات، ولكن ليس من المرجح أن يؤدي التنديد العام إلى إنهاء الحركة. يشبه معارضو التطعيم الحركات المناهضة للعلم المؤسسي في قدرتهم على التنظيم والحفاظ على آرائهم، رغم محدودية قدرتهم على الوصول إلى منافذ العلوم السائدة.

ما العمل؟

لا يثني اللوم وكشف الزيف مؤيدي النظريات المهمشة عن التمسك بآرائهم. هل هناك حلول أفضل إذن؟ طُرحت عدة اقتراحات على مدى العقود الأخيرة لمواجهة ما يُعتقد بأنه انتعاش للفكر غير التقليدي. (من الصعب التحقق مما إذا كان ينتعش أم لا).

نصَّت مجموعة من الاقتراحات على تشديد معايير النشر العلمي بشكلٍ جذري. يمكننا، من حيث المبدأ، أن نرفع معايير ما يُقبَل نشره إلى مستوًى مرتفع للغاية بحيث تُقبَل فقط النتائج التي تقترب كثيرًا من الإجماع العلمي. ولا شك في أن هذا سيؤدي إلى استبعاد الأفكار غير التقليدية، ولكنه سيخنق أيضًا تقريبًا أي تجديد؛ إذ لن تجتاز نظريات على غرار نظرية الكم والانجراف القاري هذا المعيار. من ناحية أخرى، يمكننا تخفيف معايير النشر العلمي للسماح ببعض التحقق — مثل مراجعة الأقران — ما قد يسمح أحيانًا بتسرب أفكار غير تقليدية. هذا هو المستوى الذي نعمل وفقًا له الآن، ونتيجة لذلك تتسرب الأفكار غير التقليدية إلى الأدبيات المنشورة، مثلما حدث مع أبحاث الإدراك الحسي الفائق. هل يمكننا أن نتدخل هنا لتحسين الوضع؟

لا أعتقد ذلك. لنفترض، على سبيل المثال، أننا أصررنا على قبول الأبحاث التي خضعت لمراجعة الأقران فقط دون غيرها. سيتسبب ذلك في استبعاد تقارير مراكز الأبحاث الخاصة بالإنكاريين، لكنه لن يستبعد ويكفيلد (الذي اجتاز مراجعة الأقران)، وسيضع العقبات في وجوه الفيزيائيين الحاليين الذين يقوم أغلب التواصل بينهم على تحميل المخطوطات غير المُراجعة على خادم الطبعات الأولية. ومع تزايد التخصص والالتزامات المتراكمة على وقت الباحثين المحدود، يبدو أن مراجعة الأقران غير قادرة على تلبية المتطلبات المعرفية المفروضة عليها. لم تنجح مراجعة الأقران قَط في كشف حالات الاحتيال؛ وظهور الدوريات المؤذية (التي لا تفرض أي معايير على المحتوى، وتستمر في العمل عن طريق فرض رسوم باهظة على المؤلفين)، والمقالات المكتوبة بواسطة كُتَّاب مجهولين بما يصب في صالح بعض الصناعات، والاختبارات الإحصائية الرديئة (التي أسفرت عن أزمة التكرار)، وما إلى ذلك، زاد من العبء المُلقى على كاهل نظامنا للنشر العلمي. مع ذلك، يبدو أن النظام يعمل جيدًا في المتوسط، حتى إن لم يكن مثاليًّا. كما أدت إضافة بيانات إلزامية عن مصادر التمويل وتضارب المصالح إلى تثبيط نشر بعض الأبحاث المشكوك في مصداقيتها. وربما كانت الطريقة الأكثر نفعًا هي تخفيف الضغوط على العلماء للنشر بكمٍّ متزايد وسرعة متزايدة، لأن هذا المتطلب يضعف قدرة النظام بأكمله على تقييم مصداقية النتائج، ويقدم في الوقت نفسه حوافز للأبحاث الزائفة أو غير الدقيقة. لا شك في أن هذا الإصلاح سيبطئ من وتيرة البحث العلمي (أو على الأقل معدل النشر العلمي)، الأمر الذي قد تصحبه نتائج مفيدة.

يُحوِّل تعديل معايير النشر الانتباه نحو العلماء؛ يمكننا بدلًا من ذلك التركيز على متلقي الأفكار غير التقليدية. في هذه الحالة، يمكن أن نتبع إصرار كارل ساجان وغيره من العلماء المرتبطين بمجموعة «لجنة التحقيق العلمي في مزاعم الظواهر الخارقة» الخاصة بكشف الزيف، وندعو إلى تحسين تدريس العلوم. تدريس العلوم أمر رائع، وأنا مؤيد له تمامًا. ولكن يبدو من غير المحتمل أن تؤدي التحسينات في الثقافة العلمية إلى القضاء على التيارات العلمية غير التقليدية. على سبيل المثال، تأمل حالة مؤيدي نظرية الأرض المسطحة: لقد تعلموا جميعهم في المدرسة أن كوكبنا كروي الشكل، ولكن لم يمنع ذلك من ولادة حركة جديدة. إن توسيع نطاق الثقافة العلمية لن يؤثر في جاذبية النظريات غير التقليدية في نظر الكثيرين، رغم أنه قد يغيِّر من المذاهب التي يجدونها جذابة، ربما المزيد من المزاعم بوجود بيج فوت، وربما مزاعم أقل عن علم الخيمياء.

لا تتطور العلوم الزائفة لأن الناس يفتقرون إلى المعلومات العلمية. بل إن المذاهب غير التقليدية تنتج عن عملية البحث العلمي النظامية، ولكنها تنفصل عن الإجماع العلمي في أثناء تحوُّلها، ثم تكتسب مؤيدين تدريجيًّا. ينضم بعض الناس إلى هذه الجماعات لمجرد أن يشعروا بالانتماء إلى مجتمع، وينضم إليها البعض الآخر لأنها تبدو لهم أكثر منطقية مما يقوله لهم مدرسو العلوم، وينضم البعض الثالث — مثل العلماء الممارسين الذين يؤيدون الإدراك الحسي الفائق — بدافع سعيهم الصادق لكشف الحقيقة.

كل من يُطلَق عليهم لقب علماء زائفين يعتقدون أنهم علماء حقيقيون. والسبب في انخراطهم في هذه الأنشطة ليس لأنهم مناهضون للعلم، بل لأنهم مؤيدون له. العلوم الزائفة هي ظل العلوم الحقيقية: إنها انعكاس للمجتمع العلمي. وكلما ارتفعت مكانة العلم، أصبح ظله أكثر حدة، وأصبح التيار غير التقليدي أكثر قوة. لذا، فإن الطريقة الوحيدة للقضاء على العلوم الزائفة هي التخلص من العلوم الحقيقية، ولا أحد يريد ذلك. ما العمل إذن؟ من شأن فهم المزيد عن العمليات التي تسهم في نشوء الأفكار غير التقليدية وتنوعها أن يساعدنا في التعامل مع تلك الحركات القليلة التي يمكنها أن تتسبب في أضرارٍ كبيرة على المستوى العام. أما بقيتها، فيمكننا اعتبارها ظاهرة نابضة بالحياة، لكن لا تمثِّل تهديدًا في أغلبها، للثقافة المعاصرة. فليست جميع الظلال تخفي وحوشًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥