إدارة الأمويين

الإدارة على عهد معاوية بن أبي سفيان

ما عُرِفَتْ للحسن بن علي طريقة في الإدارة؛ لأنه لم يطل أمره غير بضعة أشهر وذلك في العراق والحجاز، أما سائر الأقطار فكانت في يد معاوية، ولكن عبد الله بن عباس من أعظم أنصار عليٍّ كتب إلى الحسن أن يولي أهل البيوتات والشرف يستصلح بهم عشائرهم حتى تكون الجماعة؛ فإن بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق، وكانت عواقبه تدعو إلى ظهور العدل وعز الدين، خير من كثير ممَّا يحبون، إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور ووهن الدين. حتى إذا كان عام الجماعة، ونزل الحسن عن الخلافة، وأجمع المسلمون على استخلاف معاوية (٤١ﻫ) التفت هذا إلى سياسة الملك بحزم شديد وعزم أكيد، وقد كان من قبلُ يسوس الناس تحت سلطان أعظم من سلطانه، فأصبح يسوسهم بسلطانه مباشرة، ولا يطلب منه حساب لغير نفسه وديانه. وساعد معاوية على حسن إدارة الملك سابقة له من تجربة طويلة، ابتدأت منذ كان كاتب وحي رسول الله يشهد روعة الرسالة، ويأخذ من البيئة النبوية، فتثقَّف على أتم ما يكون من الكمال، ورأى منه أبو بكر وعمر ما رآه منه صاحبهما من الغِنَاء فوَلِيَ الشام عشرين سنة تمرس١ خلالها بالسياسة، واتسع أمامه أفق جديد من النظر، فأدهش من تولى أمره بحلمه وعلمه وثاقب رأيه وفرط دهائه، وكان أبوه من قبلُ يعالج شئون الناس ويتألفهم ويعرف ما يصلحهم، وعنه أخذ شيئًا في هذا المعنى، والناشئ في مثل هذه الأعمال يتحنَّك في الإدارة، ويكون إمامًا في صناعته.
حافظ معاوية على أصول الرسول والراشدين في الإدارة، وما حاد عنها إلا فيما قضت به المصلحة، ودعا إليه المحيط الجديد، مثل إخراج الإدارة من سذاجة البداوة إلى بحبوحة الحضارة، وعرف فوائد الشورى فما كان يصدر في المهمات إلا عن مشورة، فهو يرى من الطبيعي أن يأخذ بآراء أشراف القوم، وينزل على حكم وفود٢ البلاد، وله ولآل بيته مجالس يعقدونها في المسجد الجامع، تدور أبحاثها على سياسة البلاد وحكمها في الأكثر، ومجالس الأمويين أشبه بمجالس النواب والشيوخ والولايات، وما كان الأمويون إلى الاستبداد بالرأي في معظم حالاتهم، ولا سيما فيما له مساس بإصلاح الراعي والرعية.
كان معاوية يفض مشاكله بالحُسْنَى، يلين للناس، ويشفع المجاملة بالإحسان، يوليه كل نابٍ٣ نابه في قومه، سيد مسوَّد في أهله، ولا تلين قناته لمن يحاول قلب الخلافة وإخراجها عن بيته بعد أن آلت إليه، وما كان مع من يظلم رعاياه إلا شديدًا، ويستميل القلوب بالعطاء وبالإقناع أو بالإغضاء أو بالمجادلة بالتي هي أحسن، وبلغ من سعة الصدر ووافر الحلم أن ضُرِبَ المثل بحِلمه، وكان إذا لم تنجع في الناس وسائله اللَّيِّنة، يعمد بعد التماس كل حيلة إلى القوة، وهو القائل: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. وقيل: وكيف ذاك؟ قال: كنت إذا مدوها خليتها، وإذا خلَّوْها مددتها. وقال: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا. ومن المستحيل كمُّ٤ الأفواه أو تنطق بما يراد، ورضا الناس غاية لا تدرك. فما دام الأمر يفض بالكلام، ولا يقوم رجل جد يقلقل أمر الجماعة فالعالم أحرار في أقوالهم، ومتى لجَئوا إلى القوة وتطالوا إلى الفتنة انكفأ عليهم بقوته، وما برحت همته منذ تولى الحكم مصروفة إلى سياسة الدولة، وما عدا ذلك فالناس وما يختارون من الآراء والمذاهب، وهو يستشير أرباب الرأي من أنصار دولته، ولا يأتمن في إدارة الولايات والأعمال إلا الكفاة من آل بيته، فإذا اتفق أن كان فلا ينزع إلى كذا أو يحب فلانًا من خصومه أو يغلظ في بيان رأي يخالفه، فهذا مما لا يتعلق به كبير أمر عنده.
فالسياسة هي كل ما حصر فيه معاوية وُكْدَه، ومن أجل توطيد دعائمها لجأ إلى طرق في الدعوة مؤثرة، فجعل القُصَّاص أو الوعاظ في المساجد والمعسكرات يدعون لدولته، وينفِّرون من أعدائها، وذلك لمَّا رأى عليًّا٥ عند مُنْصَرَفِهِ من صِفِّين قنت في الصلاة ودعا على من خالفه. فوقع في نفس معاوية أن يعامل عليًّا بالمثل، وأمر من يقص بعد الصبح وبعد المغرب أن يدعو له ولأهل الشام، وحمل الأمصار على احتذاء مثاله في عاصمته، فأحدث قصص الخاصة، عهد بها إلى رجال يهتمون بسلطانه. وظل قَصَّاص العامة يجتمع إليهم النفر من الناس يعظونهم ويذكرونهم، ويقصون عليهم ما يرق قلوبهم، وكان القصاص إذا سلم الإمام من صلاة الصبح جلس فذكر الله وحمده ومجَّده وصلى على نبيه، ودعا للخليفة ولأهله ولأهل بيته وجنوده، وعلى أهل حربه وعلى الكفار كافة. ومن القصاص من كانوا يرفعون أيديهم في قصصهم كما كان سُليم بن عتر قاص الجند زمان عمرو بن العاص.
ويقول من أمعنوا في درس تاريخ معاوية أن دعوى سَنِّه لَعْنَ علي٦ عقبى كل خطبة٧ لم يقم عليها دليل ثابت يركن إليه، وما من أثر يدل على أن هذا اللعن تقدم مروان بن الحكم، وبذلك يبرأ معاوية من هذه الوصمة، وجلب لعن الأمويين عليًّا من٨ البغضاء المستترة أكثر مما نالهم من الفائدة الحقيقية، كما أخطأ معاوية بإطلاق يد زياد في سياسة القمع في العراق على صورة هائلة تخالف ما كانت عليه سياسة معاوية من اللين، وكان عليه أن يُطَبِّقَ بنفسه هذه السياسة مباشرة، وانتشر لعن الطالبيين للأمويين ولعن الأمويين للطالبيين في كل مكان، وقد لعن الأمويون عليًّا على منابرهم نحو ألف شهر، ولم تبطُل هذه البدعة السيئة إلا في عهد عمر بن عبد العزيز، استعاض عنها بآية: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ الآية، وقيل: بل جعل مكان ذلك: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وقيل بل جعلهما جميعًا، وكان العلويون يقنتون عقب الصلوات يلعنون بني أمية يشفون بذلك نفوسهم الثائرة، من أجل دماءٍ مطلولة، وطوائل٩ طويلة، وملك مستأثر به.
واقتفى معاوية فعل عمر بن الخطاب في العلم بأخبار رجاله ورعيته فانتظم له أمره، وكذا كان زياد بن أبيه وعبد الملك والحجاج. قال الجاحظ: ثم لم يكن بعد هؤلاء أحد في مثل هذه السياسة حتى ملَك المنصور، ونقل عن زياد أن رجلًا كلَّمه في حاجة، وجعل يتعرف إليه، ويظن أن زيادًا لا يعرفه فقال: أنا فلان بن فلان، فتبسم زياد وقال له: أتتعرف إليَّ وأنا أعرف منك بنفسك؟ والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأمك وأعرف جدك وجدتك وأعرف هذا البُرد الذي عليك وهو لفلان وقد أعارك إياه، فبهت الرجل وأُرعد١٠ حتى كاد يُغشى عليه.

قلنا: إن معاوية كان يتخير عماله من كفاة أهل بيته أو من غيرهم من رجال دولته وأنصار دعوته، وقد انتهى إلى علمه أن ابن أُخته عبد الرحمن بن أم الحكم عامله على الكوفة قد أساء السيرة في إمارته فعزله وأقصاه عن الحكم، وقيل: إن سبب عزله أن عبد الله بن همام السلولي قال شعرًا وكتبه في رقاع ألقاها في المسجد الجامع وهي:

ألا أبلغ معاوية بن صخر
فقد خرب السواد فلا سوادا
أرى العمال أقساءً علينا
بعاجل نفعهم ظلموا العبادا
فهل لك أن تَدارك ما لدينا
وتدفع عن رعيتك الفسادا
وتعزل تابعًا أبدًا هواه
يخرب من بلادته البلادا
إذا ما قلت أقصر عن هواه
تمادى في ضلالته وزادا
وكان معاوية إذا أراد أن يولِّي رجلًا من بني حرب ولَّاه الطائف، فإن رأى منه خيرًا وما يعجبه ولاه مكة معها، فإن أحسن الولاية وقام بما ولي قيامًا حسنًا جمع له معهما المدينة. فكان إذا ولى الطائف رجلًا قيل هو في أبي جاد، فإذا ولاه مكة قيل هو في القرآن، فإذا ولاه المدينة قيل هو قد حذق.١١

وأوصى أحد أقاربه ممن استعمله فقال: لا تبيعنَّ كثيرًا بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتفِ فيما بينك وبين عدوك بالوفاء تخف عليك المؤنة وعلينا منك، وافتح بابك للناس. وقال لآخر: إذا أعطيت عهدًا ففِ به، ولا تخرجنَّ منك أمرًا حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، ولا تُطمِعَنَّ أحدًا في غير حقه ولا تُؤيسن أحدًا من حَقٍّ له. قواعد وضعها معاوية لعماله وفيها شيء من الأساليب لكَفِّ الناس بعضهم عن بعض، وإرضاء كل واحد بحقه، وتوفير ثقة الرعايا بولاتهم؛ ليعتقدوا أنهم لا يكذبون، وأنهم إذا قالوا فعلوا.

ومن يُمْنِ الدولة الأموية أن كانت لا تستعمل من العمال إلا من ثبتت كفاءته ونجدته في تأييد سلطانها، يمحضونها النصح، ولا يغفُلون عن تعهد حال الناس، وكشف ظلاماتهم، واتخاذ الطرق المفضية إلى ما فيه راحتهم وهناؤهم، وإذا تبرم أهل قُطر بتدابير من وَلِيَهُم ينقله الخليفة إلى قطر آخر يستعيض عنه أكفأ منه أو من كان على شاكلته أو ألين منه عريكة، يريد عاملًا حقيقيًّا للعمل لا عملًا لعامل يرزقه، يتطلب عاملًا إذا عرضت له المعضلات أن يفتق له وجه الحيلة ما يتوجه له فيه وجه. أوعز زياد إلى والي خراسان أن يصطفي لمعاوية الصفراء والبيضاء فلا يقسم في الناس ذهبًا ولا فضة؛ عملًا بكتاب ورد عليه من الخليفة. فكتب والي خراسان إلى زياد: بلغني ما ذكرت من كتاب أمير المؤمنين وإني وجدت كتاب الله تعالى قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو أن السماء والأرض كانتا رتقًا١٢ على عبد ثم اتقى الله جعل له مخرجًا، والسلام. وقسم الفيء بين الناس من الذهب والفضة، ولم ينفذ ما أمر به الخليفة من أمر يُجحف بأرباب الاستحقاق في العطاء من الجند والعمال؛ ذلك لأنه رأى في ولايته ما لم يره الخليفة ولا عامله الأكبر زياد. وهذا مما يشعر بما كان للعامل الأمين في عهد معاوية من الحرية فيما يرتئيه لإصلاح عمله. والإدارة في قطر قد لا تصلح لقطر آخر، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب.
قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين إلا في واحدة، طلبت رجلًا فلجأ إليه وتحرَّم١٣ به. فكتب إليه: إن هذا فساد لعملي إذا طلبت رجلًا لجأ إليك وتحرَّم بك. فكتب إليه معاوية: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس بسياسة واحدة فيكون مقامنا مقام رجل واحد، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة، فيستريح الناس بيننا. وأعظِمْ بمثل هذا الدهاء! وقديمًا قالوا: الدهاة أربعة؛ معاوية للرَّوِيَّة، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضِلات، وزياد لكل كبيرة وصغيرة. وقال بعضهم: دهاة العرب وذوو الرأي والمكيدة: معاوية وعمرو والمغيرة وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل بن ورقاء. وأربعة ممن ذَكَر دبروا ملك بني أمية والآخران كانا من جماعة عليٍّ.
علمنا أن معاوية ما كان يستخدم الحُسام، إذا أجزأه١٤ الكلام، رمى أهل مصر بعمرو بن العاص لأنهم اشتركوا في مقتل عثمان، كما اشتركت الكوفة والبصرة وبعض أهل المدينة، ولما هلك ولَّى مصر أخاه عتبة بن أبي سفيان،١٥ وكان واليَ عمر على الطائف وصدقاتها، وهو من بلغاء الخطباء، قيل: لم يكن في بني أمية أخطب منه. فاشتد على أهل مصر وطأمن من جماحهم، وأدخل الرهبة على قلوبهم. ومن جملة ما خطبهم، وفيه نموذج من خطته وخطة أخيه، قوله:
يا أهل مصر، خَفَّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تفعلونه، وذم الباطل وأنتم تأتونه، كالحمار يحمل أسفارًا أثقله حملها ولم ينفعه علمها، وإني والله لا أداوي أدواءكم بالسيف، ولا أبلغ السيف ما كفاني السوط، ولا أبلغ السوط ما كفتني الدرة، ولا أبطئ عن الأولى إن لم تصلحوا عن الأخرى، ناجزًا١٦ بناجز، ومن حذَّر كمن بشَّر، فدعوا قال ويقول، من قبل أن يقال فعل ويفعل، فإن هذا اليوم الذي ليس فيه عقاب، ولا بعده عتاب. وخطب الناس بمصر عن موجِدة١٧ فقال: يا حاملي ألأم آنف١٨ رُكِّبَتْ بين أعين، إني إنما قلمت١٩ أظفاري عنكم ليلين مسِّي لكم، وسألتكم صلاحكم؛ إذ كان فسادكم باقيًا عليكم، فأما إذا أبيتم إلا الطعن على السلطان، والتنقص للسلف، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم، فإن حسمت أدواؤكم وإلا فإن السيف من ورائكم، فكم من حكمة مِنَّا لم تَعِهَا قلوبكم، ومن موعظة منا صمَّت عنها آذانكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة، إذ جُدْتُم بالمعصية، ولا أُويسكم من مراجعة الحسنى، إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى.
واستخلف عتبة هذا عاملًا له على أهل مصر، وكانت له شدة، فامتنع عليه بعض أهلها فكتب إلى عتبة. فقدمها فدخل المسجد ورَقِيَ المنبر، وقال: يا أهل مصر، قد كنتم تُعذَرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم، وقد وليكم من إن قال فعل، فإن أبيتم درأكم٢٠ بيده، فإن أبيتم دَرَأَكُمْ بسيفه، ثم جاء في الآخر ما أدرك في الأول: إن البيعة شائعة، لنا عليكم السمع، ولكم علينا العدل، وأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه. فناداه المصريون من جانب المسجد: «سمعًا سمعًا.» فناداهم: «عدلًا عدلًا.» تهديد نافع هدد به عتبة أهل مصر ليحملهم على الطاعة، ويدفع عن البلاد غائلة الفتن بموعظته في خطبته، وأسلوب جميل في الإدارة من أنفع الطرق التي تنجع فيها الخطابة السياسية.
وكلما لمح عتبة شرارة الفتنة خطب القوم بما يطفئها من مَعِينِ بلاغته. احتبست كتب معاوية حتى أرجف أهل مصر بموته، ثم ورد كتابه بسلامته؛ فصعد عتبة المنبر والكتاب بيده وقال: «يا أهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظُبات٢١ السيوف حتى صرنا شجى في لهواتكم٢٢ ما تسيغنا حلوقكم، وأقذاء٢٣ في أعينكم ما تطرف عليها جفونكم، فحين اشتدت عرى الحق عليكم عقدًا، واسترخت عقد الباطل منكم حلًّا؛ أرجفتم بالخليفة وأردتم توهين السلطان، وخضتم الحق إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديث؟ فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم، فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السار عنه، والعهد القريب منه، واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر نكلكم إلى الله فيما بطن، وأظهروا خيرًا وإن أسررتم شرًّا، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله نتوكل وبه نستعين.» ا.ﻫ.
وخطب عتبة في الموسم في سنة إحدى وأربعين، وعهد الناس حديث بالفتنة، فاستفتح ثم قال: «أيها الناس إنا قد ولينا هذا الموضع الذي يضاعف الله فيه للمحسن الأجر، وعلى المسيء الوزر، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوننا، ورُبَّ متمنٍّ حتفُه في أمنيته، اقبلوا العافية ما قبلناها منكم وفيكم.» وقد عرفنا بهذه النموذجات من الخطب كيف أخذ بنو أمية يصفُّون البلاد من كدورات الفتنة، وبعتبة وبأمثاله أدخلوا الناس في الطاعة، وكانوا ركبوا رءوسهم٢٤ في الغوائل وأوغلوا، وبعتبة وبأمثاله من العمال الذين كانوا يعملون للجماعة بعقولهم وقلوبهم، وهم على اقتناع من صحة دعواهم، دفعوا الناس إلى الانقطاع إلى أعمالهم، واضطروهم إلى أن يتركوا الخوض في سياسة الملك، إلى من يحسن القيام عليها. ومن نظر في سيرة أولئك العمال يأخذه العجب من عِفَّتهم عن الأموال، وتبلُّغهم بالقليل، وإنفاقهم بلا حساب لتأليف الشارد واستمالة الخصم المعاند؛ فقد ذكر المؤرخون أن عمرو بن العاص الذي ولي مصر مرتين، وجعلها له معاوية في المرة الثانية طُعمة بعد الإنفاق على مرافقها إذا هو ساعده على قتال عليٍّ. إن هذه الطعمة لم تعُد على عمرو بثروة تُذكر، وما اشتد عمرو على أهل مصر اشتداد عتبة لأن هذا كان في سن الكهولة وعمرو في سن الشيخوخة، والشيوخ في الإدارة أقرب إلى الحنكة٢٥ والروية من الشباب على الأغلب. أما سائر عمال الدولة فكانوا بحسب الحال: على طريقة عتبة الناطقة أو على طريقة عمرو الصامتة.
كانت العراق بعد حوادث عليٍّ تغلي غليان المرجل٢٦ بالثوار، وتعج بأرباب الشغب، فرماهم معاوية بزياد بن أبي سفيان فخطب أهلها قائلًا: «حرام عليَّ الطعام والشارب حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا، إياي ودلج٢٧ الليل، فإني لا أوتَى بمدلج إلا سفكت دمه، وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحدًا دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثًا وأحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرَّق قومًا أغرقته، ومن أحرق قومًا أحرقته، ومن نقب بيتًا نقبت عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفنته فيه حيًّا، فكفوا أيديكم وألسنتكم أكف عنكم، وقد كانت بيني وبين أقوام أشياء قد جعلتها دَبْر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنًا فليزدد، ومن كان مسيئًا فلينزع. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعًا، ولم أهتك له سترًا، حتى يبدي لي صفحته٢٨ فإذا فعل ذلك لم أُناظره، فأعينوا على أنفسكم وأتنفوا٢٩ أمركم.» ومعنى هذا أن زيادًا أعلن في العراق الإدارة العرفية العسكرية، وصرح بأنه يتناسى ما سبق للقوم من الخطيئات للدولة ولنفسه، إذا أحسنوا السيرة، وأنه ينوي افتتاح عهد جديد يُغاث فيه الناس ويستريح السلطان. ومع هذه الشدة البادية في كلام٣٠ زياد كان يبعث إلى الجماعة منهم، فيقول: ما أحسب الذي يمنعكم من إتياني إلا الرُّجلة٣١ فيقولون: أجل. فيحملهم ويقول: اغشوني الآن واسمُروا عندي. يحاول تألفهم والوقوف على آرائهم من طرف خفي، والبُعد جفاء، والعامل مضطر إلى أن يعلم البواطن والظواهر، ولا ميدان لالتقاط الفوائد إلا في المجالس الخاصة. قال عمر بن عبد العزيز: قاتل الله زيادًا جمع لهم كما تجمع الذرة، وحاطهم كما تحوط الأم البرَّة، وأصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام في شامهم، وجبى العراق مائة ألف ألف وثمانية عشر ألف ألف. ا.ﻫ.
كان زياد إذا ولَّى رجلًا قال له: خذ عهدك وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك: إذا وجدناك أمينًا ضعيفًا استبدلنا بك لضعفك، وسلمتك من موتنا أمانتك، وإن وجدناك خائنًا قويًّا استهنَّا بقوتك، وأحسنا على خيانتك أدبك فأوجعنا ظهرك، وأثقلنا غُرمك، وإن جمعت علينا الجرمين، جمعنا عليك المَضرَّتَين، وإن وجدناك أمينًا قويًّا زِدْنا في عملك، ورفعنا لك ذكرك، وأكثرنا مالك وأوطأنا٣٢ عقِبَك.
مثال من أعمال عمال معاوية، وما يريدون أن يكون عليه من يتصرفون للسلطان ليستقيم أمر البلاد. وكان زياد يقول: استوصوا بثلاثة منكم خيرًا: الشريف والعالم والشيخ؛ فوالله لا يأتيني شيخ بشاب قد استخفَّ به إلا أوجعته، ولا يأتيني عالم بجاهل استخف به إلا نكلت به، ولا يأتيني شريف بوضيع استخف به إلا انتقمت له منه. قال زياد لحاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأنساب، ثم على الآداب. قال: فمن تؤخر؟ قال: من لا يعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف وكسوة الصيف في الشتاء. وقال لحاجبه: ولَّيتُك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إلى الله في الصلاح والفلاح لا توقفه عني، ولا سلطان لك عليه، وطارق الليل لا تحجبه، فشرٌّ ما جاء به، ولو كان خيرًا ما جاء في تلك الساعة، ورسول صاحب الثغر، فإن أبطأ ساعة فسد عمل سنة، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد. قال العتبي: كان في مجلس زياد مكتوب: «الشدة في غير عنف، واللين في غير ضعف، المحسن يُجازَى بإحسانه، والمسيء يُعاقَب بإساءته، الأعطيات في أيامها، لا احتجاب من طارق ولا صاحب ثغر.» وكان زياد يؤثِر الأعمال على الأقوال؛ لعلمه بأنها تنادي على نفسها؛ فقد بنى بالبصرة أحياءً ودورًا ومساجد وحفر أنهارًا وترعًا، وكل ما بنى فيها أو صنع فإنه نُسِبَ إلى غيره.٣٣
وزياد في الواقع لم يزل بالمداراة من يوم كان أميرًا على فارس، وهي تضرم نارًا٣٤ حتى عادوا إلى ما كانوا عليه من الطاعة والاستقامة، لم يقِف موقفًا للحرب، وكان أهل فارس يقولون: ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي. ولما قدم فارس بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره ومَنَّاه وخوَّف قومًا وتوعَّدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم على عورة بعض، وهربتْ طائفة وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضًا، وصَفَت له فارس فلم يلقَ فيها جمعًا ولا حربًا، وفعل ذلك بكرمان. وقدم زياد العراق وهي جمرة تشتعل٣٥ فسل أحقادهم وداوى أدواءهم. وابنه عبد الله تولى العراق بعده، وهو أول من عرَّف العرفاء، ودعا الفقراء، ونكب٣٦ المناكب، وحصل الدواوين، ومشى بين يديه بالعمد ووضع الكراسي، وعمل المقصورة ولبس الزيادي، وربع الأرباع بالكوفة، وخمَّس الأخماس بالبصرة، وأعطى في يوم واحد للمقاتِلة والذرية من أهل البصرة والكوفة، وبلغ بالمقاتلة من أهل الكوفة ستين ألفًا ومقاتلة البصرة ثمانين ألفًا والذرية مائة ألف وعشرين ألفًا. وضبط زياد وابنه عبد الله العراق بأهل العراق. هكذا كانت أعمال العمال تسير على أجمل مثال.
كتب معاوية إلى سُلَيم بن عتر قاضي مصر يأمره بالنظر في الجِرَاح والحكم فيها، وكان الرجل إذا أصيب فجرح بذلك الجرح فقصته على عاقلة٣٧ الجارح، ويرفعها إلى صاحب الديوان، فإذا حضر العطاء اقتضى من أعطيات عشيرة الجارح ما وجب للمجروح وينجِّم٣٨ ذلك في ثلاث سنين. والقاضي سُلَيم هذا أول من سجل في مصر سجلًّا بقضائه، وذلك أنه اختصم إليه في ميراث فقضى بين الورثة، ثم تناكروا فعادوا إليه، فقضى بينهم وكتب كتابًا بقضائه، وأشهد فيه شيوخ الجند ثم سجله. وكان من سياسة معاوية أن يحمي عماله الصادقين، وما كان يقيد من عماله ويدي٣٩ من بيت المال.
وابتكر معاوية في الدولة أشياء لم يَسبق أحدٌ إليها،٤٠ منها: أنه أول من وضع الحشم للملوك، ورفع الحراب بين أيديهم، ووضع المقصورة التي يصلي فيها الخليفة منفردًا عن الناس، وهو أول مسلم غزا في البحر وأنشأ الأسطول في صناعة صور وعكا وطرابس، وغزا الروم، ولما فتح قبرص ورودس كان معه ١٧٠٠ سفينة، وأهم ما قام به: تنظيم الجيش، فضاعف عطاءه، ووقَّت أوقاتًا لتناول أرزاق الجند، ووفق إلى استخدام أكبر رجال الإدارة وأعظمهم: زياد ثم عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والضحاك بن قيس وأبو الأعور السلمي ومسلم بن عقبة وبسر بن أبي أرطاة وحبيب بن سلمة، وكان إذا لامه أهله على كثرة بذله المال للعلويين والهاشميين أجابهم: إن الحرب تستلزم نفقات أكثر من هذا العطاء.

وهو أول من وضع البريد، أحضر رجالًا من دهاقين الفرس وأهل عمال الروم فعرفهم ما يريد فوضعوا له البريد، واتخذوا له بغالًا بأكف كان عليها سفر البريد، وكان لا يجهز عليه إلا الخليفة أو صاحب الخبر؛ لتسرع إليه أخبار بلاده من جميع أطرافها. وهو الذي اخترع ديوان الخاتم وحزم الكتب ولم تكن تُحْزَم. واستكتب عبد الله بن أوس الغساني سيد أهل الشام، وجعل على كل قبيلة من قبائل مصر رجلًا يصبح كل يوم فيدور على المجالس، فيقول: هل وُلِدَ الليلة فيكم مولود؟ وهل نزل بكم نازل؟ فيقال: ولد لفلان غلام ولفلان جارية. فيكتب أسماءهم، ويقال: نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله. فيسميه وعياله، فإذا فرغ من القبيل أتى الديوان حتى يثبت ذلك، وعلى هذا كانت الدولة تُحصِي السكان، ولا يفوتها خبر من ينتقل في أرجاء البلدان.

واستخدم معاوية النصارى في مصالح الدولة، وكان عمر يمتنع من استخدامهم إلا إذا أسلموا، فعهد إلى سرجون بن منصور، ثم إلى ابنه منصور بن سرجون من نصارى الشام، بإدارة أمواله. وكان منصور والد سرجون على المال في الشام من عهد هرقل قبل الفتح، ساعد المسلمين على قتال الروم بأن أبى أن يمسك الرجال بالمال٤١ قائلًا: إن الملك أي هرقل غير محتاج إلى هذا العسكر العظيم؛ لأنه يحتاج إلى مال كثير وليس بدمشق مال عظيم، قالوا: إنه أراد بذلك أن يسمع الرجال أن ليس بدمشق مال يعطيهم، فيتفرق الجند ويسلم المدينة إلى العرب.
كان معاوية يحب الانتفاع من كل قوة تُستخدم في قيام الدولة، وتعين على انتظام الجماعة، ولما رحل جَبَلة بن الأيهم٤٢ إلى الروم، وارتد عن إسلامه، دعاه معاوية بن أبي سفيان إلى الرجوع إلى الإسلام، ووعده إقطاع الغوطة بأسره. يريد بذلك تلافي خطأ عمر بن الخطاب يوم أبى إلا إقامة الحد على جبلة فكان من ذلك فراره إلى الروم، و«كان آل جفنة عمال القياصرة على عرب الشام كما كان آل نصر عمال الأكاسرة على عرب العراق.»
وباتخاذ دمشق دار الخلافة بعد أن كانت دار إمارة الشام وحدها، انتقلت سياسة الملك من المدينة فكثر سكان الفيحاء من العرب، يقصدها طلاب العمل وغيرهم من الأقطار، ويختص الخليفة أهل الشام بعنايته، ويستعمل الصالحين من أهل الذمة في أعماله الإدارية. ورأى النصارى أكثريةً في الشام، فنقل إلى السواحل قومًا من زط البصرة والسيابجة، وأنزل بعضهم أنطاكية، وأصل الزط من السند يغلب السواد على سحناتهم، ونقل قومًا من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور ونقل من أساورة٤٣ البصرة والكوفة وفرس بعلبك وحمص إلى أنطاكية جماعة. هذا عدا القبائل العربية التي أسكنها الشام فمزجهم بأهلها الأصليين حتى يكون آمنًا في دار ملكه. وبعمله هذا أصبح الساحل الشامي غاصًّا بالعجم والعرب؛ وذلك تفاديًا من أن يستأثر النصارى وحدهم بمفتاح البلاد من البحر، وفي مزج العرب بالفرس بسكان البلاد الأصليين يصبح كل عنصر رقيبًا على العنصر الآخر ومنافسًا له. ولمَّا صالح صاحب قبرص خيَّر أهلها بين أن يسكنوا الشام أو يرتحلوا إلى بلاد الروم. ولئن غدت دمشق قبلة الإسلام ودار الملك فقد ظلت المدينة عاصمة الفقه والدين مدة خلافته وخلافة من خلفوه، وما جعل مقره في الشام إلا لأن أهلها أحبوه لما بلوه، وكفى بعهد إمارته عليهم أن يعرفهم ويعرفوه، ويطبع طباعهم بطابع الطاعة والتزام جانب الجماعة. وخصلة أخرى أيضًا: وهي أن دمشق متوسطة بين البلاد الإسلامية أكثر من الحجاز، وفي الشام من الخيرات الطبيعية والأعمال الصناعية ما يمتار منه الجيش ويرتفق، وما يترفه به العلية من رجال الدولة ويقوون، ونحن على صواب إذا قلنا: إن دمشق أصبحت في عهد معاوية ثم في عهد الخلفاء مدرسة يتخرج فيها القواد والأمراء والجند.
ومن أهم ما قام به معاوية للتأثير في الرأي العام: حسن معرفته باستخدام الشعراء٤٤ وكان الشعراء كأرباب الصحافة في ذاك العصر، فانتفع بهم لمصلحة الدولة، وتكوين الوطنية العربية، فأبعد الشعر عن الهجو المألوف بين القبائل وجعله أداة عمل صالحة. ولم يغفل معاوية في وقت من الأوقات عن تعهُّد الزراعة وعُني بها في الحجاز عناية خاصة، فأحيا موات الأرضين، واحتفر الآبار للسُّقْيَا، وأقام أسدادًا للانتفاع بالمياه، وسرت أسرته ومعاصروه على طريقته، فشهدت الحجاز قرنًا من الارتقاء لم تَرَهُ من بعد. هذا مع أن طبيعة الحجاز قاسية غير ملائمة، ولكن الخليفة العاقل ما أحب لأهل الحجاز أن يعيشوا من العطايا والصدقات وموسم الحج؛ لأنها موارد غير طبيعية في المعاش، ومذاهب في الاتكال لا يؤمن مع زوالها عيش ونعمة. وصالحت الرومُ معاوية على أن يؤدي إليهم مالًا وارتهن معاوية منهم رهناءَ فوضعهم ببعلبك، ثم إن الروم غدرت فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهنهم وخلوا سبيلهم، وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر.

كان معاوية في الإبداع بتأسيس دولة الأمويين كعمر بن الخطاب في إبداعه بإنشاء دولة الراشدين، ومع هذا فقد قيل: إن أحد الصلحاء سُئِلَ أيام معاوية كيف تركت الناس قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف وظالم لا ينتهي. كأنه يريد أن تكون إدارة الملك على عهد ابن أبي سفيان، كما كانت على عهد عمر بن الخطاب، وفاته أن لكل عصر طريقته ورجاله. والغالب أن البعيد لا يقدِّر الأمور بقدرها كالقريب، وأرباب الصلاح يتوهمون أن العدل المطلق يستفيض في الناس بأمر من الخليفة أو بعناية عُمَّالِهِ وحدهم، وأن كل خير لا يأتي إلا من السلطان، أما المحكومون فليس لهم كبير أثر في إفاضة العدل في العالم ولا تلحق بهم تبعة، والنقد سهل، والصعوبة في الإبداع.

قال المسعودي — وهو مشهور بتشدده في تشيعه: وأخبار معاوية وسياساته وما أوسع الناس من أخلاقه، وما أفاض عليهم من بره وإعطائه وشملهم من إحسانه، مما اجتذب به القلوب، واسترعى به النفوس؛ حتى آثروه على الأهل والقرابات. وقد كان ائتم بأخلاقه جماعة بعده مثل عبد الملك بن مروان وغيره فلم يدركوا حلمه، ولا إتقانه للسياسة، ولا التأني للأمور، ولا مداراته للناس على منازلهم، ورفقه بهم، ورفعه لهم على طبقاتهم.

إدارة يزيد ومعاوية الصغير ومروان وابنه عبد الملك

مضت أيام معاوية الطويلة؛ عشرون سنة أميرًا وعشرون أخرى خليفة، وأوصى ابنه يزيد عند موته بقوله: انظر أهل الحجاز فهم عصابتك وعترتك، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعاهده، وانظر أهل العراق فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله عنهم، فإنَّ عزل عامل واحد أهون عليك من سل مائة ألف سيف، ثم لا تدري علام أنت عليه منهم. ثم انظر أهل الشام فاجعلهم الشعار دون الدثار، فإن رابك من عدو ريب فارمه بهم، فإن أظفرك الله فاردد أهل الشام إلى بلادهم لا يقيموا في غير بلادهم، فيتأدبوا بغير آدابهم. وجَّهَ نصيحته إلى قلب المملكة الحجاز والعراق والشام؛ لأنها إذا استقامت لا يخشى على الأطراف.

وقد كان معاوية عُني في آخر أمره بتخريج يزيد ابنه وولي عهده يستشيره في المسائل الطارئة، ويأخذ برأيه أحيانًا، ويبعث همته على العمل؛ ليتولى الأمر عن كفاءة، وقد علَّمه أنساب الناس والنجوم والعربية، أقام أستاذًا له في ذلك دغفل بن حنظلة الشيباني، ومشى يزيد في إدارته على أثر أبيه، فكان لا يضن بالمال مهما عظُم في سبيل الخلافة. وفد عليه عبد الله بن جعفر فقال له: كم كان عطاؤك؟ فقال له: ألف ألف. قال: قد أضعفناها لك. قال: فداك أبي وأمي، وما قلتها لأحد قبلك. قال: قد أضعفناها لك ثانية. فقيل ليزيد: أتعطي رجلًا واحدًا أربعة آلاف ألف؟! فقال: ويحكم! إنما أعطيتها أهل المدينة أجمعين، فما يده إلا عارية. وما زال يزيد يزيد في إعطائه لمنزلته، ولأنه يريد أن يتألف بواسطته أهل المدينة، ويرفع يد ابن الزبير عنها وعن دعوى الخلافة.

وما أثر عن يزيد أنه غير شيئًا من أصول إدارة أبيه؛ لاستغراق حرب الحسين بن علي في العراق وعبد الله بن الزبير في الحجاز معظم أوقاته، أما ابنه وخليفته معاوية الصغير أو الثاني فكانت خلافته أيامًا، وما أراد أن يدخل في شيء من مهامها.

كان مروان كمعاوية آيةً في عقله وسياسته وتدبيره، درس الإدارة زمنًا طويلًا في الحجاز، وعرف ما يفسد الناس ويصلحهم، وما يهيجهم ويسكنهم، ولكن أمره لم يطُل كثيرًا، وتستبين محاسنه في تدبيره الملك ممَّا وقع لابنه عبد العزيز معه؛ فإن مروان لما ولي الخلافة جاء إلى مصر فأقام بها شهرين، ثم جعل ولايتها إلى ابنه عبد العزيز؛ جعل إليه صلاتها وخراجها فقال عبد العزيز:٤٥ يا أمير المؤمنين كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ فقال مروان: يا بُنَيَّ، عُمَّهُمْ بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقًا تصفُ لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره، يكن عينًا لك على غيره٤٦ وينقاد قومه إليك، وقد جعلت معك أخاك بشرًا مؤنسًا، وجعلت لك موسى بن نصير وزيرًا ومشيرًا، وما عليك يا بني أن تكون أميرًا بأقصى الأرض، أليس ذلك أحسن من إغلاق بابك وخمولك في بيتك.

هكذا دبر مروان ابنه ليخرِّجه في الإدارة ويعلمه حكم الناس، جعل له موسى بن نصير وزيرًا، وهو ما هو بعلمه وعقله وحسن سياسته، وفارق موسى أميره عبد العزيز بعد حين ذاهبًا إلى إفريقية والمغرب، فقضى على البربر والرومان، ثم فتح الأندلس. أما بشر بن مروان مؤنس أخيه يوم تولى مصر، فقد تقلَّد البصرة والكوفة فكان الناس يدخلون عليه من غير استئذان، ليس على بابه حجاب ولا ستر، ولابن عبدل في بشر بن مروان:

ولو شاء بِشْرٌ كان من دون بابه
طماطمُ سودٌ أو صقالبة حمر
ولكنَّ بشرًا أسهل الباب للتي
يكون لبِشْرٍ عندها الحمد والأجر
بعيد مراد العين ما رد طرَفه
حذار الغواشي باب دار ولا ستر
استعمل عبد الملك بشرًا، وأمره بالشدة والغلظة على أهل المعصية٤٧ وباللين على أهل الطاعة، وخلف معه أربعة آلاف من أهل الشام منهم رَوْح بن زنباع ورجاء بن حيوة الكندي، وهما من أمثل رجال بني أمية وأعلمهم وأسوسهم. وكان من سياسة بشر أو من سياسة دولته عامة أنه إذا ضرب البعث٤٨ على أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمركزه أقامه على كرسي، ثم سمر يديه في الحائط، ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه فلا يزال يتخبط حتى يموت. وبهذه الشدة على المجنَّدين ما كانت تحدث أحدًا نفسُه بالهزيمة من الخدمة، وكان جيش أمية أطوع جيش عربي. ولا يستغربن أحد هذه الشدة فجزاء الفارِّ من الجندية في يومنا هذا القتل.
رأينا عبد العزيز بن مروان أمير مصر، وما كان من نصيحة أبيه له في سياسة الرؤساء ليسلس له قياد المرءوسين، وكيف لقَّنه أبوه أقرب الطرق إلى استمالة القلوب، وكان عند حسن ظنه به، فجاء عبد العزيز نابغة في إدارته، عمرت مصر في أيامه عمرانًا ليس مثله، ومما بنى في حلوان الدور والمساجد وغيرها أحسن٤٩ عمارة وأحكمها، وغرس نخلها وكَرْمَها، وكان له ألف جفنة٥٠ كل يوم تنصب حول داره ومائة جفنة يُطافُ بها على القبائل تحمل على العَجَل إلى قبائل مصر.
ولي عبد العزيز مصر فكان خراجها وجبايتها إليه، فلم يوجد له مال ناض٥١ يوم موته إلا سبعة آلاف دينار، وكانت ولايته على مصر عشرين سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يومًا، على حين لما مات عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وكان عاملًا على مصر ترك ثمانين مُدًّا من الذهب، وتقدم إليه أبوه أن يعفِّي آثار عمه عبد العزيز لمكانه من ولاية العهد فاستبدل بالعمال عمالًا وبالأصحاب أصحابًا؛ ذلك لأن عبد العزيز لم يرضَ أن ينزل عن ولاية العهد لابن أخيه في حياته، وعبد العزيز هو والد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي العادل.
وجرى عبد الملك بن مروان في إدارة الملك على طريقة والده وطريقة معاوية في تخريج آله وعماله في سياسة البلاد، فزادت الأمور استقرارًا، والأعمال تسلسلًا، والعمال رغبة ورهبة، والرعايا أمنًا ودعة. وكثيرًا ما كان يعمد إلى الشدة لا تأخذه رأفة بخصوم دولته. قتَل مصعب بن الزبير، وكان أحب الناس إليه، وأشدهم له إلفًا ومودة، وقال في الاعتذار عن عمله: «ولكن الملك عقيم.»٥٢ ولقد قيل له أن يأخذ بسيرة عثمان فقال: «وما خلف عثمان عمر في شيء من سيرته إلا باللين؛ فإن عثمان لان لهم حتى رُكب، ولو كان غلظ عليهم جانبه كما غلظ ابن الخطاب ما نالوا منه ما نالوا.» وقال: إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس إن ذهب اليوم رجل يسير بتلك السيرة أي باللين أُغير على الناس في بيوتهم، وقطعت السبل، وتظالم الناس، وكانت الفتن، فلا بد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه، وهذا هو السر العظيم في نجاح الممالك في كل عصر وأمة. وقال عبد الملك يومًا: أنصفونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر! نسأل الله أن يعين كلًّا على كلٍّ. وسأله ابنه الوليد: يا أبت، ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.٥٣

ولَّى عبد الملك العراقين الحجاج بن يوسف الثقفي فقال: دُلُّونِي على رجل أوليه. فقيل له: أي الرجال تريد؟ قال: أريد دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف الخيانة، لا يحنق في الحق على مرة، يهون عليه سؤال الأشراف في الشفاعة. فقيل: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي. فأرسل إليه فاستعمله فقال له: لست أقبلها إلا أن تكفيني عمالك وولدك وحاشيتك. فقال الحجاج: يا غلام، نادِ من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت الذمة منه. قال الشعبي: فوالله ما رأيت قَطُّ صاحب شرطة مثله كان لا يحبس إلا في دَيْنٍ، وكان إذا أُتِيَ برجل نقب على قوم وضع منقبته في بطنه حتى تخرج من ظهره، وكان إذا أُتِيَ برجل نباش حفر له قبرًا ودفنه فيه حيًّا، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة وأظهر سلاحًا قطع يده، فربما أقام أربعين يومًا لا يُؤتَى إليه بأحد، فضم إليه الحجاج شرطة البصرة مع شرطة الكوفة.

خطب الحجاج أهل العراق: «إني رأيت آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمطيع بالعاصي، حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: انجُ سعد فقد هلك سُعَيْد. أو تستقيم لي قناتكم.» ولما اتصل بعبد الملك إسراف الحجاج في٥٤ القتل وأنه أعطى أصحابه الأموال كتب إليه: «أما بعد، فقد بلغني سرفك في الدماء وتبذيرك الأموال، وهذا ما لا أحتمله لأحدٍ من الناس، وقد حكمت عليك في القتل بالقود، وفي الخطأ بالدية، وأن ترد الأموال إلى أصحابها؛ فإنما المال مال الله ونحن خُزَّانُه، وقد متعنا بحق فأعطينا باطلًا.» كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في أخذ الفضل من أموال السواد فمنعه من ذلك، وكتب إليه: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبق لهم لحومًا يعقدون بها شحومًا.»
وكان الحجاج يأخذ بأيدي العلماء ممن لا يتدخلون في سياسته ولا يشاركونه في سلطانه، ويضع في كل يوم٥٥ ألف خوان في رمضان وفي سائر الأيام خمسمائة خوان، على كل خوان عشرة أنفس وعشرة ألوان وسمكة مشوية طرية وأرزة بسكر، وكان يُحمل في محفة ويدار به على موائده ويتفقدها، فإذا رأى أرزة ليس عليها سكر وسعى الخباز ليجيءَ بسكرها فأبطأ حتى أُكِلَتِ الأرزة بلا سكر أمر بضربه مائتي سوط، فكانوا بعد ذلك لا يمشون إلا متأبطي خرائط السكر. وكان يوسف بن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يضع خمسمائة خوان، فكان طعام الحجاج لأهل الشام خاصة، وطعام يوسف بن عمر لمن حضره، فكان عند الناس أحمد.
واشتهر عهد الحجاج٥٦ بإصلاح الموازين والخراج والزراعة فهو رجل الدولة بإصلاحاته، ولم يكن مُصْلِحًا فحسب بل كان مصلحًا وموجِدًا، ومن إيجاده وضع الحركات والإعجام في المصاحف لئلا يلتبس شيء من الآيات على من لا يَعْلم القرآن. واتخذ٥٧ الحجاج دار الضرب وجمع فيها الطباعين فكان يضرب المال للسلطان مما يجتمع له من التبر وخلاصة الزيوف والستوقة والبهرجة، ثم أذن للتجار وغيرهم في أن تضرب لهم الأوراق، واستغلها من فضول ما كان يؤخذ من فضول الأجرة للصناع والطباعين وختم أيدي الطباعين.
حرَّض عبد الملك ابنه على المشاورة في قضاء الأمور لما وسد إليه إمارة مصر قائلًا له: «انظر أي بني إلى أهل عملك، فإن كان لهم عندك حق غدوة فلا تؤخره إلى عشية، وإن كان لك عشية فلا تؤخره إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلها؛ تستوجب بذلك الطاعة منهم، وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب؛ فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في الحق، واستشر جلساءك وأهل العلم فإن لم يستبِنْ لك فاكتب إليَّ يأتك رأيي فيه إن شاء الله، وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سَوْرَة٥٨ الغضب، واحبس عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون، وأنت ساكن الغضب مُطفَأ الجمرة، فإن أول من جعل السجن كان حليمًا ذا أناة، ثم انظر إلى أهل الحسب والدين والمروءة فيكونوا أصحابك وجلساءك، ثم ارفع منازلهم منك على غيرهم، على غير استرسال ولا انقباض، أقول هذا وأستخلف الله عليك.» وهذا من أجمل أساليب الإدارة وسياسة الناس: لا تأخير في الفصل بينهم، ولا كذب في الوعود والمواعيد، واستشارة العارفين والعالمين، وجعلهم وحدهم بطانة وسُمَّارًا وجلساء، ولا إسراع في إنزال العقوبات حتى يذهب الغضب.

وبلغ عبد الملك أن بعض كُتَّابِهِ قبل هدية فقال له: واللهِ إن كنت قبلت هدية لا تنوي مكافأة المُهدي لها إنك لئيم دنيء، وإن كنت قبلتها تستكفي رجلًا لم تكن تستكفيه لولاها إنك خائن، وإن كنت نويت تعويض المُهدِي عن هديته وأن لا تخون له أمانة ولا تثلم له دينًا فلقد قبلتَ ما بسط عليك لسان معامليك، وأطمع فيك سائر مجاوريك، وسلبك هيبة سلطانك. ثم صرفه عن عمله؛ ذلك لأن غاية الخليفة ترتيب قواعد الدولة على أصول نقية من الشوائب، والرشوة من طريق الهدايا تذهب بها حقوق أحد المتنازعين أو حقوقهما معًا. وكان عبد الملك بن رفاعة أمير مصر (٩٦) يقول: إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الطاق.

وأدخل عبد الملك أمورًا جديدة في الإدارة، وهو أول من أفرد للظلامات يومًا يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة للنظر، وكان إذا قعد للقضاء أُقِيمَ على رأسه بالسيوف، وينشد قول سعيد بن عريض بن عادياء من يهود الحجاز:

إنا إذا مالت دواعي الهوى
وأنصت الساكت للقائل
واصطرع الناس بألبابهم
نقضي بحكم عادل فاضل
لا نجعل الباطل حقًّا ولا
نلط٥٩ دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا
فنخمل الدهرَ مع الخامل
وزاد عبد الملك الجزية، وأقل الجزية دينار وأكثرها مفوَّض إلى الاجتهاد، استقل ما يؤخذ منها بالجزيرة — وكانت دينارًا على كل جمجمة ومُدَّيْنِ قمحًا، وقسطين زيتًا وقسطين خلًّا، وضعها عليهم عياض بن غنم في الفتح — فأحصى عبد الملك الجماجم، وجعل الناس كلهم عُمَّالًا بأيديهم، وحسب ما يكسبه العامل سنته كلها، ثم طرح من ذلك نفقته في طعامه وأدُمه٦٠ وكسوته وحذائه، وطرح أيام الأعياد في السنة كلها فوجد الذي يحصل بعد ذلك لكل واحد أربعة دنانير، فألزمهم ذلك جميعًا، وجعلها طبقة واحدة، ثم حمل الأموال على قدر قربها وبعدها،٦١ وهذا خلا نوائب الرعية، وهو ما يضربه عليهم الإمام من الحوائج كإصلاح القناطر والطرق وغير ذلك مما فيه عمارة بلادهم.
وفي أيامه نُقِلَتْ دواوين مصر والشام والعراق من القبطية والرومية والفارسية إلى العربية فكان ذلك من أهم الأسس التي أقيمت في بناء القومية العربية في الممالك الإسلامية كافة، وقطع به آخر مظهر من مظاهر الأعاجم، فأصبحت البلاد عربية بأوضاعها سائرة إلى التعرُّب بسكانها. وكان كاتب الرسائل سليمان بن سعد الخشني من أهل الأردن أول مسلم وَلِيَ الدواوين كلها، وكان يتولاها القبط والروم والعجم، وكان بالبصرة والكوفة٦٢ ديوانان لإعطاء الجند والمقاتِلة والذرية بكتاب العربية، وديوانان بالفارسية، وبالشام ديوان بالعربية لمثل ذلك، وديوان بالرومية، فحول ديوان العراق إلى العربية أبو الوليد صالح بن عبد الرحمن البصري، قدَّمه لذلك الحجاج فكان كتاب العراقين كلهم غلمانه وتلاميذه٦٣ ونقل ديوان مصر من القبطية إلى العربية عبد الله بن عبد الملك بن مروان أمير مصر في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة سبع وثمانين ونسخها بالعربية، وجعل على الديوان ابن يربوع الفزاري من أهل حمص، وتأخرت بعض البلاد في هذا التغيير من رسم الإدارة؛ فإن أول من كتب بالعربية في ديوان أصبهان سعد بن إياس كاتب عاصم بن يونس عامل أبي مسلم صاحب الدعوة، وهو أول من أخذ الناس بتعلم القرآن من أهل أصبهان، يقال إنه استقرأ المسلمين بها فلم يجد إلا ثمانين رجلًا لم يكن فيهم من يحفظ القرآن إلا ثلاثة، فلم يَحُلِ الحول حتى تعلم الناس القرآن وحفظوه.
وعبد الملك أول من كتب على الدينار «قل هو الله أحد» وذكر النبي في الطوامير،٦٤ وكانت الدنانير رومية تدخل من بلاد الروم، والدراهم كسروية وحميرية٦٥ قليلة، فهو أول من ضرب الدراهم المنقوشة، وكان على خاتمه قبيصة بن ذؤيب والبريد إليه، يقرأ الكتب إذا وردت ثم يُدخلها على عبد الملك فيخبره بما فيها.٦٦ ومن أهم أعمال الدولة: وظيفة صاحب الشرطة، ومن أعماله: أن يحجب الناس، ويحافظ على الخليفة، وكان الأمويون لا يأذن خلفاؤهم بالدخول عليهم إلا بالترتيب الذي عَيَّنُوه. والولاة ينزلون في المعسكر تحيط بهم الجند؛ لتسهل المحافظة عليهم فلا يغتالهم مغتال، وقد يتنقلون في عمالاتهم، فزياد يقيم بالكوفة ستة أشهر وفي البصرة مثلها،٦٧ وهو أول من سِيرَ بين يديه بالحراب والعُمُد، واتخذ الحراس خمسمائة لا يفارقون مكانه. وكانت تقرأ عهود القضاة الذين نُصِّبُوا حديثًا في المسجد الجامع أولًا، ثم يقصدون دار الأمير فيقرأ أمامه عهد القاضي، والقضاة يقضون في الجوامع، وكان الجامع في الإسلام هو المجمع والمجلس والمحكمة وديوان المال والمدرسة وكل ما له علاقة بالسلطان والسكان.
أما الولاة فيدبرون ولاياتهم في المعسكرات، والمعسكرات بعيدة عن دور الحكومة القديمة، و«ليس٦٨ من مدينة عظيمة إلا وبها دار ينزلها غزاة تلك البلدة، ويرابطون بها إذا وردوها، وتكثُر لديهم الصلات، وترد عليهم الأموال والصدقات العظيمة.» وإذا رحل الجيش واضطر إلى النزول في القرى لشدة البرد في الشتاء يؤويه أهلها ثلاثة أيام ويطعمونه مما يُطعَمون.
كان جيش عبد الملك ومن بعده من العنصر العربي، ولما توسع الأمويون في فتوحهم شمالي إفريقية وفتحوا الأندلس جنَّدوا أناسًا من البربر ومزجوهم بجند العرب. بعث عبد الملك ابنه مَسْلَمَة لغزو الروم فقدم الناس من جميع الآفاق، وكان فيهم من العرب كندة وغسان وتميم وهمدان وربيعة وطي ولخم وجذام وقيس وجماعة بني أمية وقريش ورؤساء أهل الحجاز والجزيرة والشام ومصر. ثم عرض الناس فانتخب منهم ثلاثين ألفًا من أهل البأس والنجدة، واتخذ من الخيل والفرسان ثلاثين ألفًا، وولَّى على رؤساء كل طائفة واحدًا منهم، ويقول البلاذري:٦٩ إن مسلمة بن عبد الملك لما غزا عمورية حمل معه نساءه، وحمل ناس ممن معه نساءهم. وكانت بنو أمية تفعل ذلك إرادة الجد في القتال للغيرة على الحرم. هكذا كان ترتيب جيوشهم في هذا الدور. وكانت أمور الحرب بيد الولاة في الولايات تقوم٧٠ بها القبائل المهاجرة إليها، أما جيش الخليفة الخاص — وهو عبارة عن أجناد الشام — فكان خاصًّا بقتال الروم، وحماية الخليفة من فتنة داخلية، وبفضل هذه القوى المخلصة للأمويين ظفروا في الحرب الأهلية سنة ٦٤.
وجرى عبد الملك على طريقة عمر ومعاوية وزياد والحجاج في أخذ نفسه بالتطلُّع إلى استعلام بواطن أمور الرعايا، وكذلك كان في التطلع إلى أخبار الروم وغيرهم ممن كانوا يَوَدُّون أبدًا أن يكيدوا للمسلمين. ثار الروم واستجاشوا على من بالشام من المسلمين في سنة سبعين، فصالحهم عبد الملك على أن يؤدي إلى ملكهم في كل جمعة ألف دينار؛ خوفًا منه على المسلمين، وطمع الروم لافتراق الكلمة وقتال الأمة على الملك٧١ لما دعا عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق إلى نفسه بالخلافة، واستولى على دمشق لما سار عبد الملك بجيوشه إلى العراق ليملكها من ابن الزبير. فعمل عبد الملك في اتقاء بأس الروم كما عمل معاوية لما شُغل بقتال علي، فصالح الروم على مال يؤديه إليهم، وليس من الحزم في دولة أن تحارب حربين داخلية وخارجية في وقت واحد. وفعل عبد الملك مثل ذلك في مداراة الروم فجدد الهدنة مع ملكهم على أن يدفع لهم كل يوم ألف دينار وفرسًا ومملوكًا، ويقاسم ملكهم على خراج قبرص وأرمينية على شرط أن يخرج اللبنانيون من جبلهم وكانوا عصوا عليه واتفقوا مع الوم، وآلى اللبنانيون بعد ذلك أن لا يتعرضوا للعرب، فلقب اللبنانيون بالمَرَدة؛ لأنهم عصوا أمر ملك الروم. وما كان عبد الملك إلا محافظًا على اعتداله لا يدهش لما يحل به من المُفظِعات٧٢ يحل مسائل الدولة برويَّة وتعقُّل وصبر.
ويُعَدُّ عبد الملك في العلماء كما يُعَدُّ من أكبر الساسة. قال الجاحظ: كان عبد الملك بن مروان سنان قريش وسيفها رأيًا وحزمًا، وعابدها قبل أن يستخلف ورعًا وزهدًا، وهو أول من لقب من الخلفاء بلقب الموفق لأمر الله ثم لقب الوليد المنتقم٧٣ لأمر الله، ولم يشتهرا بهذين اللقبين كثيرًا.٧٤ وأوصى عبد الملك أولاده أن يعطف الكبير منهم على الصغير، وأن يعرف الصغير حق الكبير، وحذَّرهم البغي والتحاسُد، وأوصاهم بأخيهم مسلمة وأن يصدروا عن رأيه، وأن يكرموا الحَجَّاج فإنه هو الذي وطأ لهم هذا الأمر. أوصى به ولطالما تبرم من أعماله في حياته. والحجاج وزياد وعتبة بن أبي سفيان وخالد القسري الذي تولى العراق زمنًا طويلًا، وقتيبة بن مسلم أمير خراسان وفاتح خوارزم وسمرقند وبخارى الذي دخل إلى ملك الصين وضرب عليه الجزية … وأمثالهم، كانوا في بني أمية «قطب الملك الذي عليه مدار السياسة، ومعادن التدبير وينابيع البلاغة وجوامع البيان، هم راضوا الصعاب حتى لانت مقاودها، وخزموا الأنوف حتى سكنت شواردها، ومارسوا الأمور، وجربوا الدهور، فاحتملوا أعباءها، واستفتحوا مغالقها حتى استقرَّت قواعد الملك، وانتظمت قلائد الحكم، ونفذت عزائم السلطان.»٧٥

إدارة الوليد وسليمان

وتولى الوليد بن عبد الملك الخلافة فسار على سيرة أبيه، وراعى إخوته، وحث أولاده على اصطناع المعروف، وكان غرامه بعمران البلاد وإقامة المصانع والجوامع واعتقاد٧٦ الضياع؛ فقلده رعاياه في ذلك، فكان الناس في أيامه يخوضون في رصف الأبنية، ويحرصون على التشييد والتأسيس، ويولعون بالضياع والعمارات٧٧ لوفرة الثروة في أيدي الناس. وقد كتب أحد عمال الوليد بن عبد الملك أن بيوت الأموال قد ضاقت من مال الخمس فكتب إليهم أن يبنوا المساجد. وأجرى الوليد على القراء وقُوَّام المساجد الأرزاق، وكذلك على العميان وأصحاب العاهات والمجذَّمين، وأخدم كل واحد منهم خادمًا، وكان يهب أكياس الدراهم تُفَرَّقُ في الصالحين، وأخرج لعيالات الناس الطِّيب والكسوة، وزاد الناس جميعًا في العطاء عشرة عشرة، وذلك للشاميين خاصة، وزاد أهل بيته في جوائزهم الضعف. وفي مئات الألوف من الدنانير التي أنفقها على إقامة الجوامع والمصانع، وما كان في خزائنه من الأموال التي تكفي الدولة خمس عشرة سنة مقنع لمن أراد أن يتصور الأموال التي احتجنها هو ومن قبله من الخلفاء استعدادًا للطوارئ.
ودخلت الدولة في حالة استقرار ونظام في الإدارة، وانتهى٧٨ تعريب المملكة والإدارة، وأُخذت الوظائف الكبرى من النصارى، ونُحي آل سرجون الدمشقيون عن إدارة الأموال، وبلغت الفتوحات أقصى حدودها. وظهرت أبهة الملك والسلطان، ومالت الدولة إلى إقامة الأعمال العظيمة على الدهر؛ تخليدًا للذكر وإشادة بالفخر، والوليد هو الذي جوَّد القراطيس وجلَّل٧٩ الخطوط وفخَّم المكاتبات وتبعه من بعده من الخلفاء إلا عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد؛ فإنهما جريا في المكاتبات على طريقة السلف. ثم جرى الأمر بعدهما على ما سَنَّهُ الوليد بن عبد الملك إلى أن صار الأمر إلى مروان بن محمد فعمدوا إلى الإطناب. وكان الوليد موفَّقًا في فتوحه في الشرق والغرب بفضل قُوَّاده وولاته ممن كان يعرف لهم أقدارهم، وما كانت فتوحه تشغله عن النظر في عمران البلاد. ومن خلق الوليد أنه كان سمحًا يَسُرُّهُ أن يرى لعماله شيئًا من الرفاهية. كتب إليه الحجاج أنه أصيب لمحمد بن يوسف خمسون ومائة ألف دينار فإن يكن أصابها من حِلِّها فرحمه الله، وإن تكن من خيانة فلا رحمه الله. فكتب إليه الوليد أن محمد بن يوسف أصاب ذلك المال من تجارة أحللناها له، وأمره أن يترحَّم عليه.
وتوسع الأمويون في هذه الحقبة في إفاضة الأموال على عمالهم، وكان القاضي بمصر مثلًا يُرزَق ألف دينار في السنة. كان ابن حجيرة الأكبر في مصر (٦٩–٨٣) على القضاء والقصص٨٠ وبيت المال، فكان رزقه من القضاء مائتي دينار، وفي القصص مائتي دينار، ورزقه في بيت المال مائتي دينار وعطاؤه مائتي دينار وجائزته مائتي دينار. على أن العادة الجارية عندهم أن لا يُعطى العامل سوى رزق واحد. ولم يكن أحد من بني مروان يأخذ العطاء إلا عليه الغزو، فمنهم من يغزو ومنهم من يخرج بدلًا. وكانوا يصيرون أنفسهم في أعوان الديوان في بعض ما يجوز لهم المقام به، ويوضع به الغزو عنهم. أما الحجاج فكان يشتد في تجنيد الناس لأنه يقِظ حذِر دائمًا، فكان لا يدع قرشيًّا ولا رجلًا من بيوتات العرب إلا أخرجه «وضرب٨١ البعث على المحتلمين ومن أنبت من الصبيان، فكانت المرأة تجيء إلى ابنها وقد جرَّد فتضمه إليها وتقول له: بأبي! جزعًا عليه. فسمي ذلك الجيش: جيش بأبي.» وكان تجريد الشبان من ثيابهم للاطِّلاع على عيوب أجسامهم فيُنبَذ السقيم ويُجَنَّد السليم. وخطب الحجاج لما جاء واليًا على العراق، وقد بعث بشر بن مروان المهلَّبَ إلى الحرورية، ومما قال: «وإياي وهذه الزرافات والجماعات وقال وقيل وما يقولون وفيم أنتم، واللهِ لتستقيمُنَّ على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل شغلًا في جسده، ومن وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكتُ دمه، وانتهبت ماله، وهدمت منزله.» فشمر الناس بالخروج إلى المهلب، ولا يمنع بعث البعوث عند الشدائد من وجود جيوش عند الخليفة وعماله في الأقطار تشبه الجيش الدائم تحت السلاح يتيسر حشدُه عند الحاجة بقليل من العناية.
وكأن سياسة الدولة في هذا العهد كانت صورة من سياسة الحجاج؛ فقد كتب إليه الوليد يأمره أن يكتب إليه بسيرته فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، وأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلَّدت الخراج الموفر لأمانته، وقسمت لكل خَصم من نفسي قسمًا أعطيته حظًّا من لطيف عنايتي ونظري، وصرفت السيف إلى النَّطف٨٢ المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحَظِّهِ من الثواب. ا.ﻫ.
ولما أفضى الأمر إلى سليمان بن عبد الملك أَقَرَّ عمال من كانوا قبله على أعمالهم، وجلس في صحن المسجد وقد بُسطت لديه البسط والنمارق٨٣ عليها، وصُفَّتِ الكراسي، وأذن للناس بالجلوس، وإلى جانبه الأموال والكساوي وآنية الذهب والفضة، فيدخل وفد الجند ويتقدم صاحبهم فيتكلم عنهم وعمَّن قدموا من عنده، فيأمر سليمان بما يصلحهم ويرضيهم، فما يطلب أحد شيئًا إلا نوَّله مرامه، ورد المظالم، وعزل عمال الحجاج، وأخرج من كان في سجنه في العراق، وأعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة وكساهم.

إدارة عمر بن عبد العزيز

عمل الخلفاء السبعة الأُوَلُ من الأمويين في إدارة الملك الإسلامي بما أوحاه إليه عقلهم وعملهم، فكان الصحابة منهم والتابعون على مثال خالفوا فيه مرغمين بعض طريقة الراشدين؛ لأن علمهم بالناس زاد بما فتح الله عليهم من البلاد، ولأنه نشأت أحداث جديدة، ودخلت في الإسلام عناصر أخرى. وكان عهد الأمويين صورة من دولة عادلة تتساهل في الأخذ بما لا يضر من الأوضاع، وتقتبس ما تضطرها إليه طبيعة البلاد المفتتحة. وأكثر ما اهتموا له توفير الجباية مع النظر إلى عمران البلاد والدفاع عن الحوزة، والحساب للمستقبل بادِّخَار فضل الأموال، والظهور بمظهر دنيوي لا يعبث بأصل من أصول الدين.

كان أكثر خلفاء الأمويين يقيلون العامل إذا حدث في جهته خرق لا يستطيع رتقه، أو فتنة تهرق فيها الدماء، وتكلف الدول مالًا، وجعلوا همهم في مقاتلة الخوارج والشيعة في الداخل، وغزو الروم والتوسُّع في الفتح من الشرق والغرب في الخارج، وكثيرًا ما كانت بعض الأنحاء تثور على الدولة، إما لسبب تفاحُش الخراج، أو لأسباب أخرى كما كان من قبط مصر فخرجوا غير مرة على الأمويين وعلى من خلفوهم، وكانوا يرجعون مخذولين، وربما كان من بعض عمالهم من اشتط في تقاضي الخراج والجزية والصدقات، والظلم ما خلا عصر منه، وخصوصًا في دولة ليست مشاكلها متشاكلة، ولا أجيال الناس في أصقاعها متوحدة متماثلة، وغاية ما يقال في الإدارة المتبعة أبدًا توسيع سلطة العامل، حتى يسرع في فض مصالح الناس، ذلك لأن العرب ألِفُوا التقاضي على عجل، وما عرفوا التطويل في الخصومات والمراجعات. وهذا ما كان ظاهرًا كل الظهور في عهد الخوالف من بني أمية، ولا سيما في خلافة عمر بن عبد العزيز واسطة عقد الأمويين، والمثل الأعلى للعدل الإسلامي.

كان عمر قبل أن يُقَلَّدَ الخلافة عهد إليه الوليد بن عبد الملك بإمارة الحجاز «مكة والمدينة والطائف» فأبطأ عن الخروج فقال الوليد لحاجبه: وما بال عمر لا يخرج إلى عمله! قال: زعم أن له إليك ثلاث حوائج قال: فعجله عليَّ. فجاء به الوليد، فقال له عمر: إنك استعملت من كان قبلي فأنا أحب أن لا تأخذني بعمل أهل العدوان والظلم والجور. فقال له الوليد: اعمل بالحق وإن لم ترفع إلينا درهمًا واحدًا.٨٤ فلعمر إذًا طريقته في الإدارة اشترط قبل أن يتولى الإمارة أن تترك له حرية العمل، وكان يشعر قبل الخلافة بأن في إدارة الدولة شيئًا من الظلم. فقال يومًا لأسامة بن زيد — وقد بعثه سليمان بن عبد الملك على ديوان جند مصر، وحَثَّه على توفير الخراج: ويحك يا أسامة! إنك تأتي قومًا قد ألح عليهم البلاءُ منذ دهر طويل، فإن قدرت أن تنعشهم فأنعشهم.
ولما بويع عمر شرع لأول أمره بصرف عمال من كان قبله من بني أمية، واستعمل أصلح من قدر عليه فسلك عماله طريقته،٨٥ وأخذ يرد المظالم مظلمة مظلمة لا يدع شيئًا ممَّا كان في أيدي أهل بيته إلا رَدَّه. وكتب إلى جميع عماله: إن الناس قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنن سيئة سنتها عليهم علماء السوء، قَلَّمَا قصدوا الحق والرفق والإحسان. وكان أول خطبة خطبها: أيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه.
وبدأ بنفسه فنزل عن أملاكه التي انتقلت إليه من أبيه بالإرث الشرعي، ورد على رجل قدم عليه من حُلوان ادَّعَى أن والده عبد العزيز لما كان واليًا على مصر أقطعه عبد الملك بن مروان أرض حلوان فورثها عمر وإخوته. فقال عمر: إن لي فيها شركاء إخوة وأخوات لا يرضون أن أقضي فيها بغير قضاءِ قاضٍ. وقام معه إلى القاضي فقعد بين يديه، فتكلم عمر بحجته وتكلم المدعي فقضى القاضي له، فقال عمر: إن عبد العزيز قد أنفق عليها ألف ألف درهم. قال القاضي: قد أكلتم من غَلَّتِها بقدر ذلك. فثلجت نفس عمر بحكم القاضي، وقال: وهل القضاء إلا هذا؟ تالله لو قضيت لي ما وليت لي عملًا. وخرج إلى الرجل من٨٦ حقه، وأراد أهله على أن يتخلوا عن أملاكهم فقطع بالمقراض كتب الإقطاعات بالضياع والنواحي. قالوا: ولما أقبل عمر على رد المظالم، وقطع عن بني أمية جوائزهم وأرزاق حراسهم، ورد ضياعهم إلى الخراج، وأبطل قطائعهم ضجوا من ذلك على رءوس الملأ في المسجد. وكانت انتهت لهم هذه الإقطاعات من الخلفاء السالفين. ذكروا أنه كانت غلة عمر لما بويع بالخلافة بين أربعين وخمسين ألف دينار، وما زال يردها حتى كانت يوم وفاته مائتي دينار، ولو بقي لردها كلها فأفقر نفسه حتى يقوى على بعض آله، فيسترد منهم ما أخذوا من عقار ومزارع. وخلَّف من الناض بضعة دنانير، ولم يرتزق من بيت مال المسلمين شيئًا ولم يرزأه٨٧ حتى مات. وأدَّاه اجتهاده إلى أن في صيغة امتلاك آل بيته الضياع والرباع نظرًا، وأن ما ورثه وورثوه بالطرق المشروعة يقضي العدل المطلق برده على من أُخِذَ منه. واعتقاد الضياع واستثمار الأموال من شأنه الرعايا لا الرعاة، فكان نظره أعلى، وطريقته أمثل وأعدل.

وكان الرسول أقطع بلال بن الحرث المُزني أرضًا فيها جبل ومعدن فباع بنو بلال عمر بن عبد العزيز أرضًا منها فظهر فيها معدن أو قال معدنان، فقالوا: إنما بعناك أرض حرث ولم نبعك المعادن، وجاءوا بكتاب النبي لهم في جريدة فقبَّلها عمر ومسح بها عينه، وقال لِقَيِّمِهِ: انظر ما خرج منها وما أنفقت، وقاصهم بالنفقة، ورد عليهم الفضل.

وأبطل عمر بن عبد العزيز هدايا النيروز والمهرجان٨٨ وكانت تحمل إلى معاوية ومن بعده وقدرها عشرة آلاف ألف، وهي من العادات الفارسية، وأقرها معاوية وأنكرها عليٌّ. وقضى عمر بأن يُكتفَى بالخراج وزن سبعة «ليس لها آيين٨٩ ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج،٩٠ ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ورفع الخراج عمَّن أسلم من أهل الأرض.» وأبطل جوائز الرسل وأجور الجهابذة وهم القساطرة وأرزاق العمال وأنزالهم، وأبطل السخرة والعطاء وورث العيالات على ما جرت به السُّنَّة، وأقر القطائع٩١ التي أقطعها أهل بيته، ولم ينقص العطاء في الشرف ولم يزد فيه، وزاد أهل الشام في أعطياتهم عشرة دنانير ثم رأى الرجوع عنها. وورد كتابه على عامله في مصر بالزيادة في أعطيات الناس عامة، وكُسِرَتْ دنان الخمر وعُطِّلَتْ حاناتها، وقسم للفلاحين بخمسة وعشرين ألف دينار، ونزعت مواريث القبط عن الكور واستعمل المسلمون عليها.
ووضع المكس٩٢ عن كل أرض واكتفى بالعُشر، والعشر ما يجب في الزروع التي سُقِيَتْ بماء السماء وما يُؤخذ من أموال أهل الحرب إلى بلد الإسلام المتاخم لهم، وإذا استقر الصلح معهم على أخذ العُشر أو الخمس أو أكثر منه أو أقل منه أثبت ذلك الشرط في الديوان. ووضع الجزية عن كل مسلم، وأباح الجزائر والأحماء كلها إلا النقيع،٩٣ وقال في الجزائر: هو شيءٌ أنبته الله فليس أحد أحق به من أحد، وفرض للناس إلا للتاجر؛ لأن التاجر مشغول بتجارته عمَّا يصلح المسلمين، وسوَّى بين الناس في طعام الجار، وكان أكثر ما يكون طعام الجار أربعة أرادب ونصف أردب لكل إنسان. وكتب إلى أحد عماله أن يستبرئَ الدواوين٩٤ وينظر إلى كل جور جاره من قبله من حق مسلم أو معاهد فيرده عليه فإن كان أهل تلك المظلمة قد ماتوا يدفعه إلى ورثتهم. وقضى على عماله بإبطال المائدة والنوبة،٩٥ ومن أدى زكاة ماله قبِل منه، ومن لم يؤدِّ فالله حسيبه. ورد الخمس على أهله وعلى أهل الحاجة، وقضى أن لا يؤخذ من المعادن الخُمس بل تؤخذ الصدقة، وضرب أحدَهم سبعين سوطًا لأنه سخر دواب النبط.

وجرت عادة الخلفاء إذا جاءتهم جبايات الأمصار أن يأتيهم مع كل جباية عشرة رجال من وجوه الناس وأجنادها، فلا يدخل بيت المال من الجباية دينار ولا درهم حتى يحلف الوفد ما فيها دينار ولا درهم إلا أُخِذَ بحقه، وأنه فَضْلُ أعطيات أهل البلد من المقاتلة والذرية بعد أن أخذ كل ذي حقٍّ حقه، أي فضل أعطيات الأجناد وفرائض الناس. وقضى عمر على عماله أن يُنْظِروا الأرض، ولا يحملوا خرابًا على عامر ولا عامرًا على خراب، وإن أطاق الخراب شيئًا يؤخذ منه ما أطاق ويصلح ليعمر، ولا يؤخذ من عامر لا يعتمل شيئًا، وما أجدب من العامر يؤخذ خراجه في رفق. وكانوا بفارس يخرصون الثمار على أهلها ثم يقوِّمونها بسعر دون سعر الناس الذي يبتاعون به فيأخذونه ورقًا على قيمهم التي قوموا بها، فرد عمر إلى من شَكَوْا الثمن الذي أُخِذَ منهم، وأخذوا بسعر ما باع أهل الأرض غلتهم.

كتب إلى عامله إلى البصرة: «أما بعد، فإني كنت كتبت إلى عمرو بن عبد الله أن يقسم ما وجد بعُمان من عشور التمر والحَبِّ في فقراء أهلها، ومن سقط إليها من أهل البادية، ومن أضافته إليها الحاجة والمسكنة وانقطاع السبيل، فكتب إليَّ أنه سأل عاملك قبله عن ذلك الطعام والتمر، فذكر أنه قد باعه وحمل إليك ثمنه، فاردُدْ إلى عمرو ما كان حمل إليك عاملك على عمان من ثمن التمر والحب؛ ليضعه في المواضع التي أمرته بها، ويصرفه فيها إن شاء الله، والسلام.»

وأمر عماله بالرفق بأهل الذمة، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال تُنفق عليه الدولة فإن كان له حميم ينفق عليه حميمه، كما لو كان لك عبد فكبرت سِنُّه لم يكن بد من الإنفاق عليه حتى يموت أو يُعتَق. وكتب إلى عامله على الكوفة أن قوِّ أهل الذمة فإنا لا نريدهم لسنة ولا لسنتين، وأعطى بطريقًا٩٦ ألف دينار يستألفه٩٧ على الإسلام.
خاصم حسان بن مالك٩٨ عجم أهل دمشق إلى عمر في كنيسة كان رجل من الأمراء أقطعه إياها، فقال عمر: إن كانت من الخمس العشرة الكنيسة التي في عهدهم فلا سبيل لك عليها. وخاصم عجم أهل دمشق إلى عمر في كنيسة كان فلان أقطعها لبني نصر بدمشق؛ فأخرجها عن المسلمين وردَّها إلى النصارى. وشكا نصارى دمشق أن الوليد هدم كنيسة يوحنا وأدخلها في المسجد فهمَّ أن يعيدها إليهم لولا أن المسلمين أقبلوا على النصارى فسألوهم أن يُعطوا جميع كنائس الغوطة على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا ويُمسكوا عن المطالبة بها، فرضوا بذلك وأعجبهم فكتب به إلى عمر فسرَّه وأمضاه.
وعمر أول من ندب نفسه للنظر في المظالم في الدولة الأموية فردَّها؛ وذلك لانتشار الأمر حتى تجاهر الناس بالظلم والتغالُب، فاحتاجوا في ردع المتغلبين وإنصاف المغلوبين إلى نظر المظالم الذي تمتزج به قوة السلطة بنصفة القضاء. وما شرهت قَطُّ نفسُ عمر إلى أخذ أموال الناس، بل ما كان يحب أن يأخذ منهم أكثر من الفضل، ويسامح بكثير من هذا الفضل. كتب إليه عامله على العراق أن أناسًا قبله قد اقتطعوا من مال الله مالًا عظيمًا ليس يقدر على استخراجه من أيديهم إلا أن يمسهم شيء من العذاب. فكتب إليه عمر: «أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني لك جُنَّةٌ٩٩ من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله، فانظر فيما قامت عليه البينة فخُذْه بما قامت عليه، ومن أقر لك بشيء فخُذْه بما أَقَرَّ به، ومن أنكر فاستحلفه بالله وخَلِّ سبيله، فوالله لأن يَلْقَوُا الله بخياناتهم أحب إليَّ من ألقى بدمائهم.» وكتب إليه عامله على مصر حيان بن شريح: «إن أهل الذمة قد أسرعوا في الإسلام، وكسروا الجزية حتى استلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينار لأُتِمَّ بها عطاء أهل الديوان.» وطلب إليه أن يأمر بتوقيف الذميين عن انتحال الإسلام، فأجابه عمر: «قد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطًا، فضَعِ الجزية عمَّن أسلم، قبح الله رأيك؛ فإن الله إنما بعث محمدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا.» وكتب إليه عامله على العراق عديُّ بن أرطاة: «إن الناس قد كثروا في الإسلام حتى خِفْتُ أن يَقِلَّ الخراج.» فكتب إليه: «واللهِ لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا.» وقال في إحدى خطبه: «وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم.» ثم قال: «ما لي وللدنيا أم ما لي ولها.»

ولم يُشهد مثل تحري عمر في اختيار العمال، وتعليمهم إحسان العمل، وكان يرى كل مظلمة تقع في أقصى البلاد إذا لم يَرُدَّهَا ويكشف ظلامة صاحبها، كأنه هو فاعلها أو على الأقل المسئول عنها، وإذا شُكي إليه عامل وتحقَّق ظلمه جاء به مقيدًا ولا يُخْليه من ضرب يوجعه به. وكان لا يفتأ يبحث عن سيرة عماله ورضا الناس عنهم، وإذا عزلهم لا يستعين بهم بعدها أبدًا. كتب إلى أحد عماله: «أما بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله عليك وفناء ما تؤتي إليهم وبقاء ما يأتون إليك.» وكتب إلى عامله على العراق: «إن العُرَفَاء من عشائرهم بمكان، فانظر عرفاء الجند فمن رضِيتَ أمانته لنا ولقومه فأثبته، ومن لم ترضَه فاستبدل به من هو خير منه، وأبلغ في الأمانة والورع.» وما كان يضنُّ على عماله بالمشاهرات الحسنة، وقد قيل له: ترزق الرجل من عمالك مائة دينار ومائتي دينار في الشهر وأكثر من ذلك، قال: أراه لهم يسيرًا إن عملوا بكتاب الله وسُنَّة نبيه، وأحب أن أفرغ قلوبهم من الهم بمعايشهم. وقال: ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم من الدنيا شيئًا.

وأخذ عمر نفسه بالسير في إصلاحه بالتدريج، ناظرًا قبل كل اعتبار إلى الدين لا يحيد عن صراطه قِيد أُنْمُلَةٍ، ولو كان في ذلك بعض الضرر على بيت المال أو إدخال بعض الوهن على ما اصطلحوا عليه من قبله؛ إرادة إلقاء الهيبة في النفوس. قال لابنه: ما ممَّا أنا فيه أمر هو أهم إليَّ من أهل بيتك، هم أهل العُدَّة والعدد وقِبلَهم ما قبلهم، فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشاره عليَّ، ولكني أنصف من الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجع له، فإن يرد الله إتمام هذا الأمر أتمه، وإن تكن الأخرى فحسب عبد الله أن يعلم الله أنه يحب أن ينصف جميع رعيته. وكتب إلى عامله على خراج خراسان: «إن للسلطان أركانًا لا يثبت إلا بها؛ فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع أنا، وليس من ثغور المسلمين ثغر أهم إليَّ ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرزه في غير ظلم، فإن يكُ كفافًا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإلا فاكتب إليَّ حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم.» ولما وجد خراج تلك البلاد يفضل عن أعطيات جندها وأهلها قسم عمر الفضل في أهل الحاجة.

وكتب إلى أمصار١٠٠ الشام أن يرفعوا إليه كل أعمى في الديوان أو مُقعَد أو من به فالج، أو من به زمانة تَحُول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فأمر لكل أعمى بقائد، ولكل اثنين من الزَّمنى بخادم. وأمر أن يرفعوا إليه كل يتيم ومن لا أحد له ممَّن قد جرى على والده الديوان، فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعونه بينهم بالسوية، وفرض للعوانس الفقيرات، وكان لا يفرض للمولود حتى يُفطم، فنادى مناديه لا تُعجلوا أولادكم عن الفطام؛ فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام.
واتخذ دار الطعام للمساكين والفقراء وابن السبيل، وأوصى أن لا يُصيب أحد من هذه الدار شيئًا من طعامها؛ لأنه خاص بمن طُبِخَ لهم. وقسم في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار، وكان الناس في عهده يعرضون على ديوانهم لتناول عطائهم، فمن كان غائبًا قريب الغيبة يعطى أهل ديوانه، ومن كان منقطع الغيبة يعزل عطاؤه إلى أن يقدم أو يأتي نَعِيُّه أو يوكل عنه الوالي بوكالة بينة على حياته ليدفعه إلى وكيله. ونظر في السجون وأمر أن يستوثق من أهل الدعارات١٠١ ويكتب لهم برزق الصيف والشتاء، ويعاهد مريضهم ممن لا أهل له ولا مال، ولا يجمع في السجون بين قوم حُبِسوا في دَيْن وبين أهل الدعارات في بيت واحد ولا حبس واحد، وجعل للنساء حبسًا على حِدَة، وعهد بالحبوس إلى من يوقن بأمانتهم ومن لا يرتشي «فإن من ارتشى صنع ما أمر به.» وأنشأ الخانات في بلاده يَقرى من مر بها من المسلمين يومًا وليلة ويتعهد دوابهم، ويُقرون من كانت به علة يومين وليلتين، فإن كان منقطعًا به يقوَّى بما يصل به إلى بلاده، وأمر أن لا يُخرَجَنَّ لأحد من العمال رزق في العامة والخاصة؛ فإنه ليس لأحد أن يأخذ رزقًا من مكانين في الخاصة والعامة. وأطلق الجسور والمعابر للسابلة يسيرون عليها بدون جُعل؛ لأن عمال السوء تعدَّوْا غير ما أُمِرُوا به، وجعل لكل مدينة رجلًا يأخذ الزكاة.
ولى عاملًا له على المَوْصل فلما قدمها وجدها من أكثر البلاد سرقًا١٠٢ ونقبًا، فكتب إلى عمر يُعلمه حال البلد ويسأله أخذ الناس بالظنة، وضربهم على التهمة أو يأخذهم بالبينة. فكتب أن «خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السُّنَّة فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله.» وكتب إليه أحد عماله يذكر شدة الحكم والجباية، فأجابه أنه لم يكلفه ما يُعْنِتُه، وأن يجبى الطيب من الحق ويقضي بما استنار له من الحق، فإذا التبس عليه أمر يرفعه إليه، قائلًا: «فلو أن الناس إذا ثقل عليهم أمر تركوه ما قام دين ولا دنيا.» وكتب إلى أحد عماله: «إن العمل والعلم قريبان فكن عالمًا بالله عاملًا له؛ فإن أقوامًا علموا ولم يعملوا فكان عملهم عليهم وبالًا.» وكتب أيضًا: «أما بعد، فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين.» وكتب إلى عامل أن «دع لأهل الخراج من أهل الفرات ما يتختمون١٠٣ به الذهب والفضة، ويلبسون الطيالسة ويركبون البراذين، وخذ الفضل.» وكتب إلى عامله: «أما بعد، فالزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق، يوم لا يُقضَى بين الناس إلا بالحق وهم لا يظلمون.»

وكتب إلى أمير مكة أن لا يدع أهل مكة يأخذون على بيوت مكة أجرًا فإنه لا يحل لهم لقوله تعالى: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ (أي في البيت) وَالْبَادِ، والبادي من يخرج من الحجاج والمعتمرين سواء في المنازل ينزلون حيث شاءوا ولا يخرج أحد من بيته. وكتب إلى عماله على مكة والطائف أن في الخلايا صدقة فخذوها منها، والخلايا: الكوائر؛ كوائر النحل. وكتب إلى عامله على اليمن يأمره بإلغاء الوظيفة والاقتصار على العشر، وقال: والله لأنْ لا تأتيني من اليمن حفنة كتم أحب إليَّ من إقرار هذه الوظيفة. وكان ضربها محمد بن يوسف على أهل اليمن، وهي الخراج جعله وظيفة.

وما كان عمر مذ كان واليًا على المدينة يقطع أمرًا بدون استشارة، وكان دعا إليه عدةً من الفقهاء، وحرَّضهم على أن يبينوا له زَلَّاته إذا رأوا منه ذلك وسمعوا، فكان إذا جلس مجلس الإمارة في عهد خلافته أمر فألقى لرجلين منهما وسادة قبالته، فقال لهما: إنه مجلس شِرة وفتنة، فلا يكن لكما عمل إلا النظر إليَّ فإذا رأيتما مني شيئًا لا يوافق الحق فخوِّفاني وذكِّراني بالله عز وجل. وكان يقول، بعد أن ولي الخلافة: لأن يكون لي مجلس من عُبَيْدِ الله — أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ومؤدِّبه لما كان صغيرًا — أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها. وقال: وإني واللهِ لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال. فقالوا: يا أمير المؤمنين تقول هذا مع تحرِّيك وشدة تحفظك! فقال: أين يُذهب بكم؟ واللهِ إني لأعود برأيه وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بأُلوف وأُلوف. وكان يحب السَّمَر مع أهل الفضل، فقيل له في ذلك فقال: لقاء الرجال تلقيح الألباب. وقال: إن في المحادثة تلقيحًا للعقل، وترويحًا للقلب، وتسريحًا للهم، وتنقيحًا للأدب. وما زال يرد المظالم ويحيي السنن ويُطفِئُ البدع ويقسم الأموال والأعطيات بين الناس. وردَّ فَدَك إلى ما كانت عليه أي إلى آل الرسول.

أبعد عمر بن عبد العزيز عن حماه الشعراء والخطباء، وما كان يحب المديح والهجاء، وهو يعرف استرسال الشعراء في المجون والهزل،١٠٤ وأنهم يمدحون من يعطيهم ويهجون من يضنُّ عليهم، وإذ كان رجل جدٍّ وتقوى حجبهم فانقشعوا١٠٥ عنهم كلهم، وثبَّت الفقهاء والزهاد فكان يعطيهم عطاءً كثيرًا، أما الشعراء: فاكتفوا بالقليل الذي كان يعطيهم من ماله الخاص، وأعطى قومًا في حمص نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا مائة دينار لكل رجل منهم، يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين. وبحسن سياسته سكنت الخوارج في أيامه فلم يثوروا؛ لأنه ناقشهم فأفحمهم، وأقسموا أن لا يشغبوا ما دام خليفة. وما حدثته نفسه قط بإهراق دماء من خالفوه في مذهبه. وقد كتب إلى عامله على الكوفة أن يستتيب القدرية ممَّا دخلوا فيه، فإن تابوا يخلي سبيلهم وإلا فينفيهم من ديار المسلمين. أراد بذلك حقن دمائهم، وكان غيره من الخلفاء يبادر إلى قتلهم.

وطريقة عمر في إدارة ولاياته طريقة أسلافه في إطلاق الحرية للعامل، لا يشاور الخليفة إلا في أهم المُهِمَّات مما يُشكَل عليه أمره. كتب إلى عامله على اليمن: «أما بعد، فإني أكتب إليك آمُرُك أن ترد على المسلمين مظالمهم، فتراجعني ولا تعرف مسافة ما بيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت حتى لو كتبت إليك أن اردد على مسلم مظلمة شاة لكتبت: أردُّها عفراء أو سوداء؟ فانظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني.» وأملى على كاتبه يومًا كتابًا إلى عامله على الكوفة قال فيه: «إنه يخيل إليَّ أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلًا شاة لكتبت إليَّ: أضأن أم ماعز؟ فإن كتبت بأحدهما كتبت إليَّ: أصغير أم كبير؟ فإن كتبت إليك كتبت إليَّ: أذكر أم أنثى؟ فإذا أتاك كتابي هذا في مظلمة فاعمل به ولا تراجعني.» وكتب إلى آخر: «إنك تردد إليَّ الكتب فنفذ ما أكتب به إليك من الحق، فإنه ليس للموت ميقات نعرفه.»

قال له بعض أصحابه عليك بأهل العذر. قال: من هم؟ قالوا: الذين إن عدلوا فهو ما رجوت منهم، وإن قصروا قال الناس قد اجتهد عمر. وكان ينهى عماله عن المُثلة١٠٦ في العقوبة أي جز الرأس واللحية، وينهاهم عن الإسراف حتى في القراطيس التي يكاتبونه فيها. فقد قيل له: ما بال هذه الطوامير التي تُكتب بالقلم الجليل وتمد فيها وهي من بيت مال المسلمين. فكتب إلى العمال أن لا يُكتبن في طومار ولا يُمَدَّنَّ فيه. قالوا: وكانت الطوامير شبرًا ونحو ذلك، ومما كتب إلى أحد عماله: «أدق قلمك، وقارب بين سطورك، واجمع حوائجك؛ فإني أكره أن أُخرِج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به.» وكان عمر من كبار الكُتَّاب والخطباء، وكان إذا خطب على المنبر فخاف فيه العُجب قطع، وإذا كتب كتابًا فخاف فيه العجب مزَّقه، ويقول: اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي. ولما بويع بالخلافة دعا إليه كاتبًا فأملى عليه كتابًا واحدًا من فيه إلى يَدِ الكاتب بغير نسخة فأملى أحسن إملاء وأبلغه وأوجزه، ثم أمر بذلك الكتاب فنسخ إلى كل بلد. قالوا: وجعل يكتب بيده إلى العمال في الأمصار.١٠٧
كان عمر يحسن ظنه بعماله، ولا يتخلى عن كشف أحوالهم فقد وفد عليه بلال بن أبي بردة بخناصرة فقال عمر للعلاء١٠٨ بن المغيرة بن البُندار، وقد رأى بلالًا يديم الصلاة: إن يكن سرُّ هذا كعلانيته، فهو رجل أهل العراق غير مدافَع. فقال العلاء: أنا آتيك بخبره. فأتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء فقال: اشفع صلاتك فإن لي إليك حاجة. ففعل، فقال له العلاء: قد عرفت حالي من أمير المؤمنين فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق فما تجعل لي؟ قال: لك عُمالتي١٠٩ سنة. وكان مبلغها عشرين ألف ألف درهم، قال فاكتب لي بذلك. قال: فأرقد١١٠ بلال إلى منزله فأتى بداوة وصحيفة فكتب له بذلك. فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلما رآه كتب إلى والي الكوفة: «أما بعد، فإن بلالًا غرَّنا بالله، فكدنا نغتر، فسبكناه فوجدنا خبثًا كله، والسلام.» وبلال هذا كان فيما يقال أول من أظهر الجور من القضاة في الحكم، وكان أمير البصرة وقاضيها. وكان عمر يقول: لا ينبغي للرجل أن يكون قاضيًا حتى تكون فيه خمس خصال: يكون عالمًا قبل أن يُستعمل، مستشيرًا لأهل العلم، ملقيًا للرثع،١١١ ومنصفًا للخصم، ومقتديًا بالأئمة.
سخط مسلمة بن عبد الملك على العريان بن الهيثم فعزله عن شرطة الكوفة، فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إليه: «إن من حِفْظِ أنْعُم الله رعاية ذوي الأسنان، ومن إظهار شكر الموهوب صفح القادر عن الذنوب، ومن تمام السؤدد حفظ الودائع واستتمام الصنائع. وقد كنت أودعتَ العُرْيَان نعمةً من أنعمك فسلبتْها عجلةُ سُخطك وما أنصفته، غصَبتُه على أن وليته ثم عزلته وخلَّيته، وأنا شفيعه، فأحب أن تجعل له من قلبك نصيبه، ولا تخرجه من حسن رأيك، فتضيع ما أودعته وتتوي١١٢ ما أفدته.» فعفا عنه ورده إلى عمله.
خطب يومًا فقال: «أيها الناس، لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد ، ألا وإني لست بقاضٍ، ولكني مقتدٍ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بعاصٍ ولكن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» وقال من خطبة: «وما منكم من أحد تبلُغُنا حاجته يتسع له ما عندنا إلا حرصنا أن نسد حاجته ما استطعنا، وما منكم من أحد تبلغنا حاجته لا يتسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ بي وبخاصتي حتى يكون عيشنا وعيشه سواء.» ومن غريب أمره في إطلاق حرية القول أن يخطب الناس عبد الله بن الأهتم، ويذكر ما آل إليه أمر الأمة على عهد صاحب الشريعة والخليفتين من بعده، ثم يقول: «إنا واللهِ ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضَلْع١١٣ أعوج.» يقول هذا في عهد عمر بن عبد العزيز، وعمر يسكت عنه! ولطالما أسمعه بعض الناقمين على أهل بيته ما يَغضب له الحليم، فما كان يقابلهم بغير الإغضاء يُفهمهم من طرف خفي أنه لا يليق بالرجل أن ينال من آله.
وكان عمر يجلس إلى قاص العامة ويرفع يديه إذا رفع، وقاصُّه محمد بن قيس، وعلم أن أناسًا من القصاص يصلون على خلفائهم وأمرائهم يلتمسون الدنيا بعمل الآخرة، فأمرهم بالدعاء للمؤمنين عامة، وأن يُلغوا ما سوى ذلك. وأدرك أن البادية يتحفزون إلى أن يرجعوا إلى سيرتهم في الجاهلية، فبعث إليهم برجُلَيْنِ من أرباب الفقه يُفَقِّهَانِ الناس في البدو وأجرى عليهما رزقًا. وكأنه قطع عهدًا على نفسه إذا ولي أمر المسلمين «أن لا يضع لَبِنَة على لبنة ولا آجرة على آجرة.» لئلا يقع في ذلك حَيْفٌ على الرعية. وهم يتولون من ذلك ما يصلحهم من إقامة القصور والبيوت، أما هو فيعمل لإغنائهم وحملهم على الجادة، حتى لم يبقَ فقير في أيامه في أكثر الأمصار؛ لكثرة ما وزع على الفقراء من أموال الصدقات: يقبض عماله الصدقة، ثم يقسِّمونها في الفقراء حتى إنه ليصيب الرجل الفريضتان أو الثلاث فما يفارقون الحيَّ وفيهم فقير، ولا ينصرفون إلى الخليفة١١٤ بدرهم. بعث عاملًا على صدقات إفريقية١١٥ فأراد أن يعطي منها الفقراء فالتمسهم في كل مكان فلم يجِد فيها فقيرًا يقبل أن يأخذ صدقة بيت المال، فاشترى بها رقابًا وأعتقها، وجعل ولاءهم للمسلمين. وما مات عمر حتى جعل الرجل يأتي بالمال العظيم ويقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، لا يجد من يضعه فيهم، لكثرة ما أغنى الناس عمرُ.

ومن أهم ما عمله عمر في حسن الإدارة والسياسة: أنه لم يشأ — لما وسدت إليه الخلافة — أن يبدأ بعمل قبل أن يستدعي المسلمين من أرض الروم، وقال: لَرَجُلٌ من المسلمين أحب إلي من الروم وما حوت. وفي سنة ١٠٠ أمر أهل طرندة بالقفول عنها إلى ملطية، ثم اشترى ملطية من الروم بمائة ألف أسير، فجعل لدولته سدًّا منيعًا، وأنقذ المسلمين من ذل الأسر. وأراد هدم المصيصة، ونقل أهلها عنها لما كانوا يلقون من الروم فتوفي بعد ذلك.

ولما بلغ صاحب القسطنطينية نعيه نزل عن سريره وبكى، وذكر من مآثر عمر أمام وفد من العرب، كان ذهب للفداء بين المسلمين والروم، ما أبكى المقل، ومما قال: لقد بلغني من بره وفضله وصدقته ما لو كان أحد بعد عيسى يُحيي الموتى لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطنًا وظاهرًا فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدًا، بل باطنه أشد حين خلواته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبَد ربه على رأس صومعته، ولكني عجبت لهذا الراهب الذي صارت الدنيا تحت قدميه فزهد فيها حتى صار مثل الراهب.١١٦

وأحب عمر أن يجلي المسلمين من الأندلس؛ لأنه كان يعتقد أن مقامهم فيها غير طبيعي؛ لأنهم محاطون بالأعداء بعيدون عن مقر الخلافة. فأمر أحد عماله أن يرسم له مصوَّر الأندلس ليرى في إجلاء المسلمين رأيه، وكتب إلى عامله عبد الرحمن بن نعيم يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم فأَبَوْا، وكتب إلى عمر بذلك فكتب إليه: «اللهم إني قد قضيت الذي عليَّ، فلا تَغْزُ بالمسلمين فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم.» كل أولئك يدل على أن عمر ما كان يريد التوسع في الفتوح، ويحاول أن يقتصر على البلاد التي دخلت في المملكة الإسلامية حتى لا تُهرَق الدماء على غير طائل، ويعمر الناس البلاد، ويصلح أهلها صلاحًا دائمًا على أن يكونوا بين آخري يرجو ثواب الله، ودنياوي يستجمع صفات الشرف في نفسه.

وكتب إلى ملوك الهند يدعوهم١١٧ إلى الإسلام والطاعة على أن يُملَّكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه فأسلموا وتَسَمَّوْا بأسماء العرب، ولما ولَّى إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم ببلاد المغرب سار أحسن سيرة ودعا البربر إلى الإسلام، وكتب إليهم عمر بن عبد العزيز كتابًا يدعوهم إلى الإسلام فقرأه إسماعيل عليهم في النواحي فغلب الإسلام على المغرب. وكتب في اللواتيات: «إن من كانت عنده لواتية فليخطبها إلى أبيها أو فليرددها إلى أهلها.» ولواتية قرية من البربر كان لهم عهد، ولما استخلف كتب إلى ملوك ما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام فأسلم بعضهم، ورفع الخراج عمن أسلم بخراسان، وفرض لمن أسلم، وابتنى خانات. ثم بلغ عمر عن عامله عصبية، وكتب إليه أنه لا يصلح أهل خراسان إلا السيف، فأنكر ذلك وعزله وكان عليه دَيْنٌ فقضاه. ووفد عليه قوم من أهل سمرقند فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب إلى عامله يأمره أن ينصب لهم قاضيًا ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أُخْرِجُوا، فحكم القاضي بإخراج المسلمين، وعلى أن ينابذوهم على سواء،١١٨ فكره أهل سمرقند الحرب وأقرُّوا فأقاموا بين أظهرهم. قال عمر لمزاحم مولاه: إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيني على نفسي فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها أو فعلًا لا تحبه، فعِظْنِي عنده وانهني عنه. وكان عنده رجلان فجعلا يلحنان فقال الحاجب: قُومَا قد آذيتما أمير المؤمنين. فقال عمر: أنت آذى لي منهما.

هذا مجمل ما تم في عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من الإصلاح فأعاد إلى الخلافة جمالها وجلالها على ما كانت عليه أيام جَدِّهِ لأمه عمر بن الخطاب، ولكن عمر بن عبد العزيز عمل في غير زمان عمر بن الخطاب وعمل بغير رجاله. وكان دأب عمر بن عبد العزيز أن يذكر الناس بالآخرة ويخوِّفهم العذاب، ودأب ابن الخطاب أن يذكرهم العمل للدنيا مع شدة التمسُّك بحقوق الأُخرى. فكانت إدارة عمر بن الخطاب ملائمة لزمانه وسيرة حفيده كذلك؛ لأن الناس فسدوا في أواخر القرن الأول أو بدءوا بالفساد، فكان هِجَّيراه أن يذكرهم بالمعاد ويطهر أخلاقهم. وعمل عمر كل هذا في سنتين وخمسة أشهر وهذا من أعجب ما يُدَوَّنُ في تاريخ عظماء الأرض. ولما مرض مرضته التي مات فيها دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال: ألا توصي يا أمير المؤمنين؟ فقال: فيم أُوصي؟ فوالله إنْ لي من مال. فقال: هذه مائة ألف فمُر بها بما أحببت. وقال: أوَتقبل؟ قال: نعم. قال: تُرَدُّ على من أُخذت منه ظلمًا. فبكى مسلمة، ثم قال: يرحمك الله لقد ألنت منا قلوبًا قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرًا.

إدارة يزيد بن عبد الملك وهشام ويزيد بن الوليد ومروان بن محمد

ولم يكد عمر بن عبد العزيز يلحق بمولاه حتى عادت الدولة إلى سابق عهدها إلا قليلًا. وعزل يزيد بن عبد الملك عمال عمر بن عبد العزيز جميعًا، وأعاد سَبَّ عليٍّ على المنابر، وكتب إلى عمال عمر: «أما بعد، فإن عمر كان مغرورًا غررتموه أنتم وأصحابكم، وقد رأيت كتبكم إليه في انكسار الخراج والضريبة، فإذا أتاكم كتابي هذا فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصَبوا أم أجدَبوا، أحبوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا، والسلام.» ويزيد هذا أحد إخوة أربعة تولوا الخلافة ولقبوا بالأكبُش الأربعة، وهذا كان على غير طريقة إخوته.

وجاء دور هشام في الخلافة وناهيك به من «رجل محشو عقلًا» وفيه من الحلم والأناة والعفة ما ظهرت آثاره في إدارة الملك، وعُدَّ أحد السواس الثلاثة من بني أُمية وهم معاوية وعبد الملك وهشام، وبه خُتِمَتْ أبواب السياسة وحسن السيرة، وكان يحب جمع المال وعمارة الأرض واصطناع الرجال وتقوية الثغور وإقامة البرك والقنى في طريق مكة وغير ذلك، ويسير بموكب كسائر الخلفاء من أهل بيته، ولم يكن مثل ذلك لغير أخيه مسلمة بن عبد الملك. وافتتح عهده بعزل عمر بن هبيرة عن العراق وتولية خالد بن عبد الله القسري، فأدار هذه الولاية١١٩ العظيمة نحو خمس عشرة سنة بإقامة العدل وإفاضة السلام والعمل الصالح. وكان هشام على غاية الإخلاص متقلِّلًا متقشِّفًا في ذاته، يقوم بواجب الخلافة حق القيام، ومن أكبر همه إصلاح أموال الدولة، وغلب عليه الاقتصاد حتى كاد ينقلب إلى شح. بينا هو يوصي عقال بن شُبَّةَ١٢٠ لما وجهه إلى خراسان نظر هذا إلى قباء الخليفة فقال: ما لك؟ قال: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء فَنَك١٢١ أخضر فجعلت أتأمل هذا أهو ذاك أم غيره. فقال: هو — واللهِ الذي لا إله إلا هو — ذاك، ما لي قباء غيره، وأما ما ترون من جمعي هذا المال وصونه فإنه لكم.

وكانت دواوينه مثال التدقيق والعناية في معاملة الرعية ومحاسبة العمال الذين يتصرفون له؛ يتخيرهم من الأمناء البعيدين «من الفساد ومن الرشا ومن الحكم بالهوى» ويعتمد في توسيد عظام الأعمال على أناس من أهل بيته. قال عبد الرحمن بن علي: جمعت دواوين بني مروان فلم أَرَ ديوانًا أصح للعامة للسلطان من ديوان هشام. وقال غسان بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بني مروان أشد حصرًا في أمر الصحابة ودواوينه ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام.

كتب هشام إلى والي العراق لما أخذ ابن حسان النبطي فضربه بالسياط، وكان أوغر صدر هشام عليه من إفراط الدالة واحتجان الأموال وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق: «إن هشامًا آثرك بولاية العراق، بلا بيت رفيع ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكتك وتتقدمك في المحافل والمجامع عند بداءة الأمور وأبواب الخلفاء.» ومما قال له: «إنه استعان بالمجوس والنصارى وولاهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم وسلطهم عليهم.» وقال له: «واللهِ لو كنت من ولد عبد الملك بن مروان ما احتمل لك أمير المؤمنين ما أفسدت من مال الله، وضيعت من أمور المسلمين، وسلطت من ولاة السوء على جميع أهل كور عملك تجمع إليك الدَّهاقين١٢٢ هدايا النيروز والمهرجان، حابسًا لأكثره، رافعًا لأقله مع مخابث مساويك.»١٢٣
وغزا هشام الروم عدة غزوات موفَّقة، وكان الأسطول يشترك مع الجيش البري من اليابسة، وذلك بقيادة ابنيه معاوية وسليمان. وتقدمت جيوشه في الشرق فغزا الترك، وأخذ دعاةُ بني العباس وثوار الخوارج في أيامه يعملون سرًّا وجهرًا إذا أمكنتهم الحال، وعلى ما في هشام من بُعد نظر لم يُقَدِّرْ مدى الدعوة التي عادت بعدُ على دولته بالوبال، مع أنه كان معروفًا بالشدة في مثل هذه المسائل. وظل أعداء الدولة ينقضون في أساسها، وما كان بما عرف فيه من العقل يريد إثارة الخواطر فيما لا يعود على السلطان بفائدة؛ فقد لقيه في الحج سنة ١٠٦ سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان وقال له: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يزل يُنعم على بيت أمير المؤمنين، وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يَلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب — علي بن أبي طالب — فأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة. فشق ذلك على هشام، وثقل عليه كلامه، ثم قال: ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنه، قدمنا حجاجًا، ثم قطع كلامه.١٢٤
وذكروا أن هشامًا كان ينزل الرُّصافة من أرض قِنَّسْرين، وكان سبب نزوله إياها أن الخلفاء كانوا ينتبذون١٢٥ ويهربون من الطاعون فينزلون البَرِّيَّة خارجًا عن الناس، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج فإن الخلفاء لا يُطْعَنون ولم ير خليفة طعن. فقال: أتريدون أن تجربوا بي! فنزل الرصافة وهي بَرِّيَّة، وابتنى بها قصرين. وكان١٢٦ لا يَدخُل بيت ماله مالٌ حتى يشهد أربعون قسامة١٢٧ أنه أُخذ من حقه وأُعْطِيَ لكل ذي حق حقه. وهو من أحزم بني أمية ومن أعقلهم، يفضل على العلماء والفقهاء كثيرًا.
وتولى يزيد بن الوليد الخلافة فنقص الناسَ من عطائهم، وكان أشد ضنانة بالمال من هشام، فسمى يزيد الناقص، فاضطربت عليه البلدان، وكان الخليفة من بني أمية إذا مات وقام آخر زاد في أرزاقهم وعطاياهم عشرة دراهم فيقولون: «عَيْر بعير١٢٨ وزيادة عشرة.» أي رجل برجل وزيادة عشرة. فسار هذا القول مسير الأمثال عند أهل الشام. وكان يزيد يهتم باللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفُسَّاق، وأفسد على نفسه بني عَمَّيْهِ ولد هشام وولد الوليد ابني عبد الملك بن مروان. وأفسد على نفسه اليمانية وهم أعظم جند الشام، ولعل هذه الغلطات الإدارية جسمت ما اتُّهِمَ به، فكانت حجة للخواص عند العوام حتى أوردوه موارد الهلكة. وقال خالد بن يزيد: يا أمير المؤمنين، قتلت ابن عمك لإقامة كتاب الله تعالى وعمالك يغشمون ويظلمون. قال: لا أجد أعوانًا غيرهم وإني لأُبغضهم. قال: يا أمير المؤمنين وَلِّ أهل البيوتات، وضُمَّ إلى كل عامل رجلًا من أهل الخير والعفة، يأخذونهم بما في عهدك. قال: أفعل.
وأمر الوليد بن يزيد بعض رجاله بتعذيب بعض العمال؛ لأنه كان رُفِعَ إليه أنهم أخذوا مالًا كثيرًا١٢٩ ولما قُتِلَ الوليد (١٢٦) كان في بيت المال سبعة وسبعون ألف ألف دينار ففرقها يزيد عن آخرها، وتعهد للناس أن لا يضع حجرًا فوق حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا يكري نهرًا، ولا يكنز مالًا، ولا ينقل مالًا من بلد إلى بلد حتى يسد ثغره وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل منه نقله إلى البلد الآخر الذي يليه، ولا يُغلق بابه دونهم، ولهم أعطياتهم في كل سنة وأرزاقهم كل شهر حتى يكون أقصاهم كأدناهم.
أما مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية: فقد كان شيخ بني أمية وكبيرهم١٣٠ «ذا أدب كامل ورأي فاضل» وهو أحزم بني مروان وأنجدهم١٣١ وأبلغهم، ولكنه ولي الخلافة والأمر مُدْبِرٌ عنهم.
هذا ما كان من إدارة دولة امتد حكمها مسافة١٣٢ مائتي يوم من المشرق إلى المغرب تقرأ آي القرآن في سمرقند كما تُتلى في قرطبة. ويتلاقى الهندي مع السوداني في مكة للحج، وكلاهما يدين لبني أمية. وفي أيامهم ظهرت على الممالك قدرة وغنى، وكانت كلمة الدولة نافذة في ثلاثة أقسام من الأرض: آسيا وإفريقية وأوروبا. ملكوا من براري جبل الطور إلى قفار ما وراء النهر، ومن وادي كشمير إلى منحدر جبل طوروس على البحر المتوسط وأطراف الأناضول وسائر مملكة الأكاسرة وما عجز عنه الأكاسرة، وأخذت الجزية التي قررها عمر بن الخطاب من النوبة كما أُخِذَتْ من الهند والصين على ما قدرها مسلم بن قتيبة الباهلي. وكل ذلك على قواعد العدل وقسطاس الحق، حتى صارت دمشق في نظر المسلمين كأنما هي رومية في نظر المسيحيين، وانتشرت حضارة الإسلام١٣٣ في نصف قرن تقريبًا من سواحل البحر الأطلنطي إلى بلاد الصين، ومن جبال القوقاز وما وراءها إلى خط الاستواء وما وراءه، ودخلت في حوزة الإسلام أمم كثيرة من السلالة السامية «العرب والسريان والكلدان» ومن السلالة الحامية «المصريون والنوبيون والبربر والسودان» ومن السلالة الآرية «الفرس واليونان والإسبان والأهانداي الهنود» ومن السلالة المسماة بالتورانية «الترك والتتار».
كل هذا وما كان جميع الناس راضين عن إدارة الأمويين ولا سيما خصومهم السياسيون. ومتى كان الخصم ينصف خصمه؟! وإليكم مثالًا من ذلك صدَر عن أحد نساك الإباضية وخطبائهم وهو أبو حمزة يحيي بن مختار الخارجي، خطب في مكة، ووصف سيرة الخلفاء الراشدين، ثم قال في بني أمية: وأما بنو أمية ففرقة ضلالة، وبطشهم بطش جبرية، يأخذون بالظنة، ويقضون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويحكمون بالشفاعة، ويأخذون بالفريضة من غير موضعها، ويضعونها في غير أهلها، وقد بين الله أهلها فجعلهم ثمانية أصناف فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فأقبل صنف تاسع منها فأخذ كلها، تلكم الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله. ا.ﻫ. والله أعلم بمقدار ما في هذا الخطاب — على جلالة قدر صاحبه — من الخطأ والخطل، وفي حديث علي: «وأما إخواننا بنو أمية فقادة ذادة.» والذادة جمع ذائد وهو الحامي الدافع، قيل: أراد أنهم يذودون عن الحُرَم،١٣٤ ولكن غضب العربي في رأسه فإذا غضب لم يهدأ حتى يُخرجه بلسانه أو يده كما قال ابن عياش.

لا جرم أن إدارة الأمويين لم تكن في كل أيام خلفائهم بريئة من العيوب، ولم تضعف في الحقيقة إلا في أيام يزيد بن الوليد، وكان على غير طريقة أسلافه في أعماله. وكان آخرهم مروان بن محمد على عظم هِمَّتِهِ وشدة بأسه مشغولًا بالدفع عن الخلافة، وكثرت الفتوق، فضعفت إدارة المملكة. كانت حكومتهم عربية صرفة يتولاها أهل البيوتات والأشراف على الأكثر. وقيل: إن من أوكد الأسباب في زوال سلطان بني أمية استتارُ الأخبار عنهم، وإغضاب قُوَّادِ الدولة، وانقسام البيت الأموي على نفسه بسبب ولاية العهد. ثم كان تأخير العطاء عن الجند فظاهروا غيرهم من العباسيين، ولم يقاتلوا بإخلاص للخليفة كما كانوا من قبل. وساعد التوسع في الفتوح على عهد هشام على اختلال نظام الدولة؛ فاتسعت دائرة ملكهم إلى ما لم تبلغه دولة الرومان. ثم إن انقسام العرب في خراسان إلى مُضَرِيَّة ويمانية، وتنازع رؤسائهم على الولاية كان من الأسباب المسهلة لقيام الدعوة العباسية في خراسان نفسها، ولم يُغْنِ عن الأمويين من قتل من دعاة العباسيين الذين عملوا لدولتهم في أرض أعدائهم وتحت سمع عمالهم وبصرهم.

هوامش

(١) تمرس وامترس بالشيء: احتك به، وتمرس بالنوائب والخصومات: مارسها.
(٢) خطط الشام للمؤلف.
(٣) الناب: سيد القوم، والنابه: الفطن ذو النباهة.
(٤) كم البعير: شد فمه بالكمام، والكمام كالكمامة: ما يكم به فم الحيوان لئلا يعطس أو يأكل.
(٥) تاريخ القضاة والولاة للكندي.
(٦) كان اللعن منذ القرن الأول من أيسر ما يُقابِل به خصم خصمه، وبعد انقضاء ثلاثة عشر قرنًا، وانطواء ذلك البساط بما عليه جملة، لم تشتَفِ صدور شيعة علي من النيل من الراشدين والأمويين والعباسيين؛ حتى كاد لعنهم يُعَدُّ من أركان المذهب، وصار بعضهم ينعتون الشيخين بصنمي قريش ويقذفون بابنتيهما الطاهرتين، وأصبح اللعن سُنَّةً من سنن العباسيين، يلعنون كل من حارب سلطانهم، وقد عزم المعتضد على سب معاوية على المنابر فحذره وزيره من اضطراب العامة، وأمر المعتمد بلعن ابن طولون على المنابر لما استأثر بولاية مصر والشام فلُعِنَ ببغداد وسائر العراق، ولَعن ابن طولون المعتمد على المنابر في جميع أعماله بمصر، وعمد إلى هذا اللعن السياسي بعض خلفاء بني العباس. أما الإسلام فلم يُجَوِّزِ اللعن إلا على الكفار لا على التعيين. وقد وردت عدة آيات في الكتاب العزيز في لعن الظالمين والمنافقين إكبارًا لفعلتهم في خراب العمران، وما يشاهد في بعض الكتب من لعن بعض أهل القِبلة وغيرهم فإنما هو من زيادات النُّسَّاخ على ما حقق ذلك العارفون من العلماء.
(٧) الكامل للمبرد.
(٨) معلمة الإسلام، مادة: أمية.
(٩) طل دمه: هدره، والطوائل: جمع طائلة وهي العداوة والتِّرَة.
(١٠) أرعد: أخذته الرِّعدة — بفتح الراء وكسرها — وهي الاضطراب يكون من الفزع وغيره.
(١١) تاريخ الطبري.
(١٢) الرتق ضد الفتق والصدع، وفي التنزيل:كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا أي مصمتتين منضمتين لا فرجة بينهما.
(١٣) يقال: تحرمت بطعامك ومجلسك: أي حرم عليك مني بسببهما ما كان لك أخذه، وتحرم فلان بفلان إذا عاشره ومالَحَه، وتأكدت الحرمة بينهما.
(١٤) أجزأ عني: أغنى.
(١٥) أُسْد الغابة لابن الأثير.
(١٦) الناجز والنجيز: الحاضر.
(١٧) الموجدة: الغضب.
(١٨) الآنف: جمع أنف، وتجمع على آناف وأنوف.
(١٩) قلم الظفر قطع ما كان منه، وكل ما قطعت منه شيئًا بعد شيء فقد قلمته.
(٢٠) درأه: دفعه شديدًا.
(٢١) الظبة: حد السيف أو السِّنان ونحوهما، والجمع ظبات وظبى.
(٢٢) واللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم، وجمعها لهوات ولهيات ولهى، والشجى: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.
(٢٣) القذى: ما يقع في العين وفي الشراب من تبنة وغيرها.
(٢٤) ركب رأسه: مضى على وجهه بغير روية.
(٢٥) حنك وأحنك وتحنَّك الدهر الرجل: جعلته التجارب والأمور وتقلُّبات الدهر حكيمًا، والحنكة: الاسم من حنكه الدهر.
(٢٦) المرجل كمنبر: القدر من الحجارة أو النحاس.
(٢٧) الدلج: سير الليل كله أو في آخره.
(٢٨) صفحة الرجل: عرض صدره، والصفحة: الورقة والجنب، ومن المجاز أبدى له صفحته: كاشفه.
(٢٩) أتنف واستأنف الشيء: أخذه فيه وابتدأه.
(٣٠) الكامل للمبرد.
(٣١) الرجلة: المشي.
(٣٢) يقال فلان موطَّأ العقب أي كثير الأتباع.
(٣٣) كتاب البلدان لابن الفقيه.
(٣٤) تاريخ الطبري.
(٣٥) العقد الفريد لابن عبد ربه.
(٣٦) نكب على قومه ينكب نكابة ونكوبًا: إذا كان منكبًا لهم يعتمدون عليه، والمنكب عريف القوم أو عونهم.
(٣٧) العاقلة: العصبة والأقارب من قبل الأب، أي بنو العم الأدنون الذين يُعْطَوْنَ دية قتل الخطأ.
(٣٨) نجم المال: جعله نجومًا، والنجم: الوقت المضروب، ونجمت المال وزعته كأنك فرضته أن تدفعه عند طلوع كل نجم، ثم أطلق النجم على وقته، ثم على ما يقع فيه.
(٣٩) أقاد القاتل بالقتيل: قتله به، يقيده إقادة، واتدى فلان اتداء: أخذ الدية ولم يثأر بقتيله وأصله اوتدى.
(٤٠) خطط الشام للمؤلف.
(٤١) خطط الشام للمؤلف.
(٤٢) الأغاني للأصفهاني.
(٤٣) الأساورة: قوم من العجم بالبصرة نزلوها قديمًا كالأحامرة بالكوفة، قيل: أصل الأساورة أساوير، والتاء عوض عن الياء كالزناديق والزنادقة.
(٤٤) معلمة الإسلام، مادة: معاوية.
(٤٥) تاريخ الولاة والقضاة للكندي.
(٤٦) العين: الجاسوس.
(٤٧) تاريخ دمشق لابن عساكر.
(٤٨) البعث: الجيش، أو كل قوم بُعِثُوا، والجمع: بُعُث بضمتين وبعوث.
(٤٩) الولاة والقضاة للكندي.
(٥٠) الجفنة: القصعة الكبرى.
(٥١) الناض: الدرهم والدينار.
(٥٢) الملك عقيم: أي لا ينفع فيه نسب؛ لأنه يُقتل في طلبه الأبُ والولدُ والأخُ والعم، سمي به لقطع صلة الرحم بالتزاحم عليه.
(٥٣) الصنائع: جمع صنيعة أي الإحسان، والصنائع: المصطنعون.
(٥٤) الأشراف لابن أبي الدنيا.
(٥٥) العقد الفريد لابن عبد ربه.
(٥٦) معلمة الإسلام، مادة: الحجاج.
(٥٧) فتوح البلدان للبلاذري.
(٥٨) سورة الغضب: شدته.
(٥٩) لط بالأمر: لزمه، ولط عليه الخبر ستره.
(٦٠) الأدم: ما يؤتدم به، وائتدم: أكل الخبز مع الإدام، وإدام الطعام: هو ما يجعل مع الخبز فيطيبه.
(٦١) الخراج لأبي يوسف.
(٦٢) أدب الكتاب للصولي.
(٦٣) خطط المقريزي.
(٦٤) الطومار: الصحيفة، والجمع طوامير.
(٦٥) الأحكام السلطانية للماوردي.
(٦٦) طبقات ابن سعد.
(٦٧) تاريخ أبي الفداء.
(٦٨) المسالك والممالك لابن حوقل.
(٦٩) فتوح البلدان للبلاذري.
(٧٠) معلمة الإسلام، مادة: أمية.
(٧١) دول الإسلام للذهبي.
(٧٢) المفظعات: الأمور الشديدة الشنيعة.
(٧٣) محاضرات الراغب الأصفهاني.
(٧٤) اصطنع بعضهم ألقابًا للخلفاء الراشدين ومن بعدهم إلى دولة بني العباس، فرد الناقدون هذه الألقاب المفتعلة.
(٧٥) العقد الفريد لابن عبد ربه.
(٧٦) اعتقد الضياع: اقتناها، واعتقد مالًا: جمعه.
(٧٧) لطائف المعارف للثعالبي.
(٧٨) معلمة الإسلام: الوليد.
(٧٩) جلل: عظَّم.
(٨٠) صبح الأعشى للقلقشندي.
(٨١) الأغاني للأصفهاني.
(٨٢) النطف: المريب.
(٨٣) النمرقة والنمرق: الوسادة، والجمع نمارق.
(٨٤) سيرة عمر بن عبد العزيز.
(٨٥) المحاسن والمساوي للبيهقي.
(٨٦) مروج الذهب للمسعودي.
(٨٧) رزأه ماله كجعَله وعلِمه يرزؤه رزأ: أصاب فيه شيئًا كارتزأه.
(٨٨) النيروز أو النوروز: اسم أول يوم من السنة عند الفرس عند نزول الشمس أول الحمل، معرب نوروز أي اليوم الجديد، والمهرجان: أول نزول الشمس في برج الميزان.
(٨٩) الآيين: العادة والقانون، وأصل معناه: السياسة المسيرة بين فرقة عظيمة. ويقول البيروني في الآثار الباقية: كان من آيين الأكاسرة أن يبدأ الملك يوم النيروز فيعلم الناس بالجلوس لهم والإحسان إليهم، وفي اليوم الثاني: يجلس لمن هو أرفع مرتبة، وهم الدهاقين وأهل البيوتات، وفي اليوم الثالث: يجلس لأساورته وعظماء موابذته، وفي اليوم الرابع: لأهل بيته وقرابته وخاصته، وفي اليوم الخامس: لولده وصنائعه. فيصل إلى كل منهم ما استحقه من الرتبة والإكرام، ويستوفي ما استوجبه من المبرة والإنعام، فإذا كان اليوم السادس كان قد فرغ من قضاء حقوقهم فنورز لنفسه، ولم يصل إليه إلا أهل أنسه ومن يصلح لخلوته، وأمر بإحضار ما حصل من الهدايا على مراتب المُهدِين فيتأملها، ويفرق منها ما يشاء ويودع الخزائن ما شاء.
وفي كتاب أخلاق الملوك للجاحظ: أن من حق الملك هدايا المهرجان والنيروز، والعلة في ذلك أنهما فَصْلا السنة، فالمهرجان دخول الشتاء وفصل البرد، والنيروز إذن بدخول فصل الحر، إلا أن في النيروز أحوالًا ليست في المهرجان، فمنها: استقبال السنة وافتتاح الخراج، وتولية العمال والاستبدال وضرب الدراهم والدنانير وتذكية بيوت النيران وصب الماء وتقريب القربان وإشادة البنيان وما أشبه لك، فهذه فضيلة النيروز على المهرجان، ومن حق الملك أن يهدي إليه الخاصة والحامة (العامة والخاصة من الأهل) والسنة في ذلك عندهم: أن يهدي الرجل ما يحب من ملكه إذا كان في الطبقة العالية، فإن كان يحب المسك أهدى مسكًا لا غيره، وإن كان يحب العنبر أهدى عنبرًا، وإن كان صاحب بزة ولبسة أهدى كسوة وثيابًا، وإن كان الرجل من الشجعان والفرسان فالسُّنَّة أن يهدي فرسًا أو رمحًا أو سيفًا، وإن كان راميًا فالسنة أن يهدي نشابًا، وإن كان من أصحاب الأموال فالسنة أن يهدي ذهبًا أو فضة، وإن كان من عمال الملك وكانت عليه موانيذ (متأخرات أو بقايا) للسنة الماضية، جمعها وجعلها في بدر حرير صيني وشريحات فضة وخيوط إبريسم وخواتيم عنبر ثم وجهها. وكذلك كان يفعل من العمال من أراد أن يتزين بفضل نفقاته أو بفضل عمالته أو أداء أمانته. وكان يهدي الشاعر الشعر والخطيب الخطبة والنديم التحفة والطرفة والباكورة من الخضروات. وعلى خاصة نساء الملك وجواريه أن يهدين إلى الملك ما يؤثرنه ويفضلنه، ويجب على المرأة من نساء الملك إن كانت عندها جارية تعلم أن الملك يهواها ويسر بها أن تهديها إليه بأكمل حالاتها وأفضل زينتها وأحسن هيئتها، فإذا فعلت ذلك فمن حقها على الملك أن يقدمها على نسائه ويخصها بالمنزلة ويزيدها في الكرامة. ومن حق البطانة والخاصة على الملك في هذه الهدايا أن تعرض عليه وتقوم قيمة عدل. وكان من تقدمت له هدية في النيروز والمهرجان صغُرت أم كبرت كثرت أم قلت، ثم لم يخرج له من الملك صلة عند نائبة تنوبه أو حق يلزمه، فعليه أن يأتي ديوان الملك ويذكر بنفسه … إلخ. والغالب أن هدايا النيروز والمهرجان عادت تُحمل إلى الخلفاء، ولا سيماء في عهد بني العباس؛ فقد ذكر صاحب نشوار المحاضرة أنه حملت الهدايا إلى المتوكل في مثل هذه المواسم من كل شيء عظيم طريف مليح.
(٩٠) الفيوج: جمع فيج وهو الساعي، أي رسول السلطان الذي يسعى بين يديه.
(٩١) أقطعه قطيعة من الأرض، والقطائع: طائفة من أرض الخراج.
(٩٢) المكس: الظلم، وهو ما يأخذه العَشَّار وهو مكاس وماكس. والإحماء: جمع حمى وهو موضع فيه كلأ يُحمى من الناس أن ترعى. قال الشافعي في تفسير الحديث: «لا حمى إلا لله ولرسوله»: إن الشريف من العرب في الجاهلية كان إذا نزل بلدًا في عشيرته استعوى كلبًا فحمى لخاصته مدى عواء الكلاب، لا يشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد، وكان شريك القوم في سائر المواقع حوله، فنهى الرسول أن يُحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون إلا ما يُحمى لخيل المسلمين وركابهم التي تُرصد للجهاد، ويُحمل عليها في سبيل الله، وإبل الزكاة كما حمى عمر النقيع لنعم الصدقة والخيل المُعَدَّة في سبيل الله (نقله في التاج). والجزيرة: هي الأرض التي لا يعلوها السيل، ويُحدق بها، وفي الأصل كل أرض ينجزر عنها المد.
(٩٣) والنقيع: البئر الكثيرة الماء، والجمع أنقعة، والنقيع موضع على مقربة من المدينة حماه عمر لنعم الفيء وخيل المجاهدين لا يرعاه غيرها، والأرجح أنه المقصود هنا.
(٩٤) استبرأ: طلب الإبراء من الدَّيْنِ والذنب، واستبرأ الشيء: طلب آخره ليقطع الشبهة عنه.
(٩٥) النوبة: النازلة جمع نوب، ونوائب الرعية: ما يتحتم عليهم من إصلاح القناطر والطرق وسد البثوق، ولعل المائدة: ما كان يألفه العمال من إطعام الناس على موائدهم، وهذا مال كبير يمكن اقتصاده حتى لا يسرف في بيت المال.
(٩٦) إن البطريق غير البطريرك؛ فالأول: لقبُ ذي منصب سياسي، والآخر: لقبُ ذي منصب ديني، والأول Patrique وPatrice بالفرنسية والثاني Patriarche وقد عربته العرب أيضًا بقولهم: بطريرح، وفي بعض الأحيان يختصرونه ويقولون بطرك (قاله أحمد زكي).
(٩٧) استألف: طلب إلفًا صديقًا مؤانسًا.
(٩٨) فتوح البلدان للبلاذري.
(٩٩) وقاية.
(١٠٠) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي.
(١٠١) استوثقت منه: أخذت في أمره بالوثيقة، وأهل الدعارة: أهل الفساد والشر.
(١٠٢) يقال: السِّرقة والسَّرَق والسَّرِق.
(١٠٣) تختم بالعقيق: لبسه، وبالذهب والفضة أيضًا.
(١٠٤) العقد الفريد لابن عبد ربه.
(١٠٥) تفرقوا.
(١٠٦) المثلة بضم الميم وفتحها: العقوبة والتنكيل.
(١٠٧) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي.
(١٠٨) الكامل للمبرد.
(١٠٩) العمالة: الأجرة.
(١١٠) أرقد: أسرع.
(١١١) الرثع: الطمع.
(١١٢) توي كرضي: هلك، وأتواه الله فهو توٌّ: أذهبه فهو ذاهب، والتوى: الهلاك.
(١١٣) الضلع: الميل.
(١١٤) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي.
(١١٥) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم.
(١١٦) مروج الذهب للمسعودي.
(١١٧) فتوح البلدان للبلاذري.
(١١٨) قوله تعالى:فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ معناه: إذا هادنت قومًا فعلمت منهم النقض للعهد فلا توقع بهم سابقًا إلى النقض حتى تعلمهم أنك نقضت العهد، فتكونوا في علم النقض مستوين، ثم أوقع بهم (المصباح).
(١١٩) معلمة الإسلام، مادة: هشام.
(١٢٠) تاريخ الطبري.
(١٢١) الفنك محركة: جلد يلبس فروتها أطيب أنواع الفراء وأشرفها وأعدلها صالح لجميع الأمزجة المعتدلة.
(١٢٢) الدهقان جمع دهاقنة ودهاقين: التاجر وزعيم فلاحي العجم ورئيس الإقليم أو مقدَّم قرية أو صاحبها بخراسان والعراق.
(١٢٣) يقال: هو خبيث مخبث، وفيه مخابث جمة.
(١٢٤) تاريخ الطبري.
(١٢٥) انتبذ الرجل: اعتزل ناحية.
(١٢٦) تاريخ الطبري.
(١٢٧) القسامة: الذين يقسمون على دعواهم.
(١٢٨) العير: السيد والملك.
(١٢٩) تاريخ الطبري.
(١٣٠) الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري.
(١٣١) العقد الفريد لابن عبد ربه.
(١٣٢) حماة الإسلام لمصطفى نجيب.
(١٣٣) الحضارة الإسلامية لأحمد زكي.
(١٣٤) النهاية لابن الأثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤