إدارة العباسيين
تدابير السفاح والمنصور
اختار محمد بن علي بن عبد الله بن العباس — يوم قام يدعو لآل العباس، ويحاول
انتزاع الملك من الأمويين — بلاد خراسان ميدانًا لإظهار دعوته؛ لأنه كان جازمًا
كل الجزم أن أهل الشام والجزيرة والعراق والحجاز لم يكن هواهم مع آل العباس، بل
كانوا متشبعين بالروح الأُمَوِيِّ يعلنون في سرهم وجهرهم ولاء بني مروان، وأن
في أهل خراسان «العدد الكثير، والجلَد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة،
لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النِّحَل، ولم يُقدم عليها الفساد، وهم جند
لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة، ولغات فخمة
تخرج من أجواف
١ منكرة.» وليس فيهم التحزُّب للقبيلة
٢ والعصبية للعشيرة، وهم مظلومون يؤمِّلون الدول، ولم يكونوا على
العهد الأموي محل الرعاية، وأقصاهم الأمويون عن الحكومة، وجلبوا لهم العمال من
الأحزاب العربية. وإن أهل خراسان لم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحًا
٣ لا يؤدون إلى أحد إتاوة ولا خراجًا،
٤ فلما كان الإسلام صالحوا عن بلادهم فخَفَّ خراجهم، ولم تسفك بينهم
الدماء.
وأخذ الدعاة يدعون إلى الرضا من آل محمد، ومن مرو الشاهجان ظهرت دولة بني
العباس في سنة ١٢٧ وفي دار شخصٍ منها يُعرف بأبي النجم المعيطي صُبِغَ أول سواد
لبسته المسوِّدة.
٥ وفي شهر رمضان سنة ١٢٩ نُشِرَ العلم الأسود على خراسان، وكان
الخراج يجبى لإبراهيم الإمام وهو في الشام والحجاز، ولا مال لديه ولا نَشب.
ومروان بن محمد الجعدي الخليفة الأموي المبايَع ومعه الجند والسلاح والمال
والدنيا جميعها عنده ينتثر ملكه عقدة عقدة. وقلما سمع أهل بلد بجيش خراسان إلا
سوَّدوا أي لبسوا السواد شعار بني العباس قبل أن يوافيهم، ونزعوا البياض شعار
الأمويين المبيِّضين. وجيش خراسان أي الجيش العباسي على قلته يغلب وجيوش
الأمويين على كثرتها تتوالى هزائمها. ويكتب كاتب مروان عبد الحميد بن يحيى
كتابًا إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة باسم مروان، ويضمنه ما لو قرئ لأوقع
الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم، وكان من كبر حجمه يُحمل على جمل،
٦ فلا يرضى أبو مسلم أن يقرأ الكتاب ويجعله طعامًا للنار. ومن الحزم
أن لا يسمع وعدًا ولا وعيدًا ما دام قد دبر أمره تدبير من طبَّ لمن
حب،
٧ وكان الإمام يوصي جماعته أن لا يتجاوزوا الفرات. ومن حسن طالع
الجيش الفاتح أنه اجتاز الفرات في مَدِّهِ، فهلك القائد وانتصر جيشه. فلما بلغ
مروان الجعدي ذلك قال: هذا واللهِ الإدبار، وإلا فمن سَمِعَ بميت يهزم
حيًّا!
داول أبو العباس السفاح بين الكوفة والأنبار والحيرة والهاشمية من المدن، فكان
يتنقل فيها، ولم يجعل له عاصمة مستقرة. واتخذ له وزيرًا أبا سلمة الخلال حفص بن
سليمان وسلَّمه الدواوين، وكان يُسمَّى وزير آل محمد. وأصبحت الوزارة في الدولة
العباسية مقرَّرة القواعد والقوانين، وما كانت تُعهَد في الدولة الأموية، وكان
من يستشيرهم الأمويون يُسَمَّوْنَ كُتَّابًا ومشيرين على الأغلب، ويُسَمَّى
وزيرًا من باب التجوُّز لا على مثال بني العباس. استوزر السفاح خالد بن برمك
بعد أن قتل أبا سلمة الخلال، فجعل خالد له دفاتر في الدواوين من الجلود وكتب
فيها وترك الدروج. وكانت كتابة الدواوين في صدر الإسلام أن يُجعل ما يكتب فيه
صحفًا مدرجة. دام ذلك مدة بني أمية، ولما تصرف جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك في
الأمور أيام الرشيد اتخذ الكاغد وتداوله الناس من بعد.
٨
عَهِدَ السفاح بإدارة البلاد إلى رجال من آل بيته يستأصلون قُوَّادَ الأمويين
وجماعاتهم، لا تأخذهم بهم رأفة ولا هوادة، ويقتلون حتى من استأمنوا، ويبحثون
عنهم حتى في أقصى حدود المملكة؛ ليجتثوا أصولهم، فانتقموا لمن قتله الأمويون
على نسبة عظيمة جدًّا، أخذوا ثأرهم من أحيائهم بالقتل، ومن أمواتهم بإحراق
جثثهم وتعفية آثارهم، وما ارتكبوه في دمشق من نسف قبور خلفاء الأمويين والقضاء
على كل أثر لهم كان سيئة وأي سيئة.
ولم يتفرغ أبو العباس السفاح لوضع أساس ثابت للإدارة لانصرافه جملة واحدة إلى
توطيد دعائم الفتح وقتال الخوارج عليه، وسار في الجملة على نظام الأمويين، وكان
أخوه أبو جعفر يتولى لأخيه كل أمر عظيم، وكانت العراق على حَظٍّ وافر من ترتيب
دواوينها وانتظام شئون إدارتها على العهد الأموي بفضل مَنْ وَلِيَهَا من أكبر
رجال الإدارة والسياسة من بني أمية. وكذلك الحال في معظم الأقطار تبدلت دولة
بدولة وخليفة بخليفة، ونسج الآخر على منوال الأول اضطرارًا واختيارًا، وقل أن
خالفه في ترتيبه ونُظُمه. وخطب السفاح قائمًا، وكانت بنو أمية تخطب قعودًا، فضج
الناس وقالوا: أحييتَ السُّنَّةَ يا ابن عم رسول الله. وكان السفاح جميل
العِشرة جوادًا بالمال، ويحب مسامرة الرجال، وكان كثيرًا ما يقول: العجب ممن
يترك أن يزداد علمًا ويختار أن يزداد جهلًا! فقال له أبو بكر الهذلي: ما تأويل
هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: يترك مجالسة مثلك ومثل أصحابك ويدخل إلى
امرأة وجارية، فلا يزال يسمع سُخفًا ويرى نقصًا. فقال له الهذلي: لذلك فضَّلكم
الله على العالمين، وجعل منكم خاتم النبيين. ومن أثمن ما وصل إلى أبي العباس من
ميراث بني أمية بُردة الرسول وقضيبه. وكان مروان
٩ بن محمد حين أحيط به في مصر دَفَعهما إلى خادم له وأمره أن يدفنهما
في بعض تلك الرمال. فلما أُخِذَ الخادم في الأسرى قال: إن قتلتموني ضاع ميراث
النبي. فأمنوه على أن يسلم لهم ذلك، وكان للبردة والقضيب شأنٌ وأي شأنٍ عند
جميع الخلفاء من بعده.
ولي المنصور الخلافة، وكان أَسَنَّ من أخيه أبي العباس السفاح، ودبر المملكة في
أيامه تدبيرًا حسنًا. أفضى إليه المُلك وهو حنيك
١٠ كما قال عن نفسه، قد حلب هذا الدهر أشطره،
١١ وزاحم المشاة في الأسواق، وشاهدهم في المواسم، وغازاهم في المغازي.
قال: فواللهِ ما أحب أن أزداد بهم خُبرًا على أني أحب أن أعلم ما أحدثوا بعدي،
مُذْ تواريت عنهم بهذه الجدارات، وتشاغلت عنهم بأمورهم، مع أني والله ما لُمْتُ
نفسي أن أكون قد أذكيتُ عليهم العيون حتى أتتني أخبارهم وهم في منازلهم.
والواقع أن أبا جعفر المنصور في تأسيسه دولة بني العباس كمعاوية في تأسيس دولة
بني أمية، مع اعتبار الفرق بين عصريهما، والسرُّ الأعظم في نجاحهما أنهما مرنا
على الإدارة قبل أن توسد الخلافة إليهما.
وَلَّى المنصور أهله البلدان وفرَّق العمالات بين قُوَّادٍ من العرب وقواد من
مواليه. فكان ينقل قواد العرب في أعماله لثقته بهم واعتماده عليهم، ثم استعمل
مواليه وغلمانه في أعماله، وصرَّفهم في مهماته، وقدَّمهم على العرب، فامتثلت
ذلك الخلفاء من بعده من ولده، فسقطت قيادات العرب، وزالت رياستها، وذهبت
مراتبها. فهو الذي «أصَّل
١٢ الدولة، وضبط المملكة، ورتَّب القواعد، وأقام الناموس، واخترع
أشياء، ولم تكن الوزارة في أيامه طائلة لاستبداده واستغنائه برأيه وكفاءته، على
أنه كان يشاور في الأمور دائمًا، وإنما كانت هيبته تصغُر لها هيبة الوزراء.»
واجتمع له كثير من الخيل لم يعرف مثله في جاهلية ولا إسلام، واستجاد الكساء
والفرش وعُدَدَ الحرب ومؤنها، واصطنع الرجال وقوَّى الثغور، ولُقِّبَ بأبي
الدوانيق لتشدده في محاسبة العمال والكُتَّاب. وجماع سياسته المالية أن يدَّخر
المال قائلًا: «من قَلَّ ماله قلَّ رجاله، ومن قلَّ رجاله قوي عليه عدوه، ومن
قوي عليه عدوه اتَّضَعَ ملكه، ومن اتضع ملكه استبيح حماه.» وذكر أنه أخذ أموال
الناس حتى ما ترك عند أحد فضلًا.
١٣ وكان يعطي الجزيل والخطير
١٤ إذا رأى في العطاء فائدة، ويمنع اليسير والخطير إذا كان عطاؤه
تضييعًا، فكان كما قال زياد: لو أن عندي ألف بعير وعندي بعير أجرب لقُمْتُ عليه
قيام من لا يملك غيره. ومن أجل هذا كان يُثَمِّرُ ماله، وينظر فيما لا ينظر فيه
العوام، ووافق صاحبَ مطبخه على أن له الرءوس والأكارع والجلود وعليه الحطب
والتوابل.
وَعَدَ محمد بن عبد الله لما خرج عليه إذا رجع إلى طاعته من قبل أن يقدر عليه
أن يعطيه ألف ألف درهم، ويؤَمنه على نفسه وولده وإخوته، ومن بايعه وتابعه
وشايعه، ويطلق مَن في سجنه من أهل بيته وأنصاره؛ لأنه آثر أن يحقن الدماء
ويُعطي هذا العطاء على أن يبعث البعوث وينفق الأموال. وأنفق ثلاثة وستين ألف
ألف درهم على جيش واحد كان مؤلَّفًا من خمسين ألفًا وجَّهَه إلى إفريقية لقتال
الخوارج، بمعنى أن أبا جعفر كان الحزم كله في تدبير ملكه، والحزم كله في جمع
المال للشدائد والإنفاق منه عند الحاجة لقيام الدولة، ويذكرون له في باب
الإمساك أخبارًا كثيرة.
يقول المسعودي إن المنصور
١٥ كان في الحزم وصواب التدبير وحسن السياسة على ما تجاوز كل وصف، وهو
أول من رتب المراتب من الخلفاء
١٦ وكان لبني أمية بيوت بلا مَنَعة ولا إذن، وإنما كان الناس يقفون
على أبوابهم حتى يؤذن لهم أو يُصرَفوا. فلما ولي بنو العباس وبنى المنصور بيته
اتخذ في قصره بيوتًا للإذن، فجرى الأمر على ذلك. وكانت أرزاق الكُتَّاب في
أيامه ثلاثمائة ثلاثمائة، وكذلك كانت في أيام بني أمية. وكان المنصور متقلِّلًا
متقشفًا لا يحب البذخ والرفاهية يَعدُّ كل ما يأكل ويلبس نعمة عظمى بالقياس إلى
حاله قبل الخلافة. فهو شديد في قتال أعدائه، شديد في نظامه وترتيبه، يعرف قيمة
الوقت لا يصرفه إلا فيما ينفع الدولة فيعمل في خدمتها ليله ونهاره، وكان
شغله
١٧ في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور والأطراف
وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات، ومصلحة معاش الرعية والتلطُّف بسكونهم،
فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته، فإذا صلى العشاء الآخرة جلس ينظر فيما ورد من
كتب الثغور والأطراف والآفاق وشاور سُمَّاره، وهو على انتباه لكل دقيق وجليل.
وكان يقول: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم،
هم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم: أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة
لائم، والآخر صاحب الشرطة يُنصِف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي
ولا يظلم الرعية، ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات يقول في كل مرة: آه آه.
قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.
استعمل المنصور في ولاياته وأعماله قليلًا من عمال الدولة البائدة، وكثيرًا من
أهل بيته ورجالات العرب وبعض الفرس، واستوزر ابن عطية الباهلي وهو من صميم
العرب كما وزر له أبو أيوب المورياني الخوزي وهو فارسي، إلا أنه لا يترك الوزير
يعمل برأيه فقط بل يُنهي إليه كل ما يعرض له من أمور الدولة قبل البَتِّ فيها.
وطريقته في حكم الأمصار طريقة اللامركزية، أي طريقة الأمويين والراشدين من قبل.
دعاه إلى اتخاذ هذه الطريقة تباعُد ما بين أجزاء المملكة، وبعد الشُّقَّة في
نقل الأخبار على وجه السرعة، على ما كان في عهده من انتظام البريد وحمام الزاجل
تطير في المهمات السريعة. كتب المنصور إلى مسلم بن قتيبة يأمره بهدم دور من خرج
مع أحد الخوارج وعقر نخلهم. فكتب إليه: بأي ذلك نبدأ أبالنخل أم بالدور؟ فكتب
إليه أبو جعفر: «أما بعد، فإني لو أمرتك بإفساد ثمرهم لكتبت إليَّ تستأذن في
أيِّه نبدأ أبالبرني أم بالشهريز.»
١٨ وعزله.
لم ينفتق على المنصور في ملكه الواسع خرق إلا سده؛ لأن جيشه كثير، وآلته تامة،
وقُوَّاده يعرفون منه أن من سياسته أن يقتل على التهمة؛ فهم يصدعون بأمره كله،
ولا يخرمون منه مادة واحدة. احتل الروم طرابلس الشام وظهر في الشام رجل من أهل
المنيطرة
١٩ (١٤٢-١٤٣) وسمَّى نفسه ملكًا، ولبس التاج وأظهر الصليب، واجتمع
أنباط جبل لبنان وغيرهم، ثم استفحل أمرهم فظهر عليهم الجيش العباسي، فأمر أمير
دمشق بإخراج من بَقِيَ في الجبل، وتفريقهم في بلاد الشام وكورها، فكان هذا
التدبير الإداري مما انتقده الإمام الأوزاعي بشدة؛ لأنه إن كان من نصارى لبنان
المعتدي على حقوق السلطان، فإن منهم البريء، وليس من الجائز
٢٠ أن يُجلَى عن أرضه ويعامل الطائع كالعاصي.
كان المنصور في أكثر أموره وسياسته وتدبيره متَّبِعًا في أفعاله لهشام بن عبد
الملك؛ لكثرة ما كشفه من أخبار هشام وسيرته، وكان يقول إنه — أي هشام — فتى
القوم أي رجل بني أمية. وقال: الملوك ثلاثة: معاوية وكفاه حجاجه، وعبد الملك
وكفاه زياده، وأنا ولا كافي لي. وكان يقول لأهل بيته: إني لأجهل موضعي حتى أحذر
منكم؛ لأنه ما فيكم إلا عم وأخ وابن عم وابن أخ، فأنا أراعيكم ببصري، وأهتم بكم
بنفسي فاللهَ اللهَ في أنفسكم فصونوا، وفي أموالكم فاحتفظوا بها، وإياكم
والإسراف فيوشك أن تصيروا من ولد ولدي إلى من لا يعرف الرجل حتى يقول له: من
أنت؟
وكان المنصور آية في الإشراف على عماله وإرادتهم على العدل، يهددهم بالعقوبات
إذا ولَّاهم، وأكثرهم يصححون ويناصحون، ويختار أهل البلاء منهم. ولقد وفد عليه
قاضي إفريقية، وكان رفيقه في طلب العلم، فسأله كيف رأيت سلطاني من سلطان بني
أمية؟ وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت إلينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين،
رأيت أعمالًا سيئة وظلمًا فاشيًا، والله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم
شيئًا من الجور والظلم إلا رأيته في سلطانك، وكنت ظننته لبعد البلاد منك، فجعلت
كلما دنوت كان الأمر أعظم. فنكس الخليفة رأسه طويلًا ثم رفعه، وقال: كيف لي
بالرجال؟ فقال القاضي: أليس عمر بن عبد العزيز كان يقول: إن الوالي بمنزلة
السوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برًّا أتوه ببرهم، وإن كان فاجرًا أتوه
بفجورهم. ووعظ الأوزاعي المنصور فقال له: إن السلطان أربعة: أمير يظلف
٢١ نفسه وعماله، فذلك أجر المجاهد في سبيل الله وصلاته سبعون ألف
صلاة، ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف، وأمير رتع ورتع عماله فذلك يحمل أثقاله
وأثقالًا مع أثقاله، وأمير يظلف نفسه ويرتع عماله فذاك الذي باع آخرته بدنيا
غيره، وأمير يرتع ويظلف عماله فذاك شر الأكياس.
كان المنصور يقول لابنه: يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي
وقع فيه حتى يخرج منه، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه. وكتب
إليه عامله على إرمينية يخبره أن الجند شغبوا عليه ونهبوا ما في بيت المال،
فوقع في كتابه: «اعتزل عملنا مذمومًا مدحورًا، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم
ينهبوا.» ولقد حدث أن المنصور ولَّى المدينة رياح بن عثمان فخطب أهلها يهددهم،
ويقول: «أنا الأفعى بن الأفعى، أنا ابن عثمان بن حيان وابن عم مسلم بن عقبة،
المبيد خضراءكم، المُفني رجالكم، والله لأدعنها بلقعًا لا ينبح فيها كلب.» فوثب
عليه قوم منهم وكلموه، وقالوا: والله يا ابن المجلود حَدَّين لتَكُفَّنَّ أو
لنكفنك عن أنفسنا. فكتب الوالي إلى المنصور يخبره بسوء طاعة أهل المدينة فأرسل
المنصور إلى رياح رسولًا وكتب معه كتابًا
يقول فيه: «وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفًا،
وليقطعن البر والبحر عنكم، وليبعثن عليكم رجالًا غِلَاظَ الأكباد بعاد
الأرحام.» فلما قرئ عليهم نادوه من كل جانب كذبت يا ابن المجلود حدين، ورموه
بالحصا وبادر بالمقصورة فأغلقها. فدخل عليه أيوب بن سلمة المخزومي فقال: أصلح
الله الأمير إنما تصنع هذا رعاع الناس. وقال بعض من حضر من وجوه بني هاشم: لا
نرى هذا، ولكن أرسل إلى وجوه الناس وغيرهم من أهل المدينة فاقرأ عليهم كتاب
المنصور. فجمعهم وقرأ عليهم فقالوا: ما أمرتنا فعصيناك ولا دعوتنا فخالفناك.
وانفض الأمر بسلام.
وعُني المنصور بالعمارة في ملكه يعمر الجسور والقنى والآبار، ففشت في أيامه
أعمال العمران، وحمل المهندسين من الآفاق إلى العراق خصوصًا لبناء مدينة بغداد،
واختار المنصور موقعها بنفسه لإحاطتها بدجلة والفرات بحيث يصعب على أكثر الجيوش
تخطيها، ولأن مواد الشام والجزيرة تأتيها بالفرات، ومواد الموصل وما وراءها
تُحمل إليها في دجلة. وبنى الرُّصافة لابنه المهدي ليصير ابنه في مدينة، وعكسر
بالجانب الشرقي، ويصير المنصور في مدينة، وعكسر بالجانب الغربي، فلا يشغب
الجند.
وحج المنصور آخر حجة، وكان موقنًا أنه لا يرجع من حجه، زاعمًا أنه عرف ذلك من
المنجمين، فقال لابنه وأشار إلى سَفَط له فيه دفاتر وعليه قفل لا يفتحه غيره:
انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم
القيامة، فإن حَزَبَك أمر فانظر في الدفتر الكبير فإن أصبت فيه ما تريد وإلا
ففي الثاني والثالث حتى تبلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد
فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة أي بغداد، وإياك أن تستبدل بها
غيرها، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك
لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البعوث فاحتفظ بها؛ فإنك لا تزال عزيزًا
ما دام بيت مالك عامرًا. وأوصى ابنه بأهل بيته، وأن يحسن إليهم ويقدمهم، ويوطئ
الناس أعقابهم، ويوليهم المنابر. وأوصاه بأهل خراسان خيرًا؛ لأنهم أنصاره
وشيعته الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولته، وأوصاه أن لا يُدخل النساء في
أمره، وأن يعد الكراع والرجال والجند ما استطاع، وأن يعد رجالًا بالليل لمعرفة
ما يكون بالنهار، ورجالًا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وأن يباشر الأمور
بنفسه، وأن يستعمل حسن الظن ويسيء الظن بعماله وكتابه، وأن لا يُبرم أمرًا حتى
يفكر فيه، فإنَّ فِكْرَ العاقل مرآة تريه حسنه وسيئه. وقال له: يا بني لا يصلح
السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل،
وأَقْدَرُ الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظَلَم من هو
دونه، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختياره. وقال له أيضًا: إني تركت الناس ثلاثة
أصناف: فقيرًا لا يرجو إلا غناك، وخائفًا لا يرجو إلا أمنك، ومسجونًا لا يرى
الفرج إلا منك، فإذا وليت فأذقهم طعم الرفاهية، لا تُمْدد لهم كل المد.
هذا إجمال ما عمله أبو جعفر المنصور وما أوصى به ابنه لإتمام ما بدأ به من
التراتيب. وقد أبقت الأيام كتابًا لابن المقفع في الصحابة
٢٢ أي أصحاب الخليفة، كتبه إلى أبي جعفر أورد فيه ما يحتاجه الملك من
الإصلاح ليسير على قواعد مطَّردة سليمة من الشوائب، وأدركنا منه بعض المسائل
الإدارية التي كانت تشغل الأذهان في ذاك الزمان. بدأه بتذكير الخليفة بجند
خراسان فقال: إنهم جند لم يدرك مثلهم في الإسلام وفيهم منَعة وهم أهل بصر
بالطاعة، وفضل عند الناس، وعفاف نفوس وفروج، وكف عن الفساد، وذل للولاة، فرأى
أن يكتب لهم أمانًا معروفًا بليغًا وجيزًا محيطًا بكل شيء، بالغًا في الحجة،
قاصرًا عن الغُلُوِّ، يحفظه رؤساؤُهم حتى يقودوا به دهماءَهم. وارتأى أن لا
يولي أحدًا منهم شيئًا من الخراج، فإن ولاية الخراج مفسدة للمُقاتِلة، وإن منهم
من المجهولين من هو أفضل من بعض قادتهم، فلو التُمسوا وصُنِعُوا
٢٣ كانوا عُدَّة وقوة، وكان ذلك صلاحًا لمن فوقهم من القادة، ومن
دونهم من العامة، وأن يتعهد أدبهم في تعليم الكتاب والتفقُّه في السنة والأمانة
والعصمة والمباينة لأهل الهوى. وأن يظهر فيهم من القصد والتواضع واجتناب زي
المترفين وشكلهم مثل الذي يأخذ به أمير المؤمنين في أمر نفسه. قال: ولا يزال
يُطَّلع من أمر أمير المؤمنين ويخرج منه القول ما يعرف مقتُه للإتراف
٢٤ والإسراف وأهلهما، ومحبته القصد والتواضع ومن أخذ بهما، حتى يعلموا
أن معروف أمير المؤمنين محظور عمن يكنزه، بخلًا أن ينفقه سرفًا في العطر
واللباس والمغالاة بالنساء والمراتب.
وأشار أن يوقت الخليفة للجند وقتًا يعرفونه في كل ثلاثة أشهر أو أربعة أو ما
بدا له أنهم يأخذون فيه، فينقطع الاستبطاء والشكوى، هذا مع كثرة أرزاقهم وكثرة
المال الذي يخرج لهم، وأن الجند يحتاجون إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق
لغلاء السعر. والرأي أن يجعل بعض أرزاقهم طعامًا وبعضه علفًا يُعْطَوْنَهُ
بأعيانه، ورأى أن لا يخفى على أمير المؤمنين شيء من أخبار هذا الجند
وحمالاتهم
٢٥ وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف، وأن يحتقر في ذلك النفقة،
ولا يستعين فيه إلا بالثقات النُّصَّاح «فإن ترك ذلك وأشباهه أحزم بتاركه من
الاستعانة فيه بغير الثقة فيصير جُنَّة للجهالة والكذب» ووصَّى بأهل المصرين
الكوفة والبصرة قائلًا: إنهم أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعة الخليفة ومعينيه،
وإن في أهل العراق من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئًا لا يكاد يشك أنه
ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه. وأراده على أن يكتفي
بهم، وأنه ما أزرى بأهل العراق إلا أن من وُلُّوا العراق كانوا أشرار الولاة،
وأعوانهم من أهل أمصارهم كذلك «فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك
الفسول،
٢٦ وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم، ثم كانت هذه الدولة
فلم يتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب ممن دنا منهم، أو
وجدوه بسبيل شيء من الأمر، فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق حيثما وقعوا
من صحابة خليفة أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهاد، وكان من رأي أهل
الفضل أن يُقصدوا حتى يلتمسوا، فأبطأ ذلك بهم أن يعرفوا أو ينتفع بهم … فنزلت
الرجال عن منازلها؛ لأن الناس لا يلقون صاحب السلطان إلا متصنعين بأحسن ما
يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهل النقص هم أشد تصنعًا، وأحلى ألسنة،
وأرفق تلطفًا للوزراء أو تمحلًا لأن يثني عليهم من وراء وراء.» ثم ذكره بإصلاح
القضاء، وما يصدر عن القضاة من الأحكام المتناقضة، ورجا أن يوحد القضاء، ويوضع
للقضاة كتاب يرجعون إليه.
وتعرض لأهل الشام، وذكَّره أنهم أشد الناس مؤنة، وأخوفهم عداوة وبائقة، فمن
الرأي أن يختص منهم خاصة ممَّن يرجو عنده صلاحًا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء،
فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويدخلوا فيما
حملوا عليه من أمرهم، ولا يعامل أهل الشام كما عامل أهل العراق من جَعْلْ فيئهم
إلى غيرهم، وتنحيتهم عن المنابر والمجالس والأعمال، كما كانوا يُنَحُّون عن ذلك
من لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع، ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون
الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة. ورجاه أن يأخذ
منهم أهل القوة والغَناء وخفة المؤنة والعفة في الطاعة، ولا يفضل أحدًا منهم
على أحد إلا على خاصة معلومة. وقال بهذا المعنى في إقامة العذر لأهل الشام على
نزواتهم، وأنه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بها، ثم كان
ذلك التوثُّب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.
وذكَّره بأصحابه «الذين هم بها فِنائه، وزينة مجلسه، وألسنة رعيته، والأعوان
على رأيه، ومواضع كرامته، والخاصة من عامته.» وأبان أنها مراتب طمع فيها
الأوغاد «ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة، ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي،
مشهور بالفجور في أهل مصره، قد غبر عامة دهره صانعًا يعمل بيده، فصار يؤذن له
على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين
وأهل البيوتات من العرب، ويجري عليه من الرزق الضعف ممَّا يجري على كثير من بني
هاشم وغيره من سروات قريش، ويخرج له من المعونة على نحو ذلك، لم يضعه بهذا
الموضع رعاية رحم، ولا فقه في دين، ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية
متتابعة قديمة، ولا غناء حديث، ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء، ولا عدة
يستعدُّ بها، وليس بفارس ولا خطيب ولا علَّامة، إلا أنه خدم كاتبًا أو حاجبًا
فأخبر أن الدين لا يقوم إلا به، حتى كتب كيف شاء، ودخل حيث شاء.» ثم ذكَّره
بأمر فتيان أهل بيته وبني أبيه وبني عليٍّ وبني العباس، ووصفهم بأن فيهم رجالًا
لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوهًا، وكانوا عدة لأخرى.
ومن أهم ما ذكره به أمر الأرضين والخراج. قال: «فليس للعمال أمر ينتهون إليه
ولا يُحاسَبُون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعدما يتأنقون لها
في العمارة، ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم، فسيرة العمال فيهم إحدى ثنتين: إما
رجل أُخِذَ بالخرق والعنف من حيث وجد، وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن
وَجَد، وإما رجل صاحب مساحة يستخرج ممَّن زرع، ويترك من لم يزرع فيعمر من يعمر
ويسلم من أخرب.» وأراده على أن يعمل رأيه «في التوظيف على الرساتيق والقرى
والأرضين وظائف معلومة، وتدوين الدواوين بذلك، وإثبات الأصول حتى لا يؤخذ رجل
إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها، ولا يجتهد في عمارة إلا كان له فضلها ونفعها»
ليكون في ذلك صلاح للرعية، وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال.
قال: «وهذا رأي مؤنته شديدة، ورجاله قليل، ونفعه متأخر، وليس بعد هذا في أمر
الخراج إلا رأي قد رأينا أمير المؤمنين أخذ به، ولم نره من أحد قبله، من تخيُّر
العمال وتفقُّدهم.»
ثم ذكَّره بجزيرة العرب، وأن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم؛ لأن
ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق أمير المؤمنين وأكرمه
بها من الرأي الذي هو بإذن الله حمى ونظام لهذه الأمور كلها في الأمصار
والأجناد والثغور والكور. ومما قاله في خاتمة كتابه: «إن بالناس من
الاستخراج
٢٧ والفساد ما قد علم أمير المؤمنين، وبهم من الحاجة إلى تقويم آدابهم
وطرائقهم ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها. وأهل كل مصر وجند
أي ثغر فقراء إلى أن يكون لهم من أهل الفقه والسير والنصيحة مؤدبون مقومون،
يذكرون ويبصرون الخطأ، ويعظون عن الجهل، ويمنعون عن البدع، ويحذرون الفتن،
ويتفقدون أمور عامة من هو بين أظهرهم حتى لا يخفى عليهم منها مهمٌّ، ثم
يستصلحون ذلك، ويعالجون على ما استنكروا منه بالرأي والرفق والنصح، ويرفعون ما
أعياهم إلى ما يرجون قوته عليهم، مأمونين على سير ذلك وتحصينه، بصراء بالرأي
حين يبدو، وأطباء باستئصاله قبل أن يتمكن، وفي كل قوم خواص رجال عندهم على هذا
معونة إذا صُنعوا لذلك وتلطَّف لهم، وأُعينوا على رأيهم، وقَوُوا على معاشهم
ببعض ما يفرغهم لذلك ويبسطه لهم. وخطر هذا جسيم في أمرين: أحدهما برجوع أهل
الفساد إلى الصلاح، وأهل الفرقة إلى الألفة، والأمر الآخر أن لا يتحرك متحرك في
أمر من أُمور العامة إلا وعين ناصحة ترمقه، ولا يهمس هامس إلا وأُذن شفيقة تصيخ
نحوه.» قال: «وقد علمنا علمًا لا يخالطه الشك أن عامة قط لم تصلح من قبل
أنفسها، ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها، وأن خاصة قط لم تصلح من قبل
أنفسها، وأنها لم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها … فإذا جعل الله فيهم خواص من
أهل الدين والعقول ينظرون إليهم، ويسمعون منهم، اهتمت خواصهم بأمور عوامهم،
وأقبلوا عليه بجِدٍّ ونصح ومثابرة وقوة، جعل الله ذلك صلاحًا لجماعتهم، وسببًا
لإصلاح الصلاح من خواصهم، وزيادة فيما أنعم الله به عليهم، وبلاغًا إلى الخير
كله، وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم
وأعظم من ذلك.»
هذه زُبدة تقرير ابن المقفع للمنصور، وفيه صورة جميلة مما تحتاجه إدارة البلاد
من الإصلاح، وما يجب القيام به لاستصلاح الجند والرفق بأهل الكوفة والبصرة،
والعناية بأهل العراق والعطف على الحجاز واليمن واليمامة، واختيار العمال
الكفاة والرجوع إلى أهل الرأي، واصطناع أرباب العقل من أهل الشام وإشارة إلى أن
بغضهم بني العباس من الأمور الطبيعية؛ لأن الملك كان فيهم فانتقل إلى غيرهم،
وعرفه الطرق إلى استصلاح العامة، واختيار الخاصة من الأصحاب والموالين إلى غير
ذلك من الأمور التي يمكن تطبيقها لعمران البلاد ورفع الحيف عن الخلق، والانتفاع
بالقوى المفيدة للرعية وأرضهم. ومن أهم ما وقفَنا عليه هذا التقريرُ أن الأمة
لم تعدم في إبَّان مجدها رجالًا يدلونها على مواطن الضعف من سلطانها، ومعالجة
الإصلاح بالعقل حتى يبلغ كماله، والأخذ في كل أمر من أمور الدولة بالحزم النافع
والمصلحة الشاملة.
إدارة المهدي والهادي والرشيد
سار المهدي بالخلافة على الخُطَّة التي اختطها له أبوه، ينظر في الدقائق من
الأمور، ويظهر أُبهة الوزارة؛ لكفاءة وزيره أبي عبيد الله بن معاوية بن يسار،
فإنه جمع له حاصل المملكة ورتب له الديوان
٢٨ وقرر القواعد «وكان كاتب الدنيا، وأوحد الناس حذقًا وعلمًا وخبرة.»
اخترع أمورًا منها أنه نقل الخراج إلى المقاسمة، وكان السلطان يأخذ عن الغلات
خراجًا مقرَّرًا ولا يقاسم، وجعل الخراج على النخل والشجر، وضبطت الأمور في
أيامه ضبطًا محكمًا. وكان من جملة حظ المهدي أن يكون له وزراء من هذا الطراز
العالي، وهو يعتمد عليهم، ويضع ثقته برجال دولته، واستوزر أيضًا يعقوب بن داود
فخرج كتاب المهدي إلى الديوان أن أمير المؤمنين آخى يعقوب بن داود، فلم يكن
ينفذ شيء من كتب المهدي حتى يرد كتاب الوزير يعقوب معه إلى أمينه بإنفاذه؛ أي
إن الخليفة ووزيره كانا يراقب أحدهما عمل صاحبه لتقرير ما تلزم به المصلحة قبل
إمضائه.
ووضع المهدي ديوان الأزِمَّة، ولم يكن لبني أمية ذلك، ومعنى ديوان الأَزِمَّة:
أن يكون لكل ديوان زمام وهو رجل يضبطه، وقد كانت الدواوين قبل ذلك
مختلطة،
٢٩ والسبب في وضع ديوان الأَزِمَّة أنه لما جُمِعَتِ الدواوين لعمر بن
بزيع فكَّر فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون له على كل ديوان، فاتخذ دواوين
الأَزِمَّة، وولى على كل ديوان رجلًا. وأنشَئوا ديوانًا سموه ديوان النظر، أي
المكاتبات والمراجعات، تسهيلًا على أرباب المصالح. والديوان يقسم أربعة
أقسام؛
٣٠ ديوان الجيش: وفيه الإثبات والعطاء. وديوان الأعمال: ويتولى الرسوم
والحقوق. وديوان العمال: ويختص بالتقليد والعزل. وديوان بيت المال: ينظر في
الدخل والخرج.
والمهدي أول من جلس للمظالم من بني العباس، يقيم العدل بين المتظالمين، ومشى
على أثره الهادي والرشيد والمأمون. وكان المهتدي آخر من جلس للنظر فيها. وبسط
المهدي يده في العطاء فأذهب جميع ما خلَّفه المنصور وهو ستمائة ألف ألف درهم
وأربعة عشر ألف ألف دينار، وأجرى المهدي على المجذَّمين وأهل السجون في جميع
الآفاق، وأمر بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن وبغداد ببغال وإبل. ولم
يكن هناك بريد قبل ذلك ولا في قُطر من الأقطار. وكان وزيره «يرفع إليه النصائح
في الأمور الحسنة من أمور الثغور والولايات، وبناء الحصون، وتقوية الغزاة،
وتزويج العزاب، وفكاك الأسرى والمحبَّسين، والقضاء على الغارمين، والصدقة على
المتعفِّفين.» واشتد المهدي على الزنادقة، وقتل في جملة من قتل ابن وزيره أبي
عبد الله بن معاوية فاستوحش كل منهما من صاحبه فاعتزل الوزير الخدمة.
قال رجل للمهدي: عندي نصيحة يا أمير المؤمنين. فقال: لمن نصيحتك هذه؛ لنا؟ أم
لعامة المسلمين؟ أم لنفسك؟ قال: لك يا أمير المؤمنين. قال: ليس الساعي بأعظم
عورة ولا أقبح حالًا ممَّن قبل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة فلا تشفي
غيظك أو عدوًّا فلا نعاقب لك عدوك. ثم أقبل على الناس فقال: لا ينصح لنا ناصح
إلا بما فيه رضى لله وللمسلمين صلاح؛ فإنما لنا الأبدان وليس لنا القلوب، ومن
استتر عنا لم نكشفه، ومن بادانا طلبنا توبته، ومن أخطأ أقلنا عثرته؛ فإني أرى
التأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة، والسلامة مع العفو أكثر منها مع العاجلة،
والقلوب لا تبقى لوالٍ لا ينعطف إذا استُعطِف، ولا يعفو إذا قدر، ولا يغفر إذا
ظفر، ولا يرحم إذا استرحم. وهذا أرقى الأدب في استمالة القلوب وحسن سياسة
الناس، ومن وفق إلى تطبيق هذه القواعد على أمته لا يحتاج إلى سلاح يخيفهم ولا
إلى جند يضبطهم.
وأفضت الخلافة إلى الهادي، والدواوين مدوَّنة مرتبة، فمن ديوان الخراج، إلى
ديوان الضياع، إلى ديوان الزِّمام، إلى ديوان التوقيع والتتبُّع على العمال،
إلى ديوان النظر أي المكاتبات والمراجعات، إلى ديوان الرسائل، إلى ديوان البريد
والخرائط … إلى غير ذلك من الدواوين. ومن أهم ما عمله الهادي في عهده القصير:
أن منع أمه الخيزران من التدخُّل في أمور السلطان لقضاء حوائج الناس.
٣١ وحلف أن يضرب عنق كل من يقف على بابها من قُوَّادِه وخاصته وخدمه
قائلًا لها: أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟ إياك ثم إياك أن
تفتحي فاك في حاجة لمِلِّيٍّ أو ذِمِّيٍّ. فعملت والدته بما رسم لها ابنها،
وكانت في أول خلافة الهادي تفتات
٣٢ عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد
بالأمر
٣٣ والنهي. أما ابنها فكان من رأيه أنه «ليس من قدر النساء الاعتراض
في أمر الملك.» وقال: «ما للنساء والكلام في أمر الرجال؟!» ولما كان في آخر
أيامه من الدنيا استدعاها وقال لها: قد كنت نهيتُك عن أشياء وأمرتك بأخرى على
ما أوجبته سياسة الملك لا موجبات الشرع من برك، ولم أكن عاقًّا بل كنت لك
صائنًا وبَرًّا واصلًا. ثم قضى نحبه قابضًا على يدها واضعًا لها على صدره.
وبإبعاد الهادي النساء عن الوساطات والشفاعات عمل بوصية جده المنصور لابنه
المهدي، وجعل أمور الدولة تسير في قواعدها المرعية على ما تقضي به أحكام الشرع
والعقل، ويراه الوزراء والأمراء والقضاة. وكان الهادي جبارًا عظيمًا، وهو أول
من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المُرهَفة، والأعمدة المشهورة، والقسي
الموتورة، فسلكت عماله طريقته، ويمموا منهجه، وكثر السلاح في عصره.
سار الرشيد في إدارته على نهج قويم، وأعاد إلى الخلافة رونقها الذي كان لها على
عهد جده المنصور، وما كان بالمسرف ولا بالمبخَّل، وسمى الناس أيامه «أيام
العروس» لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها. وكانت دولته
٣٤ «من أحسن الدول وأكثرها وقارًا ورونقًا وخيرًا وأوسعها رقعة مملكة:
جبى الرشيد معظم الدنيا وكان أحدَ عماله صاحبُ مصر.» وقلد وزارته يحيى بن خالد،
وقال له: «قد قلدتك أمر الدولة وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من
الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمضِ الأمور على ما ترى.» ودفع إليه
خاتم الخلافة. أما الولايات: فقد فوضها لأمراء جعل لهم الولاية على جميع أهلها،
ينظرون
٣٥ في تدبير الجيوش والأحكام، ويقلدون القضاة والحكام، ويجبون الخراج
ويقبضون الصدقات، ويقلدون العمال فيها، ويحمون الدين، ويقيمون حدوده، ويؤمون في
الجُمَعِ والجماعات أو يستخلفون عليها، ويسيرون الحج من أعمالهم، فإن كانت
أقاليمهم ثغرًا متاخمًا للعدو تَوَلَّوْا جهاده.
وما قسمت أعمال الدولة منذ انتقالها إلى بني العباس تقسيمها في زمن الرشيد؛
ولذلك كان للخليفة وقت ليحج ووقت ليغزو، ووقت ليصطاف ويرتبع في الرقة، ويترك
قصر الخلد في بغداد. ولقد كان الروم من جيوش الرشيد في بليَّة فما غزتهم مرة
إلا وحالفها التوفيق، وبعث صاحب الروم جزية رأسه وبطارقته، وجرى الفداء بين
الروم والعرب حتى لم يبقَ من المسلمين أسير واحد بأيدي الروم، وما اشتعلت فتنة
في أرجاء مملكته إلا أطفأها، ومنها: فتنة النزارية واليمانية في الشام؛ أي قيس
ويمن عادوا إلى ما كانوا عليه فقُتل منهم بشر كثير، فأرسل عليهم إبراهيم بن
محمد المهدي واليًا؛ ففكر أن يعمد إلى طرق إدارية لقطع شأفة هذه الغائلة، فرأى
أن يلهيهم بقشور، ويتقرب من قلوبهم بما يستميلها ولا يصدعها، فسار في استقبالهم
على قانون من «التشريفات» أو «البروتوكول» أرضاهم به وما تكلَّف شيئًا، فقد أمر
حاجبه بإحضار وجوه الحيين، وأمره بتسمية أشرافهم، وأن يقدم من كل حي الأفضل
فالأفضل منهم، فأمر بتصيير أعلى الناس من الجانب الأيمن مضريًّا وعن شماله
يمانيًّا، ومن دون اليماني مضري ومن دون المضري يماني، حتى لا يلتصق مضري بمضري
ولا يماني بيماني، فلما قدم الطعام قال قبل أن يطعم شيئًا: «إن الله — عز وجل —
جعل قريشًا موازين بين العرب، فجعل مضر عمومتها، وجعل يمن خئولتها، وافترض
عليها حب العمومة والخئولة، فليس يتعصب قرشي إلا للجهل بالمفترض عليه.» ثم قال:
«يا معشر مضر كأني بكم وقد قلتم إذا خرجتم لإخوانكم من يمن قد قدَّم أميرنا مضر
على يمن، وكأني بكم يا يمن قد قلتم وكيف قدمكم علينا، وقد جعل بجانب اليماني
مضريًّا وبجانب المضري يمانيًّا؟ فقلتم يا معشر مضر: إن الجانب الأيمن أعلى من
الجانب الأيسر، وقد جعلت الأيمن لمضر والأيسر ليمن، وهذا دليل على تقدمته إيانا
عليكم. ألا إن مجلسك يا رئيس المضرية في غد من الجانب الأيسر، ومجلسك يا رئيس
اليمانية في غد من الجانب الأيمن. وهذان الجانبان يتناوبان بينكما، يكون كل من
كان في جهته متحولًا عنه في غده إلى الجانب الآخر.» فانصرف القوم كلهم حامدًا،
وبمثل هذه القوانين الإدارية رجع السلام إلى الشام ست سنين، واستراحت من
العصبية الجاهلية وبأو
٣٦ القبلية. قال الجاحظ:
٣٧ حدثني إبراهيم بن السندي قال: لما كان أبي بالشام واليًا أَحَّب أن
يسوي بين القحطاني والعدناني، وقال: لسنا نقدمكم إلا على الطاعة لله — عز وجل —
وللخلفاء، وكلكم إخوة، وليس للنزاري شيء وليس لليماني مثله. قال: وكان يتغدى مع
جِلة من جِلة الفريقين، ويسوي بينهم في الإذن والمجلس.
ومن عمال الرشيد من أبدع طرقًا جديدة في الإدارة، وَلِيَ عمر بن مهران مصر فقال
هذا لغلامه: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب. لا تقبل دابة ولاجارية
ولا غلامًا. فجعل الناس يبعثون بهداياهم فجعل يرد ما كان من الألطاف
٣٨ ويقبل المال والثياب، ويوقِّع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع
الجباية. وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فاستأدى من الخراج النجم
الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث وقعت المطالبة والمطل فأحضر أهل
الخراج والتجار فطالبهم فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي
بعث بها إليه، ونظر في الأكياس، وأحضر الجهبذ؛
٣٩ فوزن ما فيها، وأجزى أثمانها عن أهلها، ثم قال: يا قوم، حفظت عليكم
هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا مالنا. فأدوا إليه حتى أغلق مال
مصر، فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره.
٤٠
ولقد كان الرشيد على أشد ما يكون من الانتباه لكل ما دَقَّ وجَلَّ من شئون
الملك «ومن أشد الملوك بحثًا عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عناية، وأحزمهم فيها
أمرًا.» يصطنع الرجال، ويحلم عن مساوئ تغتفر من رجاله، ويسعى في عمران البلاد،
ويكف الأذى عن الرعية، ويأخذ بأيدي العلماء والباحثين، ويجتمع إليهم ويأنس بهم.
ولما رأى أن ملكه في خطر محقَّق من نفوذ آل برمك وزرائه وخاصته؛ لانصراف الوجوه
إليهم لكثرة ما أحسنوا إلى الناس، ولإجماع القاصي والداني على حبهم حتى ساموا
الخليفة أو أربوا عليه في المكانة، أمر بالقبض عليهم ومصادرتهم وقتلهم، وما
أراد أن يبوح بسر ما أتاه، فرجم القوم الظنون به؛ وذلك لأنه خافهم على ملكه،
وهم فُرس لهم قديم يمتون إليه من الإمارة، والفرس يحاولون منذ القرن الأول أن
يعيدوا الملك فيهم فارسيًّا، ويخرجون عن صبغته العربية. ونشأت من قتلهم قصة
طويلة سُداها ولحمتها المبالغة، بل الاختلاق، شغل الرشيد بها الناس عن نفسه وعن
سياسة بلاده.
ووضع الرشيد عن أهل السواد العُشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف، وترك بعض أهل
الضياع في فلسطين أرضهم فوجَّه إليهم أحد كبار قواده فدعا قومًا من أكرتها
ومزارعيها إلى الرجوع إليها، على أن يخفف عنهم من خراجهم وتلين معاملتهم،
فرجعوا فأولئك أصحاب التخافيف. وجاء قوم منهم بعدُ فردت عليهم أرضوهم على مثل
ما كانوا عليه فهم أصحاب الردود. والرشيد يسد كل خلل في مملكته، ويهتم كل
الاهتمام أن يخفف عن الفلاحين. وكان رجاله لا يألونه نصحًا؛ لأنه يهتم لكل ما
ينفع. وفي الرسالة التي كتبها له قاضيه أبو يوسف في الخراج نموذج من هذه
العناية، ومما قال فيها: «وقد بلغني أن عمال الخراج يبعثون رجالًا من قِبَلِهِم
في الصدقات فيظلمون ويعسفون ويأتون ما لا يَحِلُّ، وإنما ينبغي أن يتخير للصدقة
أهل العفاف والصلاح، فإذا وليتها رجلًا ووجد من قبله من يوثق بدينه وأمانته
أجريت عليهم من الرزق بقدر ما تجري، ولا تجري عليهم ما يستغرق أكثر الصدقة …
ويكون من يولى فقيهًا عالمًا مشاورًا لأهل الرأي مؤتمنًا على الأموال، إني قد
أراهم لا يحتاطون فيمن يولون الخراج، إذا لزم الرجل منهم باب أحدهم أيامًا
ولَّاه رقاب المسلمين وجباية خراجهم، ولعله أن لا يكون عرفه بسلامة ناصية ولا
بعفاف ولا باستقامة طريقة ولا بغير ذلك … وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفًا
لأهل عمله، ولا محتقرًا لهم، ولا مستخفًّا بهم، ولكن يلبس لهم جلبابًا من اللين
يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء، من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم،
واللين للمسلم والغلظة على الفاجر، والعدل على أهل الذمة وإنصاف المظلوم،
والشدة على الظالم والعفو عن الناس … فإن كل ما عمل به والي الخراج من الظلم
والعسف؛ فإنه يحمل على أنه قد أُمِرَ به وقد أُمِرَ بغيره، وإن أحللت بواحد
منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره واتقى وخاف، وإن لم تفعل هذا بهم تَعَدَّوْا
على أهل الخراج، واجترءوا على ظلمهم وعسفهم وأخذهم بما لا يجب عليهم، وإذا صح
عندك من العامل والوالي تعدٍّ بظلم أو عسف وخيانة لك في رعيتك واحتجان شيء من
الفيء، أو خبث طُعمته أو سوء سيرته، فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن
تقلده شيئًا من أمر رعيتك أو تشركه في شيء من أمرك، بل عاقبه على ذلك عقوبة
تروّعِ غيره من أن يتعرض لمثل ما تعرض له.»
وقال: «بلغني عن ولاتك على البريد والأخبار في النواحي تخليط كثير ومحاباة فيما
يحتاج إلى معرفته من أمور الولاة والرعية، وأنهم ربما مالوا مع العمال على
الرعية وستروا أخبارهم وسوء معاملتهم للناس، وربما كتبوا في الولاة والعمال بما
لم يفعلوا إذ لم يُرضوهم، وهذا مما ينبغي أن تتفقده، وتأمر باختيار الثقات
العدول من أهل كل بلد ومصر فتوليهم البريد والأخبار. وكيف ينبغي أن لا يُقبل
خبر إلا من ثقة عدل، ويجري لهم من الرزق من بيت المال وليدرَّ عليهم، وتقدم
إليهم في أن لا يستروا عنك خبرًا عن رعيتك ولا عن ولاتك، ولا يزيدوا فيما
يكتبون به عليك خبرًا، فمن لم يفعل منهم فنكِّلْ به، ومتى لم يكن أصحاب البُرُد
والأخبار في النواحي ثقات عدولًا فلا ينبغي أن يُقبل لهم خبر في قاضٍ ولا والٍ.
إنما يحتاط بصاحب البريد على القاضي والوالي وغيرهما فإذا لم يكن عدلًا فلا يحل
ولا يسع استعمال خبره ولا قبوله.»
٤١
بمثل هذا اللسان يتلطف أبو يوسف، وينصح لخليفته في اختيار عمال الخراج والأمناء
على الأخبار لمراقبة العمال والولاة والقضاة. على أن الرشيد أخذ
العمال
٤٢ والتناء والدهاقين وأصحاب الضياع والمبتاعين للغلات
والمقبلين
٤٣ وكان عليهم أموال مجتمعة فطولبوا بصنوف من العذاب. وهذا ما دعا بعض
الناس في الدولة العباسية إلى أن يقولوا: إن بني أمية
٤٤ كانت مصائبهم في أديانهم، وإن جبايتهم وأموالهم سليمة لم يظلموا في
العشر والخراج، أما بنو العباس فمع سلامة أديانهم كانت أموالهم فاسدة وجباياتهم
بالظلم والغش. وأوضاع كل أمة تثقل وتخف في الميزان بحسب غَناء القائمين على
تطبيقها، يزنون بالقسطاس المستقيم أو يُخسرون إذا كالوا أو وزنوا. ولَّى الرشيد
أحدهم بعض أعمال الخراج، فدخل على الرشيد يودعه وعنده يحيى وجعفر بن يحيى، فقال
الرشيد ليحيى: أوصياه. فقال له يحيى: وفِّر واعمر. وقال له جعفر: أنصف وانتصف.
فقال له الرشيد: اعدل وأحسن.
وانتهى إلى علم الرشيد أن عامل الأهواز قد اقتطع مالًا كثيرًا من مال البلد،
ولما سأله الرشيد أجاب: وحلفت بأيمان البيعة أني قد نصحت وشكرت الصنيعة ووفرت
وما أسرفت ولا خُنت، والله لأصدقنك عن أمري: عمرت البلاد واستقصيت حقوقك من غير
ظلم، ووفرت أموالك، وفعلت ما يفعله الناصح لسيده، وكنت إذا كان وقت بيع الغلات
جمعت التجار، فإذا تقررت العطايا أنفذت البيع وجعلت لي مع التجار فيه حصة،
فربما ربحت وربما وُضِعت. إلى أن اجتمع لي من ذلك ومن غيره في عدة سنين عشرة
آلاف ألف درهم فاتخذت أزجًا
٤٥ كبيرًا عقد بالجص والآجر كأنه مجلس، وجعلت بين يديه موضعًا أقعد
فيه، وعبيت البدر شيئًا بعد شيء في الأزج ثم سددته، وهو بحاله ما أشك أن
العنكبوت قد نسجت على ما فيه، فخذها وحوِّل وجهك إلى عبدك. فقال الرشيد: بارك
الله لك في مالك، فارجع إلى عملك ودار رعيتك.
ولما دخل عليه عامله بدمشق يرسف في قيده قال له الرشيد: وليتك دمشق وهي جَنة
بها غُدر تتكفأ أمواجها على رياض كالزرابي، واردة منها كفايات المؤن إلى بيوت
أموالي، فما برح بك التعدي لأرفاقهم فيما أمرتك حتى جعلتها أجرد من الصخر وأوحش
من القفر. قال: واللهِ يا أمير المؤمنين ما قصدت لغير التوفير من جهة، ولكن
وَلِيت أقوامًا ثقل على أعناقهم الحق فتفرقوا إلى ميدان التعدي، ورأوا المراغمة
بترك العمارة أوقع بإضرار الملك وأنوه بالشنعة على الولاة؛ فلا جرم أن أمير
المؤمنين قد أخذ لهم بالحظ الأوفر من مساءتي.
وكان الرشيد إذا أحسَّ من عامل له خيانة دبر له من صائب رأيه ولطف حيلته ما يدل
على بُعد نظره وحسن إدارته وجميل تديُّنه، وشدة غيرته على مصلحة ملكه، فيمسك
أقصر الطرق إلى القضاء على الفتن الملحوظة والغوائل المستجنَّة، فيضرب على
المسيء بسيفه وسنانه، كما يغمر المحسن بإنعامه وإحسانه. أراد مرة أن يعزل علي
بن عيسى عن خراسان — وخراسان كثيرًا ما كانت تشغل بال الرشيد كما شغلت بال
أسلافه — فدعا هرثمة بن أعين مستخليًا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدًا، ولم
أُطلعه على سري فيك، وقد اضطربت عليَّ ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي
بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمد ويستجيش، وأنا كاتب إليه
أخبره أني أمده بك، وأُوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن
إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابًا بخطي فلا تفتضَّه، ولا تطلعن
فيه حتى تصل إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله ولا تجاوزه
إن شاء الله. وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بن عيسى بخطي؛
ليتعرف ما يكون منك ومنه، وهوِّن عليه أمر علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما
عزمت عليه، وتأهب للمسير، وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددًا لعلي بن عيسى
وعونًا له. ثم كتب إلى علي بن عيسى كتابًا بخطه نسخته: «بسم الله الرحمن
الرحيم. يا ابن الزانية، رفعتُ من قدرك، ونوهتُ باسمك، وأوطأتُ سادة العرب
عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم حَوَلك وأتباعك، فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت
وراء ظهرك أمري، حتى عثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته، بسوء
سيرتك، ورداءة طُعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان،
وأمرته أن يشدد وطأته عليك، وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم
درهمًا ولا حقًّا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به، حتى ترده إلى أهله. فإن أبيت
ذلك وأباه ولدك وعمالك، فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم
ما يحل بمن نكث وغيَّر، وبدل وخالف، وظلم وتعدَّى وغشم؛ انتقامًا لله — عز وجل
— بادئًا، ولخليفته ثانيًا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثًا، فلا تعرض نفسك للتي
لا سوى لها، واخرج ممَّا يلزمك طائعًا أو مكرهًا.»
وكتب عهد هرثمة بخطه ونصه: «هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة
بن أعين حين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه، أمره بتقوى الله وطاعته، ورعاية
أمر الله ومراقبته، وأن يجعل كتاب الله إمامًا في جميع ما هو بسبيله. فيُحِلَّ
حلاله، ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه، ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله،
وأولى العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله — عز وجل — فيه رأيه،
ويعزم له على رشده، وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بن عيسى وولده وعماله
وكُتَّابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال يصح
عليهم من خراج أمير المؤمنين وفَيْءِ المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقبِلَهم
من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم،
فإن ثبت قِبلَهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق المسلمين فدافعوا بها وجحدوها أن
يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى
أدب تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم، فإذا خرجوا من حق كل ذي حق، أشخصهم كما تشخص
العصاة من خشونة الوطأ وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه
إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله. فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك؛ فإني
آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك وعليه فليكن أمرك. ودبر في
عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحش معه إلى أمر يريبهم وظن
يرعبهم، وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضي الله
منك وخليفته ومن ولاك الله أمره إن شاء الله. هذا عهدي وكتابي بخطي وأنا أُشهِد
الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سماواته وكفى بالله شهيدًا. وكتب أمير المؤمنين
بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته.»
أمثلة تكشفت بها حقيقة إدارة الرشيد وبُعد غوره في تراتيبه، ولقد رُفِعَ إليه
أن رجلًا بدمشق من بقايا بني أمية
٤٦ عظيم الجاه واسع الدنيا كثير المال والأملاك مطاعًا في البلد له
جماعة وأولاد ومماليك وموالٍ، يركبون الخيل، ويحملون السلاح، ويغزون الروم،
وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه، فعظم ذلك عليه، فاستدعى
منارة صاحب الخلفاء، وأمره بالخروج إلى دمشق، وضم إليه مائة غلام، وأجَّله
لذهابه ستة وإيابه ستة ويومًا لقعوده، وأمره أن يتفقد دار الرجل وجميع ما فيها
وولده وأهله وحاشيته وغلمانه، وما يقولون وقدر النعمة والحال والمحل. فجاءه به
في الميعاد المضروب وقص عليه ما سمعه ورآه. فعرف الرشيد أن الرجل محسود على
النعمة مكذوب عليه، فأدناه واعتذر عن استدعائه، وقال له: سَلْ ما تحتاج إليه من
مصالح جاهك ومعاشك. فقال: عمال أمير المؤمنين مُنصِفون وقد استغنيت بعدله عن
مسألته من ماله، وأموري منتظمة وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور أهل البلد بالعدل
الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين. فأعاده إلى بلده على خير حال ولم يترك للوشاة
سبيلًا إليه.
ولقد توسع الرشيد في توسعة سلطة عماله ليستقيم أمر البلاد؛ فقد شخص الفضل بن
يحيى إلى خراسان واليًا عليها فبنى فيها المساجد والرباطات، واتخذ بخراسان
جندًا من العجم سمَّاهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وذكروا أن عدتهم بلغت
خمسمائة ألف رجل، وأنه قدِم منهم بغداد عشرون ألف رجل فسُمُّوا ببغداد
الكرنبية، وخلف الباقي بخراسان على أسمائهم ودفاترهم. كتب والي إرمينية للرشيد
إلى وزيره: «إن قومًا صاروا إلى سبيل النصح، فذكروا ضياعًا بإرمينية قد عَفَت
ودرست، يرجع منها إلى السلطان مال عظيم، وإني وقفت عن المطالبة حتى أعرف رأيك.»
فكتب إليه: «قرأت هذه الرقعة المذمومة وفهمتها، وسوق السعاية بحمد الله في
أيامنا كاسدة، وألسنة السُّعاة في أيامنا كليلة خاسئة، فإذا قرأت كتابي هذا
فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما في ديوانك، فإنَّا لم نولك الناحية لتتبع
الرسوم العافية، ولا لإحياء الأعلام الداثرة، وجنبني وتجنَّب بيت جرير يخاطب
الفرزدق:
وكنتَ إذا حللت بدار قوم
رحلت بخزية وتركت عارًا
وأجر أمورك على ما يكسب الدعاء لنا لا علينا، واعلم أنها مدة تنتهي وأيام
تنقضي، فإمَّا ذكر جميل، وإما خزي طويل.»
ومما يعد في توسيع السلطة: أن قاضي الرشيد أبو يوسف كان أول من دعي في الإسلام
قاضي القضاة، ولم يقع
٤٧ هذا الاسم على غيره كما وقع له فيه، فإنه كان قاضي المشرق والمغرب،
فهو قاضي القضاة على التحقيق، والقضاة يعينون باقتراحه، وكان القاضي في العواصم
لا يتناول أقل من ألف دينار في السنة، وأجرى على قاضي مصر
٤٨ مائة وثمانية وستين دينارًا في كل شهر وهو أول قاضٍ أجري عليه هذا،
وأجروا بعد ذلك على القاضي سبعة دنانير كل يوم ثم صار أبو الجيش يُجري على
قاضيه كل شهر ثلاثة آلاف دينار، وكانوا يُجرون على القضاة والعمال الأرزاق من
بيت المال من جباية الأرض أو من خراجها والجزية.
والرشيد لا يضن بالمال في سبيل الدولة، والمال وحده لا يكفي الخليفة أمر الفتوق
التي تحدث إن لم يكن لها من يوثق بأمانته في تلافي شرها، والرشيد على كثرة بذله
المأثور خلف من المال «ما لم يخلف
٤٩ أحد مثله مذ كانت الدنيا؛ وذلك أنه خلف من الأثاث والعين والورق
والجوهر والدواب سوى الضياع والعقار ما قيمته مائة ألف ألف وخمسة وعشرون ألف
ألف دينار.» قال ابن الأثير كان الرشيد يطلب العمل بآثار المنصور إلا في بذل
المال فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن
ولا يؤخر ذلك.
إدارة الأمين والمأمون
لم يعرف التاريخ شيئًا من التدبير الذي جرى عليه الأمين بعد الرشيد؛ لأنه كان
يعبث وقلما يَجِدُّ، شغل نفسه والأمة معظم أيامه بالفتن، لنزع ولاية العهد من
أخيه المأمون وتوسيدها إلى ابنه الرضيع، وكان من أثر هذا التطاحُن بين الأخوين
أن خرب قسم عظيم من مدينة دار السلام، دع غيرها من الأرباض والولايات، وسالت
سيول الدماء، وفرق الأمين ما في خزائن الدولة من الأموال والأعلاق والذخائر،
حتى دالت الخلافة وضاعت بعد الرشيد، ولم يرزق الأمين وزراء كوزراء أخيه: طاهر
بن الحسين وهرثمة بن أعين والحسن بن سهل والفضل بن سهل ثم أحمد بن يوسف وعمرو
بن مسعدة وأضرابهم، بل اصطنع مَن نبَذهم أبوه الرشيد، وكان أقصاهم لسوء سيرتهم،
فربح المأمون برجاله وعقله، وخسر الأمين برجاله وضعف تدبيره.
وبينا كان المأمون في مروٍ ينظر في أمور الدولة كان الأمين يوجِّه «إلى جميع
البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فُره
الدواب وأخذ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته
وقُوَّاده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في
خصيانه وجلسائه ومحدثيه … وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه …
وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس
وأنفق في عملها مالًا عظيمًا.»
ولما حصر الأمين وضغطه
٥٠ الأمر قال: ويحكم أما أحد يُستراح إليه! فأتوه برجل من العرب فلما
صار إليه قال له: أشِرْ علينا في أمرنا. قال له: يا أمير المؤمنين قد بطل الرأي
اليوم وذهب، ولكن استعمل الأراجيف فإنها من آلة الحرب. فكان يضع له الأخبار
فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها. فالأمين كان يسف إلى ذلك، وأخوه المأمون يعمد
إلى القُوَّاد والعظماء والعلماء الأعلام يستشيرهم ويأتمنهم.
وغلط المأمون لأول أمره ثلاث غلطات إدارية؛ منها: أنه لم يأتِ إلى عاصمة ملكه
عُقَيْبَ مقتل أخيه فقضى في الطريق من مرو إلى بغداد سنتين بعد أن أقام بمرو
تسع سنين، وكان عليه أن يبادر لجمع القلوب، وكسر شوكة المتلاعبين من القواد.
وبايع المأمون بولاية عهده إلى علي بن موسى الرضا وهو في خراسان فأخرج الخلافة
من آل العباس، حتى أجمعوا على خلافه وبايعوا بالخلافة إبراهيم بن المهدي في
بغداد وخلعوا طاعته. ومنها: أنه سمع لوشاية وزيره الفضل بن سهل في هرثمة بن
أعين الذي كان بحسن تدبيره العامل الأول في القضاء على جيوش أخيه الأمين وإيصال
الخلافة للمأمون. وكانت أتت هرثمة كتب المأمون أن يلي الشام والحجاز فأبى وقصد
إلى المأمون في خراسان
٥١ «إدلالًا منه عليه؛ لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن
يُعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وألا يدعه
حتى يرده إلى بغداد دار خلافة آبائه وملكهم؛ ليتوسط سلطانه ويشرف على أطرافه،
فعلم الفضل ما يريد فقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل عليك البلاد والعباد وظاهر
عليك عدوك.» ولما أُدخل هرثمة على المأمون وقد أُشرِب قلبه ما أشرب من ناحيته
ذكر له ما بلغه عنه مما افتراه الفضل، وذهب هرثمة يتكلم ويعتذر ويدفع عن نفسه
ما قُرِّف به، فلم يقبل ذلك منه، وأمر به فوُجِئَ على أنفه، وديس بطنه، وسحب من
بين يديه ثم قتل.
وكاد المأمون يغلط غلطة رابعة بتخليه عن طاهر بن الحسين: «الذي أبلى
٥٢ في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة حتى
إذا وطأ الأمر أُخرج من ذلك كله، وصُيِّر في زاوية من الأرض بالرقة قد حظرت
عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده.» وتنوسي حتى لا يستعان به في شيء في
الحروب، واستعين بمن هو دونه أضعافًا. لكن عقل المأمون تدارك هذه الغلطات، وما
إن جاء بغداد حتى قبض على قياد الملك قبضة الرجل الحازم، وظهرت مواهبه ونبوغه
في السياسة والإدارة في زمن غلبت الفتنة على قلوب الناس فاستعذبوها، ولا مال له
يرضيهم به. وقال يتخوف هائجًا يهيج وبيوت المال فارغة: إن الناس في هذه المدينة
على طبقات ثلاث: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم. فأما الظالم فليس يتوقع إلا
عفونا وإحساننا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن ينتصف إلا بنا، ومن كان لا ظالمًا
ولا مظلومًا، فبيته يسعه، وما كان إلا كما قال.
وقيل: إن المأمون بكى لما رأى طاهر بن الحسين. فلما سئل عن سبب بكائه، قال: إني
ذكرت محمدًا أخي «الأمين» وما ناله من الذلة فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى
الإفاضة ولن يفوت طاهرًا مني ما يكره، فبلغ ذلك طاهرًا فركب إلى أحمد بن أبي
خالد فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن
عينه. فسعى له بتولية خراسان، وكان قبل ولايته ندبه الحسن بن سهل للخروج إلى
محاربة نصر بن شبث فقال: حاربت خليفة وسقت الخلافة إلى خليفة وأؤمر بمثل هذا!
وإنما يجب أن توجه لهذا قائدًا من قوادي. ثم وسد المأمون إلى عبد الله بن طاهر
وهو ابن طاهر بن الحسين الرقة وحرب نصر بن شبث، وولَّاه البلاد التي في طريقه؛
ليكون حكمه نافذًا مهيبًا مهيَّأة له أسباب الظفر من كل وجه؛ وذلك لئلا تتعارض
السلطات، ويجمع القائد في العادة بين السلطة العسكرية والسلطة المدنية، وهذا من
دقيق سياسة العباسيين. ولما وسدت إلى عبد الله بن طاهر قيادة الجيش لقتال
الخارجي ابن شبث كتب إليه أبوه طاهر بن الحسين كتابًا تنازعه
٥٣ الناس وكتبوه وتدارسوه، وشاع أمره حتى بلغ المأمون فدعا به وقُرِئَ
عليه فقال: ما أبقى أبو الطيب شيئًا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي
والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا
وقد أحكمه وأوصى به، وتقدم وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي
الأعمال.
ومما ورد في هذا الكتاب في الإدارة: «ولا تتهمن أحدًا من الناس فيما توليه من
عملك قبل تكشف أمره بالتهمة؛ فإن إيقاع التهم بالبداء والظنون السيئة بهم مأثم،
واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم،
يعنك
٥٤ ذلك على اصطناعهم ورياضتهم … ولا يمنعنك حسن الظن بأصحابك والرأفة
برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، ولتكن المباشرة لأمور الأولياء،
والحياطة للرعية، والنظر فيما يقيمها ويصلحها، والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم
آثر عندك ممَّا سوى ذلك، وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما
استحقوه، ولا تعطل ذلك ولا تهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في
تفريطك في ذلك ما يُفسد عليك حسن ظنك، واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة،
وجانب البدع والشبهات؛ يسلم لك دينك، وتستقم لك مروءتك، وإذا عاهدت عهدًا ففِ
به، وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة وادفع بها. واغمض عن عيب كل ذي عيب
من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وأبغض أهله، وأقصِ أهل النميمة؛ فإن
أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها
٥٥ تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور
والنميمة خاتمتها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها، ولا يسلم له صاحب ولا
يستقيم لمطيعها أمر … واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنها رأيك، وأظهر
براءتك من ذلك لرعيتك، وأنعم بالعدل سياستهم، وقُمْ بالحق فيهم، وبالمعرفة التي
تنتهي بك إلى سبيل الهدى، واملك نفسك عند الغضب، وآثِرِ الوفاء والحلم، وإياك
والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله … ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تذخر وتكنز
البر والتقوى والمعدلة واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم والتفقُّد لأمورهم،
والحفظ لدمائهم، والإغاثة لملهوفهم. واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في
الخزائن لا تثمر، وإذا كانت في إصلاح الرعية، وإعطاء حقوقهم وكف المئونة عنهم،
نمت وربت، وصلحت به العامة، وتزينت به الولاة، وطاب به الزمان، واعتُقِد فيه
العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر
منه على أولياء أمير المؤمنين قِبَلك حقوقَهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد
ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرَّت النعمة عليك، واستوجبت
المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك، وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان
الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب نفسًا لكل ما أردت
…»
وعاد فوضع له قواعد في حكمة الأخلاق لا تصلح بغيرها الولاية، فقال: «ولا
تحقرنَّ ذنبًا، ولا تمالئنَّ حاسدًا، ولا ترحمنَّ فاجرًا، ولا تصلنَّ كفورًا،
ولا تداهننَّ عدوًّا، ولا تصدقنَّ نمامًا، ولا تأتمننَّ غدارًا، ولا توالينَّ
فاسقًا، ولا تبتغينَّ عاديًا، ولا تحمَدنَّ مرائيًا، ولا تحقرنَّ إنسانًا، ولا
تردنَّ سائلًا فقيرًا، ولا تجبينَّ باطلًا، ولا تلاحظنَّ مضحكًا، ولا تُخلِفنَّ
وعدًا، ولا ترهقنَّ هُجرًا، ولا تظهرنَّ غضبًا، ولا تأتينَّ بذخًا، ولا تمشينَّ
مرحًا، ولا تركبنَّ سفهًا، ولا تفرطنَّ في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عتابًا،
ولا تغمض عن الظالم رهبة منه أو مخافة، ولا تطلبنَّ ثواب الآخرة في
الدنيا.»
قال: «وأكثِرْ مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخُذْ عن أهل التجارب وذوي
العقل والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الذمة والنِّحَل، ولا تسمعن لهم
قولًا؛ فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادًا لما استقبلت فيه أمر
رعيتك من الشح. واعلم أنك إذا كنت حريصًا كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت
كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلًا؛ فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن
أموالهم وترك الجور عنهم … وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم
أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، يذهب الله بذلك فاقتهم، فيقوى بك أمرهم، وتزيد
به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصًا وانشراحًا …»
ثم ذكر له القضاء وإقامة العدل فيه «لتصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف
المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤَدى حق الطاعة.» إلى أن قال —
بعد أن عرفه ما يفعل لحقن الدماء وإعطاء الحقوق: «وانظر هذا الخراج الذي
استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزًّا ورفعة، ولأهله سعة ومَنَعة،
ولعدوه وعدوهم كبتًا وغيظًا، ولأهل الكفر من معاهديهم ذلًّا وصَغارًا،
فوَزِّعْهُ بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئًا
عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك،
ولا تأخذنَّ منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفنَّ أمرًا فيه شطط، واحمل الناس كلهم
على مُرِّ الحق؛ فإن ذلك أجمع لأُلفَتهم، وألزم لرضا العامة. واعلم أنك جُعلت
بولايتك خازنًا وحافظًا وراعيًا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم
وقَيِّمُهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم
وصلاحهم وتقويم أودهم. فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة
والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسِّع عليهم في الرزق فإن ذلك من
الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأُسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك
عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك،
وحسن الأحدوثة في عملك، وأحرزت به المحبة من رعيتك، وأُعِنْتَ على الصلاح،
فدرَّت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك،
وتوفَّرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإفاضة العطاء
فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضيَّ العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في
أمورك كلها ذا عدل وقوة وآلة وعُدة، فنافس في هذا ولا تقدِّم عليه شيئًا تحمد،
مَغَبة أمرك إن شاء الله.
واجعل في كل كورة من عملك أمينًا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم
وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاينٌ لأمره كله، وإن أردت أن تأمره
بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه
حسن الدفاع والنصح والصنع، فأمضِه وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به
ثم خذ فيه عدته …
وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغدٍ أمورًا
وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا
أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فيشغلك ذلك حتى تعرض عنه، فإذا أمضيت لكل يوم
عمله، أرحت نفسك، وبذلك أحكمت أمور سلطانك. وانظر أحرار الناس وذوي
الشرف
٥٦ منهم ممن تستيقن صفاء طويَّتهم، وشهدت مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح
والمخالصة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلتْ
عليهم الحاجة، فاحتمل مئونتهم، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسًّا، وأفرد
نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك،
والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فسل عنه أحفى مسألة، ووكِّل بأمثاله أهل
الصلاح من رعيتك، ومُرْهُم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك؛ لتنظر فيها بما يصلح
الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقًا من
بيت المال …
وأجرِ للأضراء
٥٧ من بيت المال، وقدِّمْ حمَلة القرآن منهم، والحافظين لأكثره في
الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورًا تُؤويهم، وقُوَّامًا يرفقون
بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفْهم بشهواتهم ما لم يؤدِّ ذلك إلى سرف في
بيت المال. واعلم أن الناس إذا أُعطُوا حقوقهم وفضل أمانيهم، لم يُرضِهم ذلك
ولم تَطِبْ أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم؛ طمعًا في نيل الزيادة، وفضل
الرفق منهم، وربما تَبَرَّمَ المتصفح لأمور الناس؛ لكثرة ما يَرِدُ عليه ويشغل
فكره وذهنه منها، ما يناله به مئونة ومشقة.
وأكثِرِ الإذن للناس عليك وأبرِزْ للناس وجهك، وسكِّنْ لهم حواسك، واخفضْ لهم
جناحك، وأظهِرْ لهم بِشرك، ولِنْ لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك
وفضلك، وإذا أَعْطَيْتَ فأعطِ بسماحة وطيب نفس، والتماس الصنيعة والأجر من غير
تكدير ولا امتنان؛ فإن العطية على ذلك تجارة مربحة … واعرف ما تجمعُ عمالُك من
الأموال وينفقون منها، ولا تجمع حرامًا، ولا تُنْفِقْ إسرافًا، وأكثِرْ مجالسة
العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم
الأمور ومعاليها. وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبًا فيك لم تمنعه
هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سِرٍّ، وإعلامك ما فيه من النقص؛ فإن أولئك أنصح
أوليائك ومظاهريك.
وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقِّتْ لكل منهم في كل يوم وقتًا يدخل به
عليك بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك وأمور كورك ورعيتك، ثم فرغ لما
يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكَرِّرِ النظر فيه والتدبُّر له،
فما كان موافقًا للحزم والحق فأمضه، واستخر الله فيه، وما كان مخالفًا لذلك
فاصرفه إلى التثبُّت فيه والمسألة عنه. ولا تمننَّ على رعيتك ولا على غيرهم
بمعروف تؤتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في
أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك …»
أرأيتم هذا الكلام الآخذ بجماع الفوائد الذي كتب به طاهر بن الحسين إلى ابنه
قبل خمسين ومائة وألف سنة في هذا الموضوع الجليل الذي فيه قوام الممالك
والشعوب؟ أتظنون أن هذه الأفكار يصدر اليوم أحسن منها عن أكبر عالم إداري عارف
بطبائع الناس وما يصلحهم، والممالك وما ينبغي لها؟ وعرفنا من هذا الكتاب مكانة
طاهر بن الحسين من قيام الدولة والدفاع عن حوزة الخلافة، وأن المأمون الذي يكون
من جملة قواده ورجال دولته هذا العظيم لا بد أن يكون في عمله جدَّ عظيم. وقد
تقدم معنا أن عبد الله بن طاهر نُدب لحرب بن نصر بن شبث، فلما استأمن هذا
وصَفَتْ البلاد، جاء الشام فعمل أحسن الأعمال لراحلة أهلها واستقراها بلدًا
بلدًا، لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك
والزواقيل،
٥٨ وهدم الحصون وحيطان المدن، وبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر
وضمهم جميعًا، ونظر في مصالح البلدان وحط عن بعضها الخراج، ثم قصد إلى مصر فضرب
على أيدي الخوارج فيها، وربطها بالخلافة ربطًا محكمًا. وكان نحو
٥٩ الخمسة عشر ألفًا من أهل قرطبة جلوا من الأندلس بعد وقعة الربض في
سنة ٢٠٢ فانتهوا إلى الإسكندرية فملكوها مُدَيْدة، فلما ورد عبد الله بن طاهر
على مصر صالَحهم على التخلي عنها على مال بذله لهم، وخيَّرهم في النزول حيث
شاءوا من جزائر البحر فاختاروا جزيرة إقريطش من البحر الرومي.
وكان من تربية طاهر بن الحسين أن جاء ابنه، كما قال له أحمد بن يوسف الكاتب،
موفقًا في الشدة والليان في مواضعهما، ولا يعلم سائس جند ورعية عدل بينهم عدله،
ولا عفا بعد القدرة عمَّن آسفه وأضغنه عفوه. قال: ولقلَّ ما رأينا ابن شرف لم
يُلْق بيده متكلًا على ما قدَّمت له أبوته. قال يونس بن عبد الأعلى: أقبل إلينا
(في مصر) فتى حدث من المشرق — يعني ابن طاهر — والدنيا عندنا مفتونة قد غلب على
كل ناحية من بلادنا غالب، والناس في بلاء، فأصلح الدنيا وأمَّن البريء، وأخاف
السقيم، واستوثقت له الرعية بالطاعة. ولقد قال المأمون لبعض جلسائه: من أنبل ما
تعلمون نبلًا وأعفهم عفة؟ فجالوا بما فتح الله عليهم، وبعضهم مدحه وقرَّظه.
فقال: ذلك واللهِ أبو العباس عبد الله بن طاهر، دخل مصر وهي كالعروس الكاملة،
فيها خراجها وبها أموالها جمة، ثم خرج عنها فلو شاء الله أن يخرج منها بعشرة
آلاف ألف دينار لفعل، ولقد كان لي عليه عين ترعاه، فكتب إليَّ أنه عرضت عليه
أموال لو عرضت عليَّ أو بعضها لشرهت إليها نفسي، فما علمته خرج من ذلك البلد
إلا وهو بالصفة التي قدِمها فيها، إلا مائة ثوب وحمارين وأربعة أفراس. فمن رأى
أو سمع بمثل هذا الفتى في الإسلام، فالحمد لله الذي جعله غرس يدي وخريج
نعمتي.
هكذا كان عدل العمال وشرف أنفسهم، وهكذا كان علمهم وبُعد نظرهم في عصر المأمون،
فلا يستغرب بعد ذلك ما ذكر من قصة
٦٠ تلك المرأة القبطية التي نادت المأمون لما مَرَّ بقريتها طاء
النمل
٦١ من أرض مصر وسألته أن يقبل قِراها؛ ليجعل لها الشرف ولعقبها بذلك،
وأن لا يشمت بها الأعداء، وبكت بكاءً كثيرًا، فنزل عليها بجيشه ورجاله، وكانت
ضيافتها من فاخر الطعام ولذيذه. وفي الصباح بعثت إلى المأمون بعشر وصائف مع كل
وصيفة طبق، في كل طبق كيس من ذهب. فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته. فقالت: لا والله
لا أفعل. فتأمل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله. فقال: هذا واللهِ أعجب، وربما
عجز بيت مالنا عن مثل ذلك! فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر
بنا. فقال: إن في بعض ما صنعت لكفاية ولا نحب التثقيل عليك، فردي مالك بارك
الله فيك. فأخذت قطعة من الأرض، وقالت: يا أمير المؤمنين هذا — وأشارت إلى
الذهب — من هذا — وأشارت إلى الطينة التي تناولتها من الأرض — ثم من عدلك يا
أمير المؤمنين، وعندي من هذا شيء كثير فأمر به فأخذ منها، وأقطعها عدة ضياع،
وأعفاها من بعض خراج أرضها.
وفي الحق إنه لم يُعرف عصر كعصر المأمون وعصر أبيه وأخيه الأمين في استفاضة
الأموال في كل طبقة من طبقات الأمة؛ فقد أنفق الحسن بن سهل على عرس ابنته بوران
على المأمون أربعة آلاف ألف دينار، وماتت الخيزران أم الهادي والرشيد (١٧٣)
وكانت غلتها ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ومات محمد بن سليمان وقبض الرشيد
أمواله بالبصرة وغيرها، فكان مبلغها نيفًا وخمسين ألف ألف درهم سوى الضياع
والدور والمستغلات، وكان محمد بن سليمان يغلُّ كل يوم مائة ألف درهم. وأنفق
جعفر بن يحيى على داره التي ابتناها في دار السلام نحوًا من عشرين ألف ألف
درهم. وغنَّى إبراهيم بن المهدي محمدًا الأمين صوتًا فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم.
فقال إبراهيم: يا سيدي قد أمرت لي إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم فقال:
وهل هي إلا خراج بعض الكور؟!
ووقع للمأمون غير مرة أن كان يخف إلى الأقطار التي تنشب فيها فتنة جديدة لا
يعتمد على رجاله على كثرة الصالحين منهم للعمل. ولما انتقضت أسفل الأرض كلها
بمصر عربِها وقبطِها، وأخرجوا العمال وخالفوا الطاعة، وكان ذلك لسوء سيرة
العمال فيهم، هبط المأمون مصر لعشر خلون من المحرم سنة سبع عشرة ومائتين، وسخط
على عامله عيسى بن منصور، وأمر بحل لوائه وأمره بلباس البياض، وقال: لم يكن هذا
الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك، حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتموني
الخبر، حتى تفاقم الأمر واضطربت البلد. وقال: ما فتق عليَّ قط فتق في مملكتي
إلا وجدت سببه جور العمال. وقال لمن رفع إليه خبرًا في عامل: إني امرؤ أداري
عمالي مداراة الخائف، وبالله ما أجد إلى أن أحملهم على المحجة البيضاء سبيلًا،
فاعملْ على حسب ذلك ولِنْ لهم تسلم منهم.
وخص المأمون بالإغضاء عن المساوئ، والتغابي عن التافهات، وحمل الناس على محمل
الخير، وجهد أن يسوق إليهم كل خير، وهذا مع كثرة عنايته بأخذ أخبار عماله
ورعيته، وقيل إنه كان للمأمون ألف عجوز وسبعمائة يتفقد بها أحوال الناس ومن
يحبه ويبغضه ومن يفسد حرم المسلمين، وكان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه
كلها، وكان يدور ليلًا ونهارًا مستترًا، ومع كل هذا كان المأمون أبدًا إلى جانب
المسامحة والعفو، وتتجافى نفسه العظيمة عن كل ما تَشْتَمُّ منه رائحة الطمع
والإسفاف إلى أموال العمال، وكادت المصادرات والنكبات تبطل في أيامه، ولا ينكب
إلا من حاول نقض بنيان الدولة. ولقد رفع إليه أن عمرو بن مسعدة أحد وزراء دولته
خلَّف ثمانين ألف ألف درهم، أو نحو ثمانية ملايين دينار، فوقع على الرقعة: «هذا
قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيه.»
وكأنه استفظع القتل الذي يصيب كل عَدُوٍّ للدولة فبسط جناح الرحمة، وقلَّل من
إهلاك النفوس ما أمكن. وأقام نفسه مقام رجل يعرف الطباع البشرية، وينصف خصومه
وأعداءه، ويحسن إليهم ولا يسيء، كتب صاحب بريد همدان
٦٢ إلى المأمون بخراسان يعلمه أن كاتب البريد المعزول أخبره أن صاحبه
وصاحب الخراج كانا تواطآ على إخراج مائتي ألف درهم من بيت المال واقتسماها
بينهما، فوقَّع المأمون: «إنا نرى قبول السعاية شرًّا من السعاية؛ فإن السعاية
دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبله وأجازه، فانف الساعي عنك،
فلو كان في سعايته صادقًا لقد كان في صدقه لئيمًا، إذ لم يحفظ الحرمة ولم يستر
على أخيه.»
وقال المأمون لولده في معنى الوشاة: يا بَنِيَّ، نزهوا أقذاركم وطهروا أحسابكم
عن دنس الوشاة وتمويه سعايتهم؛ فكل جانٍ يده في فيه، وليس يشي إليكم إلا أحد
الرجلين: ثقة وظنين. أما الثقة فقد قيل إنه لا يبلغ ولا يسيئن بالوشاية قدره،
وأما الظنين فأهل أن يتهم صدقه، ويكذب ظنه، ويرد باطله، وما سعى رجل برجل إليَّ
قط إلا انحط
٦٣ من قدره عندي ما لا يتلافاه أبدًا، فلا تعطوا الوشاة أمانيهم فيمن
يشون بهم. ولئن لم يترك المأمون مجالًا للوشاة يخربون بيوت من يشون بهم،
ويزيلون نعمتهم، أو يوردونهم موارد الهلكة، فما كان يخفى عليه خبر من الأخبار
الخاصة والعامة في القاصية والدانية، حتى إنه لما ضاق صدره من تشدد بعض العلماء
في حِوار خلق القرآن، كتب إلى عامله بمعائبهم رجلًا رجلًا، وقال إنه أعلم بما
في منازلهم منهم. وخبَّر في هذه الرسالة عن عيب واحد واحد من الفقهاء وأصحاب
الحديث، وعن حالتهم وأمورهم التي خَفِيَتْ أو أكثرها عن القريب والبعيد.
ولقد كان من أهم قوانين إدارته: التوسعة على عماله حتى لا يسرقوا الرعية
والسلطان ويضيعوا حقوقهم؛ رفع منزلة الفضل بن سهل، وعقد له على الشرق طولًا
وعرضًا، وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم. وما كان المأمون بالخليفة الذي يتخلى
عن خاصة عماله بأدنى سبب، بل يغض الطرف عن مساويهم ويتركهم في برزخ بين الرغبة
والرهبة؛ ولذلك استراح واستراح الناس معه، وعلى قدر ما كان يراعي الخاصة يراعي
العامة؛ فقد قال في وصيته للخليفة بعده: ولا تُغفِل أمر الرعية والعوام فإن
الملك بهم وبتعهدك لهم. اللهَ اللهَ فيهم وفي غيرهم من المسلمين، ولا ينتهين
إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من
أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصِفْ بعضهم من بعض بالحق بينهم،
وقرِّبهم وتأنَّ بهم.
وكان المأمون يحرص كل الحرص على الانتفاع برجاله، ويُطلق لهم حريتهم في العمل،
وممن كان يستمع لمشورتهم أحمد بن أبي داود، وهذا كان أول من افتتح الكلام مع
الخلفاء، وكانوا لا يبدؤهم أحد حتى يبدءوه. ولما أسند
٦٤ المأمون وصيته عند الموت إلى أخيه المعتصم قال فيها: وأبو عبد الله
أحمد بن أبي داود لا يفارقْك الشركة في المشورة في كل أمر فإنه موضع ذلك، ولا
تتخذنَّ من بعدي وزيرًا. ومن جملة ما أوصى به المأمون أخاه المعتصم في مرضه: خذ
بسيرة أخيك في القرآن والإسلام، واعمل في الخلافة إذا طوقَكَها الله عمل المريد
لله، الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته، وكأن قد نزل بك الموت.
ومن ذلك عرفنا أن سياسة المأمون ملكَه كانت علمًا وعملًا، وهكذا يريد أن يكون
عماله. وَعَظَهُ رجل فأصغى إليه منصتًا فلما فرغ قال: قد سمعت موعظتك فأسأل
الله أن ينفعنا بها وربما عملنا، غير أنَّا أحوج إلى المعاونة بالفعال مِنَّا
إلى المعاونة بالمقال؛ فقد كثر القائلون وقل الفاعلون.
وكان في المأمون شيء من الجاذبية الفطرية يستميل بها القلوب، ويجمعها على حبه؛
ذلك أنه كان يعرف أمزجة أمَّتِه فيشغلها في المفيد، ولا لغو ولا لهو في حياته،
فكان بإدارته مثالَ الجد في الخوالف من بني العباس، يفكر في أمر رعيته أكثر من
تفكيره في أمور نفسه. كتب إلى عامله على دمشق في التقدم إلى عماله في حسن
السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل محله، وأن يتقدم إلى عماله في ذلك أشد
التقدِمة، وأن يكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك، وكتب بهذا إلى جميع عماله في
أجناد الشام. واستجلب المأمون لمساحة أرض الشام مُسَّاح العراق والأهواز والري.
وكان يعدل الخراج إذا شكا منه أهله. وكان العلاء بن أيوب لما وَلِيَ فارس من
قِبَلِ المأمون يكتب عهد العمال فيقرؤه من يحضره من أهل ذلك العمل، ويقول أنتم
عيوني عليه فاستوفوه منه، ومن تظلم إليَّ منه فعليَّ إنصافه ونفقته جائيًا
وراجعًا. ويأمر العمال أن يقرءوا عهده على أهل عمله في كل جمعة، ويقول لهم: هل
استوفيتم؟
أصاب أهل مكة سيل جارف مات تحته خلق كثير، فكتب والي الحرمين إلى المأمون يذكر
له الحال، فوجه إليه المأمون بالأموال الكثيرة، وكتب إلى الوالي: «أما بعد، فقد
وصلت شكيَّتك لأهل حرم الله إلى أمير المؤمنين، فبكاهم بقلب رحمته، وأنجدهم
بسَيْب نعمته، وهو متبع ما أسلف إليهم، بما يخلفه عليهم عاجلًا وآجلًا، إن أذن
الله في تثبيت عزمه على صحة نيته.» قالوا: فصار كتابه هذا آنس لأهل مكة من
الأموال التي أنفذها، وكان له في كل بلد حوادث من الإحسان قلما يتسامى إليها
أحد من الخلفاء. ولقد ذكر المؤرِّخون أن المأمون لما كان في دمشق أضاق إضاقة
شديدة، ثم وافاه المال ثلاثون ألف ألف ألف درهم. فقال ليحيى بن أكثم: اخرج بنا
لننظر إلى هذا المال. فخرج وخرج الناس، وكان قد زين الحمل وزُخْرف، فنظر
المأمون منه إلى شيء حسن كثير، فاستعظم الناس ذلك واستبشروا به. فقال المأمون:
إن انصرافنا إلى منازلنا بهذا المال وانصراف الناس خائبين لؤمٌ. فأمر كتابه أن
يوقع لهذا بألف ألف ولذاك بمثلها ولآخر بأكثر منها حتى فرَّق أربعة وعشرين ألف
ألف ألف درهم (ثلاث مرات) ورجله في الركاب، ثم حوَّل الباقي على عرض الجيش برسم
مصالح الجند.
وذكروا أن المأمون عقد لأخيه أبي إسحق على ثغر المغرب، ولابنه العباس على الشام
والجزيرة، ولعبد الله بن طاهر على الجند ومحاربة بابك. وفرق فيهم ما لم يفرق
مثله أحد مذ كانت الدنيا: أمر لكل واحد منهم بخمسمائة ألف دينار. وما كان
المأمون يضن بمال إذا كان فيه صلاح الدولة والرعية. وخمسمائة ألف دينار يأخذها
العامل ينفقها في أتباعه ورجاله ومروءته. وكانت نفقة المأمون كل يوم ستة آلاف
دينار يصرف أكثرها على الرعية ولا يناله منها إلا جزء طفيف. كتب عمرو بن مسعدة
إلى المأمون كتابًا يستعطفه على الجند ونصه: «كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي
من أجناده وقواده في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت
أرزاقهم، واختلت أحوالهم.» فقال المأمون: والله لأقضين حق هذا الكلام. وأمر
بإعطائهم ثمانية أشهر، وكتب بعض ولاة الأجناد إلى المأمون: «إن الجند شغبوا
ونهبوا.» فكتب إليه: «لو عدلت لم يشغبوا، ولو وفيت لم ينهبوا.» وعزله عنهم،
وأدار عليهم أرزاقهم.
ويتعذر تعداد أفضال المأمون على الأفراد، وحرصه على اختيار رجاله وعنايته
بآرائهم وتجاربهم، وغرامه بالعفو والإحسان. قال أحمد بن أبي خالد وزير المأمون
لثمامة بن أشرس: كل واحد في هذه الدار — أي في دار الخليفة — له معنى غيرك؛
فإنه لا معنى لك في دار أمير المؤمنين. فقال له المأمون: إن له معنًى في الدار،
والحاجة إليه بينة. قال: وما الذي يصلح له؟ قال: أشاوره في مثلك هل تصلح لمن
معك أو لا تصلح. وثمامة هو من الجماعة الذين كانوا يَغْشَوْنَ دار
الخلافة
٦٥ وهي دار العامة، ومنهم محمد بن الجهم والقاسم بن سيار، وكان هؤلاء
الرجال أشبه بالمستشارين بل أشبه بدعاة الدولة وعنوان الخلافة. هذا إلى ما هناك
من شعراء وأدباء وعلماء وفقهاء يختلفون في الأحايين إلى الخليفة فيشاركهم في
حديثهم، وينافسهم في صناعتهم، ويفضل عليهم من هباته، فيخرجون وألسنتهم تنطق
بحمده، وتدعو بدوام ملكه، ويذكرون للعامة والخاصة ما هو عليه من بعد النظر في
سياسة الملك. قال الجاحظ: كان إبراهيم بن السندي مولى أمير المؤمنين عالمًا
بالدولة شديد الحب لأبناء الدعوة، وكان يحوط مواليه ويحفظ أيامهم، ويدعو الناس
إلى طاعتهم ويدرسهم مناقبهم، وكان فخم المعاني فخم الألفاظ، لو قلت لسانه كان
أردَّ على هذا الملك من عشرة آلاف سيف وسنان طرير لكان ذلك قولًا
ومذهبًا.
أُرانا قد خرجنا من وصف إدارة المأمون إلى وصف سيرته، ونحن إلى ذلك مسوقون على
الرغم منَّا، وأنَّى لنا أن نصدر حكمًا صحيحًا على حكومة مطلقة قبل أن نتعرف
أخلاق رأسها خليفة أو كان ملكًا أو أميرًا. والرأس هو الكل في مثل هذه الدول،
إذا صلح صلح الجسد كله.
الإدارة على عهد المعتصم وأخلافه
إذا ذكر المعتصم فأول ما يتبادر إلى ذهن قارئ التاريخ الإسلامي أنه الخليفة
الذي أشرك الترك في الخلافة العباسية وأبعد العرب عنها، فنقض أساس دولته بيده.
ولئن كان المنصور بدأ بشراء المماليك واستخدامهم وتابعه من خلفوه على ذلك، فإن
العباسيين ما دخلوا فيما دخل فيه المعتصم من وضعه من العرب
٦٦ وإخراجهم من الديوان، وإسقاط أسمائهم، ومنعهم العطاء من العاصمة
والولايات. فصار جند العباسيين من العجم والموالي.
اجتمع للمعتصم من الأتراك أربعة آلاف، فألبسهم أنواع الديباج والمناطق الذهبية،
وأبانهم بالزيِّ على سائر جنده، واصطنع قومًا من اليمن وقيس ومُضَرَ وسماهم
المغاربة. وأعد رجال خراسان من الفراغنة والأشروسنية وغيرهم من الترك. فأصبح
جند الخلافة
٦٧ على عهده خمسة أقسام: خراساني وتركي ومولى وعربي وبنوي،
٦٨ وكثر الهرج والمرج في فيالقهم ببغداد حتى اضطر أن يبني لهم مدينة
سامرة «سُرَّ من رأى» تخفيفًا عن أهل دار السلام؛ لأنهم كثروا على الناس، وضاقت
باعتداءاتهم الصدور.
فمن ثَمَّ كانت جيوش المعتصم كثيرة مستعدة للقتال عند أقل إشارة، وكان السعد
حليفه في غزواته مع الروم. قيل: إنه لما فتح
٦٩ عمورية كانت عدة عساكره خمسمائة ألف فارس، وعلى مقدمته خمسمائة من
الخيول البُلق، وكانت الحاميات في الثغور أبدًا على أتم نظام، وارتفاع الثغور
الشامية
٧٠ نحو المئة ألف دينار تُنفق
٧١ في مصالحها من المراقب والحرس والفواثير والركاضة
٧٢ والموكلين بالدروب والمخايض والحصون وغير ذلك من الأمور والأحوال،
وما يحتاج إلى شحنتها من الجنود والصعاليك.
٧٣ وتنفق الدولة على مغازي الصوائف والشواتي في البر والبحر في السنة
على التقريب مائتي ألف دينار، وعلى المبالغة ثلاثمائة ألف دينار. بيد أن
المعتصم لم يكن بالنفقة على شيء أسمح منه بالنفقة على الحرب، وربما كان للمعتصم
بعض العذر في ثقته بالأتراك في جيشه، وهم من القديم عُرِفُوا بالحرب واشتهروا
بالطاعة لقُوَّادهم، ولكن هذه الغلطة الإدارية كان وبالُها بعدُ على الدولة؛
لأن الأتراك تسللوا إلى الوزارات والقيادات، واستأثروا بالولايات والعمالات،
فأصبح لهم بعدُ السلطان الحقيقي على البلاد، وللخلفاء صبغة غير عملية من
الحكم.
أراد المعتصم أن يتشبه بأخيه المأمون فسار على أحكامه ونظامه، ومن أين له أن
يشبهه بعلمه وحلمه! فقد ذكر واصفوه بأنه كان قليل البضاعة من الأدب، وإذا غضب
لا يبالي من قتل ولا ما فعل. وقالوا: إنه كان يحب العمارة، ويقول إن فيها
أمورًا محمودة من عمران الأرض التي يحيا بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر
الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش. ويقول
لوزيره محمد بن عبد الملك: إذا وجدت موضعًا متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد
سنة أحد عشر درهمًا فلا تؤامرني فيه. وأعطى أهل الشاش ألفي ألف درهم لكرى نهر
لهم اندفن في صدر الإسلام.
لم يبتدع المعتصم ولا ابنه الواثق شيئًا جديدًا في الإدارة لم يعرفه المأمون
والرشيد، بل عاشا وعاشت الخلافة العباسية بعد ذلك بالأساس الذي وضعه المنصور
للدولة، ولم يكن لها بعد منتصف القرن الثالث تلك الروعة التي كانت لها في عهد
الخلفاء الأُوَل. وقلَّ بعد المأمون الخلفاء النادرون بذكائهم وتجاربهم، فأصيبت
الخلافة بعد عظمائها بفتور، وأعمالهم بقلة الرواء والاتساق. ومن أهم الدواعي
إلى هذا الانحطاط: فساد الإدارة واختلال أحوال القضاة، فنشأ ذلك من شراهة نفوس
العمال والوزراء وإضاعة الحقوق. ومن يصادر أو يموت عن عشرات أو مئات الألوف من
الدنانير من هذه الطبقة كيف يصح لك أن تحكم عليه بالبراءة من مال السُّحت
والرِّشا والسرقات. مساوئ ما فشت في أمة إلا ضاع حق سلطانها وحق رعيته.
وكانت أهم عقوبة تقع على الظالم من العمال مصادرة الخليفة أو وزيره أو عامله
الأكبر، وأصبح العمال في الدولة العباسية صورة عجيبة من استنزاف الأموال، وهم
موقنون بأن مصيرهم بما جمعوه إلى المصادرة والقتل. وقل فيهم من كان يكتفي بما
قرره له الخليفة أو العامل الأعظم من الجرايات والمشاهرات، وقد تكون على حد
الكفاية وأكثر من الكفاية بالنسبة لتلك الأعصُر، وما حدث فيها من وفرة الثروة
وعوائد الترف والسرف. وللوزراء ومن يلونهم طرق إبليسية في السلب. والأرجح: أن
أهم موارد الوزراء والولاة كان من نهب جباية الدولة أو بيت مالها، ومن الهدايا
التي يُضطَرُّونَ صغار عمالهم إلى تقديمها في كل فرصة، ومن رشا يتناولونها
ممَّن يحاولون أن يستخدموا في أعمال الدولة، إلى غير ذلك من وجوه انتهاب
الأموال وإعنات الناس. وكانت هذه الطبقة من الوزراء والكبراء تصوم وتصلي
وتتعبَّد وتتصدق وتغار على الإسلام والدولة، ثم تجوَّز الاحتيال لأخذ الأموال؛
لأن الأبهة تقضي التوسُّع في الإنفاق!
قال عامل مصر لأحد من زاره من وزراء العباسيين في الفسطاط، فرأى جسرًا يحتسب
العمال عنه على السلطان ستين ألف دينار في كل سنة، وهو لا يكلف عشرة دنانير: إن
جاريه ثلاثة آلاف في الشهر، ولا يمكنه وهو عامل مصر أن يكون بغير كتاب ولا عمال
ولا كراع ولا جمال ولا إعطاء ولا إفضال، وله حرم وأولاد وأقارب وأهل يحتاج لهم
إلى مئونة، ولا يخلو أن يرد عليه زوار بكتب من الرؤساء فتقضي المروءة أن يبرهم
ويصلهم، إلى غير ذلك ممَّا يصانع به. ومنها: هدايا سنوية إلى الخليفة والسيدة
وأنجاله والقهرمانة وكتابهم وأسبابهم. وبهذا رأينا أن العامل كان مضطرًّا بحسب
مصطلح ذلك الزمان إلى أن يسد العجز في موازنته الخاصة من طرق غير مشروعة، وقلَّ
العَفُّ الجيدُ الطُعْمة، وكلما تقدم الزمن وزادت الخلافة العباسية عتقًا
بَلِيَتِ الأخلاق في الناس، وتبعه تقلقل الإدارة؛ لفسولة رأى القائمين بالدولة
وتشعُّب أغراضهم.
ولقد كان الخلفاء على الأكثر يتخيَّرون للولايات والوزارات أكتب الناس وأعلمهم،
وللقضاء أقضاهم وأفتاهم. وحظوة الرجل عند قومه قد تكون من بواعث توسيد كبار
الأعمال إليه خصوصًا الوزارات والولايات والقيادات. وأتى زمن بعد المعتصم
والوزير أعجم طِمطم لا يَفهم ولا يُفهم، وأصبح أنصار الدولة والغيراء عليها
يتأفَّفون ممن لا يُحسنون العربية، وإن كان منطويًا على صفات أخرى صالحة في
تدبير الملك؛ وذلك لكثرة من دخل في الأعمال من غير العرب. وكان معظم العمال
يحاولون أن يجروا الرعية على المعاملات القديمة ويحملوهم على الرسوم السليمة.
ولكن تطلب أنفس الولاة والعمال إلى العبث بحقوق الناس؛ ليجنوا من ذلك ما تتلمظ
له شفاههم من المغانم، كان الباعث على استشراء الفساد في معظم طبقات
المجتمع.
ثم أصبح بعض العظماء
٧٤ ينفرون من الوزارة؛ لأن خاتمة حياتهم كانت التقتيل، ولأن مصير
أموالهم وأموال ذويهم كان في الغالب إلى المصادرة والاغتصاب. ولقد عمت المصادرة
سائر رجال الحكومة حتى الرعية، وأصبحت بتوالي الأيام المصدر الرئيسي لتحصيل
المال؛ فالعامل يُصادر الرعية، والوزير يصادر العمال، والخليفة يصادر الوزراء،
ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم. حتى أنشَئُوا للمصادرة ديوانًا خاصًّا مثل
سائر دواوين الحكومة؛ فكان المال يُتداول بالمصادرة كما يُتداول بالمتاجرة. غضب
المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وأخذ منه عشرة آلاف ألف دينار ثم نفاه. ثروة
ضخمة لو فكر الفضل أن يخلع طاعة الخليفة وينشئ بها مُلكًا له لما أعجزه ذلك.
وغضب الواثق على كُتَّاب الدواوين وسجنهم وأخذ منهم ألفي ألف دينار، وفيهم بعض
الوزراء ومن كانوا في منزلتهم. وقلَّ أن كان الوزير ينجو من نكبة إذا طالت
أيامه، وأيقن الخليفة أنه اغتنى وعبث بأموال الدولة، أو حفزته الحاجة إلى المال
فتفقده في خزائنه فلم يجده. ولم يعهد لوزير أن وزر وزارة واحدة بلا صرف لثلاثة
خلفاء متَّسقين إلا محمد بن عبد الملك الزيات، وانتهى أمره بحرقه في التنور
ومصادرة أمواله. وكان من العلم والأدب في الذروة العليا. وكان سلفه في وزارة
المعتصم أحمد بن عامر الذي وصفه المعتصم ووصف نفسه بقوله: «خليفة أمي ووزير
عامي.»
٧٥
قال الوزير ابن الفرات: تأملت ما صار إلى السلطان من مالي فوجدته عشرة آلاف ألف
الدينار، وحسبت ما أخذته من الحسين بن عبد الله الجوهري فكان مثل ذلك. فكأنه لم
يخسر شيئًا؛ لأنهم كانوا يقبضون بالمصادرة ويدفعون بالمصادرة، وإذا صودر أحدهم
على مال لم يكن في وسعه أداؤه كله معجلًا أجَّلوه بالباقي وساعدوه على تحصيله
وجمعه. وتعددت أسباب المصادرة وجهاتها حتى أصبح كل صاحب مال أو منصب عُرضَةً
لها. وكانت وزارة ابن الفرات ثلاث سنين وثمانية أشهر واثني عشر يومًا،
٧٦ وولي الوزارة ثلاث مرات، وطولب بأمواله وذخائره فاجتمع منها مع
ودائع كانت له سبعة آلاف ألف دينار، فيما حكي عن الصولي، وكان مشاهدًا ومشرفًا
على أخبارهم. قال: وما سمعنا بوزير جلس في الوزارة، وهو يملِك من العين والورِق
والضياع والأثاث ما يحيط بعشرة آلاف ألف غير ابن الفرات.
رد الواثق على بعض بني أمية أموالهم، وأكرم العلويين وأحسن إليهم، وما أحسن أحد
إلى آل أبي طالب من خلفاء بني العباس ما أحسن إليهم الواثق. ما مات وفيهم
فقير
٧٧ وكان في حلمه وحسن خلقه يشبه عمه المأمون؛ يحب العدل ويعطف على أهل
بيته ويتفقَّد رعيته. حشم
٧٨ الأمراء عن الظلم، وكان يجلس لحساب الدواوين بنفسه، وترك جباية
أعشار سفن البحر، وكان مالًا عظيمًا. وقيل: إنه سد باب اللهو والغناء، أما هو
فكان يسمع المغنيات ولا يتبذل ولا يسرف. واشتد على الناس كأبيه وعمه في مسألة
خَلق القرآن حتى قيل إنه أمر في سنة ٢٣١ — وهي سنة الفداء بين المسلمين والروم
— أن يمتحن
٧٩ أسارى المسلمين، فمن قال القرآن مخلوق وأن الله لا يُرى في الآخرة
فودي به وأعطي دينارًا، ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم.
وعقد الواثق لبنيه الثلاثة، وقسم الدنيا بينهم، وكتب بذلك كتابًا كما فعل جده
الرشيد مع أولاده، فأعطى ابنه الأكبر المنتصر من عريش مصر إلى إفريقية المغرب
كله إلى حيث بلغ سلطانه، وأضاف إليه جند قِنِّسرين والعواصم والثغور الشامية
والجزيرة وديار بكر وربيعة والموصل والفرات وهيت وعانة والخابور ودجلة والحرمين
واليمن واليمامة وحضرموت والبحرين والسند وكرمان وكور الأهواز وماسبَذَان
ومهرجان وشهرزور وقُم وقاشان وقزوين والجبال. وأعطى ابنه المعتز خراسان
وطبرستان وما وراء النهر والشرق كله. وأعطى ابنه المؤيد إرمينية وأذربيجان وجند
دمشق والأردن وفلسطين.
وكان لولي العهد في هذه الممالك الصلاة والمعاون، أي الشحنة والشرطة، والقضاء
والمظالم والخراج والضياع والغنيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالها وما في
عمل كل واحد منها من البريد والطراز وخزن بيوت الأموال ودور الضرب. يستخلفون
على القطر الكبير حربًا وخراجًا، ويفوضون الأمور كلها للعامل يأذن إليه في الحل
والعقد بغير استئمار ويخلعون عليه سوادًا.
أي إن القطر الواحد بل المصر الواحد يحكم برأي عامله وجماعة ممن يختارهم
لمشورته ومعاونته، فينظر في الأمور بحسب فهمه وما يوحيه إليه المحيط والعادة
والعُرف، ويطبق الأحكام الشرعية على الكبير والصغير والمِلِّي والذمي، وينصب
العاملُ الأكبر في الولاية العمالَ من ذوي الرأي والتدبير والخبرة بالعلم
والعلم بالسياسة، ويشاور الفقهاء وأرباب التجارب، وينفق من المال ما تصلح به
الولاية وما يوسع به على القراء والفقراء وذوي الحاجات، وما تقتضيه من عطاء
الجند وتقوية الثغور وشحن المصالح، ثم يبعث الباقي من الأموال إلى الخليفة.
وللخليفة الخطبة والسكة، فإذا كان العامل يحسن عمله، ويعرف مدى التبعة الملقاة
عليه، يستسيغ الخراج إن كان ذا قوة أو آنس من جانب الحضرة ضعفًا، ولا يرجع في
العادة إلى استشارة العاصمة إلا في عويص المسائل التي يمكن تأجيلها، وتكون من
حقوق الخليفة داخلة في أمهات المسائل الكبرى في الدولة. وقد يجتهد ويرتكب غلطًا
فتصرفه العاصمة إن أحست به أو توجعه في العقوبة، كما فعل المنصور لما بلغه ضرب
عامله على المدينة عالمها مالك بن أنس فشق ذلك على الخليفة وأهان عامله وصرفه.
ولكن كانت كتف مالك قد زالت عن مكانها بالضرب المبرح. فالعامل في الحقيقة هو
الملك الفعلي، ولا يسع العاصمة إلا أن تقره على ما يقرر ويدبر في أكثر الحالات.
وقد ظهرت مضار هذه الطريقة عندما كانت العاصمة تعجز عن ضبط كل شيء من أمور
الولايات لضعف الخلافة ووناء القائم على سُدَّتِهَا. وإذا كان هناك قضاة وولاة
وناظرون ومفتشون وكُتَّاب وحُسَّاب فإن التنفيذ يختلف قوة وضعفًا بحسب كفاية
العامل وسلطان الخليفة والوزير.
جاء المتوكل وضغطُ أمراء الترك وقوادهم يزيدُ شدة على الخلفاء فخلع على عبيد
الله بن يحيى، وأمر أن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين على الخليفة شيئًا، وأن
يدفعوا أعمالهم إلى وزيره ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم؛ لما كان
في نفسه من الأتراك واستبدادهم بالأمر. فكان عهده جذب ودفع بين أصحاب الخلافة
ومن رفعهم المعتصم على رقاب الناس من الترك، وعلق المتوكل يداوي الأمراض
البادية في جسم الدولة بإنفاق المال الذي جمعه المأمون والمعتصم والواثق على
نحو ما فعل الأمين؛ ففرَّق ما جمعه السفاح والمنصور والمهدي والرشيد من
الأموال. فقال الناس: إن أيام المتوكل كانت في حسنها ونضارتها ورفاهية العيش
بها ورخص أسعارها وحمد الخاص والعام لها، ورضاهم عنها أيام سراء لا ضراء. نعم،
كان هذا الخليفة مِنفاقًا لا يحسن تدبير خرجه، وله مع هذا عناية خاصة بديوان
زمام النفقات. أنفق ما أنفق ممَّا ادخره أجداده في بيوت أمواله، فكان هذا منه
تدبيرًا مؤقتًا غير ناجح، وما استطاع أن يداوي ما تجلى من تسلط الأتراك على
الدولة في عامة أقطارها وأعمالها.
رأى المتوكل شدة ضغط الترك على الخلافة في دار السلام فأَحَبَّ الانتقال إلى
دمشق؛ ليجعلها دار ملكه، ونقل دواوين الدولة إليها. ولما أمن غائلة مَنْ توجَّس
منهم خيفة عاد إلى العراق، وادَّعى أنه استوبأ مدينة دمشق. وكانت له أفكار
شاذة، منها: أنه كان يبغض عليَّ بن أبي طالب وأهل بيته فعفى قبر الحسين بن علي،
وهدم ما حوله من المنازل، ومنع الناس من إتيانه. ولا تأويل إلى هذا العبث إلا
خوفه الشيعة، وأن يتخذوا من زيارة الحسين وسيلة إلى دعاية سياسية تزعزع أركان
الملك العباسي.
واشتد المتوكل على أهل الذمة، وأخذهم بلبس ألبسة تخالف لباس المسلمين على
رءوسهم وأوساطهم، وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة؛ تفريقًا
بين منازلهم ومنازل المسلمين. ونهى أن يُستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان
التي تجري أحكامهم فيها على المسلمين. وأمر أن يقتصروا في مراكبهم على ركوب
البغال والحمير دون الخيل والبراذين إلى غير ذلك، وأمر بإجلاء النصارى عن حمص؛
لأنهم كانوا يعينون الثوار من اليمانيين، والثورة لا تكاد تنطفئ كل حين من حمص
حتى سميت الكوفة الصغرى؛ لكثرة قيام أهلها على العمال، كما خصت تونس بالتشغُّب
والقيام على الأمراء والخلاف للولاة.
ومع كل ما بذل المتوكل قوي الأتراك عليه وقتلوه، قيل بالاتفاق مع ابنه الذي
خلفه، وأخذ المتغلِّبة من الترك يستضعفون الخلفاء فأصبح «الخليفة في يدهم
كالأسير؛ إن شاءوا أبقَوْه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه من غير ديانة ولا
نظر للمسلمين.» وجاء المنتصر يقاوم العلويين كأبيه المتوكل ويكتب إلى عامل مصر
(٢٤٧) أن لا يُقبِّل علويًّا ضيعة، ولا يركب فرسًا، ولا يسافر من الفسطاط إلى
طرف من أطرافها، وأن يُمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإن كانت بين
العلوي وبين أحد خصومة قَبِلَ قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة. ذلك لأن العلويين
ما ناموا ساعة عن المطالبة بالملك، فمثل هذا الأمر يُضَيِّقُ عليهم دائرة
حركتهم، وإن كان في بعض ما يرمي إليه غير عادل.
إدارة المعتز والمهتدي والمعتمد
تولى المعتز الخلافة فأمر بإحضار جماعة ممن صفت أذهانهم، ورقَّت طباعهم، ولطف
ظنهم، وصحت نحائزهم، وجادت غرائزهم، وكملت عقولهم بالمشورة. وحاول أن يتخلص من
الأتراك، وكانوا تأصلوا في جسم الدولة وروحها، وكانوا كثروا وأي كثرة في
العاصمة والولايات، وقدرت أرزاقهم وأرزاق المغاربة والشاكرية في سنة ٢٥٢ فكان
مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار، وذلك خراج المملكة لسنتين
فإذا تأخر عطاؤهم فهناك المؤامرات والمشاغبات وخوف البدوات والنزوات والوثوب
بالدولة.
ووُسِّدَتْ إمارة مصر لأحمد بن طولون (٢٥٤) من الأتراك، واستبد بجمع أعمال مصر
لما وُسِّدَ إليه أمر الأموال، وكان الأمير في مصر من قبلُ ليس له إلا الجند
والشرطة وللعامل النظر في الأموال، وكلاهما يراقب صاحبه، وهما متساويان في
المكانة، وربما تقدم العامل على الأمير. والأقباط منذ كان الإسلام يتولَّوْن
النظر في الأموال؛ فتنظر إليهم الأمة نظرها إلى الصل والثعبان، ويراهم صاحب
الأمر مختلسين. وكان مما أعان ابن طولون على استقلاله بملك مصر ثم استيلائه على
الشام وما إليها أن الخليفة أمره بإعداد جيش لقتال أحد الخوارج في الشام. وبعد
استئصال الفتنة لم يفضَّ الجيش فكان له قوة نافعة في استقلاله. وكانت جمهرة
الجيش من المماليك والديالمة يشتريهم كما يشتري الرقيق، وبلغت عدتهم أربعة
وعشرين ألف مملوك وأربعين ألفًا من العبيد الزنج ومن العرب وغيرهم. أما ابنه
خمارويه فقيل: إن عدة جيشه بلغت أربعمائة ألف فارس.
ولئن حسنت حال مصر على عهد ابن طولون، ودَرَّ خراجها واستفاض عمرانها — لحسن
إدارته وسياسته حتى فضلوه على بعض الخلفاء على كثرة ما سفك من الدماء — فإن
استيلاءه على الأمر فيها عُدَّ خروجًا على الخلافة، وإن كان يخطب لها بادئ بدء.
ولم يتأتَّ الخلاص من دولته إلا لما قوي العباسيون سنة ٢٩٢ فقتلوا آل بيتهم
برمتهم، وخلفت الدولة الطولونية الدولةُ الإخشيدية
٨٠ وهي دولة أعجمية أيضًا.
وتولى المهتدي «والدنيا كلها مفتونة» فحاول إعادة الخلافة إلى رونقها، وأمر
بإخراج الفتيان والمغنين والمغنيات من سامرا ونفاهم إلى بغداد، وأمر بقتل
السباع وطرد الكلاب وإبطال الملاهي ورد المظالم، وجلس ليرفعها فرُفعت إليه قصص
في الكسور فسأل عنها فقال وزيره سليمان بن وهب شيئًا في تاريخ الخراج منذ عهد
عمر إلى عهد المنصور، فأجاب المهتدي: معاذ الله أن ألزم الناس ظلمًا تقدم العمل
به أو تأخر، أسقِطوه عن الناس. فقال أحدهم: إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من
أموال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم. فقال المهتدي: عليَّ أن أقرر
حقًّا وأزيل ظلمًا وإن أجحف ببيت المال.
وكان المهتدي آخر الخلفاء الذين كانوا يتولون بأنفسهم القضاء والمظالم، وربما
كانوا يجعلون القضاء والمظالم لقضاتهم كما فعل عمر مع قاضيه أبي إدريس
الخولاني، وكما فعل المأمون مع يحيى بن أكثم، والمعتصم مع أحمد بن أبي داود،
وربما كانت تجعل قيادة الجيوش للقضاة، وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون
بالصائفة إلى أرض الروم، وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية
بالأندلس. وكانت تولية هذه وظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من
وزير مفوض أو سلطان متغلب.
ولما هَمَّ الجند بقتل المهتدي خطبهم فقال: أما دين أما حياءكم يكون هذا الخلاف
على الخلفاء، والإقدام والجرأة على الله سواءٌ عليكم من قصد الإبقاء عليكم، ومن
كان إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بأرطال الشراب فشربها سرورًا بمكروهكم، وحبًّا
ببواركم. ثم ذكر لهم أنه لم يصل إليه من دنياهم شيء، وأنه ليس في منازل إخوته
وولده فرش أو وصائف أو خدم أو جواري ولا لهم ضياع ولا غلات. وكان حقيقة مقلًّا
من اللباس والفرش والمطعم، وأمر بإخراج آنية الذهب والفضة من الخزائن فكسرت،
وضربت دنانير ودراهم، وعمد إلى الصور التي كانت في المجالس فمحيت.
٨١
وجيء بالمعتمد فقسم المملكة بين ابنه وأخيه الموفق فغلب أخوه عليه وشغل هو
بلذاته، وكثر دخول الزعانف في القبض على الأعمال والفتن منتشرة؛ ومن أهمها:
فتنة صاحب الزنج، والموفق يقود العساكر، ويرابط ويرتب الوزراء والأمراء. وقيل:
إن المعتمد احتاج إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها فقال:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قلَّ ممتنعًا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعًا
وما من ذاك شيء في يديه
وطالت أيام المعتمد، ولم يؤثر عنها إبداع جديد في الإدارة والسياسة. وكان ديوان
الموفق مائة ألف مرتزق، وكانت الدولة السامانية التي قامت في هذه الأيام في
الشرق، وتتمتع باستقلال داخلي واسع — كما يقولون اليوم — من أحسن الدول سيرة
وملوكها من بني سامان أمنع ملوك الإسلام جانبًا في عصرهم «لأنه
٨٢ ليس في الإسلام جيش إلا وهم شذاذ القبائل والبلدان والأطراف، إذا
تفرقوا في هزيمة وتمزقوا في حادثة، لم يلتقِ منهم جمع بعده، غيرَ جيش هؤلاء
الملوك؛ فإن جيوشهم الأتراك المملوكون، ومن الأحرار من يعرف داره ومكانه، إذا
فشل منهم قوم أو ماتوا ففي وفور عددهم ما يعاد من بين ظهرانيهم مثلهم، وإن
تفرقوا في حادثة تراجعوا كلهم إلى مكان واحد، فلا يقدح فيهم ما يقدح في سائر
عساكر الأطراف، ولا سبيل لهم إلى التفرُّق في العساكر والتنقُّل في الممالك كما
يكون عليه رسوم صعاليك العساكر وشحنة البلدان.»
وكانت طريقتهم في إقامة الأحكام ببلاد خراسان
٨٣ أن تضرب المقارع بين أيدي أَجِلَّةِ الأمراء، ويشهد كل أحد في كل
شيء، غير أن في كل بلد عدة من المُزَكِّين فإن طعن الخصم على الشاهد سُئِلَ عنه
المزكي، ولا يتحنك فيه إلا فقيه أو رئيس. ويختارون أبدًا ببخارى أفقه من بها
وأعفهم، يرفعونه ويصدرون عن رأيه ويقضون حوائجه، ويولون الأعمال بقوله. وفي
نيسابور رسوم حسنة؛ منها: مجلس المظالم في كل يوم أحد وأربعاء بحضرة صاحب الجيش
أو وزيره، فكل من رفع قصة قدم إليه فأنصفه، وحوله القاضي والرئيس والعلماء
والأشراف ومجلس الحكم كل اثنين وخميس بمسجد رجاء لا ترى في الإسلام مثله.
وكانوا في فارس
٨٤ يفضلون أهل البيوتات القديمة في أعمال الدواوين يتوارثونها فيما
بينهم، وليس في دواوين الإسلام ديوان أصعب عملًا وأكثر أنواعًا من ديوان فارس
لاختلاف ربوعها على المتقلدين لها.
هذا مثال من حالة الدولة السامانية التي نشأت في عهد المعتضد الطويل. وذكر
المؤرخون أنه على قلة معرفته بسياسة الملك عمرت
٨٥ مملكته، وكثرت الأموال وضبطت الثغور، وأنه كان قوي السياسة شديدًا
على أهل الفساد، وكان وَلِيَ والدنيا خراب والثغور مهملة، فقام قيامًا مرضيًا
فسكنت الفتن، وصلحت البلدان، وارتفعت الحروب، ورخصت الأسعار، وهدأ الهيج،
وسالمه كل مخالف، ودانت له الأمور، وانفتح له الشرق والغرب، وأديل له من أكثر
المخالفين، وكان سريع
٨٦ النهضة عند الحادثة، قليل الفتور، يتفرد بالأمور، ويمضي تدبيره
بغير توقف، ولي الأمر بضبط وحركة وتجربة، وكفَّ من كان يتوثب ويتشغب من
الموالي.
وأمر المعتضد بافتتاح الخراج في النيروز المعتضدي، وهو في حزيران من شهور
الروم؛ وذلك للرفق بالناس، وكتب إلى الأقطار برد الفاضل من سهام المواريث على
ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث، وكان من قبل يلحق كثيرًا من الناس إعنات
في مواريثهم، ويتناول على سبيل الظلم من أموالهم، ويتقلد جبايتها أناس يجرون
مجرى عمال الخراج، شيء لم يكن في خلافة من الخلافات إلى أن مضى صدر من خلافة
المعتمد، فجرى العمل بذلك على سبيل تأول، فأزال المعتضد ذلك، وأمر أن يرد على
ذوي الأرحام ما أوجب الله ورسوله وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن
عباس وعبد الله بن مسعود، وأن ترد تركة من مات من أهل الذمة، ولم يخلف وارثًا
على أهل ملته. وأن يصرف جميع عمال المواريث في النواحي ويبطل أمرهم، ويرد النظر
في أعمال المواريث إلى الحكام، وكانوا يرتادون القضاة من أهل البلاد
نفسها.
وللمعتضد مذهب جميل في سياسة عماله، بلغه أن عامله على فارس أظهر أبهة في
ولايته، وأنفق ما وقعت له به هيبة في نفوس الرعية، فسأل عن رزقه، فقيل له:
ألفان وخمسمائة دينار في الشهر، فقال: اجعلوها ثلاثة آلاف ليستعين بها على
مروءته،
٨٧ وكتب إليه في عامل عجز في ضمانه وهو مسجون بأنه كان في أيام ولايته
يفرق عشرين كرا حنطة في كل شهر على حاشيته والفقراء والمساكين من أهل معرفته،
وأنه فرق ذلك في هذا الشهر على عادته. فقال: سرَّني قيامه بمروءته ومعروفه.
وأعفاه من أداء مبلغ كان يطالب به، ورده إلى عمله وأحمد ما كان منه.
سارت الخلافة في طريق سَوِيٍّ على عهد المعتضد؛ لسطوته ومهابته وعفته وإمساكه،
فكان مع حرصه على إبقاء سلطانه يخافه عماله، ويكفون عن المظالم، واستعمل بعضهم
الشدة في حفظ الأمن. بلغ عامله بدمشق
٨٨ أن رجلًا أعرابيًّا في أذرعات نتف خصلتين من شعر أحد فرسان الدولة،
فطلب الوالي معلمًا يعلِّم الصبيان، وقال له: تخرج إلى اليرموك وأعطيك طيورًا
تكون معك فإذا دخلت القرية فقل لهم: إني معلم جئت أطلب المعاش وأعلِّم صبيانكم.
فإذا تمكنت من القرية فارصد لي الأعرابي الذي نتف سبال الفارس، وخذ خبره واسمه،
فإذا رأيته قد وافى أرسل الطيور بخبرك. ثم قبض على الأعرابي، وقطع رأسه وصلَبه،
وضرب الجندي مائة عصاة، وأسقط اسمه من الديوان؛ لأنه استخذى للأعرابي حتى فعل
بسبالته ما فعل.
كان من جميل سيرة المعتضد مع عماله وخوفه البطش بهم إذا جَنَوا ما يعاقبون عليه
أنه إذا نكب رجلًا من جلة العمال ورؤسائهم وكل به من يحفظه من قبله، وشدد
الوصية في صيانته، ويُظْهِر أن هذا التوكيل للمطالبة وزيادتها والتشدد فيها لا
ليحفظ نفسه، لئلا يطمع العامل. وكان يقول: هؤلاء أكابر من العمال الذين قامت
هيبتهم في نفوس الرعية، وعرفوا أقطار البلاد، هم أركان الدولة وأعضاء الوزارة
والمرشَّحون لها فإن لم تحفظ نفوسهم فسد الأمر. وهذا الغاية في الوقوف على
نفسية العمال وحفظهم في أنفسهم. ومع هذه المسامحة واللين لم يرتفع السواد سواد
العراق لأحد بعد عمر بن الخطاب بمثل ما ارتفع له أيام المعتضد.
٨٩
وجمع المعتضد تسعة آلاف ألف دينار فاضلة عن جميع النفقات، وأراد أن يسبكها نقرة
واحدة إذا أتمها عشرة آلاف ألف، ويطرحها على باب العامة؛ ليبلغ أصحاب الأطراف
أنه له عشرة آلاف ألف دينار وهو مستغنٍ عنها «بعد النفقات الراتبة والحادثة،
وإطلاق الجاري للأولياء في سائر النواحي وجميع المرتزقة بها وبالحضرة.»
رد المعتضد ببعد نظره مصر إلى حظيرة الخلافة بعد أن كان يذهب بها أحمد بن
طولون، وكتب إلى ابنه خمارويه بولايته عليها هو وولده ثلاثين سنة، وذلك من
الفرات إلى برقة، وجعل إليه الصلاة والخراج والقضاء وجميع الأعمال على أن يحمل
في كل عام من المال مائتي ألف دينار عمَّا مضى وثلاثمائة ألف عن كل عام
للمستقبل. ولعل ما ساقه إلى هذا التسامح مع الطولونيين ما تناصرت الأخبار عليه
من أن الدولة العُبَيْدِيَّةَ ظهرت أعلامها في المغرب فأحب أن يضع الطولونيين
حاجزًا بينه وبينهم. ومن جميل حيلته أنه طلب إلى ابن طولون أن يزوجه
ابنة
٩٠ ابنه خمارويه واسمها قطر الندى وقال: ما قصدت بهذا الزواج إلا
إفقار ابن طولون؛ لأنه يضطر أن يجهزها بجهاز لم تُجَهَّزْ به عروس من قبل. وكان
الأمر كما قال؛ فإنها جُهِّزَتْ بما استفرغ خزائن مصر والشام. وهذا هو الزواج
السياسي المثمر، والترتيب الإداري الحكيم.
الإدارة على عهد المكتفي والمقتدر وكلام في الوزراء
اكتفى المكتفي بنهج منهج والده المعتضد في الإدارة، وكان وزيره العباس بن الحسن
يقول لنوابه بالأعمال: أنا أوقع لكم وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة. وقد يأخذ
الوزير سبعة آلاف دينار في الشهر راتبًا، ومن الوزراء من فادوا بخمسمائة ألف
دينار ليصلوا إلى الوزارة. ومنهم من أَعْطَوُا المنجمين مائة ألف دينار
ليحتالوا على الخليفة ويغيروا خاطره على أحد وزرائه، ثم يتوصلون إلى منصب
الوزارة. وبهذا أدركنا أن الخلفاء انحطوا والوزراء كذلك.
بيد أن قواعد الدولة لم تتزلزل دفعة واحدة؛ لأن المعتضد ثبَّت قواعدها، ومن يجئ
بعده مهما ارتكب من الأغلاط لا يقضي على عامة التراتيب الموضوعة للخلافة منذ
سنين، فصح ما قيل من أن بني العباس
٩١ قوم منصورون تعتل دولتهم مرة، وتصح مرارًا؛ لأن أصلها ثابت
وبنيانها راسخ. وخلف المكتفي في بيوت الأموال من العين ثمانية آلاف ألف دينار،
ومن الورق خمسة وعشرين ألف ألف دينار، وفي رواية أنه خلف مائة ألف ألف دينار
عينًا وعقارًا وأواني بمثلها.
واستخلف المقتدر طفلًا ووالدته وخالته وأم ولد المعتضد تدير الملك، حتى إن هذه
السيدة جلست بالرُّصافة للمظالم تنظر في الكتب يومًا في كل جمعة، فأنكر الناس
ذلك واستبشعوه، وكثر عيبهم عليه والطعن فيه. ولم يكن في جلوسها أول يوم طائل،
وفي اليوم الثاني أحضرت القاضي فحسن أمرها، وخرجت التوقيعات عن سداد، فانتفع
بذلك المظلومون، وسكن الناس إلى ما كانوا نافرين من قعودها ونظرها. فالمقتدر في
سنيه الأولى خصوصًا كان يتدبر بآراء النساء والحاشية، والسيدة وقهرمانتها، ومن
يجري مجراهن من نساء القصر، يتحكمن في كل أمر، ويتدخلن في العزل والنصب. وأمروا
صاحب الشرطة ببغداد أن يُجْلِسَ في كل ربع من الأرباع فقيهًا يسمع من الناس
ظلاماتهم، ويعتني في مسائلهم حتى لا يجري على أحد ظلم. وأمروه أن لا يكلف الناس
ثمن الكاغد الذي تُكتب فيه القصص وأن يقوم به، وألا يأخذ الذين يشخصون مع الناس
أكثر من دانقَين في أجعالهم.
ورد المقتدر رسوم الخلافة
٩٢ إلى ما كانت عليه من التوسع في الطعام والشراب وإجراء الوظائف.
وكان في داره أحد عشر ألف خادم خصي من الروم والسودان. وزاد في أرزاق بني هاشم،
وأعاد الرسوم في تفريق الأضاحي على الفقراء والعمال وأصحاب الدواوين والقضاة
والجلساء، وأسرف في الأموال فمحق من الذهب ثمانين ألف ألف دينار
٩٣ وفرَّق في خمس وعشرين سنة ما جمعه المنتصر والمهتدي والمعتمد
والمعتضد والمكتفي. وحارَ الناس في أمر دولة المقتدر
٩٤ وطول أيامها على وَهْي أصلها وضعف ابتنائها، ولم يَرَ الناس ولم
يسمعوا بمثل سيرته وأيامه وطول خلافته.
على أنه كان جَيِّدَ العقل، صحيح الرأي، ولكنه كان مؤثِرًا للشهوات. قال
التنوخي:
٩٥ ولقد سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الوزير يقول، وقد جرى ذكر المقتدر
بحضرته في خلوة: ما هو إلا أن يترك هذا الرجل النبيذ خمسة أيام متتابعة حتى يصح
ذهنه، فأخاطب منه رجلًا ما خاطبت أفضل منه، ولا أبصر بالرأي وأعرف بالأمور وأسد
في التدبير، ولو قلت: إنه إذا ترك النبيذ هذه المدة يكون في أصالة الرأي وصحة
العقل كالمعتضد والمأمون ومن أشبههما من الخلفاء ما حسبت أن أَقَعَ بعيدًا، وما
يفسده غير متابعة الشراب ولا يخبله سواها. ا.ﻫ.
قيل: إنه كان بين ابن زبر القاضي وبين علي بن عيسى الوزير عداوة، وعجز ابن زبر
عن رضاه فألقى رقعة في ورق الظالم، وفيها أن رجلًا من خراسان رأى في ثلاث ليالٍ
متوالية العباس بن عبد المطلب في وسط دار السلام يبني دارًا، فكلما فرغ من موضع
تقدَّم رجل لهدمه. فقال له: يا عم رسول الله، من هذا الذي بليت به؟ فقال: هذا
علي بن عيسى، كلما بنيت لولدي بناء هدمه. فقرئت الرقعة على المقتدر فقال: إن
هذه الرؤيا صحيحة يصرف علي بن عيسى ويقبض عليه. فما جاء آخر النهار حتى وافى
ابن زبر ومعه عهده بقضاء مصر ودمشق. فإن صحت هذه القصة كان تصديق المقتدر حيلة
القاضي من أغرب ما أثر من ضعف العقول.
وعلي بن عيسى هذا أكبر وزراء ذاك العهد، ومن الأسر العريقة في خدمة الدولة منذ
أيام المعتضد
٩٦ كان من الثقة والصيانة والصناعة على جانب، عامل المصادرين من
الوزراء والعمال بالرفق، وكتب إلى كل واحد من العمال بما جرت العادة به من
تشريف أمير المؤمنين إياه بالخلع، ورد أمر الدواوين والمملكة إليه، وأقرهم على
مواضعهم، وأمرهم بالجِدِّ والاجتهاد في العمارة، وكتب إليهم بإنصاف الرعية
والعدل عليها، ورفع صغير المؤن وكبيرها عنها. كما كان يطالب بتوفير حقوق
السلطان وتصحيحها وصيانة الأموال وحياطتها. ونظر إلى من تعود اقتطاع الأموال
السلطانية وإقامة مروات نفسه فيها، وقصر في العمارة واعتمد غيره. وعمر الثغور
والبيمارستانات وأدار الأرزاق لمن ينظر فيها، وأزاح علل المرضى والقوام، وعمر
المساجد الجامعة، وكتب إلى جميع البلدان بذلك، ووقع إلى العمال وكتب إليهم في
أمر المظالم، وأمر بأن يُستوفى الخراج بغير محاباة للأقوياء، ولا حَيْفٍ على
الضعفاء، وساس الناس أحسن سياسة، ورسم للعمال الرسوم الجميلة، وأنصف الرعية
وأزال السنن الجائرة، ودَبَّرَ أمر الوزارة والدواوين وسائر أمور المملكة
بكفاية تامة وعفاف وتصوُّن، حتى أسقط الزيادات في إقطاعات الجند والعمال
وغيرهم، لما رأى نفقات السلطان زائدة على دخله زيادة مفرطة تُحْوِجُ إلى هدم
بيوت الأموال وصرفها في نفقات يستغني عنها.
وكان يجري على خمسة وأربعين ألف إنسان جرايات تكفيهم وخدم السلطان سبعين سنة لم
يزل فيها نعمة عن أحد. قال الصولي: ولا أعلم أنه وزر لبني العباس وزير يشبه في
زهده وعفته؛ بلغه أن أسارى المسلمين في الروم ساءت حالهم وأن الروم يحاولون
تنصيرهم فغمه ذلك. ولما كان يعرف أن الخليفة لا يريد قتال الروم عمد إلى طرق
سلمية فندب بطريق أنطاكية وجاثليق القدس أن يكتبا إلى الروم كتابًا يقبحان هذه
المعاملة ويتوعدان، فاضطرت دولة الروم أن تحسن معاملة المسلمين. وما عابوا على
علي بن عيسى الوزير إلا أنه كان ينظر كثيرًا في جزئيات الأمور فربما شغلته عن
الكليات.
٩٧
منع علي بن عيسى من إكراه التناء والمزارعين «على
٩٨ تضمين غلات بيادرهم بالحزر والتقدير، وإلزامهم حق الأعشار في
ضياعهم على التربيع، واستخراج الخراج منهم على أوفر عبرة، قبل إدراك غلاتهم
وثمارهم، وإكراه وجوههم على ابتياع الغلات السلطانية بأسعار مسرفة مجحفة.» ولما
غلب السجزية على فارس جلا قوم من أرباب الخراج عنها لسوء المعاملة ففض خراجهم
على الباقين، وكمل بذلك قانون فارس القيم، ولم تزل هذه التكملة تستوفي على
زيادة تارة ونقصان. وجاءه قوم من أجلاء فارس وقالوا: نمنع غلاتنا وتعتاق في
الكناديج
٩٩ حتى تهلك وتصير هكذا «وطرحوا من أكمامهم حنطة محرقة.» ونطالب
بتكملة ما وجب علينا فتدعونا الضرورة إلى بيع نفوسنا وشعور نسائنا وأدائها حتى
تطلق الغلة وهي على هذه الصورة «ثم رموا من أكمامهم تينًا يابسًا وخوخًا
مقدودًا ولوزًا وفستقًا وبندقًا وغبيراء وعنابًا.» وقالوا: وهذا كله خراج لقوم
آخرين والبلد فُتِحَ عنوة، فإما تساوينا في العدل أو الجور. فأنهى علي بن عيسى
ذلك إلى المقتدر بالله، وجمع القضاة والفقهاء ومشايخ الكتاب والعمال وجلة
القواد في دار الوزارة وقد جعلها ديوانًا، وتناظر الفريقان من أرباب الشجر
وأرباب التكملة فقال أرباب الشجر: هذه أملاك قد أنفقنا عليها أموالنا حتى أنبتت
الغروس فيها، وحصل لنا بعض الاستغلال منها، ومتى ألزمت الخراج بطلت قيمتها. وقد
كان المهدي أزال المطالبة ورسم الخراج عنها. وقال المطالبون بالتكملة ما شكوا
به حالهم فيها واستمرار الظلم عليهم بها. ورجع إلى الفقهاء في ذلك فأفتوا بوجوب
الخراج وبطلان التكملة.
هذا تمثيل للإدارة على ذاك العهد وصورة من أعمال الوزراء. وبأمثال علي بن عيسى
وابن الفرات كانت القوة تدخل على مُلك بني العباس إذا عراه الضعف ويجبرون نقص
الخلفاء. وبمثل الوزير الخاقاني والوزير الخصيبي ترجع القهقرى. فإن كان علي بن
عيسى بعيد النظر في أمور الدولة جدَّ عارف بما يصلحها، عفًّا عن أموال الرعية
ساهرًا على مصلحتهم الحقيقية فإن ابن الفرات كان نافذًا في عمل الخراج وتدبير
البلاد وجباية المال وافتتاح الأطراف، وكلاهما من بلغاء الكتاب ومن العارفين
بأدب الملك.
وكان للدولة رسوم في تخريج رجال الإدارة ومما ذكروه أن باذرويا كان يتقلدها جلة
العمال. قال ابن الفرات: سمعت أبا العباس أخي يقول من استقل بباذرويا استقل
بديوان الخراج، ومن استقل بديوان الخراج استقل بالوزارة؛ وذلك لأن معاملتها
مختلفة وقصبتها الحضرة، والمعاملة فيها مع الوزراء والأمراء والقواد والكتاب
والأشراف ووجوه الناس، فإذا ضبط اختلاف المعاملات، واستوفى على هذه الطبقات صلح
للأمور الكبار.
وبعد أن كان الخلفاء على استعداد تام لإدارة الملك أصبحوا يعتمدون على وزرائهم
فإن كانوا علماءَ أخيارًا جرت الأمور على سداد، وإن كانوا جهالًا أشرارًا زاد
البلاء والشقاء، وطمع أصحاب الأطراف والنُّوَّاب، وخرجوا عن الطاعة، وزالت عن
الجند والرعية هيبة الخلفاء، وخلت من الأموال خزائنهم. والواقع إذا استثنينا
عهد المعتضد لا نشاهد في خلفاء بني العباس بعد عهد المأمون من كان ذا عبقرية في
الإدارة، وقد لا تنتظم الأحوال حتى بوجود الوزراء المحنَّكين؛ لأن للرأس
تأثيرَه، والخليفة مرجع الأعمال وجميع السلطات فإن كان على اتِّزان تختفي
العيوب في إدارة سلطنته المستبدة الطويلة العريضة، وإلا فالانحلال بادٍ والملك
في تزلزل. وهناك خليفة يدبره أخوه، وآخر تدبره أمه وجواريها، وغيره تدبره
قهرمانته، وثالث يدبره وزيره. وقَلَّ في بني العباس أن جاء خليفة كالمأمون
والمعتضد من يصدر عن رأي نضيج، ويُعْنَى بملكه عناية حقيقية.
وكان الخلفاء في الجملة مشتغلين بأنفسهم ودفع أعدائهم عنهم، وكثير منهم من يقتل
بأيدي الجند. وقَلَّ فيهم الرجل الرشيد بعد القاهر، وكانت الأمور تجري بقوة
التسلسل، وبنو بويه ثم بنو سلجوق وغيرهم هم أصحاب الدولة بالفعل والخليفة لا
عمل له في الحقيقة، بل هو أشبه بخيال يختفي وراءه صاحب السلطان إذا أراد أمرًا
لا يرضاه العامة إلا إذا صدر عن الخليفة.
نعم، صار الخليفة تابعًا للملك أو المتغلب، ولم يبقَ شيء يقال له إدارة؛ لأن
الخليفة لا يحكم حتى على بيته، فأصبحت الإدارة إدارة الملوك والأطراف وإدارة
الفرس والترك، والشأن في السلطان شأنهم لا تكاد تسمع للخلفاء اسمًا. وكان من
عادة أكثر خلفاء العباسيين أن يحبسوا أولادهم وأقاربهم. جرت بذلك سُنَّتُهُم
إلى آخر أيام المستنصر، فلما ولي المستعصم آخر خلفائهم ببغداد أطلق أولاده
الثلاثة ولم يحبسهم، وكان من عادة حبس أولاد الخلفاء ضعفهم بل بلاهتهم إذا
أُسْنِدَتْ إليهم الخلافة، وربما انصرف أكثرهم في دور احتباسهم إلى اللهو
والشراب فإذا جاءوها عجزوا عن إدارة الملك؛ لأنهم عاجزون عن سياسة
أنفسهم.
ولقد كان الرسم في عهد الخلفاء الأُوَل من بني العباس أن يراقب الوالد ابنه
والابن أباه والأخ أخاه على طريقة مستورة عن الأنظار، وتُوَسَّدُ إلى أبناء
الخلفاء قيادة الجيوش وإدارة الولايات، ويشتركون في السلطان إلى حَدٍّ معين،
وتؤخذ آراؤهم في النوازل، ويدخلون في مجالس المشورة؛ فيكون لهم بذلك شيء من
الوقوف ينفعهم يوم تَوَلِّي الأمر، ويعرفون أنهم شركاء في هذا الملك لهم رأي
يُعتدُّ به، ويجب عليهم الاهتمام لمصالحه.
وفي عصر الانحطاط حُجِبَ أبناء الخلفاء؛ فأصبح أكثرهم إلى الجهل والبلاهة
يدرسون إدارة الملك في الكتب، وربما لا يرخص لهم أن يدرسوا في كل كتاب، ويسمعون
من مربيهم وأساتيذهم ما يريدون أن يُسمعوهم، ولكنهم لا يعلمون بالعمل شيئًا
كثيرًا يصح أن يكون مادة لحياتهم وحياة الخلافة إذا أتت نوبتهم لتولي هذا
المنصب الجليل.
هوامش