الفصل الرابع

آية العفاف

وكان اليوم ساكن الريح فاتر الهواء على البحيرة بقدر ما كان عاصفًا باردًا بالأمس، وكانت الجبال غارقة في بحر من الشفق البنفسجي لا يكاد يتميز عنها بلونه، والجلد صافيًا توشِّيه نكت من الغيم الأحمر كأنها ريش ببغاء تناثر في السماء تحت مخالب نسر جارحة، وكانت البحيرة صافية الماء شفافة الأديم كأنها مرآة ترى بها خيال المجاذيف والوجوه، وفاترة الحرارة حتى كنا نضع أيدينا فيها فلا نشعر من الماء بسوى جِرْمه. وكان يفصل بيننا وبين النوتية شراع صغير فاتكأت غصن البان إلى جانب من الزورق بعد أن لففت جسمها بردائها وغطيت رجليها بردائي وقاية لها من ندى الليل، ثم اتكأت على شبكة هناك وأنا طافح القلب ممتنع الكلام شاخص البصر إليها، وما عسانا نحتاج إلى خطاب ونحن نرى الشمس والمساء والجبال والهواء والماء والمجاذيف واهتزاز الزورق وزبد آثاره، ونظراتنا وسكوتنا وأنفاسنا ونفوسنا قد اجتمعت كلها تتكلم عنا؟ بل كنا كأننا نخشى أن تبدر منا كلمة تكدر ذلك السكون السار، حتى لقد حسبنا أننا سابحون من زرقة البحيرة إلى زرقة السماء، لاشتغال أبصارنا عن الشاطئ المقبلين عليه.

وفيما نحن كذلك سمعت منها تنهدًا امتد به نفَسها أكثر من غيره كمن يتنهد من تعب، فاستويت مجفلًا وقلت لها: أتتألمين؟ قالت: لا، ليس ذلك بألم بل هو فكر. قلت: وما عساه يكون؟ قالت: إني أفكر أنه لو أمر الله الطبيعة الآن بالسكون فوقفت الشمس في مكانها لا تغيب، وهذا الظل في موقعه لا يزول، وهذه البحيرة بمائها، وهذا الهواء في فتوره، وهذا الشاطئ على بعده منا، وهذا النور ينعكس عن جبينك، وهذه النظرة الحلوة في عينيك، وهذا السرور الطافح في قلبي، واستمر ذلك إلى ما لا نهاية له؛ ما قدرت على إدراك ما أنا فيه الآن. قلت: وما هو؟ قالت: اجتماع الأبدية في دقيقة والخلود في وقفة ساعة.

فسبقني لساني إلى أن أجبتها بعبارة من عبارات الحب الفاسد بدرت مني خلافًا لما في قلبي من الطهر والعفاف، ومعناها أن مثل هذا السرور لا يكفيني إن لم يكن مقدمة لسواه، وكأنها أدركت ما أريد فاحمرَّ لونها خجلًا مني، وأشاحت بوجهها وقد أنار عليه العفاف، ثم التفتت إليَّ وقالت بصوت منخفض: لقد أسأت إليَّ كثيرًا، فادن مني واستمع: إنني لا أدري إذا كان ما في نفسي منك وفي نفسك مني هو ما يدعونه بالحب في هذه الدنيا، التي يكون للكلمة فيها معنيان لا أريد أن أعلم أحدهما ولا أريد لك العلم به، ولكن الذي أدريه أن أعظم سرور النفس وسعادتها من نفس مثلها هي أن تجد تلك النفس مشابهة لها في حالاتها وصفاتها حتى لا يتباين جِرْماهما إذا اتحدا، ولعمري إن مثل هذا السرور بين النفسين والحاستين والفكرين ينحصر فيهما فلا يتعدى إلى ما سوى ذلك لهو السرور الذي يتحد به القلبان حتى يتمازجا كما يمتزج نور الشمس عند مغيبها بنور القمر عند طلوعه حينما يتقابلان في الأفقين، وما خرج عن ذلك من السرور الساقط — الذي لا أدري كيف يسمى سرورًا — لأشد بعدًا عن صلة الامتزاج واتحاد الأرواح من الغبار السافل عن علاء النجم، ومن الدقيقة عن الأبدية. ثم ماذا عساني أقول لك سوى إني أحبك، عبارة إذا لم أقلها قالتها الطبيعة عني فلأقلها إذن عن نفسي، بل لأقلها عن نفسينا أننا متحابان.

فقلت لها: نعم، قوليها، وقوليها ألوفًا، بل لنقلها معًا أمام الله والناس والسماء والأرض والعناصر والزمان؛ حتى تساعدنا الطبيعة فتردد صداها معنا. ثم قمت فركعت أمامها وقد انعقدت يداي وتغطى وجهي بشعري، فوضعت أُنْمُلها علي فمي وقالت: سكِّن رَوْعك ودعني أتكلم ولا تقاطعني حتى تستوفي كل ما أريد. فجلست إلى جانبها وسكنت فقالت: لقد قلت لك أو لم أقل بل قال لك قلبي بلسان زفراته إنني أحبك، فأنا إذن أحبك بكل ما بي من القوة في حياة بنت ثمان وعشرين، تقضَّت أيامها تنظر ولا ترى، وتبحث ولا تجد حاجة قلب أنت سرها ومثالها، وأنا أرى الآن أنني رأيتك وأحببتك في حين لا ينفع الحب إذا كنت تعتقده كما يعتقده سائر الرجال، أو كما ظهر لي منك فيما قلته الآن من تلك العبارة الفاسدة. والآن فاسمع ما أقول واعرفني حق عرفاني، فإنني أسلم نفسي إليك كما أسلمها لنفسي وأنا على يقين من أنني لا أسيء إلى ذلك الأب الذي لا يريد أن يدعوني بسوى فتاته، ولست أمنع عنك مني إلا ما تريد أن أختص به نفسي. ولعلك تعجب من لهجتي هذه؛ إذ تراها ليست بلهجة النساء في أوروبا اللواتي لا يحببن إلا قليلًا ولا يحببن إلا كذلك، فهنَّ يخشين أن يبحن بأسرارهنَّ خشية أن يذهب ذلك بحبهن من القلوب، أما أنا فلست منهنَّ في شيء لا في وطن ولا قلب ولا تربية؛ لأنك تعلم أنني نشأت في منزل فيلسوف بين جماعة من العلماء لا يكتمون فكرًا ولا يعرفون إيمانًا من مثل إيمان الناس، فشببت لا أعتقد بعقاب تنخفض لديه جبهة النساء خجلًا واستحياء إلا عقاب الضمير وقاضي النفس، ولا أومن إلا بإله غير منظور نقش وصاياه على صفحات الطبيعة وشريعته في القلوب وآدابه في العقول، وبذلك لم يكن لي دين سوى العقل والوجدان والضمير، ولا شيء من هذه الأصول الثلاثة يمنعني عن أن أكون لك، بل أنا ألقي نفسي على قدميك إذا كنت لا تجد السعادة في سوى ذلك.

وبعدُ، أفليس أبقى للحب وأَصْوَن للوداد وأحفظ للقلوب أن نبقى أرفع منزلة في الغرام وأعلى مقامًا في العفاف من أن ننزل بهذا الحب الطاهر إلى حمأة الفساد وأدران الخسائس؟

ثم صمتت برهة وقد احمرَّ وجهها كما يحمرُّ الخد إذا أُدني من النار، ثم قالت: إذا عرضت لك يومًا فرصة خلوة ولوثة عشق فطلبت مني آخر برهان على الحب، فاعلم أن ذلك البرهان لا تكون به نهاية عفافي بل نهاية حياتي؛ لأنك حين تنزع طهارة قلبي تنزع معها أسباب حياتي، فتحسب أن بين يديك السعادة ثم لا تجد إلا خيالًا ولا ترفع إلا جثة باردة.

ثم ساد السكوت بيننا ساعة، ثم تنهدت من أعماق قلبي، وقلت: لقد فهمتُ ما تريدين، وقد أقسم قلبي يمين العفاف قبل أن تأتي على آخر طلبه مني. وكأن هذا الجواب قد زاد سرورها فزاد جمالها وحنوها، وكأن الليل قد أطبق بظلامه والنجوم قد زهرت بأنوارها، وشمل السكوت حولنا فلم نعد نسمع هدير ريح ولا حفيف شجر كأن الطبيعة قد أصغت لتسمع ما يتناجى به قلبانا. ثم أخذ النوتية في بعض أناشيدهم المطربة فذكرني ذلك بصوت غصن البان حين كنت أسمعه على مقربة مني، فقلت لها: ألا تنعمين عليَّ هذه الليلة الناعمة بصوت تلقينه على هذا الهواء والماء يترك لك فيهما أطيب ذكرى؟ ثم أشرت إلى النوتية فرفعوا مجاذيفهم من الماء، فتساقطت قطراته متتابعة على صفحات البحيرة بإيقاع أطيب من إيقاع النغم على دفِّ الفتاة، ثم أخذتْ في إنشاد صوت شجيٍّ لم يمرَّ على سمعي أطيب منه حتى خِلْت أنه صوت الملائكة في سمائها، وحتى صرت لا أسمعه من أحد بعدها إلا خرجت هاربًا كمن ينفر من خيال، ولا أردت البكاء فغنيته إلا بكيت وأنا لا شيء يبكيني.

ولم نزلْ كذلك حتى رسوْنا على شاطئ إكس على بعد مرحلة منها، وقد تناصف الليل حتى لم نعد نجد ركوبة تنقل الفتاة في وعر تلك الطريق إلى منزلها، فعزم النوتية على أن يحملوها، وصنعوا من مجاذيفهم وحبالهم هودجًا أجلسوها عليه، وسرنا معًا على أحسن حال، ولقد حاولت في الطريق أن أنازع كلًّا منهم في حملها فلا يريدون، فسرت إلى جانبها ومددت يدي إليها لأثبِّتها على ذلك الهودج فلا يزعجها اهتزازه. وكنا نسير ونحن سكوت تحت القمر الساطع في تمامه بين أشجار الصفصاف، وقد وجدت المسافة على طولها قصيرة المدى كأن الأرض تُطوى لي ويدنو بعيدها، فاشتهيت لو أظل سائرًا على مثل تلك الحال إلى آخر خطوة من حياتي.

ثم لقد كنت لا أكلمها ولا تكلمني، بل أشعر بوِقر جسمها متكئًا على ذراعي، وأُحِس بيديها الباردتين حول يدي وهي تنفخ فيها أحيانًا كأنها تريد أن تدفئها، وما أحسب أن سكوتًا يكون فيه مثل هذا الغرام ولا أن سعادة قرن تحويها ساعة! ولما وصلنا إلى المنزل حالت الناس بيني وبينها فنزعت يدي من يديها كأنني تركت بينهما قلبي، فوجدت عليها قطرات دموع فمسحتها بشفتي وشعري كأنه طيب أحرص عليه أن يضيع، ثم ذهبت فانطرحت على سريري بثيابي.

ولقد حاولت كثيرًا أن أنام وأنا أتقلَّب على فراشي فأجد النوم ينفر مني؛ لأن الأمور التي صادفتها في ذَيْنِك اليومين كانت تتعاقب على مخيلتي متواترة شديدة التأثير كأني لا أزال أرى ما رأيته وأسمع ما سمعته، أو كأن اليومين لم ينقضيا، وكنت كأن حرارة قلبي صعِدت إلي رأسي، فجعلت أقوم وأقعد مرارًا وأنا لا أجد راحة في الحالتين، فقطعت آمالي من النوم. وحاولت أن أغالب أفكاري بخفق أقدامي، ففتحت النافذة ثم قفلتها، ثم كنت أقلب صفحات كتبي فلا أفهمها وأتراوح في حجرتي لا أستقر في مكان، وأنقل مقعدي في الزوايا عساني أجد له وضعًا أرتاح عليه فأقضي ليلتي ساهرًا.

وكان هذا الصوت قد بلغ إلى حجرة المريضة فصيَّرها في مثل حالي من السهد والقلق، فسمعت خفق أقدامها يدنو من الباب الذي بيني وبينها، فوضعت أذني على قُفْله فسمعت تنهدًا متقطعًا وحفيف ثوب على الحائط، فعلمت أنها واقفة مثل وقفتي تكاد تسمع خفقان قلبي، ثم سمعت صوتًا يقول لي همسًا: هل أنت مريض؟ فأجبتها: لا، ولكني سعيد، وإن للسعادة حرارة تفوق حرارة الحمى، ولكنها حمى الحياة التي لا أخافها ولا أريد الشفاء منها، بل أنا أسهر لأتمتع بها. فقالت لي: أيها الصبي، اذهب ونم وأنا أسهر، فقد آن أواني لأن أسهر عليك. قلت: بل لماذا لا تنامين؟ قالت: لأني لا أريد أن أضيِّع في سبات النوم دقيقة من دقائق هذا السرور الجديد، فإن زماني أقصر من أن أتمتع به، فأنا لذلك أحرص على كل قطرة منه أن تذهب سدى في بحر الرقاد، ولقد أتيت فجلست هنا لعلي أسمعك أو أجد نفسي على مقربة منك. قلت: إذن فلماذا البعد؟ ولمَ هذا الباب بيننا؟ قالت: ألا يحول بيننا سوى هذا الباب من سابق أقسامك؟ وإلا فإذا كان لا يمنعك سواه فها أنا أفتحه لك فتعالَ. ثم انتزعت مِزْلاجه وهى تقول: لا شيء يمنعك عن الدخول إذا كان حبك يدفعك إليه … ولكن لا، لا تدخل لأنك قد تجد فيه ما تدعوه سعادة وهو ذلة عليك وعليَّ، أنزل بها من رفيع مقام نزلته في فؤادك.

فأثر بي هذا الكلام تأثيرًا نازع ميل قلبي إلى الدخول، فسقطت سقطة رجل جريح على عتبة ذلك الباب المقفول، ثم عادت فجلست وراءه، وصرفنا قطعة من ذلك الليل بكلام خفي يقطعه السكوت فترات تتكلم بها القلوب لغة لا يعرفها اللسان والشفتان، ثم أخذت فترات السكوت تطول والصوت ينخفض حتى غلبني النعاس، فنمت وأنا ملصِقٌ خدي بالجدار وعاقد يديَّ على ركبتي.

وما انتبهت إلا وقد تعالى النهار وحَمِيَت حرارة الشمس، فبدلتُ ثيابي وغسلت عيني من تأثير السهر، ولبست عدة صيدي وأخذت بندقيتي، ونزلت إلى قاعة المائدة حيث وجدت أسرة الطبيب وضيوفه، فسمعتهم يتحدثون عن عاصفة أول أمس والخطر الذي خلصت منه الفتاة وإغمائها على أثره واتفاق مقابلتي لها وإتياني بها، فتقدمت إلى الطبيب أن يذهب إليها عني فيستخبرها عن صحتها ويستأذنها في أن أرافقها إلى نزهتها، فلم يغِبْ إلا قليلًا حتى عاد بها ولها رونق جمال لم يكن عليها من قبل بَهَرَت به أعين الجميع، ولم تكن تنظر إلا إليَّ نظرات لم يفهم معناها سواي، ثم ركبت بغلة أُدنيت لها وسرت في أثرها ماشيًا حتى بلغنا أعلى ذروات تلك الجبال، فقضينا نهارنا لا نكاد نتكلم بسوى القلوب والأبصار، فكنا ننظر تارة إلى ذلك الوادي فنراه ينفرج أمامنا كلما ارتفعنا، ونقف تارة على شفا الشلالات تنثر دقائق مائها فتنسج عليها الشمس قوس السحاب، ونتهادى طورًا بما نقطفه من أزاهر الحقول كأنها رسائل غرام خطَّتها يد الطبيعة عنا، ونجلس طورًا على جذوع الأشجار ومقاعد الصخور، ونقول: ما أسعد مخلوقين مثلنا ينفردان عن الناس ويلهوان بمناظر الطبيعة وحفيف الريح والشجر ولا يكدرهما إنسان!

ثم دنت الشمس من مغربها، فعدنا ننحدر بقدم بطيئة وسكون شامل ونحن نلتفت إلى حيث كنا لفتة من ترك مُلْكه وسعادته وراءه حتى بلغنا المنزل، فصعِدت إلى حجرتها، وتعشَّيتُ مع أهل الطبيب ثم صعِدت فطرقت الباب بيني وبينها، فتلقَّتني لقاء من مضى عليه دهر في غيابه عنها، وأخذتُ من عهدئذٍ أقضي لياليَّ عندها، فكنت أجدها في غالب الأحيان متكئة على مقعدها وأمامها منضدة عليها مصباح وكتب ورسائل وعلبة للشاي — أهدتها إليَّ، وهي لا تزال عندي إلى الآن — وكان الطبيب يصعد أحيانًا فيجلس إلينا يحادثنا ساعة، ثم يرى أن انفرادي بها أنفع لها من طبه وعلاجه فينصرف ويتركنا بين الدفاتر والحديث، حتى إذا انتصف الليل أقوم فأقبِّل يدها وأنصرف إلى حجرتي فلا أنام إلا بعد أن لا أعود أسمع حركة من حجرتها.

واستمرَّ أمرنا كذلك بضعة أسابيع طويلة إذا عددت بها خفقات قلبي، وقصيرة بما كان فيها من السعادة والغبطة. وكانت الطبيعة كأنها قد ساعدتنا فمدت فصل خريفها فلاحَ كأنه الربيع المعتدل لولا تجرد أغصانه وقِصر أيامه التي كنا نستعيضها بطول لياليه، وكأنَّ ريحها صوت يقول لنا: اغنما فرصة الحديث وكشف السرائر قبل الفراق فإنما أنا طائره ونذيره.

وقد زرنا في خلال تلك المدة كل الشواطئ والقمم والمضايق والوديان والكهوف والشلالات والصخور، وتمتعنا بمناظر الأشجار والقرى والغيوم والأمواج والجبال والماء والغابات، وكنا لا نمر في مكان حتى نترك فيه أثرًا من أنفاسنا أو كلامنا أو نظراتنا أو تعاهدنا أو خفقان قلوبنا ونحن نسأله أن يحفظ ذكرى الساعات التي صرفناها والأفكار التي خطرت لنا والهواء الذي تنشَّقناه والماء الذي كنا نتساقاه في تجاويف أكُفِّنا والزهور التي كنا نقطفها ونتهاداها وآثار أقدامنا على العشب الندي، وأن يرد لنا كل ذلك عند عودتنا حتى لا تضيع ذرة من سعادتنا في خزانة تلك الطبيعة التي لا يضيع فيها شيء حتى النسمة ولا زمان حتى الدقيقة. وما أظن أنه ورد على تلك البحيرة والجبال من يوم نشأتها قلبان عاشقان كقلبينا، ونفسان فيهما من الحياة والحب ما يكفي لإحياء كل تلك الطبيعة من مائها وسمائها وأرضها وصخورها وأشجارها، ومنحها أنفاس الحب وصبابته وحراراته وصوته وطيبه بما يكفي لأن يملأ طبيعة أعظم من طبيعة العالم بأسره، حتى لأقسم إنه لو خلق الله لنا كرة أرضية خالية لقمنا بإنمائها وإحيائها إلى الأبد.

فمن ينكر بعد ذلك أن نفس الإنسان خالدة لا نهاية لها، إلا إذا كان يقدر أن يدرك حد السعادة في عاشق مثلي أو يدرك حد النجم في تناهي بعاده؟ وعندي أن الحب إنما هو إمام الدنيا وهاديها، ولولاه لما خطر للمرء أن يعتقد في أبدية أو خلود.

وكانت تلك الأيام المعدودة قد أخلصت سَبْك قلبي ومحَّصت معدن نفسي حتى أخلصتْها من كل ما علق بها من الدنايا إلى ذلك الحين، ووجدت أن الحب شعلة نار أنارت لي الطبيعة والعالم ونفسي والسماء، فلاحَ لي عند ذلك عبث الدنيا وباطلها حين رأيتها تصغر في عيني لدى شعلة من تلك الحياة الحقة، فكنت أحمرُّ خجلًا من نفسي؛ إذ ألتفت إلى ما مرَّ من حياتي وأقابله بما أراه من الطهارة والعفاف في تلك الفتاة حتى كأنني دخلت منها في بحر من الجمال والرقة والصيانة والآداب والغرام كان يتسع أمامي وينفسح في عينيَّ كلما نظرت إليها وسمعت صوتها وحادثتها.

وطالما كنت أركع لديها وأنا أُعفِّر خدي بالثرى كأنني في أشد العبادة والنُّسُك، بل طالما كنت ألتمس منها كمن يلتمس من إله أن تغسل نفسي بدمعة من دموعها وتطهرني بشعلة من نارها وتنفخ فيَّ نسمة من أنفاسها حتى لا يعود بي شيء مني سوى تلك القطرة التي اغتسلت بها والشعلة التي طهَّرتني والنسمة التي أحيتني، وحتى أستحيل إليها وتستحيل إليَّ بحيث لو دعانا الله في يوم موقفه لا يقدر أن يميز بين نفسين قد مزجتهما آية الحب فصارا نفسًا واحدة، وأستغفر الله!

فيا أيها القارئ، إذا كان لك أخٌ أو ابنٌ أو صديقٌ لم يعرف الفضيلة بعدُ، فاسأل له الله حبًّا مثل هذا الحب؛ لأنه متى عشق بلغ إلى درجة من الكمال تعادل ما في قلبه من ذلك الغرام.

وهيهات أن أصف ما كان يتولَّاني من الخجل من نفسي في حضرة من كنت أهواها، ولكن نصائحها كانت ذات حُنوٍّ ونظراتها ذات حلاوة وكلماتها ذات رقة، كنت أشعر معها في خضوعي لديها أنني أرتفع وأَعْظُم، ولله ابن الفارض حيث قال:

فحالي وإن ساءت فقد حسُنت بها
وما حطَّ قدري في هواها به أعلو

ثم كنت أقابل بينها وبين من رأيت من النساء فأجدها تمحو كل أثر لهن من قلبي، وأنشد:

محا حبُّها حبَّ الألى كنَّ قبلها
وحلَّتْ مكانًا لم يكن حُلَّ من قبلُ

وكانت محادثاتها تنقل أفكاري إلى عالم من التصورات لم أكن أقوى على إدراكه حتى حسبت أنني قد صرت في غير هذه الدنيا، ووجدت كل ما كان بي من الخفة والطيش والشراسة والانقباض قد تلاشى لديها دَفْعة واحدة حتى لم أعد أعرف نفسي، ورأيت أن حبي لها قد رفع حاضر حياتي عن ماضيها حتى صرت أستكبر من الالتفات إليه، فعلمت عند ذلك أن أعلى درجات السعادة لا توجد إلا في أرفع درجات الغرام.

ثم لقد كنت أجد كل ما تقوله أبديًّا وكل ما تنظر إليه مقدسًا، حتى لقد كنت أحسد الأرض التي تمشي عليها وأحسب ما يمسها من شعاع الشمس مغبوطًا سعيدًا، وأود أن أجني ما تتنفسه من الهواء حتى لا يخالط غيره وأسُدَّ كل مكان تمر فيه من الفضاء حتى لا يشغله بعدها مخلوق سواها.

وبالجملة فقد كنت أرى كل شيء وأشعر بكل شيء وأعبد كل شيء من خلال ذلك الجمال الباهر حتى الله جل جلاله! وأقسم لو استمرت حياتنا على مثل تلك الحال ووقفت لها الطبيعة وسكن الدم عن مجراه وانقطع القلب عن خفقانه ولم تعد حركة ولا صوت ولا موت ولا حياة فينا، لما اشتغلت نفسانا برهة عن شرود كل منهما في صاحبتها، وما عساني أقول عنها أو أصف حبي لها بسوى أنها جعلتني أعبد الله فيها عبادة من يشكره على أنه أبدعها له …

•••

وكانت كأن سعادة الحب ووحدة المكان واكتشافها كل يوم على فكر من أفكاري وهواء الخريف ونزهتنا في الجبال أو على الماء بين الركائب والزوارق وأول نفحات الغرام التي تحمل قلب العاشق إلى سماء السرور على جناح السعادة؛ قد حسَّنت في صحتها بعض التحسين فكانت تتقدم في مدارج العافية، وتزول شحوب المرض عن وجهها كأنها آثار الموت تمسحها يد الحياة، ويتورد خداها وتعاودها نضارتها ويصفو أديمها وتلمع مقلتاها وتراجعها قواها ونشاطها وخفة جسمها وحدَّة صباها، حتى كان طبيبها يعجب من آثار التعافي عليها بين ذهابها إلى النزهة وعودتها منها.

وعلى الجملة فقد كانت السعادة تفيض منها كأنها شعاع يكتنفها حتى يكتنف من يراها، وعندي أن بهاء الجمال وورود الصبابة والغرام ليست بتصورات شاعر كما يقال، وإنما هي حقيقة خفية يراها الشاعر البصير وإن خفيت عن أعين الجهلاء، وإذا تغزَّل شاعر بفتاة فقال إنها تنير الظلام فأنا أقول إن غصن البان كانت تنير ما حولها، بحيث كنت أسير وأحيا في نور ذلك الجمال وإن لم يدركه سواي إلا كمرِّ الخيال.

وكنت عندما أخلو في حجرتي مدة فراقها أشعر بنفسي وأنا بالظهيرة كأنني في سجن مظلم لا هواء فيه ولا نور، وأجد أن الشمس لا تكاد تنيرني إلا إذا قارنتها بوجهها عند النظر إليها، بل كنت كلما زدتها نظرًا تزيدني حُسنًا وعَجبًا حتى أرى اعتقادي يضعف في أنها مخلوقة من الناس مثلي، وحتى انتهى بي إجلال حبها عن طبقة الحب إلى إجلال شخصها عن رتبة الناس، فكنت أجهد في أن أجد لها اسمًا يوافقها أو يطابق معناها فلا أجد.

ثم تمادى بي الأمر فدعوتها سرًّا من أسرار الطبيعة أجد به حُنوَّ الإنسانية وزهوة السرور وحقيقة الوجود وسماء العبادة، ثم طال غرامها بي حتى دعاني إلى نظم الشعر أحيانًا، فكنت أَنظِم القطعة والقطعتين ثم لا أعرضهما عليها لأنني وجدتها قليلة الرغبة فيما تخالطه الكلفة والتعمل من صناعة اللسان، وأنها أَمْيَل إلى البساطة في التعبير والتنزه عن التعمق في بيان الشعائر والوجدانات مما هو من أساليب الشعر ومقتضيات أوضاعه، وما عساني أنظم فيها وهي الشعر المطلق مجردًا كالقلب وبسيطًا كأول لفظة وهادئًا كالليل ومنيرًا كالنهار وسريعًا كالبرق ومتناهيًا كالفضاء؟ بحيث إنني لو طال مقامي معها لما احتجت إلى قراءة الشعر أو نظمه؛ لأنني كنت أجد فيها قصيدة الطبيعة ونفسي، أرى شعائري في قلبها وصورتي في نظراتها وأنفاسي في صوتها.

ولقد كانت تحاول مرارًا أن تقرأ لي مما لديها من دواوين الشعراء فتجد أن ليس في أحدها ما يبلغ إلى وصف حالنا، فتطرحها كمن فرغ صبره حتى أشبهها بأوتار أعواد مقطَّعة لا ترن لنقر الضارب، وفوق ذلك فإني لم أكن لديها إلا بمنزلة الشقيق، بحيث لم يكن يهمها كوني شاعرًا بل لا يهمها مني سواي.

وكان صديقي لويس قد زارنا ليصرف معنا بعض أيام، فكنا نقضي ليالينا إلى أنصافها بين محادثات وقراءة ومذاكرة علم أو سكوت طويل حول مكتبتها ونحن كأننا أصنام لا حراك بنا، إلى أن أثَّر أمرنا ذات ليلة في صديقي الذي كان شاعرًا، فطلب قلمًا وكتب بعض مقطَّعات خِلْتُها صادرة من صميم فؤاده فهاجت الشعر في نفسي، فأخذت منه القلم وخلوت إلى جانب من الحجرة فخططت أول أبيات خرجت من قلبي لا من أفكاري، ثم أنشدتها إياها وأنا لا أجسر أن أرفع طرفي إليها وهي هذه …

ولكن لا فقد محوتها الآن؛ لأن كل قريحتي كانت في غرامي، وقد خمد الغرام اليوم فجمدت القريحة. ولما فرغت من قراءة تلك الأبيات نظرت إليها وإذا بي أجد على وجهها آثار اندهاش وسمات جمال لا يقوى على وصفها يَرَاع ولا لسان، وكان منظرها هذا قد أثر بي وبصديقي على السواء فركعنا لدى مقعدها وقبَّلنا أطراف الرداء المتهدِّلة على قدميها، أما هي فوجدت أن ما قلته في وصفها لم يكن إلا صورة ما أُكِنُّه من هواها فأثنت عليه، ثم لم تعد تفاتحني في شأنه كأنها كانت تفضل مغازلتنا الطبيعية وسكوت كل منا إلى جانب صاحبه على تلك الأبيات التي تزخرف شعائر النفس ولا تظهرها، وخير المحاسن ما كان مجردًا. أما صديقي لويس فقد برحنا إلى موطنه بعد أيام.

وكان الفصل قد تجاوز الخريف إلى شتاء لطيف البرد تمازجه بعض الحرارة من شمس تلوح أحيانًا من خَلَل السحاب، ونحن لا نزال نخدع أنفسنا بأنه فصل الخريف؛ إذ كنا نخاف من ذكر فصل الشتاء لأنه كان فصل الفراق، وكان الصقيع يحلي الأرض بنُكَتٍ بيضاء في صباح أكثر الأيام ثم لا يلبث أن تذيبه حرارة الشمس عند زوالها، فيدفأ الهواء على البحيرة في بعض الأحيان ثم يبرد سريعًا لقصر الأيام. وكنا نقضي أغلب تلك الأوقات في البحيرة وحولنا من شعاع الشمس واخضرار الصخور وتغريد الأطيار وخرير الماء وزَبَد الأمواج ووقع المجاذيف وتجعيد المياه ومناظر الطبيعة وخلوتنا في عزلة عن الناس، ما يستفزنا سرورًا ويزيدنا صبابة ولذة غرام لا يمكن أن يكون لها مزيد لولا ما كان يكدِّرها من خوف انقضائها، حتى كنا نخال أن وقْع كل مجذاف خفق قدم تخطوها بنا الأيام إلى ساعة الفراق، فنتنهد لهذا الأمر خوفًا من وصوله ونحن لا نجسر أن نذكره تجافيًا عن شدة ذكراه.

وبينما نحن يومًا جالسان في زورق تحت شعاع الشمس بين لسانين من الأرض على خرير شلال بعيد، نزل نوتيَّتُنا إلى الشاطئ لإصلاح شِباك لهم، فبقينا وحدنا والزورق مربوط إلى جذع تينة، ثم حركته الأمواج فانقطع الحبل وسار بنا الزورق تدفعه حركة الماء حتى توسطنا ذلك الخليج، وكان ماء البحيرة صافيًا شفافًا كأنه مرآة صقيلة، وكنت أقدر أن أحرك المجذاف فأرجع بالزورق إلى حيث كان، ولكني وجدت في تلك العزلة والوحدة لذة وهناءً، حتى صرت أود لو يستمر الزورق سائرًا بنا على ذلك المجرى لا على بحر له ساحل بل في فضاء لا نهاية له، ثم تقدمنا حتى لم نعد نسمع صوت النوتية وقد حجبتهم عنا الصخور، بل لم نعد نسمع إلا وقع الشلال وأنين بعض الأمواج تلطم جانب الزورق وقد خفَّ بنا حتى صار يحركه رجع أنفاسنا، وكانت الشمس وظل الجبل يتنازعانه وهو بينهما وأنا جالس عند قدمَي غصن البان كجلستي يوم قابلتها بعد إغمائها، وهي متكئة على مقعد الزورق ويدها مدلَّاة في الماء تعبث به بأناملها واليد الأخرى على رأسي تلعب بحلقات شعري، وكنت رافعًا بصري إليها حتى لا ترى عيني من الأفق إلا السماء ووجهها، وقد عَطَفتْ بمحيَّاها إليَّ وهي تتأملني كأنها ترى شمسها في جبهتي وحياتها في عيني، والحب يورِّد خديها والسرور يطفح على محياها فيزيده جمالًا حتى خلتُه صورة جديرة بأن يحيطها ذلك الإطار من زرقة السماء، وإذا بها قد اصفرَّت فُجاءَة وجذبت يديها واستوت جالسة ثم غطت وجهها بكفيها واستمرت برهة لا حراك بها، ثم جلت يديها عن مقلتيها وقد بلَّت أناملها بعض المدامع وقالت بصوت المسرور الباسم: آه، فلنمت! ثم سكتت ساعة وعادت فقالت: نعم، فلنمت، فلم يعد في الأرض مزيد على ما نحن فيه ولا في السماء وعدٌ لأكثر منه.

ثم أدارت نظرها فيما حولها بين السماء والجبال والبحيرة والأمواج الشفافة في ظل الزورق، وقالت: انظر كيف أن كل شيء حولنا معدٌّ لدفن حياتينا، فهذه أجمل شموس أيامنا تغيب عنا ولعلها لا تعود لتشرق علينا، وهذه جبال الساحل حولنا تمد إلينا ظلالها كأنها تقول لنا ادْفِنا نفسيكما في هذا الكفن الذي أمُدُّه لكما، وهذه الأمواج الصافية العميقة تعدُّ لنا مضجعًا من الرمل لا يوقظنا منه أحد ليقول لنا: يا أيها القوم، هبوا قد دنا السفر، ولا ترانا عين إنسان ولا يعلم أحد لأي سبب عاد هذا الزورق خاليًا من ركبه، ولا يبقى بعدنا أثر يدل على أن جسمَي عاشقين غاصَا في تلك اللُّجَّة وهما متعانقان، أو أن نفسَي متحابين صعِدتا في أثير ذلك الهواء وهما مسرورتان، بل لا يبقى بعدنا رنة صوت على الأرض إلا صوت التقاء الماء بعد نزولنا فيه … آه! فلنمت في سكرة هذا السرور، فإن الموت فيها حُلو لذيذ، وقد يمرُّ بنا يوم نريد فيه الموت فلا نجده في مثل هذه المسرة والهناء.

إنني أكبرك ببضع سنين، ولكن هذا الفرق الذي لا نشعر به اليوم تزيد فسحته مع الأيام حتى لا تعود ترى في وجهي من آيات الجمال إلا أثر امِّحَائها، ولا يعود لك منه إلا رسم سرور وذكرى غرام زائل، وفوق ذلك فإنك لا تقدر أن تجد بي إلا روحًا تناجيها بمساجلات ودادك وأنت في حاجة إلى ما يعقبها من سعادة العشق التي تقدَّم لك ذكرها. وشهد الله أنني لا أجدك بين يدي فتاة سواي إلا مت من الغيرة، ولا أجدك محرومًا بسببي إلا مت من الحزن والوجد، فلنمت إذن ولنطفئ شعلة هذا المستقبل الهائل بآخر نسمة تخرج منا.

وفيما هي تكلمني كنت أناجي نفسي بمثل كلامها، وأثرت بي تلك المناجاة المزدوجة بين نفسي وأذني كأن كلًّا منهما صدى الأخرى، حتى نسيت الدنيا وأجبتها: فلنمت. ثم عمدت إلى حبل السفينة فقرنت به بين خَصْرَيْنا بربط محكم، ورفعتها بين يدي لأزُجَّ بها وبنفسي في قاع ذلك اليم العميق، وإذا بي أجد رأسها قد مال إلى كتفي كما يميل رأس المائت وتراخى جسمها حتى كاد يفلت من وثاقه على قدمَي، كأن شدة تأثرها وسرورها من موتنا معًا قد سابق فعل الموت فيها، فتهدَّلتْ مغشيًّا عليها بين يديَّ، فلاح لي عند ذلك أنني إذا اغتنمت فرصة إغمائها فألقيتها في ذلك اللُّجِّ وقد يكون بالرغم عنها كنت قاتلًا على عمد، فجثوت بها وحللت الحبل عني وعنها وألقيتها على مقعد الزورق، وجعلت أنضح ماء البحيرة على وجهها ساعة طويلة حتى استفاقت وقد هبط الليل، فقلت لها: أبى الله أن نموت وإلا أن نحيا، فإن الموت الذي ساغ لنا في شريعة الهوى إنما هو ذنب في ذنبين علينا لذوي قربانا ولله. ورفعت عند ذلك بصري إلى السماء كأنني أنظر إلى جلال الله على عرشه، فقالت لي بصوت منخفض: دع من هذا الشأن ولا تعد إلى ذكره، فقد أردت لي الحياة وأنا أقبلها منك تفاديًا من جُرم يلحقني إذا قدتك إلى الموت معي لا إذا مت وحدي. فأجبتها وقد لعبت بي أيدي الصبابة: ما أحسب أن في جنة الخلد ساعات كالتي قضيناها، أما الحياة ففيها وفي ذلك كفاية وغنى. ولم آتِ على آخر كلامي حتى عاودها زهو الصبا وابتسام الشباب، فأخذت بمجذافَي الزورق حتى بلغت به إلى حيث كان فسلمته إلى أصحابه وعدت بها إلى المنزل ونحن سكوت والهوى يتكلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤