الفصل الثاني

بائعة الزوج

إيفا كروس سيدة غنية تعد ثروتها بالملايين، وتعيش وحدها عيشة الأمراء في منزلها الفخيم بين منازل الأغنياء في زاوية الشارع ٣٥ والأفنيو الخامس (الأفنيو هو الشارع الطويل)، وعاشت كل عمرها عازبة؛ لأنها لم تجد من تحبه الحب الكافي لكي تتزوجه؛ فكانت تكتفي بعشرة من تروق لها عشرته من الشبان الذين تعرفت بهم، وكان الذين يعرفونها يلقبونها «بالمفتونة»؛ لأنها كانت ولوعة بعشرة الشبان، وكان بعضهم يلعبون عليها أدوارًا مضحكة لسذاجتها وبساطة قلبها، ومثل إيفا كروس كثيرات.

والظاهر أنَّ حب جاك هوكر ملأ قلبها حتى لم يعد يسع حبًّا، وتدفق مع دمها وغلغل في عروقها، فلما افترقت عنه كانت تردد قوله: «الرجل صوت والمرأة صدى.» وقالت في نفسها: «إذا صحت هذه القاعدة — ولا بد أن تكون صحيحة — فلا بد أنَّ جاك يحبني حبًّا شديدًا — كما يقول — وإلا لما كنت أحبه، وبالتالي لا يمكن أن تكون امرأته تحبه؛ لأنه لا يمكن أن يحبها ويحبني معًا، وعليه لا بد أن أنجح في فصلها عنه بأي الطريق ولو ملَّكْتَها نصف ثروتي، وأنا أعلم أنَّ المرأة تبيع زوجها بثوب وقبعة، أفلا تبيع مسز هوكر — زوجها — بألوف الريالات؟!»

في الساعة الأولى بعد ظهر اليوم التالي، كانت مسز هوكر في منزل مس إيفا كروس، فاستقبلت هذه تلك بترحاب وابتسام قائلة: أشكر لطفك في تلبيتك دعوتي، متى وصلك كتابي يا مدام؟

أجابت: بالطبع وصلني منذ ساعة تقريبًا؛ لأني حالما قرأته تأهبت للقدوم إليك، كما كتبتِ لي، وأسرعت ما استطعت؛ فعسى أن يكون خيرًا.

– إن شئت فخير، أو ويل لكلينا.

فقالت مسز هوكر مستهجنة هذا الجواب: إن كان الأمر يتوقف على مشيئتي فلا أريد إلا الخير لكلينا.

– نعم، يتوقف على مشيئتك.

– ماذا تبغين يا عزيزة؟

– إنَّ ما أبتغيه شيءٌ عظيم وصعب، ولا ينيلنيه أحد غيرك.

– إن كان في وسعي فأفعله بسرور.

– هو في وسعك إذا شئت.

– إذن مري مس كروس فأفعل.

– تعرفين المثل السائر «الشغل شغل»، أريد منكِ أمرًا ولكن بثمن.

– نعم!

– الذي أريده شيء عظيم.

– لا نختلف على الثمن، فماذا تريدين؟

– أريد أن تبيعيني زوجك.

فانتفضت مسز هوكر في مكانها حتى رأت إيفا انتفاضها فاختلجت معها، أما تلك فلم تجب، بل كان احمرار وجهها جوابًا، فقالت هذه ثانية: أريد أن أشتري زوجك بلا مساومة، ثمنِّيه فأدفع ثمنه نقدًا الآن، فأجابت مسز هوكر متغيظة: هل استدعيتني يا مس كروس إلى منزلك لكي تهينيني؟!

– كلا يا عزيزتي، ما من إهانة في ذلك، بل أنت تعلمين أنَّ حب المال في أميركا فوق كل حب، فإذا كنت أعرض عليكِ مالًا بدل زوجك، فأكون عارضة عليكِ أعظم محبوب عند البشر — إله البشر اليوم — إلهي وإلهك؛ فأية إهانة في ذلك؟!

– تفضلي أن لا تتمادي في هذا الموضوع؛ فما زوجي قبعة حتى أبيعه وتشتريه.

– لكل شيءٍ في الدنيا ثمن؛ فللقبعة ثمن، وللخاتم ثمن، وللعقد ثمن، وللكلب ثمن.

– ما زوجي بشيءٍ من ذلك حتى يُثمَّن بثمن؛ فأقصري.

– ألا تسمعين القول السائر: «معك ريال فتساوي ريالًا»؟ فللرجل إذن ثمنٌ أيضًا، فلا تستهجني الأمر يا صديقتي، اطلبي الثمن.

فقاطعتها تلك قائلة غاضبة جدًّا: إذا لم تقصري حديثك جرت بيني وبينك موقعة هائلة هنا.

وكانت مسز هوكر قد تحمست جدًّا، ووقفت وهمت أن تهجم على مس كروس، أما تلك فلم تتحرك من مكانها، بل بقيت تترجح في كرسيها الهزاز وتبتسم، فقالت لها: اقعدي يا مسز هوكر يا حبيبتي اقعدي، الظاهر أنك لا تزالين تعولين على العواطف أكثر من المال، فدعينا نتكلم في الموضوع من وجه آخر.

فقالت مسز هوكر: كفاني هوانًا عندك يا مس كروس، كفى.

وهمت أن تمضي، فتلقتها إيفا وأمسكت بيدها، وأجلستها إلى جانبها بالرغم منها تقريبًا، وقالت: دعينا نتكلم بعقل الآن.

– أراكِ جننتِ، فكيف أنتظر أن تكلميني بعقل؟!

– لا، لم أجن بعد إلا إذا عاندتني فتكونين سبب جنوني، فاعلمي أني أحب جاك، وليس حبك له عند حبي إلا كنقطة في بحر.

– أنت حرة في أن تحبي من تشائين يا مس كروس، ولكن لست حرَّة إلى حد أن تهيني سواك.

– إذن لا تستائين مني إذا أحببت زوجك؟

– ليس لي حق أن أستاء، ولكني أشفق عليك وأعذرك؛ لأن كثيرات غيرك أحببنه قبلك، بيد أني لم أرَ من فعلت فعلك هذا.

– إذن تعذرينني وتسلمين أنَّ لي حقًّا أن أحبه.

– بالطبع؛ إذ لا سلطة لأحد سواك على عواطفك.

– وهل من سلطة لأحد على عواطفه؟!

– كلا، ولكن لي أنا مطلق الحق بعواطفه.

– الحق يا مدام شيء والسلطة شيءٌ آخر. لك حق أن يحبك، ولكن لا سلطة لك على عواطفه إذا كان لا يحبك.

– تعنين أنه لا يحبني الآن؟

– نعم؛ لأنه يحبني مثلما أحبه، ولا أقدر أن أقول أكثر إذ لا أعتقد أنَّ هناك حبًّا أشد من حبي له.

– إذن أنت تحاولين أن تختلسي زوجي مني؟

– كلا، لا أختلسه اختلاسًا، بل أشتري اسمه شراءً كما اقترحت عليكِ أولًا، أقول اسمه؛ لأن قلبه وروحه صارا ملكي.

فظهر غضب مسز هوكر شديدًا، وقالت: تقرين أنك خائنة لي، عرَّفْتكِ بزوجي فغازلته وتحببتِ له لكي تستميليه، ولكني أقول لكِ: إنَّ زوجي لا يغتر بالغنى والجاه، فقد تزوجنا حبيبين ونموت حبيبين.

– إنك لمغرورة يا هذه، إن كنتِ معتمدة في هذا العناد على اعتقاد أنه يحبك فأنتِ مسكينة.

– ليس من يزعزع ثقتي بزوجي.

– لماذا لم تسهري معه أمس؟!

– كان في «النادي الثلاث عشري» فكيف أذهب معه؟!

– قلت لك مسكينة فلم تصدقي، كان في ملعب الهيبودروم.

– تكذبين.

– بل أصدق؛ لأنه صرف بعد ذلك نحو ساعة معي في مطعم الهيبودروم.

– أنتِ منافقة تبتغين أن تهيجي طبعي.

– لا تسخطي يا حبيبتي، عندي برهان.

ثم خرجت إيفا إلى غرفتها، وفي لحظة عادت وفي يدها برنامج التمثيل في ملعب الهيبودروم، وأرتها إياه قائلة: هذا عنوانك عليه بخط زوجك نفسه، والبرنامج بتاريخ الأمس كما ترين، فهل صدقت أنكِ مسكينة؟!

فاستلقت مسز هوكر في كرسيها كأنها واهية القوى، وتنهدت، وجال الدمع في عينيها.

ثم قالت: إذن تحفظين هذا البرنامج برهانًا على خيانتك لي.

– ما أنا خائنة يا مدام، بعد أن قلتِ: إنَّ لا سلطة لأحد على عواطفي، وإنَّ لي حقًّا أن أحب من أشاء.

– بل أنتِ خائنة؛ لأنك تستهوين زوجي.

– كلا يا مدام، هو يقول: إنَّ الرجل صوت والمرأة صدى؛ أي إنَّ المرأة تحب الرجل لأنه يحبها أولًا، وتحبه بقدر حبه لها؛ فهو استهواني وهو استمالني وهو راقبني وتتبعني إلى الهيبودروم؛ ولهذا أحبه، ولهذا لا يحبك فأتعجب كيف أنك تحبينه حتى الآن؟!

فشرقت مسز هوكر بدموعها، فتقدمت إليها إيفا، وأمسكت يدها، وقالت: لماذا تبكين يا حبيبتي؟ إنك لساذجة جدًّا، لو كنت أنا في مكانك لا أبكي على رجل لا يحبني، بل بالأحرى أكرهه وأشمخ عليه وأقصيه عني.

فرفعت مسز هوكر نظرها إلى إيفا وعيناها تتَّقِدان، وقالت: إذا كان يحبك وتحبينه، فماذا تشترين مني بعد، فقد صار لكِ وأنتِ له؟!

– نعم؛ صار لي وصرت له فما أنا شارية قلبه منكِ؛ لأن قلبه لي على كل حال، وإنما أنا شارية اسمه، فاطلبي ثمنه ما تشائين.

فقالت مسز هوكر بلهجة الهازئة المتمرمرة: وماذا يهمك اسمه وقد حزتِ قلبه؟!

– أريد أن يكون لي كله بحسب الشريعة، أريد أن أتزوجه، أريد أن تطلقيه إذ لم يبق لك إلا اسمه، وقد اتفقت معه على ذلك.

فسخطت مسز هوكر بها قائلة: أطلقه؟! سأريك ماذا أفعل.

– ماذا تفعلين؟!

– ألا تعلمين ما هو عقاب الخائن والخائنة؟!

فقهقهت إيفا، وقالت: ليس بيني وبين زوجك إلا الحب، والحب ليس خيانة؛ لأنه فوق كل شريعة وسلطان في هذه البلاد.

– إذن اكتفي بحبه يا هذه، وأنا أعرف كيف أدبر زوجي، لن أعيش إن كنت أدعه يرى وجهكِ بعد.

ففكرت إيفا هنيهة، وقالت: أود أن أكلمك بكل تعقل يا عزيزتي، فاسمعي لي ولا تستسلمي لعواطفك الآن، فتهتدي إلى الصواب في مصلحتك. لا بد أنك اقتنعتِ أنَّ زوجكِ يحبني ولا يحبك، وإذا راجعتِ سلوكه معكِ في الماضي تتأكدين ذلك.

وكانت مسز هوكر قد ألقت خدها على كفها، فهمت أن تستشيط، فأومأت لها إيفا قائلة: هدئي روعك يا حبيبتي، وانظري إلى مصلحتك، فإن للعواطف ثورة تنطفئ في ساعة أو يوم، فإذا كان زوجكِ لا يحبك؛ فلا يكون زوجك إلا بالاسم، ولو استطعت أن تبعديه عمن يحب، الأمر الذي يستحيل عليكِ، وإن عقدتِ النية على الانتقام منه فأنتِ خاسرة على كل حال، ولو نجحتِ مع أنكِ لن تنجحي لأنك لستِ أقدر مني مالًا ولا أذكى منه عقلًا، فمن العبث أن تحاولي الاحتفاظ به، وخير لكِ أن تستعيضي منه بما هو أفيد لكِ من اسمه ألف ألف ضعف، لا فائدة لكِ منه إلَّا أنه يعولك قدر ما يستطيع، فأنا أعوض لكِ ذلك أضعافًا بحيث تقدرين أن تعيشي بعدئذٍ أسعد حالًا، حتى إذا شئتِ أن تتزوجي وجدتِ خير شبانٍ، يتمنى كل منهم أن يتزوجك غنية.

وكانت مسز هوكر قد وضعت وجهها في كفيها كأنها تبكي، فلم تجب كلمة على خطاب إيفا، وبعد هنيهة قالت هذه لها: كم تريدين أن أدفع لكِ ثمن طلاق زوجك فأدفع في الحال؟

فلم تجب مسز هوكر، فقالت: هل تَكفيكِ ثلاثون ألف ريال؟

فلم تجب فقالت: خذي ٤٠ ألف ريال.

فلم تجب أيضًا فقالت: أظن ٥٠ ألفًا تكفيكِ وزيادة.

أكتب لكِ تحويلًا بالقيمة، وأنتِ تكتبين لي تعهدًا أنك تطلقين زوجك غدًا أو تردين لي المبلغ.

ونهضت إيفا وأمسكت مسز هوكر بيدها، وقالت: «هلمي معي إلى مكتبي.» وعند ذلك جرَّتها جرًّا كأنها تأخذها بالقوة إلى أن دخلتا وجلستا على كرسيين، وتناولت إيفا دفتر التحاويل، وكتبت تحويلًا لمسز هوكر بقيمة ٥٠ ألف ريال، ودفعته لها، وقدَّمت لها ورقًا، وقالت: «اكتبي التعهد الآن.» فلم تمد تلك يدها، فوضعت إيفا الورق والقلم في يدها، ثم قبلتها ولاطفتها حتى رضيت أن تكتب، وهي تنظر إلى التحويل، وتنعم النظر في أرقامه، وأملت إيفا عليها صورة التعهد فكتبته وأمضته، فأخذته إيفا ووضعته في محفظة، ثم عادتا إلى القاعة والتحويل في يد إيفا؛ فدفعته لها قائلة: هذه ٥٠ ألف ريال ثمن اسم زوجك؛ فلتكن سبب حب أسعد لكِ من حب جاك.

لكِ أن تقبضي القيمة من البنك الآن.

فأمسكته مسز هوكر بيدها، وقالت: أيُّ مجنون في بنك نكر بوكر يدفع لي ٥٠ ألف ريال وهو لا يعرفني؟! ومن يصدق أنَّ هذا التحويل ليس مزوَّرًا؟!

فقالت إيفا والفرح قد أخذ منها كل مأخذ: ماذا تريدين؟ هل تريدين أن أذهب معكِ إلى البنك لكي أدفع شبهة التزوير؟

فقالت: تذهبين معي؛ لكي يلعن الذين يروننا المرأة التي ساومت على ثمن زوجها؟! كلَّا؛ لن أذهب ولا أبقى في نيويورك ساعة بعد طلاقه.

– إذن؛ ماذا تريدين؟

– لماذا لا تذهبين الآن إلى البنك وتقبضين الثمن؟

– إذن غدًا نذهب معًا، أنا إلى البنك وأنت وجاك إلى المحكمة.

– لا بأس إذن، أعطيني التعهد حالًا.

– أبقي التحويل معكِ.

– لا لا، التعهد عندي أكثر قيمة من التحويل؛ فخافت إيفا أن تكون مسز هوكر قد ندمت، وأنها تود أن تفسخ عقد الاتفاق؛ فقالت: إذن أذهب الآن إلى البنك، وفي ساعة أعود إليك بالمبلغ نقدًا فانتظريني هنا.

وفي الحال نزلت إيفا، أما مسز هوكر فخرجت إلى رحبة المنزل الذي هو موضع الجلوس العمومي، واطمأنت إذ رأت التليفون، وجلست، وبعد برهة قرع جرس التليفون فأسرعت إليه في الحال، وتناولت بوقه فدنت الخادمة إذ سمعت صوت التليفون، فقالت لها مسز هوكر: الطلب لي.

فقالت تلك: هل مس كروس التي تخاطبك؟

– كلا؛ بل خادمتي.

فعادت الخادمة إلى شغلها وردت مسز هوكر البوق إلى أذنها وجعلت تجاوب المخاطب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤