إدارة الخلفاء الراشدين

سار أبو بكر بسيرة الرسول في الإدارة الإسلامية، واحتفظ بالعمال الذين استعملهم صاحب الشريعة، والأمراء الذين أمَّرهم، ومن العمال من أبى أن يعمل لغير رسول الله فاعتزل العمل، ولما وُسِّدَتِ الخلافة إلى الصديق قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك المال. وقال عمر: وأنا أكفيك القضاء. فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان، ولم يخاصم إليه أحد؛ وذلك لأن الناس كانوا أول ظهور الإسلام يرون من الطبيعي أن يعطي الإنسان الحق ويأخذ الحق، ويقف عند حدود الله لا يُقارِف منكرًا ولا يسرف على نفسه، ويبعد عن الزور وأكل أموال الناس بالباطل، ويجعل رائده الصدق في أقواله وأفعاله.

كان إذا نزل بالصِّدِّيق أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه، ودعا رجالًا من المهاجرين والأنصار، دعا عمر وعثمان وعليًّا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأُبَيَّ بن كعب وزيد بن ثابت، وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر، وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء. على أن أبا بكر كان جِدَّ عالم بالشريعة وأخبار الناس وأيامهم وأنسابهم وسياساتهم، إلى ما رُزِقَ من صدر رحب يطلب من كل صاحب إدارة، واختار من القضاة ما اختاره الولاة غالبًا، وكان ولاة المدينة١ هم الذين يختارون القضاة ويولونهم، ويكتب لأبي بكر علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت، ويكتب له الأخبار عثمان بن عفان٢ ويكتب له من حضر٣ ومن عماله: عتاب بن أسيد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن أبي العاص، والمهاجر بن أبي أمية، وزياد بن عبيد الله الأنصاري، ويعلى بن منية، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، والعلاء بن الحضرمي، وجرير بن عبد الله، وعبد الله بن ثور، وعياض بن غَنم، وأبو عبيدة بن الجراح، وشُرَحبيل بن حَسَنة، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد.

ما تجاوزت رقعة المُلك الإسلامي في أيام أبي بكر أكثر من جزيرة العرب؛ قسمت إلى ولايات أو عمالات، وهي مكة والمدينة والطائف وصنعاء وحضرموت وخولان وزبيد ورِمَع والجَنَد ونجران وجُرَش والبحرين، أما القواد الآخذون بفتح الشام والعراق فيولون عمالًا من عندهم في الأرض التي يفتحونها. بمعنى أن الحجاز قُسِّمَ إلى ثلاث ولايات، واليمن إلى ثمانٍ، والبحرين وما إليها ولاية.

ولما ولي أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن لتعجز عن مئونة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، وسأحترف للمسلمين في مالهم، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال. فجعلوا له ألفين، وفي رواية ثلاثة دراهم كل يوم من بيت المال.٤ ثم قال: زيدوني فإن لي عيالًا، وقد شغلتموني عن التجارة. فزادوه خمسمائة، ولما مات ابنه في خلافته ترك سبعة٥ دنانير فاستكثرها أبو بكر، ولم يفرض أبو بكر ولا الرسول من قبلُ عطاء مقررًا للجند،٦ وكانوا إذا غزوا وغنموا أخذوا نصيبًا من الغنائم قررته الشريعة لهم، وإذا ورد المدينة مالٌ من بعض البلاد أُحضر إلى مسجد الرسول وفُرِّقَ فيهم يصيب منه الأنصار والمهاجرون وكل مسلم بحسب غنائه في نصرة الدين. جرى الأمر على ذلك مدة خلافة أبي بكر، وكان لأبي بكر٧ بيت مال بالسُّنْح من ضواحي المدينة إلى أن انتقل إلى المدينة، فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قالوا: فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين فلا يبقى منه شيءٌ، ولما قضى نحبه ذهب عمر في نفر من الصحابة لاستلام بيت المال فلم يجدوا فيه شيئًا.

وجرى أبو بكر على كشف أحوال العمال، وكان كصاحبه يختار أكثرهم علمًا وعملًا، ولما عزل خالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة وكان أحد الأمراء فقال: انظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثل ما كنت تحب أن يعرف لك من الحق عليه لو خرج واليًا عليك. وقد عرفت مكانه من الإسلام، وأن رسول الله تُوُفِّيَ وهو له والٍ، وقد كنت وليته ثم رأيت عزله، وعسى أن يكون ذلك خيرًا له في دينه ما أغبط أحدًا بالإمارة. وقد خيرته في أمراء الأجناد فاختارك على غيرك، اختارك على ابن عمه، فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وليَكُ خالد بن سعيد ثالثًا. فإنك واجد عندهم نصحًا وخيرًا، وإياك واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر.

وشغل أبو بكر بقتال أهل الرِّدَّة فوطد دعائم الدولة بإظهار قوة المسلمين لمن خالفهم، فجمع الشمل الذي كان يخشى من انبتاته، وبدا منه حزم عجيب وإدارة شديدة رشيدة، وخالف جميع أصحابه في قتال من أَخَلُّوا بشروط الإسلام فأصر على قتالهم. ولقد قال عمر: إن العرب لما ارتدت٨ ومنعت شاتها وبعيرها أجمع رأينا كلنا — أصحابَ محمد — أن قلنا لأبي بكر: إن رسول الله كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب. فخالفهم كلهم أبو بكر وأعلن هذه الحرب على المرتدين حتى أذعنت العرب بالحق. استبد أبو بكر برأيه فكان رأيه الصواب، وقضى بصادق عزيمته وبعيد نظره قضاءً مبرمًا على آخر أثر من آثار الوثنية في الأرض العربية، ولما أرسل الصِّدِّيق الأمراء لقتال أهل الردة أوصاهم أن يقتصدوا بالمسلمين، ويرفقوا بهم في السير والمنزل، ويتفقدوهم ويستوصوا بهم في حسن الصحبة ولين القول، وأمر قواده في المرتدين أن لا يقاتلوا أحدًا ولا يقتلوه حتى يدعوه إلى الله، فمن استجاب لهم وأقرَّ وكفَّ وعمل صالحًا قبل منه وأُعين عليه، ومن أبى يُقاتَل على ذلك، ولا يُبقون على أحد منهم قدروا عليه، وأن يحرقوهم بالنار ويقتلوهم كل قتلة، ويَسْبُوا النساء والذراري، ولا يُقبل من أحد إلا الإسلام.
ومن وصايا أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان لما أرسله إلى الشام: «إذا دخلت بلاد العدو فكن بعيدًا من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد وسر بالأدلاء، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإن في العرب غرة،٩ وأقلل من الكلام فإنا لك ما وُعِيَ عنك، وإذا أتاك كتابي فأنفذه فإنما أعمل على حسب إنفاذه، وإذا قدمت عليك وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك، وأسبغ عليهم النفقة، وامنع الناس عن محادثتهم ليخرجوا جاهلين كما دخلوا جاهلين، ولا تُلِحَّنَّ في عقوبة فإن أدناها وجع، ولا تسرعن إليها وأنت تكتفي بغيرها، واقبل من الناس علانيتهم، وكِلْهم إلى الله في سرائرهم، ولا تجسس عسكرك فتفضحه ولا تهمله فتفسده.»

ولم يُحدِث أبو بكر في أيامه أحداثًا جديدة، والفتوح لم تقِف مع حروب الردة، ووجَّه وجهته نحو الشام، وكان آخر جيش جهَّزه جيشَ اليرموك، جهزه بكل حكمة، وبذل في تنظيمه أقصى الجهد، وجعل فيه قاضيًا، وجعل أبا سفيان بن حرب قاصًّا يسير في الجماعة ويقول: الله الله عبادَ الله انصروا الله ينصركم، اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك، يا نصر الله اقترب يا نصر الله اقترب. وقُصَّاص الجند يقصون عليهم أخبار الوقائع والفروسية ليقووا قلوبهم، وقيل: إن تميمًا الداري كان أول من قَصَّ في مسجد الرسول في عهد عمر، كان يذكر المسلمين بالله، ويقص عليهم قصصًا وأحاديث عن الأمم الماضية وأساطير وحكايات.

•••

كانت أول خطبة خطبها عمر بن الخطاب لما وَلِيَ الخلافة: «أيها الناس، إنه واللهِ ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ له الحق، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه.» وما كان عمر ممن أولع بإلقاء الخطب كثيرًا على بلاغة فيه مستحكمة وعلم غزير، ولا يرتقي المنبر إلا إذا قضت الضرورة وأراد بيان أمر ذهبت فيه نزوات النفوس مذهبًا لا يرضاه، وكثيرًا ما قال: إن هذا الأمر لا يصلح فيه إلا الليِّن في غير ضَعف، والقوي في غير عنف. وكذلك كان عمر يجمع بين اللين والشدة، وهو إلى هذه ولا سيما على عماله أقرب. وإذا كان أكبر رجال الإدارة تحصى عليهم عشرات من الأغلاط فإن عمر لا يستطيع أكبر الناقدين أن يحصي عليه غلطتين أو ثلاثًا، وقد يجاب عليها بأن ذلك محض اجتهاد منه، والمجتهد قد يصيب ويخطئ. والحكم الآن على مسائل لم تتجلَّ كل التجلي بما نقله الناقلون، وما أحاط بها من أحوال دقيقة غير مرئية، يدعونا إلى أن نُمسك عن إرسال القول في النقد، ولا سيما نقد رجل عقمت أمم كثيرة أن تنبغ أفضل منه وأعظم.

وطريقة عمر في الإدارة طريقة أبي بكر وصاحبه من قبل؛ إطلاق الحرية للعامل في الشئون الموضعية، وتقييده في المسائل العامة، ومراقبته في خَلوته وجَلوته.

«وكان١٠ علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته، كعلمه بمن بات معه في مهادٍ واحد وعلى وسادٍ واحد، فلم يكن له في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل ولا أمير جيش إلا وعليه له عين لا يفارقه ما وجده، فكانت ألفاظ مَنْ بالمشرق والمغرب عنده في كل مُمْسى ومُصْبَح. وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله وعمالهم حتى كان العامل منهم لِيَتَّهِمَ أقرب الخلق إليه وأخصهم به.» وكان كما قال المغيرة بن شعبة: أفضل من أن يَخدع وأعقل من أن يُخدع.
كان إذا استعمل العمال خرج معهم يشيعهم١١ فيقول: إني لم أستعملكم على أمة محمد على أشعارهم ولا على أبشارهم، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل، لا تجلدوا العرب فتذلوها ولا تجمروها١٢ فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها، جوِّدوا القرآن وأقلوا الرواية عن محمد وأنا شريككم. وكان يقص من عماله، وإذا شُكِيَ إليه عامل جمع بينه وبين من شكاه، فإن صح عليه أمر يجب أخذه به أخذه. وكان إذا بعث أمراء الجيوش يوصيهم بتقوى الله، وأن لا يعتدوا، ولا يجبنوا عن اللقاء، ولا يمثلوا عند القدرة، ولا يسرفوا عند الظهور، ولا يقتلوا هرمًا ولا امرأة ولا وليدًا، وأن يتوقَّوْا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند حمة النهضات وفي شن الغارات، وأن لا يغُلُّوا عند الغنائم، وينزهوا الجهاد عن عَرَض الدنيا.
وكان عمال عمر عرضة لكشف أحوالهم مهما بلغ من منزلتهم، وكان إذا شُكي١٣ إليه عامل أرسل محمد بن مسلمة يكشف الحال، وله عدة طرق في كشف سيرة عماله، منها أن يأمر عماله أن يوافوه بالموسم، فإذا اجتمعوا قال: «أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، إنما بعثتم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فُعِلَ به غير ذلك فليقم.» فما قام إلا رجل واحد فقال: إن عاملك فلانًا ضربني مائة سوط، قال: فيمَ ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، ويكون سُنَّةً يأخُذ بها من بعدك. فقال: أنا١٤ لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه. قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فأرضوه. فافتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين، وقال من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له عليَّ إلا أن يرفعها إليَّ حتى أقصه منه. فقيل له: أرأيت إن أدب أمير رجلًا من رعيته أتقصه منه؟ فقال: وما لي لا أقصه منه، وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه.
وكان يستدعي عماله ليطَّلع على مطاوي نفوسهم، ويكشف بنفسه إن كانوا أخذوا أنفسهم بأسباب النعيم؛ لأن عمر يؤثر الخشونة١٥ ويريد عماله أن يتبعوه في سائر أفعاله وشيمه وأخلاقه، فكان كل يتشبه به من غاب أو حضر، وهو يلبس الجبة الصوف المرقعة بالأديم وغيره، ويشتمل بالعباءة، ويحمل القربة على كتفه مع هيبة قد رُزِقها، وكذلك كان عماله مع ما فتح الله عليهم من البلاد وأوسعهم من الأموال، وكان ينهى عماله عن جيد الملبوس والمركوب والمأكول، ويلتف في١٦ كسائه، وينام في ناحية المسجد، فلما وُرِد بالهرمزان صاحب تُستر عليه، جعلوا يسألون عنه، فيقال: مَرَّ ههنا آنفًا. فيصغر في قلب الهرمزان إذ رآه كبعض السُّوقة حتى انتهى إليه وهو نائم في ناحية المسجد فقال الهرمزان: هذا والله المُلك الهنيء. يقول: لا يحتاج إلى حراس ولا عدد، فلما جلس عمر امتلأ قلب العلج١٧ منه هيبة لما رأى عنده من الجِد والاجتهاد، وأُلبس من هيبة التقوى. قالوا: وكان أبا العيال١٨ يسلم على أبوابهن، ويقول: ألكن حاجة، وأيتكن تريد أن تشتري شيئًا؟ فيرسلوه معه بحوائجهن، ومن ليس عندها شيءٌ اشترى لها من عنده، وإذا قدم الرسول من بعض الثغور يتبعه بنفسه في منازلهن بكتب أزواجهن، ويقول: أزواجكن في سبيل الله وأنتن في بلاد رسول الله، إذا كان عندكن من يقرأ وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكن. ثم يقول: الرسول يخرج يوم كذا وكذا فاكتبن حتى نبعث بكتبكن. ثم يدور عليهن بالقراطيس والدواة، يقول: هذه دواة وقرطاس فادنين من الأبواب حتى أكتب لكن. ويمر إلى المغيبات فيأخذ كتبهن فيبعث بها إلى أزواجهن.
وكان إذا استعمل عاملًا أوصاه بتقوى الله وإصلاح الرعية، وكتب عليه كتابًا، وأشهد عليه رهطًا من الأنصار أن لا يركب بِرْذونًا، ولا يأكل نقيًّا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يُغلق بابه دون حاجات المسلمين، ثم يقول اللهم اشهد. وكتب إلى عماله: «أما بعد، فإياكم والهدايا فإنها من الرُّشا.» اهتدى إلى عظيم ضرر الهدايا مما بدر من رجل١٩ كان يهديه فَخِذَ جزور فخاصم إليه رجلًا فقال: يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاءً فصلًا كما يفصل الرِّجل من سائر الجذور، فقضى عليه عمر، ثم كتب إلى عماله: إن الهدايا هي الرشا. وكان عمر إذا قدم العمال يأمرهم أن يدخلوا نهارًا ولا يدخلوا ليلا كي لا يحتجنوا شيئًا من الأموال. وكان يعس بنفسه، ويرتاد منازل المسلمين، ويتفقد أحوالهم، ويتعهد أهل البؤس والفاقة بنفسه.
كتب إلى أبي موسى الأشعري عامله على العراق يأمره بالقدوم عليه هو وعماله وأن يستخلفوا جميعًا، يريد أن يعرف حالتهم بعد أن تبنكوا٢٠ في النعيم، وعهدت إليهم مصالح الناس، فأدرك عامل البحرين من بين كثير من العمال أن عمر يرغب في الخشونة، وعرف أنه سيدعوهم إلى طعامه فتجَوَّع له واتخذ خفين مطارقين٢١ ولبس جبة صوف ولاث٢٢ عمامته على رأسه فدعاهم عمر إلى خبز وأكسار٢٣ بمير فجعلوا يعافونه؛ لأنهم حديث عهدهم بلين العيش، وعمر يلحظهم، ولفت عامل البحرين نظر عمر، وتهافته على تناول الطعام، فسأله عمر عن عمله ثم عن جُعله فأجاب إنه يُرزق ألفًا، فقال له عمر: إنه كثير، ما تصنع به؟ قال: أتقوت منه شيئًا وأعود به على أقارب لي فما فضل عنهم فعلى فقراء المسلمين. فأمر عمر أبا موسى أن يستبدل بأصحابه، وأبقى عامل البحرين في عمله؛ لأنه رآه مقلًّا متقشفًا لا يخشى أن يسرف في المال. وولى عمر رجلًا بلدًا فوفد عليه٢٤ فجأة مدهنًا حسن الحال في جسمه عليه بردان فقال له عمر: أهكذا وليناك؟ ثم عزله، ودفع إليه غُنَيْمات يرعاها، ثم دعا به بعد مدة فرآه باليًا أشعث في ثوبين أطلسين٢٥ وذكر عند عمر بخير فردَّه إلى عمله، وقال: كلوا واشربوا وادَّهنوا فإنكم تعلمون الذي تُنهون عنه.
وكان إذا قدم عليه الوفد سألهم عن حالهم وأسعارهم، وعمن يعرف من أهل البلاد وعن أميرهم هل يدخل إليه الضعيف؟ وهل يعود المريض؟ فإن قالوا نعم، حمد الله تعالى، وإن قالوا لا، كتب إليه: أقبل. وكان من سُنَّة٢٦ عمر وسيرته أن يأخذ عماله بموافاة الحج في كل سنة للسياسة وليحجرهم بذلك عن الرعية، وليكون لشكاتهم وقت وغاية ينهونها إليه. كتب إلى أبي موسى الأشعري: «أما بعد؛ فإن للناس نفرة فأعوذ بالله أن تدركني وإياك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، أقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا عرض لك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله فإن الدنيا تنفدُ والآخرة تبقى، وأخيفوا الفُسَّاق واجعلوهم يدًا يدًا ورجلًا ورجلًا، وعُدْ مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح لهم بابك، وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملًا، وقد بلغني أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بوادٍ خصيب فلم يكن لها هَمٌّ إلا السمن وإنما حتفها في السمن، واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقي الناس به، والسلام.» وهذا من كتبه الممتعة في الإدارة وطريقته فيها.
وبلغ عمر أن أبا عبيدة عامله في الشام يُسبغ على عياله، وقد ظهرت شارته، فنقصه من عطائه الذي كان يجري عليه، ثم سأل عنه فقيل له قد شحب لونه، وتغيرت ثيابه، وساءت حاله، فقال: يرحم الله أبا عبيدة ما أعفَّ وأصبرَ. فردَّ عليه ما كان حبس عنه وأجراه عليه، ودخل عمر منزل أبي عبيدة فلم يَر إلا لِبْدًا وصَحْفة وشَنًّا، وسأله طعامًا فأخرج له من جونة٢٧ كسيرات فبكى عمر، وقال: غيَّرتنا الدنيا كلنا غيرَك يا أبا عبيدة. وأرسل إليه أربعمائة دينار، وسأل من أرسله أن يقف على ما يفعل بها فوزعها أبو عبيدة كلها، وأرسل مثلها إلى معاذ بن جبل فوزعها إلا أشياء قليلة سألته امرأته إياها لحاجتها. فقال عمر لما أُخبر بذلك: الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا.

وكان معظم عمال عمر على غِرار أبي عبيدة ومعاذ من التقشُّف والتبلُّغ باليسير، وكان إذا لم تقنَع نفسه بحسن سِيَرِهِم على الصورة التي لا يرى غيرها لا يتلكأ عن عزلهم. فقد شكا أهل حمص عاملَهم سعيد بن عامر، وسألوه عزلَه؛ لأنه لا يخرج للناس حتى يرتفع النهار، ولا يجيب أحدًا بليل، وله في الشهر يوم لا يخرج فيه، فلما أيقن عمر أن عامله يعجن كل يوم خبزه ويجلس حتى يختمر فيخبزه، ثم يخرج للناس، وأنه يجعل الليل كله للعبادة، وأنه يشتغل مرة في الشهر بغسل ثيابه، بعث إليه عمر ألف دينار يستعين بها، فوزعها على جيش من جيوش المسلمين.

وقدم سعيد بن عامر على عمر بالمدينة فلم يَرَ معه إلا عكازًا وقدحًا فقال له عمر: ليس معك إلا ما أرى؟ فقال له سعيد: ما أكثر من هذا، عكاز أحمل عليه زادي وقدح آكل فيه. وكان من عماله عُمَير بن سعد٢٨ وفيه يقول عمر: ودِدت لو أن لي رجلًا مثل عمير بن سعد أستعين به على أعمال المسلمين. وعمير هذا هو الذي قال على منبر حمص: «لا يزال الإسلام منيعًا ما اشتد السلطان، وليس شدة السلطان قتلًا بالسيف ولا ضربًا بالسوط، ولكن قضاءً بالحق وأخذًا بالعدل.» وهذا من أبعد مرامي الإدارة العادلة إذا أحس أهل عمل من عاملهم العدل لا يحتاج في سياستهم إلى شيء من الشدة. كتب عمر إلى عمير أيام كان عمله على حمص: «أقبل بما جبيت من فيء المسلمين.» فسأله عمر عمَّا عمله قال: بعثتني حتى أتيت البلد فجمعت صلحاء أهلها فوليتم جباية فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به. قال فما جئتنا بشيء؟ قال: لا. قال: جددوا لعمير عهدًا. فقال عمير: لا عملت ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسْلَم، لقد قلت لنصراني أي أخزاك الله. فهذا ما عرضتني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خلقت معك يا عمر. وكان إذا استعمل عاملًا كتب عهده:٢٩ «وقد بعثت فلانًا وأمرته بكذا …» فلما استعمل حذيفة بن اليمان على المدائن كتب في عهده أن اسمعوا له وأطيعوه وأعطوه ما سألكم. فلما قدم المدائن استقبله الدهاقين، فلما قرأ عهده، قالوا: سلنا ما شئت. قال: أسألكم طعامًا آكله وعلف حماري ما دمت فيكم. فأقام فيهم، ثم كتب إليه ليقدم عليه. فلما بلغ عمر قدومه كمن له في الطريق فلما رآه عمر على الحال التي خرج من عنده عليها أتاه فالتزمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك.
فعمر إذًا لم يختر للأعمال إلا أفاضل الرجال ممن كانوا على سَمْتِهِ وزهده. وكان كثيرًا ما يستعمل قومًا ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل، ويقول: أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل. وكان يشاور٣٠ في كثير من الوقائع حتى قال يومًا لأصحابه أشيروا عليَّ ودلوني على رجل أستعمله في أمر قد دَهَمَنِي، فقولوا ما عندكم، فإني أريد رجلًا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه واحد منهم. فقالوا: نرى لهذه الصفة الربيع بن زياد الحارثي فنشير على أمير المؤمنين به، فأحضره وولَّاه، فوفق في عمله، وقام فيه بما أربى على رجاء عمر فيه وزاد على عمله، فشكر عمر من أشاروا عليه بولاية الربيع.
كتب إلى عامله على البحرين العلاء بن الحضرمي أن سِر إلى عتبة بن غزوان فقد وليتُك عمله، واعلم أنك تَقْدَم على رجل من المهاجرين الأولين الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وإني لم أعزله ألا يكون عفيفًا صليبًا شديد البأس، ولكن ظننت أنك أغنى عن المسلمين في تلك الناحية؛ فاعرف له حقه. ولما سير عمر عتبة بن غزوان إلى البصرة ليقاتل من بالأبلة من فارس قال له: انطلق أنت ومن معك حتى تأتوا أقصى مملكة العرب وأدنى مملكة العجم. وأمره أن يشاور عرفجة بن هرثمة؛ لأنه ذو مجاهدة للعدو وذو مكايدة، وعزل عن بعض ولاية الشام شرحبيل بن حسنة، واستعمل بدلًا منه معاوية بن أبي سفيان، واعتذر على رءوس الأشهاد أنه لم يعزله عن شيء هَجَّنه به بل أراد رجلًا أقوى من رجل. وبعث المغيرة بن شعبة عاملًا على الكوفة لأنه قوي شديد، وكان عمر سأله عن الضعيف والقوي، فقال: أما الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وفضله له، وأما القوي المشدد فقوته لك وللمسلمين وشداده عليه. وعزل عامله على ميْسان النعمان بن عدي؛ لأنه بلغه أنه قال أبياتًا في التشبيب تشير إلى أنه يتعاطى الراح، مع أنه عارف بأن ذلك لم يكُن وإنما هو قول شاعر. وعزل زياد بن أبي سفيان فقال زياد: أعن عجز عزلتني يا أمير المؤمنين أم عن خيانة؟ فقال: لا عن ذاك ولا عن هذا، ولكني كرهت أن أحمل على العامة فضل عقلك. وكتب إلى سعد بن أبي وقاص أن شاوِرْ طلحة الأسدي وعمرو بن معدي كرب في أمر حربك، ولا تولهما من الأمر شيئًا، فإن كل صانع هو أعلم بصنعته. وكتب إلى النعمان٣١ بن مقرن أن قبلك رجلين هما فارسا العرب عمرو بن معدي كرب وطليحة بن خويلد فشاورهما في الحرب ولا تولِّهما شيئًا من الأمر. وبعث مع أبي عبيد بن مسعود سليط بن قيس لفتح العراق، وقال له: لولا عجلةٌ فيك لوليتك، ولكن الحرب زبون لا يصلح لها إلا الرجل المكيث.
وسأل عمر عمرو بن معدي كرب عن خبر سعد بن أبي وقاص نفسه فقال: متواضع في حبائه، عربي في نمرته، أسد في تأموره،٣٢ يعدل في القضية، ويقسم بالسوية، ويبعد في السرية، ويعطف علينا عطف الأم البرة، وينقل إلينا حقنا نقل الذَّرَّة. ولما شكا أهل الكوفة سعدًا عزله عمر ولم تأخذه به هوادة؛ لأن الغاية إنفاذ العمل النافع للناس على يد أيٍّ كان من عماله، وأن لا يفتح للمسلمين بابًا للشكوى. وخير ضروب السياسة أن يكون عمل العاملين فيها أكثر من قول القائلين، وسعد هذا هو الذي كان أجمع الصحابة على توسيد حرب العراق إليه، فأوصاه عمر بقوله: يا سعد سعد بني وهيب، لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله وصاحب رسول الله، فإن الله — عز وجل — لا يمحو السيئ بالسيئ ولكنه يمحو السيئ بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمه فإنه الأمر. هذه عظتي إليك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين. وذهب سعد بهذه النصيحة فكان على يده فتح العراق.
كان عمر على شدة فيه مع عماله إذا أحسَّ باعتداء أو شبه اعتداء وقع على أحدهم يشتد على المعتدين في تلك الناحية؛ ليبقى للعامل هيبة توقره في الصدور، ومهابة يلجم بها العامة والخاصة. وقع له مرة أن حصب٣٣ أهل العراق إمامهم، وقد كان عَوَّضهم إمامًا مكان إمام كان قبله فحصبوه، فغضب وقال لأهل الشام: تجهَّزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرَّخ. ودعا عليهم؛ ذلك لأن شكوى العراقيين عاملهم كانت باطلة، وهو الذي يتحرى في انتقاء عماله ولا يستسلم لأحد منهم، بل يجعل بعضهم رقيبًا على بعض، وله عليهم سلطان دونه كل سلطان. شكا عتبة بن غزوان٣٤ تسلط سعد بن أبي وقاص عليه فسكت عنه عمر، فأعاد عتبة ذلك مرارًا، فلما أكثر على عمر قال: وما عليك يا عتبة أن تقر بالإمرة لرجل من قريش له صحبة مع رسول الله وشرف. فقال له عتبة: ألستُ من قريش والرسول يقول: «حليف القوم منهم.» ولي صحبة مع رسول الله قديمة لا تنكر ولا تدفع؟ فقال عمر: لا ينكر ذلك من فضلك. قال عتبة: أما إذا صار الأمر إلى هذا فوالله لا أرجع إليها أبدًا. فأبى عمر إلا أن يرده فرده فمات بالطريق، وهذا من تأثير عمر في عماله ومعاملته لهم كما تريد المصلحة لا كما يريدون. مثال آخر يخالف هذا — والإدارة تختلف باختلاف الأزمان والبلدان — خالف معاويةَ وهو أمير الشام عبادةُ بن الصامت في شيء أنكره عبادة فأغلظ له معاوية في القول. فقال عبادة: لا أساكنك بأرض واحدة أبدًا. ورحل إلى المدينة، فقال عمر: ما أقدمك؟ فأخبره. فقال: ارجع إلى مكانك يفتح الله أرضًا لست فيها أنت ولا أمثالك. وكتب إلى معاوية لا إمرة لك عليه. ذلك أن عمر لم يكن يستغني عن خدمة معاوية ولا عن فضل عبادة.

كان عمر وهو خليفة لا يميز نفسه عن جمهور الناس بشيء في لباسه ومركبه وحركته، يختلط بالشعب كأنه واحد منهم، ومع هذا كان الناس يخافونه، ولو وقع مثل هذا التواضع أو التبذُّل من أحد أفراد الناس؛ لجسروا عليه وضعف سلطانه عليهم إن كان من أرباب السلطان. ولقد كلم الناس عبد الرحمن بن عوف أن يكلم عمر في أن يلين لهم؛ فإنه قد أخافهم حتى إنه أخاف الأبكار في خدورهن. فقال عمر: إني لا أجد لهم إلا ذلك؛ إنهم لو يعلمون ما لهم عندي لأخذوا ثوبي عن عاتقي. وقال عمر: قد أُلنا وإيل علينا أي ولينا وولي علينا. معناه قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية.

وما أُرانا نبعد عن الصواب إذا حكمنا أن شطرًا عظيمًا من وقت عمر في ولايته كان يصرفه في سياسة العمال، وكشف حالهم، وانتقاء أصلحهم، وتسليكهم في الإدارة والسياسة والقضاء على أسلوب محكم لا تكاد تلحق به في هذا القرن أعرق الدول الحديثة في المدنية وأفضلها بنظمها الإدارية والدستورية. ولعل في الناس من يقول إذا عرضنا هنا لمصادرات عمر، وهذا أيضًا من باب الشدة المتناهية والحجر على حرية العمال، وإدخال الخوف عليهم بالضرب على أيديهم على صورة تحرمهم مُتَع الحياة، ولا توليهم منه غير الجفاء والخشونة في المعاملة. نعم، هكذا كان عمر، وهكذا وضع أساس الملك الإسلامي، هو لا يجوز إغناء أفراد بإفقار أمة، ولا إسعاد فئة بإشقاء مجموع. كان ممن يشترون رضا العامة بمصلحة الأمراء،٣٥ فكان الوالي في نظره فردًا من الأفراد، يجري حكم العدل عليه كما يجري على غيره من سائر الناس، فكان حب المساواة لا يعدله شيءٌ في أخلاقه. إذا اشتكى العاملَ أصغرُ الرعية جَرَّهُ إلى المحاكمة حيث يقف الشاكي والمشكو منه يُسوِّي بينهم في الموقف حتى يظهر الحق فإن توجه قِبَل العامل اقتص منه إن كان هناك داعٍ إلى القصاص أو عامله بما تقضي به الشريعة أو عزله. ومن عادة عمر أن يكتب أموال عماله إذا ولَّاهم، ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك وربما أخذه منهم. مر ببَنَّاء يبني٣٦ بحجارة وجَصٍّ فقال: لمن هذا؟ فذكروا عاملًا له على البحرين فقال: أبت الدراهم إلا أن تُخرج أعناقها! وشاطره ماله، وكان يقول: لي على كل خائن أمينان الماء والطين.

ولقد صادر عمر عامله على مصر عمرو بن العاص؛ لأنه فشت له فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم تكن له حين ولي مصر، فادَّعى عمرو أن أرض مصر أرض مزدرعٍ ومتجرٍ، وأنها أثمان خيل تناتجت، وسهام اجتمعت، وأنه يصيب فضلًا عمَّا يحتاج إليه لنفقته، ومع ذلك قاسمه عمر ماله. وصادر أبا هريرة عامله على البحرين؛ لأنه اجتمعت له عشرة آلاف وقيل عشرون ألفًا، وادعى أن خيله تناسلت، وسهامه تلاحقت، وأنه اتَّجر، فقال له عمر: انظر رأس مالك ورزقك فخُذْه، واجعل الآخر في بيت المال. يريد بذلك أن يحصر العامل وكده في خدمة أهل عمله، أما الاتِّجار وتثمير الأموال فهذا ليس من شأن عمال الدولة؛ فإن لهؤلاء ما يتبلغون به من رزق. وكان يرى في مصادرة العمال وقهرهم ترويضًا لهم على الطاعة وترك التبجُّح والإدلال على الرعية، وممن شاطرهم أيضًا النعمان بن عدي عامله على مَيْسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على مكة، ويعلى بن منية عامله على اليمن، وسعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وخالد بن الوليد عامله في الشام، وآخذ خالد بن الوليد؛ لأنه أمره أن يحبس المال على ضعَفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان فأجاز الأشعث لشعره؛ فغضب عمر، وكان أحد الشعراء كتب إليه يقول:

نحج إذا حجوا ونغزو إذا غزوا
فأنَّى لهم وفر ولسنا بذي وفر
إذا التاجر الهندي جاء بفأرة
من المسك راحت في مفارقهم تجري
فدونك مال الله حيث وجدته
سيرضون إن شاطرتهم منك بالشطر
فشاطرهم عمر أموالهم وتولى ذلك منهم محمد بن مسلمة لثقته به٣٧ ولم ينتطح في عمله عنزان. شاطر عمر سعدًا وعَمْرًا وخالدًا وهم ممن يفتخر بهم الإسلام، استكثر عليهم أن ينعموا وإن كان الأول فاتح العراق والثاني فاتح مصر والثالث فاتح الشام.

وقيل لعمر: إن عياض بن غَنْم — وهو من كبار الفاتحين ورجال الإدارة في حكومته — يتوسع كثيرًا في إعطاء المال بحيث لا يقل في هذا المعنى عن خالد بن الوليد، فقال: إن ذلك من شأن أبي عبيدة، وعياض من أقرباء أبي عبيدة. وعياض بن غنم هذا جَلَد صاحب دارا حين فتحت فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي فأتاه هشام فاعتذر إليه، ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع رسول الله يقول: «إن من أشد الناس عذابًا أشدهم للناس عذابًا في الدنيا.» فقال عياض: قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت، أوَلم تسمع رسول الله يقول: «من أراد أن ينصح لذي سلطان عامة فلا يُبْدِ له علانية ولكن ليخلُ به فإن قَبِلَ منه فذاك وإلا كان قد أدَّى الذي عليه.» وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله.

كان عمرو بن العاص يبعث إلى عمر بالمال٣٨ بعد حبس ما كان يحتاج إليه، والمال يجبى من أموال الجزية وما يؤخذ من الخراج، وكان النصارى واليهود أقرُّوا على ما في أيديهم من الأرض يعمرونها ويؤدون خراجها. ووضع في مصر عمر على كل حالم دينارين جزية إلا أن يكون فقيرًا، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل رزقًا للمسلمين تُجمع في دار الرزق وتقسَّم فيهم. وأحصى عمرو بن العاص المسلمين فألزم جميع أهل مصر لكل رجل منهم جبة صوف وبرنسًا أو عمامة وسراويل وخفين في كل عام أو بدل الجبة الصوف ثوبًا قبطيًّا. واستبطأ عمر في بعض السنين خراج مصر فكتب إلى عمرو: «أما بعد، فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيقة، وقد أعطى الله أهلها عددًا وجَلَدًا وقوة في بر وبحر، وأنها قد عالجها الفراعنة، وعملوا فيها عملًا محكمًا مع شدة عُتُوِّهِمْ وكفرهم، فعجبت من ذلك، وأعجب ممَّا عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب …» إلى آخر ما قال له، وهزَّ أعصابه بكلمات قاسية، فأجابه عمرو: «لقد عملت لرسول الله ولمن بعده فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا، نرى غير ذلك قبيحًا، والعمل به سيئًا …» وقال: «فامض في عملك فإن الله قد نزَّهني عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها.» فكتب إليه: «إني لم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قوم محصورون …» فأجابه عمرو: «إن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين فكان الرفق خيرًا من أن نَخْرَق٣٩ بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه.»
ومع هذه الهيمنة من عمر على عماله نراه يشهد لعمرو بن العاص بحسن السياسة دليلًا على تقديره عامله قدره، وكان من رأي عمرو بن العاص في سياسة مصر أن الذي يصلح هذه البلاد وينميها، ويقرُّ قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، ولا يُستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها. وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وتربتها، وكان عمر يقول إذا رأى رجلًا يتلجلج في كلامه: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد. وعمرو بن العاص المثَل السائر في حسن السياسة بين رجال العرب، دهش قبط مصر بجميل عمله، فدخلوا في الإسلام كثيرًا، وأدى به التسامح أن رفع رجل نصراني إليه أن غُرفة بن الحارث الكندي من أصحاب الرسول الذين سكنوا مصر ضربه فوق أنفه، فقال عمرو للصحابي: إنا قد أعطيناهم العهد. كأنه يريد أن يؤاخذ الصحابي بما فعل، فقال غرفة: معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يُظهروا شتم النبي، وإنما أعطيناهم العهد على أن نُخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدو بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم وإن عيبوا عنَّا لم نتعرض لهم. فقال عمرو: صدقت. خطب يومًا في الجابية من حوران فمما قاله: ألا وإني ما وجدت صلاح ما ولَّاني الله إلا بثلاث: أداء الأمانة، والأخذ بالقوة، والحكم بما أنزل الله، ألا وإني ما وجدت صلاح هذا المال إلا بثلاث: أن يؤخذ من حق، ويعطى في حق، ويمنع من باطل. كتب معاوية إلى عمر يصف له سوء حال الشام فكتب إليه في مَرَمَّة حصونها وترتيب المقاتِلة فيها، وإقامة الحرس على مناظيرها واتخاذ المواقيد٤٠ لها.
جاء عمر الشام مرات أربعًا يكشف حال عمالها، ويعنى بقسمة الأرزاق، ويسمي الشواتي والصوائف أي غزوات الشتاء والصيف، ويسد الفروج والمسالح٤١ في كل كورة، ويستعمل أناسًا على السواحل من كل كورة أو يقسم المواريث بعد طاعون عمواس، وكان هلك فيه من المسلمين خمسة وعشرون ألفًا. وقيل إن عماله استقبلوه مرة بأبهة فنزل وأخذ بالحجارة ورماهم بها، وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم إياي؛ تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم منذ سنتين! وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم. واعتذر له معاوية عامله في الشام عن الموكب الثقيل الذي كان له قائلًا: إنا في بلاد لا تمتنع فيها من جواسيس العدو فلا بد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان فإن أمرتني بذلك قمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. فلم يأمره به ولم ينهه عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر: لَحَسَنٌ ما صدر من هذا الفتى عمَّا أوردته فيه فقال: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه. وقيل: إنه قدم معاوية على عمر من الشام٤٢ وهو أبض٤٣ الناس، فضرب عمر بيده على عضده فأقلع عن مثل الشراب أو مثل الشراك فقال: هذا والله لتشاغلك بالحمامات، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسرات على بابك. وقال عمر: لئن عشت — إن شاء الله — لأسيرن في الرعية حولًا فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع عني، أما هم فلا يصلون إليَّ، وأما عيالهم فلا يرفعونها إليَّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين.

وخصلة أخرى أيضًا لعمر، تُعَدُّ من بدائع إدارته الحسنة، وهو أنه ما كانت تفوته مسألة فيها تقوية قلوب الأمة والاعتماد على نفسها خطب مرة فقال: «أعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضًا على أن تَحَاكَمُوا إليَّ؛ فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة، وأنا حبيب إليَّ صلاحكم، عزيز عليَّ عتبكم، وأنتم أناس عامتكم حضر في بلاد، وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلا ما جاء الله به إليه.» يريد أن يعلِّم الناس أن لا يكثروا من الرجوع إلى الحاكم للفصل بينهم في خصوماتهم؛ ليصرف وقته في التفكير في أمورهم الخطيرة، وأن يعتمدوا على أنفسهم لا على صاحب السلطان، وأن يعرِّفهم حالة الحاضر والبادي منهم، ويعلمهم أن يعملوا ولا يسرفوا لأنهم فقراء. ولطالما قال لقومه أصلحوا أموالكم التي رزقكم الله، ولَقليلٌ في رفق خير من كثير في عنف. يريد أن يسوق الناس إلى المدنية بتؤدة على صورة فيها تدريج. وكان يقول: من كان له مال فليصلحه، ومن كانت له أرض فليعمرها، وإنه يوشك أن يجيء من لا يعطي إلا من أحب. ونظر إلى رجل مُظهِر للنسك متماوت فخفقه بالدِّرة وقال له: لا تُمِتْ علينا ديننا أماتك الله. وكان يقول: ليس قوم أكيس من أولاد السراري؛ لأنهم يجمعون عِزَّ العرب ودهاء العجم.

وكان غرام عمر أبدًا أن يلقن قومه العمل ويبعد بهم عن حياة الكسل، ولطالما قال لكُتَّابه وعماله: إن القوة على العمل أن لا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إذا فعلتم ذلك تذاءبت٤٤ عليكم الأعمال فلا تدرون بأيها تبدءون ولا بأيها تأخذون. وما كان يرى إبعاد العامة عن المجالس العالية؛ لئلا تفوتهم الفوائد، وليتربوا على أيديهم بما يسمعون وينقلون عنهم، ويوزع الأعمال بين الكفاة وأرباب التخصص، ويقول: أيها الناس من أراد أن يسأل عن القرآن فليأتِ أبيَّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأتِ زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له خازنًا وقاسمًا.

وكتب عمر الناس على قبائلهم أي أحصاهم، ففرض الفروض وأعطى العطايا على السابقة، بدأ بالأقرب فالأقرب من الرسول، وفرض لأهل بدر ولمن بعدهم إلى الحديبية وبيعة رضوان، ثم لمن بعدهم، ولأهل القادسية واليرموك، وأعطى نساء النبي وغيرهم، ورزق الصبيان والأئمة والمؤذِّنين والمعلمين والقضاة والشعراء. وحلف على أيمانٍ ثلاثٍ فقال: والله ما أحد أحقُّ بهذا المال من أحدٍ وما أنا أحق به من أحد، والله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدًا مملوكًا، ولكنَّا على منازلنا من كتاب الله تعالى، وقسمنا من رسول الله، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيتُ لهم ليأتين الراعيَ بجبل صنعاء حظُّه من هذا المال وهو يرعى مكانه.

جمع عمر المسلمين لأول عهده، وقال: ما يحلُّ للوالي من هذا المال؟ فقالوا جميعًا: أمَّا لخاصته فقوته وقوت عياله، لا وَكْس ولا شطط، وكسوتهم وكسوته للشتاء والصيف، ودابتان إلى جهاده وحوائجه وصلاته وحجه وعمرته، والقسم بالسوية، وأن يُعطي أهل البلاء على قدر بلائهم، ويرم أمور الناس بعدُ، ويتعاهدهم عند الشدائد والنوازل حتى تنكشف، ويبدأ بأهل الفيء. وكان عمر إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه فربما عسُر فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فيلزمه فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه. وطلب من أحد أصحابه أن يقرضه مالًا، فقال له: ما يمنعك أن تقترض من بيت المال؟ فأجابه: إنه إذا مات وهو له مدين ربما غفلوا عن تقاضي ما اقترض، أما صاحبه فإنه لحرصه على ماله يطالب الورثة بماله فيستوفيه وتبرأُ ذمة عمر.

ومما تعلقت به همة عمر: إحداث أوضاع جديدة اقتضتها حالة التوسُّع في الفتوح؛ فهو أول من حمل الدِّرة٤٥ وهو أول من دوَّن الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم، دوَّنها له عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نبهاء قريش لهم علم بالأنساب وأيام الناس. والديوان الدفتر أو مجتمع الصحف والكتاب يُكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية. وعرَّفوا الديوان بأنه موضع لحفظ ما تعلَّق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال، وأطلق بعد حين على جميع سجلات الحكومة وعلى المكان الذي يجلس فيه القائمون على هذه السجلات والأضابير والطوامير. وثبت أنه كان له سجن٤٦ وأنه سجن الحُطَيْئَةَ على الهجو، وسجن ضَبيعًا على سؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات وشِبههن، وضربه مرة بعد مرة ونفاه إلى العراق، وكتب أن لا يجالسه أحد فلو كانوا مائة تفرقوا عنه حتى كتب إليه عامله أن حسُنت توبته، فأمره عمر فخلَّى بينه وبين الناس. وكانت أعمال عمر جدًّا كلها لا يجوز لأحد أن يجلس في المسجد في غير أوقات الصلاة، وبنى في المسجد رحبة تسمى البطيحا، قال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرًا أو يرفع صوته فليخرج إلى الرحبة. وما كان المسجد في أيامه لغير الصلاة والقضاء، وكان الخلفاء الراشدون يجلسون في المسجد لقضاء الخصومات. ولما كثرت الفتوحات وأسلمت الأعاجم وأهل البوادي وكثر الولدان أمر عمر ببناء بيوت المكاتب، ونصب الرجال لتعليم الصبيان وتأديبهم.٤٧
وضع عمر أول ديوان في الإسلام للخَراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل. وقيل: إن أول ديوان وُضِعَ في الإسلام هو ديوان الإنشاء٤٨ ودواوين الشام تكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية، ودواوين مصر بالقبطية، يتولاها النصارى والمجوس دون المسلمين. والسبب في تدوين الدواوين: أن عامل عمر على البحرين أتاه يومًا بخمسمائة ألف درهم فاستعظمها، وجعل عليها حُرَّاسًا في المسجد، فأشار عليه بعض من عرفوا فارس والشام أن يدون الدواوين يكتبون فيها: «الأسماء وما لكل واحد، وجعل الأرزاق مشاهرة» وجعل عمر تابوتًا أي صندوقًا لجمع صكوكه ومعاهداته. وجنَّد الأجناد أي ألَّف الفيالق، فصير فلسطين جندًا والجزيرة جندًا، والموصل جندًا وقِنِّسرين٤٩ جندًا، وأصبح كل جند في الشام والعراق يتألَّف من مقاتِلة المسلمين، يقبضون أعطياتهم من البلد الذي نزلوه، فأصبحت الجندية خاصة بفئة من المسلمين، ويسير الناس بقضهم وقضيضهم إلى الزَّحف عند الحاجة حتى النساء والأولاد. وما كان الجند يُجعلون كلهم في المسالح بل يترك بعضهم في البلاد يكونون على استعداد للوثبة عند أول إشارة، والغالب أنه كان يُترك فضل في بيوت الأموال خارج الحجاز يُستخدم في طارئ إذا طرأ، وما كانت الصوافي تحمل كلها إلى الحجاز، بل يدَّخر بعضها في بيوت الأموال في الشام والعراق ومصر، وجزءٌ عظيم من دخل الدولة يصرف في الوجوه التي أشرنا إليها.
وعمر هو أول من لُقِّبَ بأمير المؤمنين، وأول من استقضى القضاة، وأول من أحدث التاريخ الهجري فأرخ سنة ست عشرة بهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، فكان أول من أرَّخ الكتب وختم على الطين. قال اليعقوبي: وأمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكًا من قراطيسه ثم يختم أسافلها، فكان أول من صك وختم أسفل الصكاك،٥٠ وغيَّر أسماء المسلمين بأسماء الأنبياء،٥١ وكان أول من مصَّر الأمصار، مصَّر المِصرين البصرة والكوفة، وكان إذا جاءته الأقضية المعضلة٥٢ قال لعبد الله بن العباس: إنها قد طرت علينا أقضية وعضل فأنت لها ولأمثالها. ثم أخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحدًا سواه، وكان من المسائل العامة يسأل الناس في المسجد عن آرائهم، ثم يعرض رأيه ورأيهم على مجلس شوراه وهم من كبار الصحابة، فما استقر عليه رأيهم أمضاه، فكانت أعماله ثمرة ناضجة من الآراء الصائبة، ولذلك ندرت هفواته في الإدارة بالقياس إلى غيره؛ لأنه يتروى ويعمل بآراء أهل الرأي. ولما أرسل عبد الله بن مسعود إلى العراق وزيرًا ومعلمًا مع عمار بن ياسر الذي ولَّاه الإمارة كتب إلى أهل العراق: «وقد جعلت على بيت مالكم عبد الله بن مسعود، وآثرتكم به على نفسي.» وقد يبعث إلى بعض الأقطار عاملًا على الصلاة والحرب ويسميه أميرًا٥٣ وعاملًا على القضاء وبيت المال ويسميه معلمًا ووزيرًا كما فعل في العراق، أو يجمع للعامل بين الصلاة والخراج كعامل مصر. وتقسيم العمالات في الشام يختلف عن اليمن، وعامل البحرين لا يكون كعامل اليمامة، وقد يبعث أناسًا لمساحة الأرض، وأناسًا لتقدير الخراج، وآخرين لإحصاء الناس، وقال لعاملين له تَوَلَّيَا مساحة العراق ووضع الخراج على سوادها: أخاف أن تكونا حمَّلتما الأرض ما لا تطيقه، لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدًا. وقال: اللهم إني أُشهدك على أمراء الأمصار فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسُنَّة نبيهم، ويعدلوا عليهم، ويقسموا فيئهم بينهم، ويرفعوا إليَّ ما أشكل عليهم من أمورهم.
وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده، ولما استعمل زيد بن ثابت على القضاء فرض له رزقًا، وكان يرزق عامله على حمص عياض بن غنم كل يوم دينارًا وشاة ومُدًّا. وبعث إلى الكوفة عمار بن ياسر على الثغر، وعثمان بن حُنَيف على الخراج، وعبد الله بن مسعود على بيت المال، وأمر هذا أن يعلم الناس القرآن ويفقههم في الدين، وفرض لهم شاة كل يوم، وجعل شطرها وسواقطها لعمار بن ياسر، والشطر الآخر بين عبد الله بن مسعود وعثمان بن حُنَيْف. كان أبو بكر يساوي٥٤ الناس في العطاء ولا يفضل أهل السابقة، ويقول: إنما عملوا لله فأجورهم على الله، وإنما هذا المال عرَض حاضر يأكله البَر والفاجر وليس ثمنًا لأعمالهم. وكان عمر يقول: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه. ولم يقدر عمر الأرزاق إلا في ولاية عمار فأجرى عليه ستمائة درهم مع عطائه لولاته وكُتَّابه ومؤذنيه ومن كان يلي معه في كل شهر. وكان عطاء عثمان بن حنيف خمسة آلاف درهم، وأجرى على عبد الله بن مسعود مائة درهم في كل شهر وربع شاة في كل يوم، وأجرى على شريح القاضي مائة درهم في كل شهر وعشرة أجربة، وإنما فضَّل عمارًا لأنه كان على الصلاة. قال الحسن: وكان عطاء سلمان خمسة آلاف وكان على زهاء ثمانين ألفًا من الناس. وأتاه٥٥ عبد الله بن عمر السعدي فقال له عمر: ألم أحدث أنك تلي من أعمال المسلمين أعمالًا فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: بلى. فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قال: إن لي أفراسًا وأعبدًا، وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين. فقال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت، وكان رسول الله يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني. فقال النبي: خذه فتموَّلْه وتصدقْ به، فما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه، وما لا فلا تُتبعه نفسك.
كان عمر يأمر الناس بالتفقُّه في الدين، ويجد في إرسال الفقهاء إلى الأمصار يفقهون المؤمنين ويعلمونهم دينهم، وقد لا يرسلهم إلا بعد أخذ رأيهم، ولما أراد أن يرسل سعد بن عبيد، وكان لا يُسمَّى القارئ من الصحابة غيره قال له: هل لك في الشام فإن المسلمين نُزفوا وإن العدو قد ذأروا٥٦ عليهم، وذلك بعد طاعون عمواس. وكان يقول حين خرج معاذ٥٧ بن جبل إلى الشام: لقد أَخَلَّ خروجه بالمدينة وأهلها بالفقه، ولقد كنت كلَّمت أبا بكر — رحمه الله — أن يُجلسه لحاجة الناس إليه فأبى عليَّ، وقال: رجل أراد جهادًا يريد الشهادة فلا أُجلسه.
وفي كتب عمر إلى قضاته وعماله كأبي موسى الأشعري والقاضي شريح وأبي عبيدة ومعاوية وغيرهم قوانين في التشريع والإدارة سنَّها للمسلمين لا تزال إلى يوم الناس هذا هي المعوَّل عليها، ورسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري جمع فيها «جمل٥٨ الأحكام، واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس بعده يتخذونها إمامًا، ولا يجد مُحِقٌّ عنها معدلًا، ولا ظالم عن حدودها محيصًا.» ولقد قالوا: «إذا٥٩ اختلف الناس في أمر فانظر كيف قضى عمر؛ فإنه لم يكن يقضي في أمر لم يقضِ فيه قبله حتى يشاور.» وكان أبدًا يأخذ آراء أصحابه لا يقطع أمرًا عظيمًا من دون استشارتهم ويقول: الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض. هذا ولو وُضِعَ علم عمر في كفة — كما قال ابن مسعود — ووضع علم أحياء العرب في كفة لرجح بهم علم عمر. وأنشد عمر ذات يوم شعر زهير بن أبي سلمى فلما بلغ قوله:
فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو٦٠ نفار أو جلاء

جعل يتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها ويقول: لا يخرج الحق من إحدى ثلاث، إما يمين أو محاكمة أو حجة.

وكانت المدينة في أيامه أشبه بمدرسة يتخرج به فيها القضاة والعمال والقُواد والأمراء، فلا يبعث إلى الأمصار إلا من اختبره في الجملة، وقَلَّمَا أخطأت فراسته في الناس، وهو المثل الأمثل في جده. كان كعب بن سور جالسًا عند عمر فجاءته امرأة تشتكي زوجها فقال لكعب: اقضِ بينهما، فلما قضى بما أعجبه وما لم يخطر له ببال قال لكعب: اذهب قاضيًا على البصرة. ساوم عمر بفرس فركبه ليشوره٦١ فعطب فقال للرجل: خذ فرسك. فقال الرجل: لا. قال: اجعل بيني وبينك حَكَمًا. قال الرجل: شريح. فتحاكما إليه فقال شريح: يا أمير المؤمنين خُذْ ما ابتعت، أو ردَّ كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا، سِرْ إلى الكوفة. فبعثه قاضيًا عليها. قالوا: وإنه لأول يوم عرفه فيه، وبقي شريح قاضيًا هناك ستين سنة.
ومن الفقهاء في أيامه: أبو موسى الأشعري، وسلمان بن ربيعة الباهلي، وأبو قُرة الكندي، وأبو الدرداء، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس. ومن عماله: نافع بن عبد الحارث الخزاعي، وسفيان بن عبد الله الثقفي، وعبد الله بن أبي ربيعة، وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وقَتادة بن النعمان، وعمير بن عوف، وعمير بن وهب بن خلف الجُمحي، وعتبة بن مسعود، وعدي بن أبي الزغباء الجُهني، وعويم بن ساعدة، وسهيل بن رافع، ومسعود بن أوس بن زيد الأنصاري، وواقد بن عبد الله التميمي، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم. من كل من هو فرد في علمه، متميز بحسن سياسته وإدارته. كتب إلى أبي٦٢ موسى الأشعري: إنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس فأكرم وجوه الناس، فبحَسْبِ المسلم الضعيف من العدل أن ينصف في الحكم والقِسمة. يعني أن عمر أوصى بالأعيان، وإن كان يكره الشفاعة والوساطة. فقد توسط مولى عمر بأن يكتب كتابًا إلى عامله في العراق ليكرم أحد من قصدوا إليها، فانتهره عمر وسبه، وقال: أتريد أن يظلم الناس؟ وهل هو إلا رجل من المسلمين يسعه ما يسعهم؟
كان ابن الخطاب يفحص أمورًا لا تخطر ببال أحد. كتب إلى أبي موسى الأشعري: «إني قد بعثت إليك مع غاضرة بن سَمُرة العنبري بصحف فإذا أتاك لكذا وكذا فأعطه مائتي درهم، وإن جاءك بعد ذلك فلا تُعطِهِ شيئًا، واكتب إليَّ في أي يوم قدم عليك.» يريد بذلك أن يعلم من يستعملهم الجِدَّ والاهتمام والحرص على الأوقات وضبط المواعيد، هو يعطي من أرسله بالصحف مائتي درهم إذا جَدَّ فوصل البلد الذي عين له في الأجل المضروب وإلا فيحرم أجرته، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أيضًا٦٣ إذا أتاك كتابي هذا فاضرب كاتبك سوطًا واعزله عن عمله. وذلك أن كاتب أبي موسى كتب إلى عمر: «من أبو موسى.» وكان عليه أن يقول: «من أبي موسى.» ودبَّر عام الرمادة (١٧-١٨) تدبيرًا إداريًّا ناجعًا عندما رأى الناس يهلكون من المجاعة، فكتب إلى أمراء مصر والشام والعراق أن يوافوه بالميرة؛ فأتته القوافل تحمل طعامًا كثيرًا وغيره، فوسَّع على الناس، وكان قَطَعَ الطعام عن نفسه وأطعم الجياع، ولولا تدابيره هذه لهلك أهل الحجاز جميعهم.
ومن جملة تدابيره الإدارية أنه٦٤ «حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج من البلدان إلا بإذن وأجَل فشكوه فبلغه فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير، يبدأ فيكون جَذَعًا ثم ثنيًّا ثم رَباعيًّا ثم سَديسًا ثم بازلًا، ألا فهل يُنتظر بالبازل إلا النقصان، ألا فإن الإسلام قد بَزَل٦٥ ألا وإن قريشًا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حيٌّ فلا. إني قائم دون شِعب الحَرَّة آخذٌ بحلاقيم قريش وحُجَزها أن يتهافتوا في النار.»
هذا مجمل من إدارة عمر، وقد كان شديدًا في إقامة الحدود يقيمها على أقرب الناس إليه: حدَّ في الخمر ابنه، وعاقب ابن عمرو بن العاص عامل مصر؛ لأن أحد قبطها استعداه عليه. قال السائب بن يزيد كُنَّا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله وإمارة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرجلنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عَتَوْا وفَسَقُوا جُلِدُوا ثمانين، ولما ضعف نصاب الشهادة على المغيرة بالزنا سُرِّيَ عنه؛ لأنه ما أراد أن يُرجم أحدٌ الصحابة٦٦ وأراد أن يحد جبلة بن الأيهم من ملوك غسان؛ لأن رجلًا فزاريًّا٦٧ في الحج وطئ على إزاره فلطمه جَبَلة فهشم أنفه، وشكاه الفزاري فأراد عمر جَبَلة على أن يفتدي نفسه أو يأمر الرجل بلطمه، فقال جبلة: كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال: إن الإسلام جمعكما، وسوَّى بين الملك والسوقة في الحد. ففرَّ جبلة والتحق بالروم. وكان يساوي بين الناس في القضاء مهما علت منزلتهم، وبلغه عن بعض عماله وهو في دار الحرب أنه تعدى حدًّا من حدود الله فأغضى عنه لئلا يعتصم ببلاد الروم.
وكان يعرف أن الرسول قال: لأُخرِجَنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا، فسكت عمر عنهم، وراعى العهود التي أعطاها الرسول لهم، ولما كان من جملة شروط نصارى نجران أن لا يأكلوا الربا أمر بإجلائهم، واشترى منهم أرضهم وأوصى بهم أهل الشام والعراق، ولما انطلق نصارى بني تغلب هاربين من الجزية أضعفها عليهم٦٨ وشرط عليهم أن لا ينصِّروا أولادهم، ولم يسمَع لقول أحد بني تغلب أنهم قوم عرب يأنفون من الجزية وهم قوم لهم نكاية، وقوله له مهددًا: لا تُعِنْ عدوك عليك. وكان يتحامى استعمال النصارى، وعرضوا عليه كُتَّابًا منهم فأبى أن يستعملهم، وكان إذا أراد٦٩ أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم بدأ بأهله وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خِلافهم أمره، وما كان يميز أحدًا من آل بيته في شيء، وربما هضم بعض حقهم وأعطاه من هو أجد منهم. قسم٧٠ عمر مُروطًا٧١ بين نساء المدينة فبقي فيها مرط جيد فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعطِ هذا ابنة رسول الله التي عندك٧٢ فقال: أُم سليط أحق به فإنها ممن بايع رسول الله، وكانت تزفر٧٣ لنا القرب يوم أُحُد. وقال أحدهم لعمر: اتَّقِ الله يا أمير المؤمنين، فقال: لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم. وردَّت عليه امرأة فرجع إليها وقال: رجل أخطأ وامرأة أصابت.
وكان لا يقرب الشعراء، ولكنه يجرى عليهم رزقًا يكفيهم. كتب مرة إلى المغيرة بن شعبة أن استنشد مَن قِبَلك من الشعراء ما قالوا في الجاهلية والإسلام٧٤ فأرسل إلى الأغلب العِجلي فقال: إنه على استعداد لأن يُنشده، ثم أرسل إلى لبيد بن ربيعة فقال: أنشدني. فقال: إن شئت أنشدتك مما عُفِيَ عنه من شعر الجاهلية، قال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق إلى أديم فكتب فيه سورة البقرة فقال: أبدلني الله مكان الشعر هذا. قال فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إنه لم يعرف أحد من الشعراء حق الإسلام إلا لبيد بن ربيعة، فأنقص من عطاء الأغلب خمسمائة واجعلها في عطاء لبيد.

•••

نهج عمر بن الخطاب لمن يخلفه النهج الذي يجب السير عليه في تدبير الملك، وأوصى الخليفة بعده أن يقر عماله سنة فيما قيل، وأوصاه٧٥ بتقوى الله لا شريك له، وبالمهاجرين الأولين خيرًا، وأن يعرف لهم سابقتهم، وأوصاه بالأنصار خيرًا يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصاه بأهل الأمصار خيرًا فإنهم ردء العدو وحياة الفيء، وأن لا يحمل فيئهم إلا عن فضل منهم، وأوصاه بأهل البادية خيرًا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، وأن يأخذ من حواشي أموال أغنيائهم فيرده على فقرائهم، وأوصاه بأهل الذمة خيرًا، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفهم فوق طاقتهم إذا أدَّوْا ما عليهم للمؤمنين طوعًا أو عن يدٍ وهم صاغرون، وأوصاه بالعدل في الرعية والتفرُّغ لحوائجهم وثغورهم، وأن لا يؤثِر غنيهم على فقيرهم، وأن يشتد في أمر الله وحدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذه في أحد رأفة حتى ينتهك منه مثل ما انتهك من حرم الله، ويجعل الناس عنده سواء لا يبالي على من وجب الحق، ثم لا تأخذه في الله لومة لائم، وأوصاه أن لا يُرخِّص لنفسه ولا لغيره في ظلم أهل الذمة، وأنشده الله أن يرحم جماعة المسلمين، ويجلَّ كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر عالمهم، وأن لا يضربهم فيذلوا، ولا يستأثر عليهم بالفيء فيغضبهم، ولا يحرمهم عطاياهم عند محلها فيُفقرهم، ولا يجمِّرهم في البعوث فيقطع نسلهم، ولا يجعل المال دُولة بين الأغنياء منهم، ولا يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم.

ولما أفضى الأمر إلى عثمان بن عفان حافظ على الأوضاع التي وضعها عمر، وكان أول كتبه إلى أمراء الأجناد: «قد وضع لكم عمر ما لم يغِب عنَّا بل كان على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله ما بكم، ويستبدل بكم غيركم.» وكان أول كتبه إلى عماله: «فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة قد خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياءُ والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم، فتعطوهم ما لهم وتأخذون بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم.» وكتب إلى عمال الخراج: «أما بعد فإن الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق، والأمانةَ الأمانةَ قوموا عليها ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاءَ مَن بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاءَ الوفاءَ لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد فإن الله خصم لمن ظلمهم.» وكتب في الأمصار أن يوافيه العمال في كل موسم ومن يشكوهم، وكتب إلى الناس في الأمصار أن «ائتمروا بالمعروف وتناهَوْا عن المنكر، ولا يذل المؤمن نفسه فإني مع الضعيف على القوي ما دام مظلومًا إن شاء الله.»

واعتمد عثمان لأول ولايته في مشورته على من اعتمد عليهم الشيخان من قبلُ، وفي الولايات على بعض من كانوا عمالًا لعمر، ثم على أناس من أهله وعشيرته، وممن اعتمد عليهم مروان بن الحكم. وكان مروان في ولايته على المدينة يجمع أصحاب الرسول يستشيرهم، ويعمل بما يُجمعون له عليه. ولم يكن عثمان مبتدعًا بل كان متبعًا؛ اتبع سيرة العمرين٧٦ في الحكومة، وما عزل أحدًا إلا من شكاة أو استعفاء من غير شكاة. وكثر المال في أيامه فكان لا يتوقف في إنفاقه. قيل: إنه باع غنائم إفريقية بخمسمائة ألف دينار وأعطاها مروانَ ولم يطالبه بها، ولم يزل المال متوفرًا حتى لقد بيعت الجارية بوزنها وَرِقًا، وبيع الفرس بعشرة آلاف دينار، وبيع البعير بألف، والنخلة الواحدة بألف، وأعطى عبد الله بن الأرقم — وكان عمر استعمله على بيت المال — ثلاثمائة ألف درهم فأبى أن يقبلها وقال: عملت لله وإنما أجري على الله.
وكان عثمان جوَادًا ويحث عماله على الجود. قدم المدينة ابن خاله عبد الله بن عامر فاتح خراسان وأطراف فارس وسجستان وكرمان وزابلستان وهي أعمال غزنة، فقال له عثمان: صِلْ قرابتك وقومك. ففرق في قريش والأنصار شيئًا عظيمًا من الأموال والكسوات،٧٧ وأرسل إلى علي بن أبي طالب٧٨ بثلاثة آلاف درهم وكسوة، فلما جاءته قال: الحمد لله أنا نرى تراث محمد يأكله غيرنا. فبلغ ذلك عثمان فقال لابن عامر: قبح الله رأيك أترسل إلى عليٍّ بثلاثة آلاف درهم؟ قال: كرهت أن أُغرِق ولم أدر ما رأيك. قال: فأَغرِقْ. قال: فبعث إليه بعشرين ألف درهم وما يتبعها. قال: فراح علي إلى المسجد فانتهى إلى حلقة وهم يتذاكرون صلات ابن عامر، هذا الحيَّ من قريش. فقال عليٌّ: هو سيد فتيان قريش غير مدافَع. وكان ذلك من سياسة عثمان وحسن إدارته.

ومن ذلك أن عامله على الكوفة كتب إليه أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغُلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة والقُدْمة، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت وأعراب لحقت حتى ما ينفر إلى ذي شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها. فكتب إليه عثمان: «أما بعد؛ ففضِّل أهل السابقة والقُدْمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعًا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعًا بقسطهم من الحق فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل.» ا.ﻫ.

وكانت٧٩ مغازي أهل الكوفة في زمنه الريَّ وآذربيجان، وكان بالثغرين عشرة آلاف مقاتل من أهل الكوفة ستة آلاف بآذربيجان وأربعة بالري، وكان بالكوفة إذ ذاك أربعون ألف مقاتل، وكان يغزو هذين الثغرين منهم عشرة آلاف في كل سنة، فكان الرجل يصيبه في كل أربع سنين غزوة.

وضعفت الإدارة في النصف الأخير من عهد عثمان لشيخوخته، ولأنه لا يستطيع مَن كان في سِنِّه أن ينظر في جميع المسائل. واشتغل بعض كبار العمال بأطماعهم في الولايات، وشاغب المحرومون على المنصوبين، وكثيرًا ما كان يصرُّ على تنفيذ أوامره لا يبالي كثيرًا بالشكاوى؛ لعلمه بأنها صادرة على الأكثر عن أغراض شخصية، وما نفع اللين ولا الشدة يوم حُمَّ القضاء فكان مِن قتله ما كان.

ومن أهم الأسباب في مقتله غلطة إدارية بدرت منه ساق إليها الغضب والعجلة. قالوا: إنه اجتمع٨٠ أناس من أصحاب النبي كتبوا كتابًا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سُنَّة رسول الله، وما كان من تطاوُله في البنيان، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغِلمة، لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور، وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة؛ إذ صلى بهم الصبح وهو أمير عليها سكران أربع ركعات، ثم قال لهم: إن شئتم أن أزيدكم ركعة زدتكم، وتعطيله الحد عليه وتأخيره ذلك عنه «جلده حين شهد عليه بشرب الخمر، وأنه تعاطاها» وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء، ولا يستشيرهم واستغنى برأيه عن رأيهم، وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة، وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي ثم لا يغزون ولا يَذُبُّون، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس، وإنما كان ضَرْبُ الخليفتين قبله بالدِّرة والخيزران.

ثم تعاهد القوم لَيَدْفَعُنَّ الكتاب في يد عثمان، وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة، فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب في يد عمار، جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده، فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له في يوم شاتٍ، فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال له: أنت كتبت هذا؟ قال: نعم. قال: ومن كان معك؟ قال: كان معي نفر تفرقوا فَرَقًا منك. قال: ومن هم؟ قال: لا أخبرك بهم. قال: فلم اجترأت عليَّ من بينهم؟ فقال مروان: يا أمير المؤمنين، إن هذا العبد الأسود — يعني عمارًا — قد جرَّأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه. قال عثمان: اضربوه. فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه، فغشي عليه فجروه حتى طرحوه على باب الدار، وغضب فيه بنو المغيرة وكان حليفهم؛ ذلك لأن عمارًا كان من أعظم الصحابة، ومن النقباء في مجلس شورى الرسول، ومناقبه كثيرة في الإسلام، فمثل هذا لا يُضرب على هذه الصورة البشعة، ومكانته مكانته بين المسلمين. والمثل العربي يقول: العبد يُقرع بالعصا والحر تكفيه الملامة أو الإشارة، ومعاملة عمار بهذه القسوة ساقته إلى أن كان من أعظم من ألَّب الناس على عثمان، وخدم عليًّا ضروب الخدم حتى قُتِلَ في صفين.

ومن عمال عثمان: عبد الله بن الحضرمي، والقاسم بن ربيعة، وعبد الله بن عامر، وحبيب بن مسلمة الفهري، وأبو الأعور الأسلمي، وعلقمة بن حكيم، وجابر بن فلان المزني، وسماك الأنصاري، والقعقاع بن عمر، وجرير بن عيلان، والأشعث بن قيس، وعتيبة بن النهاس، ومالك بن حبيب، وسعيد بن قيس، والسائب بن الأقرع، وعقبة بن عامر، ومعاوية بن أبي سفيان، والغالب عليه مروان بن الحكم، وكان عثمان ست سنين في ولايته وهو أحب إلى الناس من عمر بن الخطاب، وكان عمر رجلًا شديدًا٨١ قد ضيق على قريش أنفاسها لم يَنَلْ أحد معه من الدنيا شيئًا إعظامًا له وإجلالًا وتأسيًا به واقتداءً، فلما وَلِيَهُم عثمان وَلِيَهُم رجل لين، ثم أنكر الناس عليه أشياء أشرًا وبطرًا. قال ابن عمر: لقد عِيبَت عليه أشياء لو فعلها عمر ما عيبت عليه.

أما طريقة عليِّ بن أبي طالب فكانت أيضًا في الإدارة طريقة من سبقوه إلى الإمامة: يولي العامل، ويطلق يده على الجملة، ويكشف حاله، ويدعو عماله إلى التبلُّغ بميسور العيش والرفق بالرعية، ويضع لهم المنهاج الذي يسيرون عليه. أوصى أحد عماله بأهل عمله فقال: إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوةً شتاءً ولا صيفًا، ولا رزقًا يأكلونه ولا دابة يعملون عليها، ولا تضرب أحدًا منهم سوطًا واحدًا في درهم، ولا تُقِمْه على رجله في طلب درهم، ولا تَبِعْ لأحد منهم عرَضًا في شيء من الخراج، فإنما أمرنا أن نأخذ العفو منهم. ومما كتبه إلى الأشتر النخعي وهو مما لم ينفذ وبقي في حيز الأقوال؛ لمقتل الأشتر قبل أن يبلغ مصر قوله: «وتفقَّدْ أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في إصلاحه وصلاحهم صلاحًا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يُدرَك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلًا … وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يُعوِز أهلها لإشراف الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر.»

ومما جاء في هذا الكتاب: «ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارًا، ولا تُوَلِّهِم محاباة وأثرة؛ فإنهم جماع من شُعَب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقِدَم في الإسلام المتقدمة؛ فإنهم أكثر أخلاقًا، وأصحُّ أعراضًا، وأقل في المطامع إشرافًا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرًا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغِنًى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك. ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية، وتحفَّظْ من الأعوان فإنْ أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفت بذلك شاهدًا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه …» وجاء في هذا الكتاب أيضًا: «ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامَّتك٨٢ قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم.»
ومن وصية لعلي بن أبي طالب كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وهي أشبه بالأوامر العامة: «انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروِّعنَّ مسلمًا، ولا تجتازنَّ عليه كارهًا، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله. فإذا قدِمْتَ على الحي فانزل بمائهم، من غير أن تخالط أبياتهم. ثم امض إليهم بالسكينة والوقار. حتى تقوم بينهم فتسلِّم عليهم، ولا تُخْدج٨٣ بالتحية لهم، ثم تقول: عبادَ الله أرسلني إليكم وليُّ الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليِّه. فإن قال قائل: لا. فلا تراجِعْه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تُخيفَه، أو توعِده، أو تَعْسِفه أو تَرْهَقَه. فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإنَّ أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلِّط عليه، ولا عنيف به، ولا تُنَفِّرَنَّ بهيمة ولا تُفَزِّعَنَّهَا، ولا تسوءنَّ صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خَيِّرْهُ، فإذا اختار فلا تَعَرَّضَنَّ لما اختاره. ثم اصدع الباقي صدعين ثم خَيِّرْهُ. فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاءٌ لحق الله في ماله، فاقبض حَقَّ الله منه، فإن استقالك فأقِله، ثم اخلطهما ثم اصنع مثل الذي صنعت أولًا حتى تأخذ حق الله في ماله. ولا تأخذن عَوْدًا٨٤ ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة٨٥ ولا ذات عَوَار. ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه، رافقًا بمال المسلمين حتى يوصِّله إلى وليهم فيقسمه بينهم، ولا توكِّل بها إلا ناصحًا شفيقًا وأمينًا حفيظًا. غير معنِّف ولا مجحف ولا مُلْغب ولا متعب.٨٦ ثم أحدر إلينا ما اجتمع عندك نصيِّرْه حيث أمر الله، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يُمصِّر٨٧ لبنها فيضرَّ ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوبًا، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفه على اللَّاغب، وليستأنِ بالنِّقِب والظالع،٨٨ وليوردها ما تمرُّ به من الغُدْر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادِّ الطرق، وليروِّحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف٨٩ والأعشاب، حتى تأتينا بإذن الله بُدَّنًا منقيات٩٠ غير متعَبات ولا مجهودات، لنقسِمها على كتاب الله وسنة نبيه — صلى الله عليه وآله — فإن ذلك أعظم لأجركَ وأقرب لرشدك إن شاء الله.»
ومن كتاب له إلى بعض عماله، وفيه جِماع سياسة المخالفين والموافقين إذا جعله كل عامل دستوره في عمله قال: «أما بعد، فإن دهاقين٩١ أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقارًا وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلًا لأن يُدنَوْا لشركهم، ولاأن يُقْصَوْا ويُجْفَوْا لعهدهم، فالبس لهم جلبابًا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله.» وكتب إلى زياد وكان عامله على فارس: «أما بعد، فإن رسولي أخبرني بعجب؛ زعم أنك قلت له فيما بينك وبينه أن الأكراد هاجت بك فكسرت عليك كثيرًا من الخراج، وقلت له: لا تُعلِمْ بذلك أمير المؤمنين. يا زياد، وأقسم بالله إنك لكاذب، ولئن لم تبعث بخراجك لأشدَّنَّ عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر، إلا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملًا.» وكتب إلى كعب بن مالك: «أما بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض كورة السواد فتسأل عن عمالي، وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب.»
قال اليعقوبي:٩٢ إن عليًّا حكم بأحكام عجيبة حتى إنه حرَّق قومًا ودخَّن على آخرين، وقطع بعض أصابع اليد في السرقة، وهدم حائطًا على اثنين وجدهما على فسق، وكان يقول: استتروا ببيوتكم والتوبة وراءكم، من أبدى صفحته للحق هلك، إن الله أدب هذه الأمة بالسوط والسيف، وليس لأحد عند الإمامة هوادة. قالوا في القرآن أربعة سيوف: سيف على المشركين حتى يُسلِموا أو يُؤسَروا فإما مَنًّا بعدُ وإما فداء، وسيف على المنافقين وهو سيف الزنادقة، وقد أمر الله بجهادهم والإغلاظ عليهم في سورة براءة وسورة التحريم وآخر سورة الأحزاب، وسيف على أهل الكتاب حتى يُعطُوا الجزية، وسيف على أهل البغي وهو المذكور في سورة الحجرات، ولم يسلَّ الرسول هذا السيف في حياته وإنما سلَّه عليٌّ في خلافته. وكان يقول: أنا الذي علمت الناس قتال أهل القبلة، وله سيوف أخرى منها سيفه على أهل الردة وهو الذي قال فيه: «من بدل دينه فاقتلوه.» وقد سله أبو بكر من بعده في خلافته على من ارتد من قبائل العرب، ومنها: سيفه على المارقين وهم أهل البدع كالخوارج، وروي عن علي أن النبي أمر بقتال المارقين والناكثين والقاسطين، وقد حرق عليٌّ طائفة من الزنادقة فصوب ابن عباس قتلهم، وأنكر عليه تحريقهم بالنار فقال علي: ويح ابن عباس لَبَحَّاث عن الهنات.
وقالوا: إن٩٣ عليًّا كان يقسم ما في بيت المال كل جمعة حتى لا يترك فيه شيئًا، ودخل مرة إلى بيت المال فوجد الذهب والفضة فقال: يا صفراء اصفرَّي، ويا بيضاء ابيضِّي وغري غيري، لا حاجة لي فيك. وانتهى إليه أن أحد عماله يفرق ويهب الأموال وكان عليها، ولامه أن قسم فيءَ المسلمين في قومه ومن اعتراه من السأَلة والأحزاب وأهل الكذب من الشعراء كما يقسم الجوز. فأجابه عامله أنه منذ ولي العمل لم يرزأ من عمله دينارًا ولا درهمًا ولا غيرها، وأن العزل أهون عليه من هذه التهمة. وقال علي: لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلنَّ المقاتِلة ولأسبين الذرية، فإني كتبت الكتاب بينهم وبين رسول الله على أن لا ينصِّروا أولادهم. ورأى علي دارًا للقاضي شريح عمرها فقوِّمت عليه بثمانين دينارًا فوعظه وبكَّته ضمنًا مع أنه كان يُرزق خمسمائة درهم، وكان يقبل الهدية ويكافئ بمثلها، وهو من أكبر قضاة الصَّدر الأول.

ومن مجموع هذه الفقرات من كتب علي بن أبي طالب عرفنا مَنزعه في تدبير الملك، وشدته على من يطيل يده بالأذى إلى الرعية وإلى أموال الدولة، وكان هَدْيُهُ هدي أصحابه الثلاثة من قبلُ، ولكن التوفيق أخطأه، استغرقت الفتن أيامه، أكثر من التنظيم والإدارة، وفقد الاستقرار في البلاد للنزاع الذي قام بينه وبين خصومه. قال الجاحظ: لا يعلم رجل في الأرض متى ذُكِرَ السبق في الإسلام والتقدُّم فيه، ومتى ذُكِرَت النخوة والذب عن الإسلام، ومتى ذُكِرَ الفقه في الدين، ومتى ذُكِرَ الزهد في الأمور التي يتناصر الناس عليها، كان مذكورًا في هذه الخلال كلها إلا علي.

ومما يعد من خطيئاته الإدارية: مبادرته إلى عزل جميع عمال عثمان، ولم يتربص بالأمر وصول البيعة إليه من أهل الأمصار،٩٤ ولم يصخ إلى تحذير المحذِّرين، ولا نصح الناصحين، بل أبى من الإبقاء عليهم أو أحدًا منهم إباء تامًّا كأنه قد وقر في نفسه أن هؤلاء العمال لا يصلحون لأن يَلُوا شيئًا من أمر المسلمين، وأن الإبقاء على واحد منهم يومًا كاملًا نقص في دينه، ولو أنه اتَّأد في الأمر، وعالجه برفق وأناة، واصطبر حتى استتب له الأمر وبايعه أهل الأمصار لما كان في عزل الولاة شيء؛ لأن الخليفة هو الذي يعطي الولاة سلطانهم، فهو حر في اختيار عماله. ولما طالبه أصحاب الرسول بإقامة الحد على من شرك في دم عثمان بيَّن لهم أن القوم الذين في أيديهم دم عثمان يملكون أهل المدينة وأهل المدينة لا يملكونهم، وقد ثارت إليهم العبدان وفاءت إليهم الأعراب، وبأيديهم الحول والطول بالمدينة، وأهلها لا يقدرون منهم على شيء، وطلب إليهم إنظاره حتى تهدأ الحال، ويتمكن من أخذ المجرمين بذنوبهم.

ومن عماله: عبد الله بن عباس، وكان واليه على البصرة، وإليه الصدقات والجند والمعاون، وقُثَم بن العباس، وعُبَيد الله بن عباس، وأبو الأسود الدؤلي، وسهل بن حنيف وغيرهم.

هوامش

(١) طبقات ابن سعد.
(٢) تاريخ الطبري.
(٣) الكامل لابن الأثير.
(٤) تاريخ اليعقوبي.
(٥) طبقات ابن سعد.
(٦) الفخري لابن الطقطقي.
(٧) الكامل لابن الأثير.
(٨) الكامل للمبرد.
(٩) بيَّت العدو: أوقع بهم ليلًا من دون أن يعلموا، والغِرة: الغفلة.
(١٠) التاج المنسوب للجاحظ.
(١١) تاريخ الطبري.
(١٢) لا تؤخروها في دار الحرب.
(١٣) أُسْد الغابة لابن الأثير.
(١٤) أقاد القاتل بالقتيل: قتله به.
(١٥) مروج الذهب للمسعودي.
(١٦) الكامل للمبرد.
(١٧) العلج: الرجل من كفار العجم والقوي الضخم منهم، ج علوج وأعلاج.
(١٨) سراج الملوك: للطرطوشي.
(١٩) الأشراف لابن أبي الدنيا.
(٢٠) تبنكوا: تمكنوا.
(٢١) نعل مطرقة ومطارقة مخصوفة، وخصف النعل أطبق عليها مثلها وخرزها بالمخصف.
(٢٢) لاث عمامته على رأسه: عصبها ولفها.
(٢٣) جمع كسر: وهو العضل عليه قليل لحم.
(٢٤) الكامل للمبرد.
(٢٥) الطِّلس بكسر الطاء: الوسخ من الثياب، والأطلس الثوب الخلق.
(٢٦) تاريخ الطبري.
(٢٧) الجونة: سلة صغيرة مغشاة بالأدم.
(٢٨) طبقات ابن سعد.
(٢٩) أسد الغابة لابن الأثير.
(٣٠) سراج الملوك للطرطوشي.
(٣١) مروج الذهب للمسعودي.
(٣٢) التأمور: عرين الأسد، والنمرة: الحبرة، والحباء: جلسة خاصة بالعرب.
(٣٣) حصبه: رجمه بالحصباء، ويستعمل في كل رمي مطلقًا.
(٣٤) طبقات ابن سعد.
(٣٥) تاريخ الأمم الإسلامية لمحمد الخضري.
(٣٦) عيون الأخبار لابن قتيبة.
(٣٧) طبقات ابن سعد.
(٣٨) خطط المقريزي.
(٣٩) خرق بالشيء ككرم: إذا جهله ولم يحسن عمله.
(٤٠) المناظير: قباب مبنية على رءوس الجبال العالية بين كل بلد وآخر بحيث يتقارب بعضها، ويشرف بعضها على بعض، ويقام فيها حراس يوقدون النيران عندما يرون إقبال العدو من جهتهم فيوقد حراس المناظير الذين يلونهم كذلك، وهكذا حتى يصل الخبر إلى المدينة أو الثغر أو المسلحة في زمن قليل. ويقال لهذه المواقيد المناور أيضًا (التعريف بالمصطلح الشريف).
(٤١) المسلحة: الثغر والمراقب، وجمعه مسالح، وهي مواضع المخافة، وسموا مسلحة لأنهم يكونون ذوي سلاح، أو لأنهم يسكنون المسلحة وهي كالثغر، والمرقب يكون فيه أقوام يرقبون العدو لئلا يطرقهم على غِرَّة فإذا رأوهم أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له، والفروج: الثغور أي موضع المخافة.
(٤٢) الكامل للمبرد.
(٤٣) يقال أبيض بض شديد البياض، أو رقيق البشرة الذي يؤثر فيه كل شيء.
(٤٤) تداولت.
(٤٥) الدرة كالمخصرة أو خيزرانة صغيرة يضرب بها.
(٤٦) تاريخ اليعقوبي.
(٤٧) التراتيب الإدارية لعبد الحي الكتاني.
(٤٨) نهاية الأرب للنويري وصبح الأعشى للقلقشندي.
(٤٩) أقضية رسول الله للقرطبي.
(٥٠) المعارف لابن قتيبة.
(٥١) كانت العرب تنسب إلى قبائلها فلما جاء الإسلام، وغلب عليهم سكنى القرى والمدن حدث فيما بينهم الانتساب إلى الأوطان كما كانت العجم. وأضاع كثير منهم أنسابهم فلم يبقَ لهم غير الانتساب إلى أوطانهم (ابن الصلاح).
(٥٢) أسد الغابة لابن الأثير.
(٥٣) كان المغيرة بن شعبة أول من سلم عليه بالإمرة، وكانوا يكنون أمراءهم، فقال: ينبغي أن يكون بين الأمير والرعية فرق. وألزم أهل عمله أن يؤمروه ففعلوا، واقتدى به سائر المسلمين في أمرائهم (لطائف المعارف للثعالبي).
(٥٤) سراج الملوك للطرطوشي.
(٥٥) تيسير الوصول لابن الديبع.
(٥٦) نزفوا: فنوا، وذأر عليه: اجترأ.
(٥٧) طبقات ابن سعد.
(٥٨) الكامل للمبرد.
(٥٩) طبقات ابن سعد.
(٦٠) النفار: تنافر إلى رجل يتبين حجج الخصوم، ويحكم بينهم، والجلاء: أن ينكشف الأمر وينجلي، فتعلم حقيقته، فيقضى به لصاحبه دون خصام ولا يمين.
(٦١) من شار الدابة شورًا وشورًا: راضها، وقيل: ركبها عند العرض على مشتريها، وقيل: اختبرها ينظر ما عندها.
(٦٢) الأشراف لابن أبي الدنيا.
(٦٣) فتوح البلدان للبلاذري.
(٦٤) تاريخ الطبري.
(٦٥) بزل البعير بزولًا: فطر نابه أي انشق بدخوله في السنة التاسعة.
(٦٦) فتوح البلدان للبلاذري.
(٦٧) تاريخ أبي الفداء.
(٦٨) المعارف لابن قتيبة.
(٦٩) تاريخ الطبري.
(٧٠) تيسير الوصول لابن الديبع.
(٧١) المرط: كساء من خز أو صوف يؤتزر به.
(٧٢) يريد أم كلثوم بنت علي.
(٧٣) تزفر القرب: تخيطها.
(٧٤) الإشراف لابن أبي الدنيا.
(٧٥) البيان والتبيين للجاحظ.
(٧٦) يقولون العمران لأبي بكر وعمر؛ لأن أهل الجمل نادوا بعلي بن أبي طالب: أعطنا سُنَّةَ العمرين، وعمر اسم مفرد لا كأبي بكر وإنما طلبوا الخفة (الكامل للمبرد).
(٧٧) أسد الغابة لابن الأثير.
(٧٨) طبقات ابن سعد.
(٧٩) تاريخ الطبري.
(٨٠) الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة.
(٨١) الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة.
(٨٢) الحامة بتشديد الميم: الخاصة.
(٨٣) لا تنقص.
(٨٤) العود: المسن من الإبل.
(٨٥) المهلوسة: المريضة قد هلسها المرض وأفنى لحمها، والعوار: العيب.
(٨٦) المعنف: ذو العُنف بالضم وهو ضد الرفق، والمجحف: الذي يسوق المال سوقًا عنيفًا فيجحف به أي يهلكه، والملغب: المتعب، واللُّغوب: الإعياء.
(٨٧) المصر: حلب ما في الضرع جميعه.
(٨٨) الظالع: الذي ظلع أي غمز في مشيه، والنقب: ذو النقب، وهو رقة خف البعير حتى تكاد الأرض تجرحه.
(٨٩) النطاف: جمع نطفة، وهي الماء الصافي القليل.
(٩٠) البدن بالتشديد: السمان، واحدها بادن، ومنقيات: ذوات نقي، وهو المخ في العظم والشحم في العين من السمن، وأنقت الإبل وغيرها سمنت وصار فيها نقي، وناقة منقية وهذه الناقة لا تنقي.
(٩١) أرباب الأملاك من العجم.
(٩٢) تاريخ اليعقوبي.
(٩٣) تاريخ أبي الفداء.
(٩٤) تاريخ الإسلام – الخلفاء الراشدون لعبد الوهاب النجار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤